الأمن الروحي في التشريع المغربي
إعداد: نورالدين مصلوحي عدل متمرن وباحث بماستر القانون والممارسة القضائية بالرباط
مقدمة:
إن الأمن يعتبر من أهم مطالب الحياة، بل لا تتحقق أهم مطالبها إلا بتوفره، حيث يعتبر ضرورة لكل جهد بشري، فردي أو جماعي، لتحقيق مصالح الأفراد والشعوب.[1]
وما دام الأمن مطلبا إنسانيا، فإن الشريعة الإسلامية المبنية قواعدها على درئ المفاسد وجلب المصالح، أولت الأمن عناية خاصة لا مثيل لها، زد على ذلك أنه حتى المواثيق والإعلانات الدولية والتشريعات الداخلية لكل الدول، لم تقصر في التنصيص والحث على الأمن، كضرورة أساسية لا يستغني عنها الفرد ولا الجماعة.
والقرآن الكريم يطلعنا على تاريخ قريش، وكيف أن الله سبحانه فعل ما فعله بأصحاب الفيل، لأجل قريش وأمنهم، واستقامة مصالحهم، وانتظام رحلتهم في الشتاء لليمن، والصيف للشام، لأجل التجارة والمكاسب، فقال عز وجل في سورة قريش” لإيلاف قريش (1) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف (2) فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف (4)”، فرغد الرزق والأمن من المخاوف، من أكبر النعم الدنيوية الموجبة لشكر الله عز وجل. [2]
هذا، وإن القوانين الوضعية من إعلانات ومواثيق دولية ودساتير، سارت على غرار الشريعة الإسلامية فكرست الأمن وجعلته حقا من حقوق الانسان، فإعلان حقوق الانسان والمواطن الصادر في 26 غشت 1789، جاء في مادته الثانية ما يلي: “الهدف من كل مجتمع سياسي هو المحافظة على الحقوق الطبيعية للإنسان والحقوق التي لا تسقط بالتقادم، وهذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الظلم.
وقد تلا صدور الإعلان السابق ذكره بأزيد من قرن ونصف، صدور الإعلان العالمي لحقوق الانسان، والذي أكد بدوره الحق في الأمن، فجاء في المادة الثالثة منه: ” لكل فرد حق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه.”. فيتبين لنا بجلاء كيف جعل هذا الإعلان أمان الانسان على شخصه حقا من حقوقه، ولا عجب في هذا، فبهذا الحق يتحقق المعنى الحقيقي للحياة والحرية المنصوص عليهما في نفس المادة المذكورة قبل الحق في الأمان.
ونجد للحق في الأمن أصله حتى في الدساتير الغربية والعربية، فقد جاء في المادة 17 من الدستور الاسباني: “لكل شخص الحق في الحرية والأمن“. والحق في الأمن عبر عنه الدستور المغربي لسنة 2011، بتعبير أبلغ وأوضح، حي جاء في الفصل 22 منه: “لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص في أي ظرف، ومن قبل أي جهة، كانت خاصة أو عامة”.
ونظرا للتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أصبحنا نشهدها ونتعايش معها، بدأنا نلاحظ أنه حتى المفاهيم بدأت تتطور وتتجدد، تأثرا بهذه التطورات السابق ذكرها، فصرنا نسمع مفاهيم كلها تدور في فلك مفهوم الأمن، كالأمن السياسي، والأمن الثقافي، والأمن القومي…، وقبل عشر سنوات ظهر مفهوم جديد للأمن، حيث بدأ يتردد على ألسنة المسؤولين على الشأن الديني في المملكة المغربية، هذا المفهوم الجديد هو الأمن الروحي، فيا ترى ما المقصود بهذا المفهوم؟ وما تجلياته في التشريع المغربي؟ (المطلب الأول)، وهل كفله المشرع بحماية قانونية يضمن بها بقاءه وفعاليته؟ (المطلب الثاني).
في نفس السياق
المطلب الأول: مفهوم الأمن الروحي وتجلياته في التشريع المغربي
إن معالجتنا لهذا المطلب، تستدعي التطرق لمفهوم الأمن الروحي(أولا) ثم بيان تجلياته في القانون المغربي (ثانيا)
أولا: مفهوم الأمن الروحي:
لفهم مدلول الأمن الروحي، يتعين علينا تفكيك كلماته وبيان معناها لغة، ثم جمع هذه الكلمات للتوصل إلى المفهوم الاصطلاحي، فالأمن كما يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي: “من فعل أمن، والأمن ضد الخوف، والفعل منه: أمن يأمن أمنا، والمأمن موضع الأمن، إلى أن قال: والأمان إعطاء الأمنة”[3]، وقال علي بن محمد الجرجاني: ” الأمن عدم توقع مكروه في الزمان الآتي”[4].
الروح لغة: جاء في لسان العرب لابن منظور[5]:” والروح النفس يذكر ويؤنث، والجمع أرواح، وتأويل الروح أنه ما به حياة النفس”، ويشبه كلام بن منظور هذا كلام الخليل بن أحمد الذي قال: ” الروح النفس التي يحيا بها البدن، يقال خرجت روحه أي نفسه”[6].
إذن نستخلص أن الأمن الروحي لغة هو ضد كل خوف أو مكروه يمكن أن يحصل للنفس البشرية، أما التعريف الاصطلاحي للأمن الروحي، فلم نقف صراحة على تعريف له، ولعل السبب هو حداثة هذا المفهوم وراهنيته.
ويمكن الاستعانة في سبيل فهم مدلول الأمن الروحي اصطلاحا، بأحد الخطب والرسائل الملكية السامية التي استعمل فيها هذا اللفظ، ففي سنة 2004 بالدار البيضاء قام الملك محمد السادس بإلقاء خطاب للشعب المغربي، كان من ضمنه ما يلي: “لقد دأبنا، منذ تقلدنا إمارة المؤمنين ملتزمين بالبيعة المقدسة وما تقتضيه من حماية الملة والدين، على إيلاء الشأن الديني الأهمية الفائقة والحرص على قيام مؤسساته بوظائفها على أكمل وجه والعناية بأحوال الساهرين عليها والسير على النهج القويم لأسلافنا المنعمين في الحفاظ على الأمن الروحي للمغرب ووحدة المذهب المالكي“.
وفي مقتطف من نص الرسالة الملكية السامية إلى المشاركين في الندوة الدولية بفاس، حول تعزيز الحوار بين الحضارات واحترام التنوع الثقافي، قال جلالته: “ونهوضا منا بهذه الأمانة المقدسة، فقد حرصنا، منذ اعتلائنا العرش، على التجديد العميق للحقل الديني الوطني، من أجل الحفاظ على الأمن الروحي للمغاربة، في إطار القيم الحقيقية للإسلام، طبقا لمبادئ المذهب المالكي، الذي يدعو للاعتدال والتسامح، والابتعاد عن الظلامية والتطرف”. [7]
يتبين لنا جليا بعد القراءة المتمعنة لتوجيهات الملك محمد السادس، أن الأمن الروحي مرتكزه وأساسه في حماية الدين والعقيدة، هذه الحماية التي هي من صلب وظائف وصلاحيات إمارة المؤمنين.
ويمكن استجلاء المفهوم الاصطلاحي للأمن الروحي بشكل أوضح وجلي، من رسالة سامية أخرى وجهها جلالته إلى أعضاء المجلس العلمي الأعلى والمجالس الجهوية المحلية، تلاها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، وكان من ضمن ما فيها ما يلي: “وإذا كنا قد أعلنا عن حرصنا الدائم والمستمر، في أكثر من مناسبة، على تعزيز الأمن الروحي بمملكتنا، بتحصين عقيدتها، وصيانة وحدتها المذهبية، والذود عن ثوابتها وقيمها.”[8]
بعد كل ما سبق، يمكننا الخروج بمفهوم اصطلاحي للأمن الروحي، ويعني الذب عن العقيدة الإسلامية، مما قد يهددها من مخاطر داخلية أو خارجية، والحفاظ على ثوابت وقيم الأمة.
أنظر ايضا
ثانيا: تجليات الأمن الروحي في التشريع المغربي:
نظرا لما للأمن الروحي من أهمية قصوى في نظر المشرع المغربي، فقد أعطاه مكانة بارزة، لا من حيث التنصيص عليه، ولا من حيث تمتيع المواطنين بالحق فيه، وسنحاول إبراز تجليات هذا الأمن من خلال دستور الممكلة (أ) باعتباره يتربع على رأس التشريعات لكونه أسمى وثيقة في المملكة، ثم لنسبر أغوار المادة الأسرية مسلطين الضوء على أهم تجليات الأمن الروحي فيها (ب) لنختم المطلب هذا بالقانون المنظم للمؤسسات السجنية (ج).
-أ: الامن الروحي في الدستور المغربي الجديد:
استهل واضعوا دستور المملكة المغربية هذه الوثيقة، بتصدير له يعد جزءا لا يتجزأ من هذا الدستور، جاء في فقرته أن “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة”، مؤكدا على أن “الهوية المغربية تتميز بتبوإ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها “، كما أن من التزاماتها حسب ما جاء في هذا التصدير: ” فيها تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية“.
وجاء في الفصل الأول من الدستور في فقرته الثالثة: ” تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح.” ثم ليقرر الفصل الثالث منه أن “الإسلام دين الدولة”. فلأول وهلة يبدو أن التنصيص على أن الإسلام دين الدولة، هو بمثابة تحصيل حاصل، لكن الحرص على دسترة هذا المعطى، يحيل في حقيقة الأمر على أن المملكة المغربية ليست دولة علمانية، ثم التأكيد على أن الدين المرجعي للدولة هو الإسلام كما أنه ليس هو الدين الوحيد المسموح به.[9]
ولكون أن كل أمن يحتاج لتحقيقه مؤسسات مستقلة، فإن دستور المملكة جعل من المجلس العلمي الأعلى الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا، في شأن المسائل المحالة عليه، استنادا إلى مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة.
-ب: الأمن الروحي في المادة الأسرية:
لقد سبق وأن ذكرنا أن القيم النابعة من روح الشريعة الإسلامية، تعد من مقتضيات الأمن الروحي كما جاء في كلام الملك محمد السادس، لذا فمؤسسة الأسرة لا بد وأن تكون على المنهاج والقيم التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، فالزواج يلزم أن يكون شرعيا ليعترف به كزواج، أي مبنيا على الكتاب والسنة، والدستور المغربي ينص في فصله الثاني والثلاثون على أن: “الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع” هذا الزواج هو الذي عرفته مدونة الأسرة في مادتها الرابعة بكونه” ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام..”.
فالمشرع المغربي لا يعترف بالزواجات المخالفة للشريعة الإسلامية كزواج المثليين، كما أنه جعل من موانع الزواج المؤقتة زواج المسلمة بغير المسلم[10]، وكل هذا حفاظا على هوية المغاربة كون أن الهوية المغربية كما جاء في تصدير الدستور تتميز بتبوإ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، ومن المعلوم أن زواج المسلمة بغير المسلم أمر محرم باتفاق علماء الأمة الإسلامية بشتى مذاهبهم.[11]
هذا، وإن الأمن الروحي لا ينحصر فقط فيما قبل الزواج، وذلك بتجنب الارتباط بالزوج غير المسلم، بل حتى بعد الزواج الشرعي، حيث نجد ان المشرع في المادة 54 من مدونة الأسرة، ضمن للأطفال حق التوجيه الديني والتربية على السلوك القويم وقيم النبل المؤدية إلى الصدق في القول والعمل، وجعل هذا الحق واجبا من واجبات الأبوين، وجعلت هذه المدونة من شروط القدرة على تربية المحضون وصيانته ورعايته دينا وصحة وخلقا وذلك في المادة 173/1، ولعل المشرع أتى بهذا الحق للطفل مصداقا وعملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: ” مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها، وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع”[12].
ولا بد من الإشارة إلى أن الممكلة المغربية بعد تصديقها على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، تحفظت على المادة 14 منها، والتي تنص على حق الطفل في حرية الفكر والوجدان والدين، وهذا التحفظ جاء على الشكل التالي: “إن المملكة المغربية التي يضمن دستورها لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية، تتحفظ على أحكام المادة الرابعة عشرة التي تعترف للطفل بالحق في حرية التدين، نظرا لأن الإسلام هو دين الدولة”.[13]
انظر ايضا
هذا، وإن هذا التحفظ تم سحبه من طرف الممكلة وتم استبداله بإعلان تفسيري جاء كما يلي: “تفسر حكومة المملكة المغربية أحكام الفقرة 1 من المادة 14 من اتفاقية حقوق الطفل على ضوء دستور 7 أكتوبر 1996 والقواعد ذات الصلة في قانونها المحلي، ولا سيما الفصل 6 الذي ينص على أن الإسلام دين الدولة، وأن الدولة تضمن لكل واحد ممارسة شؤونه الدينية[14]، وتنص الفقرة 6 من المادة 54 من القانون 70.03 المتعلق بمدونة الأسرة على أن للأطفال على أبويهم حق التوجيه الديني والتربية على السلوك القويم، وبموجب هذا الإعلان، تؤكد المملكة المغربية تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا والتزامها من أجل تحقيق أهداف هذه الاتفاقية”[15].
وفي مقتضى آخر من مدونة الأسرة، تنص م 145 على أنه:” متى ثبتت بنوة ولد مجهول النسب بالاستلحاق أو بحكم القاضي، أصبح الولد شرعيا، يتبع أباه في نسبه ودينه”، فإذا كان مجهول النسب في هذه الحالة يتبع أباه في الدين، فغير مجهول النسب من باب أولى.
وحرصا من المشرع على مصلحة الأطفال المهملين، سن قانونا ينظم شروط كفالتهم والإجراءات القانونية لتسجيل المتكفل بهم في الحالة المدنية، وأسباب انتهاء الكفالة، وما يهمنا في هذا المقال، هو ما يتعلق بالأمن الروحي، حيث جعل المشرع شرطا جوهريا لا يمكن بانعدامه أن تسند كفالة الأطفال لمن طلبها، هذا الشرط هو أن يكون طالب الكفالة مسلما، فالمادة التاسعة من هذا القانون تنص على ما يلي: ” تسند كفالة الأطفال الذين صدر حكم بإهمالهم إلى الأشخاص والهيئات الآتي ذكرها: 1- الزوجان المسلمان“، ويلاحظ أن المشرع يمنع حتى الزوج المسلم المتزوج بكتابية من التكفل بطفل، ولعل منعه هذا غرضه تلافي كل خلاف يمكن أن يحدث بين الزوج المسلم والكتابية في كيفية توجيه الطفل دينيا وخلقيا.
هذا، ويمكن حتى للمرأة الغير متزوجة أن تطلب كفالة طفل، لكن شرط أن تكون مسلمة إضافة إلى شروط أخرى منصوص عليها في المادة الأولى أعلاه. وحسب نفس المادة فالمؤسسات العمومية المكلفة برعاية الأطفال، والهيئات والمنظمات والجمعيات ذات الطابع الاجتماعي المعترف لها بصفة المنفعة العامة، من شروط تكفلها بطفل، أن تكون قادرة على رعاية الأطفال وحسن تربيتهم وتنشئتهم تنشئة إسلامية.
-ج: الأمن الروحي على ضوء قانون المؤسسات السجنية:
بالاطلاع على القانون رقم 23.98 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، يلفت نظرنا عنوان الفرع من الباب السابع من هذا القانون، والمعنون باسم: “العناية الروحية والفكرية” فالمادة 120 أسفل هذا الباب تنص على ما يلي: ” ممارسة الشعائر الدينية مضمونة لكل معتقل، وعلى المؤسسة أن توفر له الإمكانيات التأهيلي، والإطار الملائم، كما عليها أن تسمح له بالاتصال بالممثل المؤهل لذلك دينيا.
وقد صدر مرسوم سنة 2000[16]، تحدد بموجبه كيفية تطبيق القانون السابق ذكره والمتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، فحدد هذا المرسوم بوضوح آليات تنزيل الحق في الأمن الروحي على أرض الواقع، فنص في المادة 107 منه على ما يلي: ” يستفيد جميع المعتقلين المسلمين من التعليم الديني الذي يبرمج بتنسيق مع الجهة الحكومية المكلفة بالشؤون الإسلامية”، كما جاء في الفقرة الثانية من نفس الفصل: “يجي أن تحتوي خزانات المؤسسات السجنية على مصاحف قرآنية، ومؤلفات في التربية الإسلامية”.
وقد يحتاج السجين أو المعتقل لسجادات أو أقمصة أو كتب أخرى من اختياره، وهذا مسموح له قانونا حيث تنص المادة 109 من المرسوم أعلاه على أنه “يرخص للمعتقلين تحت ضمانات أمنية بالتوصل أو بالاحتفاظ معهم بالأشياء المتعلقة بأداء شعائرهم الدينية، وبالكتب الضرورية لملىء حياتهم الروحية والفكرية”.
المطلب الثاني: الحماية القانونية للأمن الروحي:
إن أي حق مهما كان معترفا به قانونا، فإنه يحتاج لقانون آخر يعزز هذا الاعتراف وذلك بحماية هذا الحق وضمانه، ونجد للحماية القانونية للأمن الروحي سندا في كل من الدستور المغربي (أولا) وكذا في المادة الجنائية (ثانيا) ثم في القوانين المنظمة للجماعات الترابية (ثالثا) وأخيرا في قوانين الحريات العامة (رابعا).
أولا: الحماية الدستورية للأمن الروحي:
ينص الفصل 41 من دستور المملكة المغربية على أن: ” الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية”. ونستشف من منطوق هذا الفصل، أن مؤسسة إمارة المؤمنين تتطابق مع ما يسميه فقهاء السياسة الشرعية بالإمامة الكبرى، وهي رئاسة عامة في الدين والدنيا، وقوامها النظر في المصالح وتدبير شؤون الأمة وحراسة الدين وسياسة الدنيا[17].
فمادام الإسلام دين الدولة كما ينص على ذلك الفصل الثالث من الدستور، فلا بد من سلطة تتولى حماية الدين، ولا يمكن تصور سلطة أخرى للقيام بهذه الوظيفة غير المؤسسة الملكية، لكون العلاقة بين المواطنين والملك تستند إلى رابطة البيعة، وهي رابطة تستمد جذورها ومرتكزاتها من النظام الإسلامي[18].
هذا، وقد استثنى الدستور المغربي أحكام الدين الإسلامي من المسائل التي يمكن مراجعتها في هذا الدستور، وذلك في الفصل 175 منه[19].
ثانيا: الحماية الجنائية للأمن الروحي:
تتجلى الحماية الجنائية للأمن الروحي من خلال تجريم المشرع في الفصل 220 استعمال وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم او الصحة أو الملاجئ أو المياتم، وجعل المشرع العقوبة هي الحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم.
والجدير بالذكر أن تجريم هذا الفعل حافظ عليه المشرع في مسودة القانون الجنائي، لكن تم تقليص العقوبة الحبسية بجعلها من ستة أشهر إلى سنتين، وتم الرفع من الغرامة بجعلها من ألفين درهم إلى مائتين ألف درهم.
وما دام أن شعائر الإسلام وعباداته كثيرة، كصلاة الجمعة والعيدين، وصلوات الجماعة، فإن المشرع في الفصل 221 من القانون الجنائي جرم فعل من عطل عمدا مباشرة إحدى العبادات، أو الحفلات الدينية، أو تسبب عمدا في إحداث اضطراب من شأنه الإخلال بهدوئها ووقارها، وجعل عقوبة هذا الفعل الحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم.
وقد تم تعديل هذا الفصل في مسودة مشروع القانون الجنائي، وشمل هذا التعديل التخفيض من العقوبة الحبسية، والزيادة في الغرامة، كما أعطى المشرع للقاضي السلطة التقديرية في الحكم بأحد العقوبتين إما العقوبة الحبسية أو الغرامة، فجاء الفصل كما يلي: “يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة من 2.000 إلى 20.000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين، من عطل عمدا مباشرة إحدى العبادات، أو الحفلات الدينية، أو تسبب عمدا في إحداث اضطراب من شأنه الإخلال بهدوئها ووقارها.
وبالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية نجده يمنع المس بالمعتقدات الدينية للموضوعين تحت إجراء المراقبة القضائية، فقد جاء في الفصل 165 من هذا القانون: ” يجب ألا يمس تطبيق الوضع تحت المراقبة القضائية بحرية الرأي بالنسبة للأشخاص الخاضعين له، ولا بمعتقداتهم الدينية أو السياسية ولا بحقهم في الدفاع”.
ثالثا: حماية الأمن الروحي على ضوء قوانين الجماعات الترابية:
من أهم الحقوق التي نصت عليها القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، الحق في تقديم عرائض إلى السطات العمومية، هذا الحق الذي نص عليه الدستور في الفصل الخامس عشر منه، وقد تكفلت القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية بتنظيم كيفية تنزيله، ونصت هذه القوانين التنظيمية كلها على أن موضوع العرائض لا يمكن أن يمس الثوابت المنصوص عليها في الفصل الأول من الدستور، ومن هذه الثوابت الدين الإسلامي الذي تستند عليه الأمة في حياتها العامة.[20]
رابعا: حماية الأمن الروحي في مادة الحريات العامة:
ينص القانون المنظم للجمعيات في الفصل الثالث منه على أن “كل جمعية تؤسس لغاية أو هدف غير مشروع قد يتنافى مع القوانين أو الآداب العامة، أو قد تهدف إلى المس بالدين الإسلامي أو بوحدة التراب الوطني أو بالنظام الملكي، أو تدعو إلى كافة أشكال التمييز تكون باطلة.
وقد أحسن المشرع صنعا حيث قطع الطريق أمام كل محاولة لتأسيس جمعية هدفها زعزعة عقيدة المسلمين، كالجمعيات التنصيرية التي توجد في كثير من الدول وتعمل تحت الغطاء التعليمي والخيري، وكذا قطع الطريق أمام كثير من المنتسبين للتيار الشيعي المغالي والمعادي للمذهب السني، والذي لا يقوم دينه إلا على التكفير والطعن في سادات الصحابة وإقامة شعائر سنويا مستفزة لمشاعر عموم المسلمين، كما أن هذا التيار ولو كان معتدلا، فإنه لا يقر بالثوابت التي يستند عليها المغاربة كالنظام الملكي.
وقد قام القانون الجديد للصحافة والنشر رقم بتقييد العمل الصحافي ونص على عقوبات تطبق حالة المس مثلا بالدين الإسلامي أو الإساءة إليه، 88.13 حيث جاء في المادة 71 منه: تطبق أحكام المادتين 104
و106 أدناه، إذا تضمنت إحدى المطبوعات أو المطبوعات الدورية أو إحدى الصحف الإلكترونية إساءة للدين الإسلامي أو النظام الملكي أو تحريضا ضد الوحدة الترابية.
وبالرجوع للمادة 104 المحال عليها من طرف المادة 71 من قانون الصحافة والنشر، نجدها تنص على عقوبة تتمثل في توقيف المطبوع الدوري أو حجب الصحيفة الإلكترونية أو الدعامة الإلكترونية بموجب مقرر قضائي لمدة شهر واحد، إذا كان يصدر بشكل يومي أو أسبوعي أو نصف شهري، ولنشرتين متتاليتين إذا كان يصدر بصفة شهرية أو فصلية أو نصف سنوية أو سنوية، أما المادة 106 فتتضمن عقوبة هي حجز كل عدد من مطبوع دوري أو سحب الماد الصحفية وتعطيل الولوج إليها بالنسبة للصحيفة الإلكترونية، وهذا الحجز والتعطيل يتم بعد أمر استعجالي صادر عن رئيس المحكمة الابتدائية المختصة.
أما القانون رقم 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية فقد حذا حذو القانونين اللذين ذكرناهما أعلاه نص على ما يلي في المادة الرابعة منه: ” ف يعتبر أيضا باطلا كل تأسيس لحزب سياسي يهدف على المساس بالدين الإسلامي أو بالنظام الملكي أو المبادئ الدستورية أو الأسس الديموقراطية أو الوحدة الوطنية أو الترابية للمملكة”.
- قائمة المراجع
- القرآن الكريم.
- تيسير الكريم الرحمان في تفسير كلام المنان، لعبد الرحمان السعدي، مؤسسة الرسالة، ط 1 2000 م.
- سنن أبي داود لأبي داود السجستاني ج1.
- كتاب العين للخليل الفراهيدي، دار ومكتبة الهلال، ج 8.
- كتاب التعريفات لعلي بن محمد الجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان ط1 1983.
- لسان العرب لجمال الدين بن منظور، دار صدر بيروت ط 3 سنة 1993 ج2.
- الأمن في حياة الناس وأهميته في الإسلام، موقع وزارة الأوقاف السعودية، ج1.
- السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية، لعبد الوهاب خلاف. دار القلم، ط 1988.
- الدستور المغربي لسنة 2011.
- القانون المتعلق بكفالة الأطفال المهملين 15.01.
- مدونة الأسرة 70.03
- مجموعة القانون الجنائي.
- قانون المسطرة الجنائية.
- القانون 23.98 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية.
- مرسوم رقم 2.00.485 المحدد لكيفية تطبيق القانون 23.98 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية.
- مسودة مشروع القانون الجنائي.
- القانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات.
- القانون التنظيمي 111.14 المتعلق بالجهات.
- القانون التنظيمي 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم.
- القانون 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر.
- الظهير رقم 1.58.376 المتعلق بالحق في تأسيس الجمعيات.
- القانون 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية.
الدستور الجديد للمملكة، شرح وتحليل، كريم لحرش، سلسلة العمل التشريعي والاجتهاد القضائي، مكتبة دار الباحث، فاس، ط 2012.
- الزواج وانحلاله في مدونة الأسرة، سلسلة البحوث القانونية 24، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط3 2014.
- حقوق الانسان في المغرب بين الكونية والخصوصية، مؤسسة علال الفاسي ط1، 2006.
[1] عبد الله التركي، الأمن في حياة الناس وأهميته في الإسلام، الناشر: موقع وزارة الأوقاف السعودية، ج 1، ص 6
[2] عبد الرحمان السعدي، تيسير الكريم الرحمان في تفسير كلام المنان، مؤسسة الرسالة، ط1 2000 م، ص 935
[3] الخليل الفراهيدي، كتاب العين، دار ومكتبة الهلال، ج 8 ص 388
[4] علي بن محمد الجرجاني، كتاب التعريفات، دار الكتب العلمية، ببيروت لبنان، ط 1 1983 ص37
[5] جمال الدين ابن منظور الأنصاري، لسان العرب، دار صدر بيروت، ط 3 سنة 1993 ج 2 ص 462
[6] الخليل بن أحمد، م س ج 3 ص 291
[7] أنظر البوابة الوطنية: www.maroc.ma
[8] نفس البوابة الوطنية
[9] كريم لحرش، الدستور الجديد شرح وتحليل، سلسلة العمل التشريعي والاجتهاد القضائي، مكتبة دار الباحث، فاس، ط 2012، ص 17
[10] أنظر م 39 من مدونة الأسرة
[11] لمزيد من التوسع حول هذا المانع من موانع الزواج، أنظر:محمد الشافعي، الزواج وانحلاله في مدونة الأسرة، سلسلة البحوث القانونية 24، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، ط 3 2014 ص 66 وما بعدها
[12] سنن أبي داود ج 1 ص133.
[13] حميد اربيعي، حقوق الانسان في المغرب بين الكونية والخصوصية، مؤسسة علال الفاسي، ط 1 2016، ص80.
[14] يقابله الفصل 3 من دستور 2011
[15] حميد اربيعي، م س ص 86.
[16] مرسوم رقم 2.00.485 صادر في 6 شعبان 1421 الموافق ل 3 نونبر 2000
[17] عبد الوهاب خلاف، السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية، دار القلم، ط 1988، ص 59.
[18] كريم لحرش، م س ص 59.
[19] ينص الفصل 175 من الدستور على ما يلي: لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي، وبالنظام الملكي للدولة، وبالاختيار الديمقراطي للأمة، وبالمكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور.
[20] أنظر م 118 من القانون التنظيمي 111.14 و م 112 من القانون التنظيمي 14-112 و م 121 من القانون التنظيمي رقم 113.14