في الواجهةمقالات قانونية

اختلال التوازن  بين التزامات الأطراف  في عقد التأمين البحري

يوسف كبيطي

دكتور في الحقوق
تخصص القانون الخاص

اختلال التوازن  بين التزامات الأطراف  في عقد التأمين البحري

 

يتعرض الفرد في حياته إلى الكثير من الأخطار، وتصادفه ظروف صعبة يستعصي عليه معها مواجهتها بمفرده أو بإمكانياته الخاصة، لذلك اتجه نحو البحث عن الوسائل والأساليب التي تضيق بالنسبة له حدود الخسائر الناتجة عن هذه الأخطار إلى أدنى حد ممكن.

ففي المجتمعات البدائية كان التضامن الجماعي يحقق الأمن من المخاطر التي يتعرض لها الإنسان، إلى جانب وسيلة الادخار التي كان يلجأ إليها الأفرد، لكن سرعان ما انتشرت روح الفردية والاستقلالية التي حلت محل روح الجماعة، خاصة بعد حلول عصر الصناعة والتكنولوجيا والمنافسة، وبعد أن تبين أيضا أن وسيلة الادخار الفردي لا تكفي لوحدها التغلب على المصاعب التي يواجهها الفرد،ظهرت فكرة جديدة تقوم على أساس التضامن بتوزيع النتائج الضارة لحادث ما على مجموعة من الأفراد يتعاونون على تغطية الخطر الذي يتحقق بالنسبة لكل فرد منهم، وهذه الفكرة جديدة تسمى ب “التأمين”[1] والمشتقة من أصل كلمة أمن وأمان.

ومن المعروف تاريخيا أن التأمين بدأ في نطاق التأمين البحري في القرن 16 م[2]،وذلك بسبب المخاطر التي كانت تتعرض لها السفن في البحار وهي محملة بمختلف البضائع،وانه حين بروزه نشأ تعاونيا بين تجار البندقية عندما تعاونوا على دفع أخطار البحار على السفن،ثم ما لبث ان انقلب استغلاليا احتكاريا،تفرض فيه شركات التأمين شروطها على المؤمن لهم،وما عليهم إلا أن يقبلوا هذه الشروط جملة وتفصيلا ودون مفاوضة أو مساومة في بنود العقد.

وباعتبار عقد التأمين كباقي العقود يجب أن تتوفر فيه الشروط العامة للعقد من أهلية ورضا ومحل وسبب، بالإضافة إلى مجموعة من الخصائص المتمثلة في كونه:

– عقد احتمالي: لأنه يرد على أخطار متعددة قد تحصل وقد لا تحصل

– عقد معاوضة: يتجلى في التزام المؤمن له بدفع أقساط التأمين، مقابل التزامن المؤمن بتغطية الأخطار التي تهدد الرحلة البحرية.

– عقد إذعان: لأنه يقوم بين طرفين المؤمن(الطرف القوي في العلاقة التعاقدية) والمؤمن له (الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية)، بحيث تنعدم حرية التعاقد والتفاوض على اعتبار ان بنود العقد يتم اعدادها بشكل مسبق.

وما دام أن التأمين يشكل عصب الحياة التجارية وسبب رئيسي في نموها وازدهارها،فانه كان لزاما على المشرع من التدخل لتنظيم هذا النوع من العقود عن طريق فرض التزامات متقابلة في ذمة الطرفين (المؤمن والمؤمن له) بهدف تكريس العدالة التعاقدية من جهة،وضمان حقوق الأطراف من جهة أخرى،ومن هنا يمكننا طرح الاشكالية التالية : كيف يمكن تصور التوازن في ظل عقد التأمين البحري؟وكإجابة عن هذه الاشكالية سنعمل على تقسيم الموضوع الى مبحثين بحيث سنتناول في (المبحث الأول) التزامات المؤمن له في عقد التأمين البحري،فيما سنخصص (المبحث الثاني) لالتزامات المؤمن بالتعويض عن الخسائر اللاحقة بالشيء المؤمن عليه.

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول : التزامات المؤمن له في عقد التأمين البحري

بما أن عقد التأمين من العقود الملزمة للجانبين فإنه ينشئ في ذمة طرفيه التزامات متقابلة، هكذا نجد أن المؤمن له يلتزم بدفع قسط التأمين المتفق عليه والإدلاء بالبيانات المتعلقة بالخطر بالإضافة الى المحافظة على مصالح المؤمن كلما اقتضت الضرورة ذلك، بينما يقع على عاتق المؤمن مسؤولية  أداء مبلغ التعويض عند تحقق الخطر.[3]

المطلب الأول : الالتزام بدفع الاقساط والإدلاء بالبيانات المتعلقة بالخطر

يعتبر الالتزام بدفع قسط التأمين من الالتزامات الجوهرية التي تقع على عاتق المؤمن له بموجب عقد التأمين بصفة عامة،والتأمين البحري على وجه الخصوص،بالإضافة الى التزام آخر لا يقل أهمية عن الالتزام السابق والمتمثل في الادلاء بالبيانات المتعلقة بالخطر،وهذا ما سنحاول تناوله في هذا المطلب.

الفقرة الأولى : دفع قسط التأمين

يلتزم المؤمن له بدفع المقابل المتفق عليه نظير تحمل المؤمن بالضمان طوال فترة العقد، ويطلق المشرع المغربي على هذا المقابل ” قسط ” مادام الأمر يتعلق بالتأمين البحري،[4] والقسط يقصد به المبلغ الذي يدفعه المؤمن له أو يلتزم بدفعه للمؤمن مقابل تحمل هذا الأخير المخاطر والالتزام بالتعويض عند تحققه،ويحدد بناء على نسبة تحقق الخطر المؤمن منه وطبيعة الشيء المؤمن عليه وقيمته سفينة كانت أو بضاعة،وعليه فإن عملية حسابه تتم وفق اجراءات فنية ورياضية،ليتطابق مع حدة احتمال تحقق الخطر وحجم الخسائر التي قد تقع عند حدوثه.

هذا وتحدد هذه الوجبية في عقد التأمين وقد تكون للرحلة البحرية المبرمجة أو القيمة المؤمن عليها أو لمدة معينة طبقا لمقتضيات  المادة 365 من القانون البحري المغربي.

وتجدر الإشارة إلى أن بوليصات التأمين كثيرا ما تركز فقط على الأساس الذي تحسب به هذه الوجيبة فيما بعد، ومع ذلك فعدم تحديد هذه الوجيبة لا يهدر عقد التأمين بحيث أنه في هذه الحالة يعتد إما بالسعر القانوني لأقساط التأمين وإما بالسعر المعقول اللهم إذا اتفق الأطراف عليها وتم دفعها إلى المؤمن.

غير أنه في هذه الحالة الأخيرة يفتح المجال للطرف القوي في العلاقة التعاقدية لفرض شروطه، وما ينبغي الإشارة إليه أن عقد التأمين البحري على غرار غيره من عقود التأمين لا يبرم بعد مناقشة حرة بين الطرفين لقسط التأمين بل إن شركات التأمين وهي قوية بمركزها الاقتصادي تفرض شروطها بشكل مسبق على المؤمن له في وثيقة مطبوعة، ولا يملك المؤمن له إلا قبولها دون أية مناقشة أو مفاوضة،ولهذا كان عقد التأمين من عقود الإذعان[5] وكانت الحرية التعاقدية فيه محدودة[6].

كذلك يظهر لنا مظهر آخر من مظاهر عدم التوازن بين التزامات الأطراف والذي يتجلى في الطابع الاحتمالي[7] الذي يقوم عليه عقد التأمين البحري كونه يرد على أمر غير محقق فإذا تحقق الخطر ولم يدفع المؤمن له إلا قسطا يسيرا فإنه يحصل على مبلغ التأمين كاملا وهو لا يتناسب البتة مع ما دفعه من أقساط، وبذلك تكون صفقة رابحة بالنسبة إليه     ( المؤمن له) وخاسرة بالنسبة للمؤمن ، أما إذا ما حصل العكس وتخلف الخطر فإن المؤمن له لا يحصل على مقابل ما دفعه من أقساط وتكون بالتالي الصفقة خاسرة بالنسبة إليه ورابحة بالنسبة للمؤمن[8].

ويتم الوفاء بهذه الوجيبة في المكان والزمان المتفق عليهما في العقد، غير أن الإشكال يطرح بخصوص التأمين على البضائع حيث أن الوجيبة تكون لازمة الوفاء في مكان التعاقد بمجرد تسلم المؤمن له وثيقة التأمين، فإذا لم يقع الوفاء داخل أجل 8 أيام فهنا التأمين يتوقف تلقائيا بدون إخطار وهو ما لا يتلاءم مع مصلحة المؤمن له الذي لا يمكنه المطالبة بأي تعويض عن الضرر الحاصل أثناء هذا التوقف[9]،وزيادة في الحماية فقد أقر المشرع المغربي بعض ضمانات الوفاء لمصلحة المؤمن حيث أن هذا الأخير يتمتع بامتياز على هيكل السفينة وملحقاتها من أجل استيفاء وجيبة التأمين المستحقة، لكن هذا الامتياز يشمل فقط الأقساط المستحقة في حدود سنة واحدة فقط وفقا لمقتضيات المادة 386 من القانون البحري المغربي والمادة 387 بخصوص التأمين على البضاعة.

كما أن بوليصة التأمين تقضي بضمان الوفاء عن طريق المقاصة بين التعويض وقسط التأمين، طبقا لمقتضيات المادة 30 من بوليصة التأمين على السفن والمادة 25 من  بوليصة التأمين على البضائع وهو نفس الأمر الذي تضمنته وثيقة التأمين على السفن لسنة 2002.

وإذا كانت هناك العديد من التصرفات الصادرة عن المؤمن له والتي من شأنها تضليل المؤمن وتعييب ارادته، فيقدم على تأمين خطر معين بشروط معينة ما كان ليقبلها لو علم بحقيقة الأمر، والتي قد تتخذ احدى الصورتين إما السكوت والكتمان أو التصرفات الكاذبة و المغلوطة، فإنه حماية للمؤمن من هذه التصرفات قرر المشرع توقيع إجراء البطلان ولو كان المؤمن له حسن النية، ما لم يوجد اتفاق مخالف على استحقاق وجيبة التأمين إلا أن هذا البطلان لا يتم النطق به إلا بطلب من المؤمن بعد إثبات حالة الكتمان.

ومع ذلك فإنه حماية لمصلحة المؤمن له، فإن العقد يبقى قائما في الحالة التي تكون فيها البيانات المسكوت عنها يعلمها الجميع أو يمكن العلم بها اعتمادا على قاعدة ” لا يجوز التكليف بمستحيل”.

 

 

 

 

الفقرة الثانية : إخطار المؤمن بالحوادث التي لحقت الأموال المؤمن عليها

حيث يجب على المؤمن له حالة علمه بأن السفينة أو البضاعة قد أصيبت بضرر أو فقدت أثناء الرحلة البحرية، أو لم تصل البضاعة المشحونة إلى مكان المرسل إليه في الوقت المفترض وصولها فيه عادة، فعليه أن يبادر إلى إشعار المؤمن بهذا الطارئ ولو أن عدم الوصول لا يقوم حجة قطعية على وقوع الحادث[10].

هذا ما قضت به المادة 384 من ق ب م حيث تلزم بأنه على المؤمن له تبليغ المؤمن داخل 3 أيام الموالية لتلقيه الخبر،كما أن بوليصات التأمين قد ركزت كثيرا على العناية المعقولة بقصد الحفاظ على حقوق ومصالح المؤمن في الوقت المناسب (المادة 16 من بوليصة التأمين على السفن وعلى البضائع[11]).

وما تجدر الاشارة اليه هو التساؤل حول الطرق المعتمدة في الإخطار والتصريح بالحادث،وهل يمكن أن يتم شفاهة أم كتابة، خاصة أن الأسلوب الأول من شأنه أن يهدد مصلحة المؤمن له أكثر مما يحفظه، نظرا لما يحققه الأسلوب الشفاهي من مشاكل بخصوص الإثبات، ويعرض بالتالي المؤمن له أو صاحب المصلحة في التأمين لفقدان الدليل عند المطالبة بالتعويض، حيث يفترض مثلا أن المؤمن ادعى الاخطار أو أن الاخطار لم تحصل في الميعاد المحدد أولم تقع بتاتا فكيف للمؤمن له أن يثبت واقعة الإعلام إذا قدم شفاهة ؟

المطلب الثاني : المحافظة على مصالح المؤمن

لا يكفي دفع قسط التأمين للقول بتحلل المؤمن له من التزاماته بل لابد من أن لا يقدم تصريحات كاذبة على الأخطار أو أن يطالب بالتعويض دون أن يبلغ المؤمن عن الحادث وأن يتخذ الإجراءات اللازمة لجبر الضرر أو التخفيف من حدته لذا يتعين على المؤمن له أن يعمل على صيانة حقوق ومصالح المؤمن لقيام عقد التأمين على مبدأ حسن النية لذا يلتزم المؤمن له ب :

الفقرة الأولى : الالتزام بتقديم بيانات صحيحة ودقيقة عن الخطر محل الضمان

نظرا لقيام  عقد التأمين على مبدأ حسن النية فإن عدم مراعاة المؤمن له لهذا الالتزام يخول للمؤمن إما الإبقاء على عقد التأمين من خلال الزيادة في قسط التأمين وإما فسخ هذا العقد[12].

من هنا يتضح أن المؤمن له ملزم بالإفصاح عن أي بيان جوهري للمؤمن، ويكون هذا البيان جوهريا للمؤمن في تقدير الخطر الذي يأخذه على عاتقه وكان دافعا له للتعاقد مع المؤمن له أو عدم التعاقد، كما يساعده مثل هذا البيان على تحديد القسط الواجب استيفاؤه من المؤمن له[13]. وعادة تقدم البيانات المتعلقة بالتأمين على السفن والبضائع على ضوء الإجابة على الأسئلة التي تقدمها شركات التأمين للمؤمن له لأن البيان الذي جعله المؤمن محل سؤال يكون عادة جوهريا في نظره[14].

وإذا كان تقدير كون الخطر مؤشرا من عدمه هو رأي المؤمن نفسه باعتباره وحده ينفرد بإجراءات حساب التأمين، فإنه مراعاة لمصلحة المؤمن له، وحتى لا يكون هناك تعسف في استعمال شركة التأمين لحقها في تقدير الأخطار الجوهرية فإن هذا التقدير يعتبر مسألة قانونية لقاضي الموضوع سلطة واسعة في تقديرها تحت رقابة المجلس الأعلى[15].

وإذا كان المشرع المغربي قد أحجم عن التعرض لشكل الاخطار فإنه ليبقى حسب بعض الفقه[16] يلزم  توجيهه برسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل.

ويتبلور أساس الالتزام بالاخطار بالحادث في أن عقد التأمين من العقود المستمرة التي يتم تنفيذها فترة من الزمن، مما يمكن أن يطرأ أثناء التنفيذ ظروف من شأنها أن تؤدي إلى التعديل في الخطر الذي قبله المؤمن عند انعقاد العقد، وهذا التعديل قد يتولد عن النشاط العادي للمؤمن له بعدم جعل التزام الطرف الآخر أي المؤمن أثقل عبء، وإنما هو تطبيق لمبدأ تناسب القسط مع الخطر بحيث لا يضار المؤمن من تعديل الخطر.[17]

الفقرة الثانية :  التخفيف من آثار الحادث وبذل العناية المعقولة في المحافظة على

                    السفينة والبضاعة

فيتعين على المؤمن له أن يتخذ جميع تدابير الحفظ أو الانقاذ التي تتطلبها ظروف الحال تحت طائلة التعويض إذا ترتب عن ذلك ضرر بالمؤمن (المادة 366 من القانون البحري والمادة 16 ف 1-2 من بوليصة التأمين على السفن والمادة 16 و 21 من بوليصة التأمين على البضائع[18].

ذلك أن عقد التأمين شأنه شأن سائر العقود حيث يجب أن ينفذ طبقا لما يتضمنه من أحكام وبطريقة تنسجم مع ما يقتضيه مبدأ حسن النية وشرف التعامل فيترتب على ذلك التزام المؤمن له بالتصرف تصرف اليقظ كما لو لم يكن ثمة تأمين، فالالتزام بالمحافظة على مصالح المؤمن يجب أن يسيطر على العقد في إبرامه و تنفيذه،مقابل الأمان الذي يقدمه المؤمن للمؤمن له[19].

وعلى الرغم من أن المشرع المغربي قد نص على ضرورة قيام المؤمن له بتنفيذ هذا الالتزام  إلا أنه لم يخصها بالأحكام والنصوص الكافية التي تحدد معالمه بشكل مستقل على غرار ما فعلته بعض التشريعات المقارنة.

ومن جهة ثانية فإن النصوص القانونية المتعلقة بحقوق المؤمن له عند تنفيذ هذا الالتزام تشكل قيدا على حرية هذا الأخير لأنها تستوجب شروطا تجعله يمتنع عن اتخاذ التدابير الأكثر فعالية، والتي قد تتطلب مصاريف باهظة، فيكون الامتناع عن تنفيذ هذا الالتزام مبنيا على أساس صحيح خاصة إذا قدر المؤمن له بأن جهوده قد لا تثمر وأنه سيخاطر بمبالغ وجهود قد لا يسترجعها في نهاية المطاف، لذا فقانون التأمين يجب أن يلعب دوره في تحقيق التوازن بين مصالح الطرفين، وبالتالي يلزم تحرير الالتزام بالتخفيف من آثار الحادث من القيود التي تشترط لإرجاع التكاليف التي يتكبدها المؤمن له، وأن يتم وضع نصوص كفيلة بصيانة حقوق المؤمن له، ومن شأنها أن تحشد هموم هذا الأخير فتحمل المؤمن جميع المصاريف التي أنفقت في سبيل التخفيف من الضرر وانقاد الأموال.[20]

المبحث الثاني : التزامات المؤمن بالتعويض عن الخسائر اللاحقة بالشيء المؤمن

                   عليه

يهدف المؤمن له صاحب البضائع أو السفينة الذي يعقد عليها تأمينا بحريا إلى غاية معينة، بحيث ينقل إلى عاتق المؤمن الخسائر والأضرار التي قد تلحقه من جراء تحقق حادث مضمون والذي يتجلى إما في صورة هلاك كلي أو جزئي[21]،وهذا ما سنحاول التفصيل فيه في هذا المبحث بحيث سنتطرق للتعويض عن الخسائر اللاحقة بالسفينة في (المطلب الأول)،فيما سنخصص (المطلب الثاني) للتعويض عن الخسارة اللاحقة بالبضائع.

المطلب الأول : التعويض عن الخسائر اللاحقة بالسفينة

نظرا للصفة التعويضية لعقد التأمين البحري، حرصت كل التشريعات على تحقيق توازن بين مصالح كل من المؤمن والمؤمن له بحيث لا يجوز للمؤمن له أن يأخذ أكثر مما لحقه من ضرر وإلا أثري بذلك على حساب المؤمن بلا سبب، وبالتالي فهو يعوض عن الأضرار الناجمة عن الخطر مما يجعل وضعه المالي كما كان قبل وقوع الخطر.

والتعويض يتحدد بإحدى الطريقتين :

1- دعوى الخسارة : وهي الطريق العادي لاستخلاص التعويض في المادة البحرية، ويعتمد عليها عندما تكون فيها الخسارة غير ذات أهمية.

2- دعوى التخلي : الطريق الاستثنائي لاستخلاص التعويض في المادة البحرية يعتمد عليها لبعض المخاطر المعروفة، تحت اسم المخاطر الكبرى.

 

الفقرة الأولى: التعويض عن الهلاك الكلي اللاحق بالسفينة

في هذا الإطار يمكن التمييز بين:

الهلاك الفعلي: فقدان السفينة أو غرقها

الهلاك الحكمي: ويتجلى في الاعتداء على السفينة واختطافها أو إصابتها بتلف لا يمكن معه إصلاحها إلا بمبلغ يفوق قيمتها[22]

وهنا يكون التعويض في حدود قيمة السفينة وذلك باتفاق طرفي العقد، أما إذا كانت الوثيقة غير مقومة، فهنا يتم اللجوء للمادة 21 من وثيقة التأمين البحري على السفن لسنة 1972 الذي لم يترك حكم تسوية الخسارة للقواعد العامة.

– يتم ذلك في حالة ما إذا تعرضت السفينة لحادث أو شيء ما قد يؤدي بها إلى الهلاك الكلي.

غير أنه قد تثار إشكالية التعويض وذلك عندما ينفق المؤمن له مبلغا كبيرا لإصلاح ضرر أصابه من حادث مضمون، ثم يهلك الشيء المؤمن عليه بعد ذلك في حادث بحري يضمنه المؤمن، في هذه الحالة طبقا للقواعد العامة يحصل المؤمن له على تعويض على الهلاك الكلي دون نفقات الإصلاح  التي تكبدها لإصلاح الضرر، ولكن بمقتضى المادة 21 من وثيقة التأمين المذكورة يستطيع الحصول على هذه النفقات.

والملاحظ أن المشرع المغربي لم يقرر هذه الحماية عكس المشرع الإنجليزي الذي يلزم المؤمن بتغطية الخسارات ولو زادت هذه الخسارة مجتمعة مبلغ التأمين ما لم ينص في الوثيقة على خلاف ذلك.

وإذا كانت قيمة السفينة غير محددة في الوثيقة فهنا يفتح المجال لأهل الخبرة، لكي لا يكون هناك إثراء بلا سبب للمؤمن له.

ويرى الأستاذ ريبير أنه حماية لمصلحة شركة التأمينات فإنه في حالة التقلبات الاقتصادية التي يترتب عليها انخفاض في قيمة السفينة يتم تحديد ثمن السفينة وقت حدوث الحادث .

الفقرة الثانية: التعويض عن حالة الهلاك الجزئي اللاحق بالسفينة

ويتجلى الهلاك الجزئي في تلف بعض معدات السفينة أو بعض أجهزتها وملحقاتها اللازمة لاستغلالها[23] مثلا عندما يقوم المؤمن له بإصلاح هذا التلف فإن المؤمن يقوم بتعويضه في حدود المصاريف التي تم دفعها.

غير أن الواقع العملي أثبت أنه كثيرا ما يفوق مبلغ هذه المصاريف الضرر الحاصل، لذا وتفاديا لإثراء المؤمن له عملت بوليصة التأمين على :

* ضرورة خصم قيمة الأجزاء التي تم إصلاحها من مبلغ الإصلاحات ما دام أنه بالإمكان بيعها[24].

* ضرورة خصم الفرق بين الحالة الجديدة للسفينة وحالتها قبل الإصلاح وهنا نلاحظ محاولة المشرع خلق توازن بين أطراف العقد.

وما تجدر الاشارة اليه هو أن المؤمنين حماية لمصالحهم لجأوا إلى طريقة تمكنهم التخلص من هذا التعويض غير المعقول بحيث أصبحوا يضمنون وثائق التأمين البحري بندا يمنع على المؤمن له المطالبة بأي تعويض وهذا يشكل اجحافا في حق المؤمن له  (المادة 23 من وثيقة التأمين على السفن).

 

 

 

 

المطلب الثاني :  التعويض عن الخسارة اللاحقة بالبضائع

يتم تقدير هذا التعويض انطلاقا من نوع الخسارة أو الهلاك اللاحق بالبضاعة حسب ما إذا كان قد لحقها هلاك كلي أو هلاك جزئي.

الفقرة الأولى : الهلاك الكلي والجزئي للبضاعة

  • الهلاك الكلي للبضاعة

ويتجلى في : – احتراق البضاعة عن آخرها

– غرقها وبذلك يكون قد تغير النوع أو الشيء المؤمن عليه عما كان عليه من قبل،بحيث يصبح من الصعب تداوله تجاريا[25]

  • الهلاك الجزئي للبضاعة

ويتجلى في دخول مياه البحر لعنابر السفينة

– احتراق جزء منها

– ويرجع تقدير التعويض في حالة هلاك البضاعة (الجزئي أو الكلي) حسب ما إذا كان مقدار التعويض قد تم تضمينه في وثيقة التأمين.

* فإذا كان التعويض غير محدد فإنه يكون حسب مقدار القيمة المؤمنة للجزء الهالك أو التالف.

* أما إذا كان التعويض محدد: فإنه يحدد على أساس النسبة المخصصة من مبلغ التأمين المحدد بالوثيقة.

* فهنا يلاحظ غياب نص قانوني يحدد قيمة التعويض، حيث يلزم أن يكون موحدا لحماية التوازن الاقتصادي بين أطراف عقد التأمين وبالتالي يجب أن يتدخل المشرع بواسطة نص قانوني يحدد فيه مقدار التعويض.

كذلك يطرح إشكال التحديد عند حصول الضرر الكلي بالبضاعة، هل يتم تحديد قيمته عند وجود البضاعة لدى الشحن أم عند الوصول.

وهنا ينبغي التمييز بين ثلاث اتجاهات:

الاتجاه الأول: وهو الذي نحاه المشرع المصري والذي ينص على تقدير قيمة البضاعة عند الشحن وبالتالي يمنع التأمين على الربح المأمول حصوله من البضاعة.

الاتجاه الثاني: والذي نحاه القانون الليبي والذي يقف موقفا وسطا بحيث يخول للمؤمن له المطالبة بحد أعلى من الأرباح تفوق 10%   من قيمة البضاعة في ميناء المغادرة[26].

الاتجاه الثالث: والذي يسلكه المشرع المغربي بحيث يسمح للمؤمن له بالتأمين على الربح المأمول انطلاقا من مقتضيات المادة  346 من القانون البحري المغربي.

الفقرة الثانية :  تقدير التعويض في التأمين البحري في حالة الخسارة البحرية المشتركة اللاحقة بالبضاعة

– وهنا يجب أنه نفرق بين:

* حالة الهلاك الكلي: في القانون المغربي يتم تقدير التعويض عن البضاعة حسب السعر الجاري في مكان التفريغ وهو موقف يشابه موقف المشرع الفرنسي مع اختلاف في بعض الجزئيات.

* الهلاك الجزئي للبضاعة: وفي هذه الحالة يستحق المؤمن نسبة من مبلغ التأمين بقدر التلف الحاصل طبقا لقاعدة نسبية.

– حيث تتم المقارنة ما بين قيمة البضاعة السليمة، وقيمة البضاعة المتضررة في ميناء الوصول، وبطرح البضاعة المتضررة من قيمة البضاعة السليمة.

– هذه الالتزامات تدخل فيما يعرف بالتوازن العقدي بين المؤمن والمؤمن له، الذي تجعل هذا الأخير ملزما في جل الأحيان بتنفيذ التزاماته العقدية، في حين أن المؤمن يبقى التزامه مؤجل الخوض فيه وكأنه محمي من طرف التشريع.

هذا الاتجاه نجده في جل القوانين الخاصة بالتأمين كالقانون الإنجليزي والقانون الفرنسي ولم تخالفه مجلة التأمين التونسية الصادرة في 9/03/1992،بحيث نجد على سبيل المثال الفصل 8 منها يتحدث بنفس الطريقة والأسلوب عن بطلان العقد لإخلال المؤمن له بالتزاماته العقدية.

على غرار التشريعات المقارنة التي وسعت من نطاق الحماية الواجبة في عقد التأمين البحري وتماشت مع التطور الذي لحق بهذا المجال ،نجد المشرع المغربي لم يساير هذا الركب،على الرغم من أن التأمين البحري يلعب دورا أساسيا بالنسبة للسلامة المالية البحرية ويساهم في جلب رجال الأعمال ودفعهم الى استثمار أموالهم دون التحفظ أو التردد بسبب الأخطار البحرية التي تتعرض لها السفينة أو البضاعة أثناء الرحلة،و عليه كان لزاما على المشرع تحديث ترسانته القانونية المتعلقة بالتأمين البحري وجعلها في المستوى الذي يرقى اليه هذا المجال.

– على شركات التأمين ألا تراعي مصلحتها الشخصية،بل يجب أن تراعي المصلحة العامة للمؤمن لهم ضمانا لحقوقهم.

– منح شركات التأمين الحق للأطراف في تحديد الأخطار المؤمن عليها،مع تحديد أقساط تتناسب مع الخطر المؤمن عليه.

– تضمين العقد شروط واضحة ومفهومة،مع ضرورة كتابة بنوده باللغة العربية الى جانب اللغة الفرنسية،وهذا ما أكدته المادة 206 من القانون 31.08 المتعلق بتحديد تدابير حماية المستهلك ” إن كل عقد حرر بلغة أجنبية يصطحب وجوبا بترجمة إلى العربية “.

– تنوير بصيرة المؤمن لهم عن الأخطار المراد التامين عليها.

 

لائحة المراجع

 

الكتب:

– الأمراني زنطار، شرح قانون التأمين رقم 17-99 مطبعة  الوراقة الوطنية الطبعة الأولى، 2005،

– عبد القادر حسين العطير، الوسيط في شرح قانون التجارة البحرية المطبعة والطبعة غير مذكورين سنة 1999.

– فريد الحاتمي محاضرات في القانون البحري، مطبعة فاس بربس سنة 1991-1992.

– المختار  العطار، الوسيط في التأمين البحري ,الدار القومية  للطباعة والنشر, القاهرة، 1996.

– مصطفى كمال طه، القانون البحري، دار الجامعة الجديدة للنشر 1990 ( رقم الطبعة غير مذكور).

أطروحات ورسائل:

– سعيد البكوري، الخطر في التأمين البحري في المغرب, أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص جامعة محمد الخامس, كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال, السنة الجامعية 2001/2002.

– عبد الله محمد علي الزيدي، التزام المؤمن بالمحافظة مصالح المؤمن وفقا أحكام عقد التأمين وإعادته أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، السنة الجامعية 1996 .

– العربي مياد : إشكالية التراضي في عقود الإذعان أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص ،جامعة محمد الخامس أكدال الجزء  الأول، 2000-2001.

 

– المختار عطار: التزامات المؤمن في عقد التأمين البحري في القانون المغربي, رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص, جامعة الحسن الثاني كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية الدار البيضاء, السنة الجامعية 1984/1985

Revues :

 

Jean- Pierre Beurier , Droit Maritimes, Edition Dalloz 2006

[1]  عقد التأمين البحري هو عقد تتعهد بموجبه شركة التأمين بأن تعوض المؤمن له في حدود مبلغ التأمين وبشروط معينة الضرر الذي يلحقه من خلال الرحلة البحرية، وذلك مقابل أداء قسط التأمين.

 أبي الفضل هاني الحديدي المالكي الاسكندري،التأمين أنواعه المعاصرة وما يجوز ان يلحق بالعقود الشرعية منها،دار العصماء للطباعة والنشر[2]

والتوزيع،سوريا-دمشق،الطبعة الاولى سنة 2009،ص :24.

[3] – فريد الحاتمي، محاضرات في القانون البحري، مطبعة فاس 1987/1988 ص 265.

[4] – الأمراني زنطار، شرح قانون التأمين رقم 17-99 مطبعة  الوراقة الوطنية الطبعة الأولى، 2005، ص 148.

[5]  يقول الفقيه “سالي”الذي يجمع كل الفقهاء على أنه صاحب أول فكرة للإذعان،بأن عقد الإذعان هو:” محض تغليب إرادة واحدة تتصرف بصورة  منفردة وتملي قانونها ليس على فرد محدد،بل على مجموعة غير محددة من الأشخاص،وتفرضها مسبقا ومن جانب واحد،حيث لا ينقصها سوى إذعان من يقبل قانون العقد”،وقد عرف القضاء المغربي عقود الإذعان بأنها:”العقود التي لا يكون فيها أي إخبار للمتعاقد سوى الإذعان للشروط التي يمليها المتعاقد الآخر إن أراد فعلا التعاقد”.

* انظر العربي مياد : إشكالية التراضي في عقود الإذعان أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص ،جامعة محمد الخامس أكدال الجزء  الأول، 2000-2001.

[6] – مصطفى كمال طه، القانون البحري، دار الجامعة الجديدة للنشر 1990 ( رقم الطبعة غير مذكور) ص 462.

[7]  لكي يكون الخطر قابلا للتأمين لا بد أن يتوافر فيه شرط الاحتمالية الذي يستلزم بدوره أن يكون تحققه مستقلا عن الإرادة الحرة للطرفين المتعاقدين.

[8] – مصطفى كمال طه، مرجع سابق، ص463.

[9] – فريد الحاتمي: محاضرات في القانون البحري، مرجع سابق، ص 267.

[10]  – سعيد البكوري، الخطر في التأمين ، الخطر في التأمين البحري في المغرب, أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص جامعة محمد الخامس, كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال, السنة الجامعية 2001/2002. ص 150.

[11] – فريد الخاتمي، محاضرات في القانون البحري، ص 269.

[12] – الأمراني زنطار، مرجع سابق، ص140.

[13] – عبد القادر حسين العطير، الوسيط في شرح قانون التجارة البحرية المطبعة والطبعة غير مذكورين سنة 1999، ص 688.

[14] – Jean- Pierre Beurier , Droit Maritimes, Edition Dalloz 2006,P : 370.

[15] – الأمراني زنطار، مرجع سابق، ص 148.

[16] – فريد الحاتمي ، محاضرات في القانون البحري ، ص 269.

[17] – فريد الحاتمي، محاضرات في القانون البحري، ص 269.

[18] – فريد الحاتمي، محاضرات في القانون البحري، ص 269.

[19] – مصطفى كمال طه، مرجع سابق، ص 96.

[20] – عبد الله محمد علي الزيدي، التزام المؤمن بالمحافظة مصالح المؤمن وفقا أحكام عقد التأمين وإعادته أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، السنة الجامعية 1996 ، ص

[21] – المختار العطار، الوسيط في التأمين البحري، الدار القومية للطباعة والنشر بدون طبعة، القاهرة 1996، ص 141.

[22] – المختار العطار، مرجع سابق، ص 142و 143.

[23] – المختار عطار، المرجع السابق، ص 144.

[24] – فريد الحاتمي، المرجع السابق، ص 271.

هذا الخصم قد لا تكون فيه إفادة للمؤمن له إذا كانت السفينة قديمة إذ ليس ثمة فرق بين القديم والجديد حيث أن هذا الاستبدال لن يزيد من قيمتها في السوق.

[25] – سعيد بكوري، مرجع سابق، ص 210.

[26] – مصطفى كمال طه، مرجع سابق، ص 719.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى