في الواجهةمقالات قانونية

الإشكالات التي تعترض مسطرة الصلح الزجري – د.صباح كوتو و ذ.فيصل كرمات

الدكتورة صباح كوتو

استاذة التعليم العالي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية اكادير، جامعة ابن زهر

و

الاستاذ فيصل كرمات

رئيس المركز الوطني للدراسات القانونية والحقوقية

باحث بسلك الدكتوراه ، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية اكادير، جامعة ابن زهر جامعة ابن زهر

 

 

 

الإشكالات التي تعترض مسطرة الصلح الزجري

تطرح مسطرة الصلح الزجري في القانون المغربي رغم حداثتها مجموعة من الإشكالات والصعوبات العملية على  مستوى القضائي مما دفع بالعديد من الدارسين ورجال القضاء إلى محاولة دراسة نص المادة 41 من ق م ج والوقوف على  أهم الثغرات والإختلالات،حتى يمكن اقتراح  تعديلات تتجاوز النقص و مكامن الخلل، وفي الحقيقة فان الصعوبات التي عرفتها مسطرة  الصلح الزجري  لا تقلل من أهميتها كآلية جديدة استطاعت أن تحقق جملة من المكتسبات وتصل إلى بعض الأهداف المرجوة،عادت بالنفع على المجتمع وأفراده وهيآته القضائية.

ولعل من بين أهم الأسباب التي جعلت مسطرة الصلح الزجري يعتريها بعض النقص،أسباب سابقة عن إصدار نص المادة 41 وأخر ى لاحقة عليها، أما السابق منها فيتمثل في عدم التأني وأخذ الوقت الكافي لدراسة النص ومناقشته،والإستعانة بالدراسات  والأبحاث المتعلقة بتحليل وف هم الواقع الإجتماعي المغربي ومتطلباته،أما اللاحق منها فيتمثل في غياب سياسة إعلامية حقيقية متآزرة لنشر ثقافة الصلح والتصالح،وضعف إقبال المتقاضين على مسطرة الصلح، أما لقلة و عيهم بأهميتها أو لتمثلهم السلبيب عدم جدواها و فعليتها، وكذا أزمة القضاء الذي يتخبط في ملفات المتراكمة ،وقلة الموارد البشرية والمادية، وندرت التكوينات المستمرة للسادة القضاة خاصة في مجال إبرام الصلح بين الأطراف.

وكما هو معل و م فان من معايير تقييم القواعد القانونية قياس مدى نجاعتها واستجابتها للتطلعات وآمال المخاطبين بأحكامها، وكذا تماسك نصها القانوني من حيث البناء و عدم تناقضه مع نفسه وباقي النصوص القانونية الخاصة المعمول بها ،ولعل المادة 41  من ق.م.ج المغربي قد حققت جزء مهما من هذه التطلعات، خصوصا أنها أخذت بعين الاعتبار الخصوصيات المحل ية و عادات الإنسان المغربي الذي مابرح يتدخل عند كل خلاف لحل النزاع عن طريق إصلاح ذات البين تلافيا للوقوف أمام القضاء[1]، من جهة الهدف المتوخى من مسطرة الصلح فإنها ترمي إلى تخفيف العبء على القضاء الجالس، ومنح النيابة العامة دورا جديد يرمي إلى رأب الصدع والإبقاء على وشائج المودة و التآخ يبين أفراد المجتمع،ولعب دور اجتماعي و إنساني لحماية ضحايا الأفعال الإجرامية.

لكن رغم ما حققته مسطرة الصلح الزجري فإنها تطرح على المستوى العملي مجموعة من الإشكالات جعلت منها مادة غير قادرة على استيعاب متطلبات الواقع بشكل شمولي،وهذا ما دفع إلى التساؤل عن جدوى تفعيل مسطرة الصلح الزجري، خاصة على مستوى الأهداف المرجوة منها الرامية إلى تخفيف العبء على القضاء و السرعة في فض النزعات ؟.

وعليه سنحاول في هدا المطلب عرض وتحليل أهم الإشكالات التي تعترض مسطرة الصلح الزجري على مستوى النص القانوني (الفقرة الأولى) على أن نتطرق إلى الإشكالات المرتبطة بالواقع العملي لتطبيق مسطرة الصلح الزجري (الفقرة الثانية )،تم سوف نركز في الأخير على أهم الحلول المقترحة لمعالجة إشكالات مسطرة الصلح الزجري(الفقرة الثالثة).

 

 

الفقرة الأولى : إشكالات الصلح الزجري على مستوى النص القانوني

بعد التطرق الى إجراءات الصلح في الدعوى العمومية مند انطلاقتها الأولى، أي ابتداء من تضمين ما اتفق عليه طرفا النازلة بالمحضر من طرف وكيل الملك، ثم إحالته على الهيئة المختصة للتصديق عليه، ومتابعة تنفيذ ما صدر في شأنه من أوامر قضائية، والحديث عن الآثار المترتبة عن مسطرة الصلح ،كل هذا يدفعنا لنتساءل هل المقتضيات السابق ذكرها والتي وضعها المشرع المغربي لأول مرة كوسيلة لإنهاء نزاع ذي طبيعة جنائية ،هل أوفت فعلا بالغرض الذي صيغت من أجله وبالكيفية التي لن تطرح معها أي إشكال حينما ستعرف طريقها إلى التطبيق على ارض الواقع؟

إن الإجابة عن هذا السؤال المركزي سوف يستنتج من خلال الخوص العميق في الإشكالات المرتبطة بمسطرة الصلح الزجري، خاصة تلك المرتبطة بالتنظيم القانوني لمسطرة الصلح الزجري، وهذا ما سوف نعمل على إبرازه بشك دقيق من خلال مناقشة أهم الإشكاليات المرتبطة بذلك.

أولا: إشكالية محضر الصلح الذي يتولى وكيل الملك تحريره

تعد النيابة العامة صاحبة الاختصاص الأصلي في تحريك الدعوى العمومية ومباشرتها، ولها ترجع سلطة ملائمة المتابعة في استقلال تام عن شخص المتضرر من الجريمة، وأساس هذا الإستقلال كون الجريمة تقع اعتداء على مصلحة المجتمع، لا على  مصلحة فرد معين بذاته[2].

كما أن الجهة التي عهد إليها قانون المسطرة الجنائية الجديد تضمين ما اتفق عليه الأطراف من صلح في المحضر هي النيابة العامة باعتبارها الجهاز المكلف بتحريك الدعوى العمومية، وهو ما جاء في العبارات التالية: ( يطلب المتضرر أو المشتكي به من وكيل الملك تضمين الصلح الحاصل بينهما في محضر…. في حالة موافقة وكيل الملك وتراضي الطرفين على الصلح يحرر محضرا بحضورهما وحضور دفاعهما … ويتضمن هذا المحضر ما اتفق عليه الطرفان ).

ومن يتمعن في معنى المقتضيات المذكورة فلن يخرج إلا بفكرة واحدة وهي إضفاء صفة وسيط على ممثل الحق العام مهمته هي تلقي تصريحات واتفاقات الأطراف ثم يقوم  بعدها بتضمينها في  محضر لا حول  له فيه  ولا قوة ما عدا الإمكانية الوحيدة المخولة له للتدخل في إعطاء أو عدم إعطاء موافقته كلما تبين له بأن موضوع الصلح يخرج عن دائرة ما أجاز القانون الصلح  فيه .

وتبقى الصورة الوحيدة التي تركت له فيها مبادرة اقتراح الصلح هي التي جاءت بها الفقرة 6 من المادة 41 أي (إذا لم يحضر المتضرر أمام وكيل الملك وتبين من وثائق الملف وجود تنازل مكتوب صادر عنه أو في حالة عدم وجود مشتك يمكن لوكيل الملك أن يقترح على المشتكى به أو المشتبه فيه صلحا يتمثل في أداء نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة للجريمة أو إصلاح الضرر الناتج عن أفعاله، وفي حالة موافقته يحرر وكيل الملك محضرا يتضمن ما اتفق عليه …).

وحبذا لو أبقى المشرع على الدور البارز الذي كان من المقرر أن تلعبه النيابة العامةفي السير بإجراءات الصلح في الدعوى العمومية إلى النتيجة المرجوة والذي جاءت به المادة 41 من مشروع قانون المسطرة الجنائية ، إضافة إلى كون وكيل الملك هو أول من كان يملك إمكانية السعي إلى السدد بين الطرفين فهو من يقوم باقتراح التدابير التي تشكل إطارا للصلح ومن ضمنها تعويض الضمنية من طرف المشتكى به، أداؤه غرامة  في حدود نصف ما  هو مقرر قانونا مع إمكانية تقسيط الغرامة لمدة لا تتجاوز ستة  أشهر والأمر بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه.

وبعد تضمينه للمحضر التدابير المذكورة أو التي كانت  موضوع الصلح يرفقه بملتمس يطلب فيه من رئيس المحكمة  أو من ينوب عنه بالتصديق بغرفة المشورة على المقرر بواسطة أمر قضائي.

غير أن الصياغة الجديدة للفصل المتعلق بالصلح  أسقط عن النيابة  العامة اتخاذ أي مقرر يتضمن التدابير المتخذة والتي تم الإتفاق عليها وهذا الإسقاط خلق إشكالا قانونيا خاصة ما يتعلق منها بنوعية التدبير أو التدابير المنتظر المصادقة عليها من طرف المحكمة في أمرها القضائي.

ثانيا: إشكالية  طلب الصلح أثناء نظر الدعوى من طرف المحكمة

جاء في الفقرة الأولى من المادة 41  من ق م ج (أنه يمكن للمتضرر أو المشتكى  به قبل إقامة الدعوى العمومية … أن يطلب من وكيل الملك تضمين الصلح الحاصل بينهما في محضر).

فهل إمكانية  إبرام الصلح  تبقى  جائزة حتى بعد  إقامة الدعوى العمومية وعرض القضية للنظر فيها من طرف المحكمة ؟

هذه الحالة لم يتطرق إليها قانون المسطرة الجنائية وتعتبر من بين أهم الإشكاليات التي أغفل تضمينها خلافا لبعض التشريعات وعلى رأسهم المشرع المصري الذي جاء في قانون الإجراءات الجنائية المادة  18 مكرر أن حق المتهم في التصالح لا يسقط بفوات ميعاد دفع الغرامة موضوع الصلح ولا بإحالة الدعوى الجنائية على المحكمة كما ألزم الأخيرة بقبول التصالح في الدعوى المعروضة عليها ما دامت تتعلق بجنحة من الجنح التي يمكن إجراء الصلح في شأنها.

فقد يحصل أن لا يتفق المشتكي  والمشتكى  به على الصلح بفعل ما حصل للأول من ضرر تسبب له فيه خصمه أو ينجحان في تبديد الخلاف فيما بينهما في شأن بعض الأمور فقط  وتبقى الأخرى عالقة لعدم توصلهما إلى اتفاق نهائي حولها، لكن مع مرور الوقت قد يعاود كل منهما الآخر نظرا لما تقتضيه مصلحته في إعادة الأمور إلى سابق عهدها قبل النزاع أو قد يتدخل بعض ذوي النيات الحسنة من العائلة أو الأصدقاء أو الجوار ويتوصلا إلى إبرام صلح لكن بعدما تكون القضية قد خرجت من يد النيابة العامة التي حركت في شأنها الدعوى العمومية وإحالتها على المحكمة للبث فيها.

فأرى أنه ليس هناك أي مانع يحول دون تقديم الطرفين أو أحدهما طلبه إلى المحكمة يلتمس منها قبول الصلح الذي تم بينهما وذلك أسوة بما يجري به العمل في الميدان المدني[3].

بل لا مانع أيضا من قيام المحكمة بدورها في أن  تقترحه على الطرفين كلما كانت الدعوى العمومية منصبة على جنحة من  الجنح التي أجاز فيها القانون الصلح.

ويمكن أيضا أن يقاس على الصلح الذي يتم بين أطراف النزاعات المدنية حيث يظل الباب مفتوحا أمام إمكانية إبرامه في أية مرحلة كانت عليها الدعوى ولو بعد صدور الحكم وأثناء عملية تنفيذه أي بعد صيرورة الحكم نهائيا وباتا.

ثالثا: الصلح في حالة تعدد الجرائم

قد يحدث أن يرتكب شخص عدة جرائم في حق شخص واحد أو في حق عدة أشخاص غير أنه أمام مثول الجميع أمام النيابة العامة يتقدم الطرف المضرور أو الطرف المعتدي – المشتكى به – بطلب إلى وكيل الملك يرمي إلى تضمين المحضر صلحا أبرم بين الطرفين أو يقترح على خصمه إبرام صلح معه وبعد تضمين وكيل الملك محضرا بما ذكر يحال على الهيئة المختصة للمصادقة عليه.

فما هو إذن مضمون الأمر القضائي الذي سوف يصدر في النازلة ؟ هل يجب على الهيئة أن تحكم فقط  في الجريمة التي توصف عقوبتها بالأشد أم تبث في كل حالة على حدة؟

ويثار نفس السؤال بالنسبة للحالة التي يضمن فيها صلح الطرفين عن كل جريمة وفي  محضر مستقل عن الآخر.

أظن أن المقتضيات القانونية صريحة في هذا الصدد ويتعين تفعيلها بالنسبة للجنح التي  يجوز فيها الصلح.

فقد جاء في الفصل 118 من  مجموعة القانون الجنائي المغربي : على أن الفعل الواحد الذي يقبل أوصافا متعددة يجب أن يوصف بأشدها، كما جاء في الفصل 119 من نفس القانون على ما يلي: – تعدد الجرائم هو حالة ارتكاب شخص جرائم متعددة في أن واحد أو في أوقات متوالية دون أن يفصل بينهما حكم غير قابل للطعن.

فمن خلال هذا التعريف يتبين أن من بين شروط قيام حالة التعدد هو أن تكون الجرائم المتعددة صادرة عن شخص واحد.

ومتى توافرت حالة من حالات تعدد الجرائم فإن الجاني يستفيد من النص الذي وضع لتحديد العقاب اللازم توقيعه عليه، والمشرع في تأسيسه لقاعدة عدم ضم العقوبات في حالة تعدد الجرائم هدفه بالأساس هو عدم المغالاة في توقيع العقاب والإفراط فيه، وهو بذلك يرمي إلى اعتبار قدسية الفرد والتمسك بمبدأ احترام حقوق الإنسان وبالتالي جعل العقوبة تقويما لسلوكه، لا إفناء لحياته أو ماله.

رابعا: ميعاد تنفيذ حكم الصلح الزجري

إذا تم صلح في الدعوى العمومية وصدر عن المحكمة أمر قضائي بالمصادقة عليه فهل هناك ميعاد معين تعين على المحكوم عليه تنفيذ ما التزم به خلاله وإلا سقط حقه في الإستفادة من الصلح؟

إن الحديث عن أجل لتنفيذ الصلح ذكر في مناسبتين اثنتين حسب المادة 41 منق.م.ج الأولى في معرض الإشارة  إلى أحد التدبيرين اللذين  يمكن لرئيس المحكمة أو  من ينوب عنه أن يضيفهما في أمره القاضي بالمصادقة على ما اتفق عليه الطرفان ومن بينهما تحديد أجل لتنفيذ الصلح  (الفقرة الخامسة من المادة 41)، أما المناسبة الثانية وهي التي جاءت عند الحديث عن إمكانية معاودة الإجراءات وإقامة الدعوى العمومية من طرف وكيل الملك في حالة عدم تنفيذ الإلتزامات التي صادق عليها رئيس المحكمة أو من ينوب عنه داخل الأجل المحدد[4].

فمن خلال المقتضيات القانونية التي جاء عليها الذكر نستطيع الجزم بأن الجزاء الذي يترتب عن عدم تنفيذ الصلح داخل الأجل هو سقوط حق المحكوم عليه المشتكى به من الإستفادة من الصلح.

لكن هل لهذا الأجل من أمد أقصى وما هو المعيار المعتمد في تحديده من طرف المحكمة، هل ينظر فيه إلى نوع  كل جريمة على حدة وما تشكله من خطورة، أم السند هو مبلغ الغرامة المحكوم بها،أم الظروف الإجتماعية والمادية للمحكوم عليه ؟
وكان حريا بالمشرع في صياغته للمادة 41 من ق م ج أن يبقي على ما جاء به  في نفس المادة من المشروع حين خول لوكيل الملك أثناء تحريره لمحضر السدد أن يأمر بتقسيط الغرامة لمدة لا تتجاوز ستة أشهر، وهي مدة كحد أقصى توجب على المشتكى به أن ينفد الحكم  خلالها.

وفي معرض الكلام عن إمكانية إقامة الدعوى العمومية من طرف وكيل الملك في حالة عدم تنفيذ الالتزامات التي صادقت عليها المحكمة، يثار السؤال التالي :هل الأمر هنا يتعلق بالجانب الزجري والمدني معا أم فقط ما يتعلق بالغرامة ؟

فالفقرة الخامسة من المادة  41 المتعلقة بالأمر القضائي حصرت من بين الأمور التي لها الأسبقية عند التصديق على الصلح ما اتفق عليه الطرفان المشتكي  والمشتكى  به واتفاقهما هذا لا يمكنه أن يعالج غير الأمور المدنية  التعويض، ثم ما هو الحل في الحالة التي ينفذ  فيها المشتكى به لما قضى به الأمر القضائي لكن فقط فيما يتعلق بالعقوبة، مثلا أداءه  لنصف الحد الأقصى للغرامة وتقاعس أو رفض عمدا أداءه للتعويض المتفق عليه مع المضرور، فهل يخول للنيابة العامة في هذه الحالة إقامة الدعوى العمومية في مواجهة المشتكى به متذرعة بكونه لم يقم  بتنفيذ التـزامه ، وبناء على طلب أية جهة ؟

بغض النظر عن كثير من الإشكاليات القانونية التي سيطرحها تطبيق المادة 41 بخصوص تفعيل مسطرة الصلح، الواقع أن التدابير التي تقوم عليها هذه الأخيرة جاءت مختزلة إلى أقصى الحدود[5]، بحيث و لو بمقارنة بسيطة مع مقتضيات القانون الفرنسي، الملاحظ أن المشرع المغربي لم يكن موفقا لا في تحديد التدابير التي سيقوم عليها الصلح و لا في تأمين الضمانات التي يجب أن يكفلها لأطرافه، و هنا لابد من التأكيد على أن مفهوم العدالة التصالحية كبديل عن المتابعة يبقى على أية حالة قائم على مسطرة قضائية، ليس فقط على مستوى التصديق من طرف رئيس المحكمة، و لكن أيضا على مستوى تقنيات الأجرأة[6]، و هو ما لم ينتبه إليه المشرع المغربي، الشيء الذي يجعلنا نتساءل: هل المادة 41 أريد بها التنصيص فقط على المبدأ بغية التوصل إلى صيغة ينتجها العمل ستسمح للمشرع فيما بعد بتحديد موقفه النهائي من مؤسسة العدالة التصالحية أم أن الأمر يتعلق بتأصيل مقاربة خاصة سيكشف عنها التطبيق؟

فهذه الإشكالات أو الثغرات التي ذكرتها وقد يكتشف غيرها من قبل كل من سبر أغوار المستجدات التي جاء بها قانون المسطرة الجنائية الجديد في شكل ردة فعل الفعاليات القانونية وسوف تتضح أكثر من خلال الممارسة اليومية ، هذه الممارسة التي ستتولد عنها اجتهادات قضائية هي التي وحدها الكفيلة بنسخ غياب ذلك الإنسجام الذي كان من المفروض أن يسود بين الفقه والإجتهاد القضائي والتشريع حتى تصبح القاعدة القانونية مسايرة للواقع.

الفقرة الثانية: الإشكاليات العملية لمسطرة الصلح الزجري           

إن الحصيلة الميدانية لحالات الصلح في الخصومات الجنائية بالنسبة للقضايا البسيطة لا تسمح مطلقا بإصدار أحكام قيمية أو إجراء مقارنة عملية لنتائج تطبيقها، ليس لعدم فعالية مسطرة الصلح الزجري أو محدودية مردوديتها، بل بكل بساطة للمعدل الضعيف لحالات تطبيقها، وتؤكد ذلك الإحصائيات الرسمية لحالات تطبيق مسطرة الصلح بمختلف المحاكم المغربية.

فالنيابات العمومية في غالبيتها لا تزال متشبثة بأسلوبها المحافظ كمجرد إطار مؤسساتي  لتحريك الدعوى العمومية ولم تستطع لحد الآن التأقلم مع الدور الجديد كمؤسسة لإجراء الصلح بين أطراف الخصومة الجنائية أو على الأقل تحجم عن أخد البادرة في هذا الصدد فالمسطرة في أصلها جوازيه واتفاق الضحية والفاعل المجرم على الصلح يبقى غير ذي مفعول في غياب موافقة وكيل الملك، وإقرار متابعة عوض سلوك هذه المسطرة يظل أسلوب ومختصرا في إجراءاته (صك اتهام، ومحضر إيداع واعتقال أو استدعاء مباشر) أكثر من ذلك فان آلية المتابعة تعتبر حسب وجهة نظر العديد من الممارسين، ضمانة أكيدة لتجنب أية انتقادات محتملة، وهكذا وباستثناء حماس البداية فان معدلات اللجوء إلى مسطرة الصلح الزجري سرعان ما انتابها الفتور وأخذت في التراجع، ولم تشفع لا توصيات المناظرات ولا المناشير الوزارية أو المذكرات الدورية بشأن ترشيد سياسة الاعتقال وتفعيل آليات العدالة التصالحية في كبح جماح هذا التراجع[7].

ومن باب الإنصاف يتعين علينا الإشارة إلى أن أزمة تطبيق مسطرة الصلح في ظل العمل القضائي، يجب ألا تلقى حصرا على عبء مؤسسة النيابة العامة، إذا أن هناك معطى أخر ساهم بدوره في تكريس بوادر هذه الأزمة، وقصدنا في ذلك ينصرف إلى الإجراءات المسطرية المواكبة لمسطرة الصلح الزجري والتي يجمع الكل على تعقدها، وارتباطها بإجراءات تكاد تكود مجانية، فمسلسل مسطرة الصلح بعد اتفاق طرفي الخصومة الجنائية وموافقة وكيل الملك يستهل بتوثيق محضر الصلح وتضمين عريضة محتوى اتفاق الأطراف المعنية مشفوعا بتوقيعها، وإشهاد وكيل الملك بعد ذلك يحال محضر الصلح على رئيس المحكمة الإبتدائية ليقوم هو أو من ينوب عنه بالتصديق على ذات المحضر[8]، وتعقد ذلك جلسة بغرفة المشورة بحضور الأطراف أو دفاعهم وكذا حضور وكيل الملك، ويكون الأمر الرئاسي محصنا ضد أي طعن و يشتمل مضمون ومحتوى اتفاق الأطراف وعند الاقتضاء التنصيص على أداء غرامة لا تتجاوز نصف الحد الأقصى للغرامة المقرة قانونا، مع تحديد أجل زمني لتنفيذ الصلح ونفس الأمر ينطبق في حالة تخلف الضحية عن الحضور، مع سبقية تنازله لفائدة المشتكي أو في حالة عدم وجود مشتكي بالمرة في الفعل الجرمي موضوع مسطرة الصلح الزجري.

والجدير بالذكر أن مشروع قانون المسطرة الجنائية قلص إلى حد كبير حجم هذه الإجراءات إذ مكن مؤسسة النيابة العامة من أهلية تحريك مسطرة الصلح بتزامن مع صلاحية المصادقة عليها لتحوز بحجيتها وقوتها الثبوتية، خاصة أن محضر المنجز بالصلح أمام السيد الوكيل الملك يعد من قبيل التوثيق التعاقدي الرسمي الذي لا يمكن الطعن فيه إلا بالزور، ولذلك فان إسناد اختصاص الصادقة على الصلح للمحكمة من باب الزيادة غير المحمودة.

وتبدو تمظهرات تعقد الإجراءات في مسطرة الصلح الزجري جلية في حالة إعادة إحياء الدعوى العمومية من جديد بصدد نفس القضية التي كانت موضوعا للصلح وذلك في الحالات التالية:

  • الحالة الأولى:

وتعتبر هذه الحالة العائق الأول أمام نجاعة مسطرة الصلح، وتتمثل في تراجع المتهم أو الأطراف عن تنفيذ التزاماتهم المضمنة في محضر الصلح.

وتؤكد بعض الإحصائيات – غير الرسمية – أن أكثر من%  90  من حالات الصلح التي تكللت بالفشل ووقفت في منتصف الطريق ترجع بالأساس إلى تملص الأطراف المعنية عن تنفيذ تعهداتها المضمنة في محضر الصلح ،ففي غياب آلية جبرية بموجبها يلزم الطرف على تنفيذ التزاماته وفي غياب عقلية متفهمة لجدوى العدالة التصالحية[9] ،فان مسطرة الصلح ستصبح في مهب الريح وتتحول عن وجهتها لتنحو منحى نفق مسدود، فبمجرد مغادرة المتهم أو المشتكى به لمكتب السيد وكيل الملك حتى تذهب تعهداته إدراج الرياح انطلاقا من قناعة شخصية تجعله يعتقد أن الإلتزامات المتعهد بها تلقى فقط على كاهله مسؤولية أخلاقية ليس إلا.

  • الحالة الثانية:

عدم المصادقة على محضر الصلح من طرف السيد رئيس المحكمة أو من ينوب عنه، وتبقى هذه فرضية نسبية من حيث افتراض توقعها، مادام أن وكيل الملك لا يحيل محضر الصلح على الرئيس أو من نائبه إلا بعد التحقق من توافر المسطرة على موجباتها الموضوعية واحترامها للشكليات النظامية المقررة بمقتضى المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية.

  • الحالة الثالثة:

ظهور عناصر جديدة تمس الدعوى العمومية ما لم تكن هذه الأخيرة قد تقادمت.

وتأسيسا على ما ذكر فانه إذا كانت الغاية الأساسية من مسطرة الصلح تستهدف بالأساس تخفيف عبء القضايا المعروضة على أنظار المحاكم و التصدي لطاهرة التأخير في حسم الخصومات الجنائية ، فان هذه الغابة سرعان ما تنقلب رأسا على عقب في حالة فشل مسطرة الصلح الزجري لعلة من العلل المستعرضة أعلاه، لتصبح بدورها فاعلا أساسيا في أزمة تراكم القضايا أمام رفوف المحاكم وعاملا مشجعا على تفشي ظاهرة التباطؤ التي عادة ما تقترن بمسار البت في القضايا الزجرية ذات الطابع البسيط.

بقي أن نشير إلى أنه يعاب على مسطرة الصلح التي تجرى في إطار المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية أنها وسيلة لابتزاز المشتكى به من طرف الضحية إلى جانب تأثيرها السلبي على مجهودات الشرطة القضائية التي تقوم بمهام كبيرة وخطيرة أحيانا من أجل إلقاء القبض على المشتكى بهم، وحينا لاستماع إليهم وخلال الحراسة النظرية تتحرك المفاوضات و المساومات مع الضحية، الذي يطلب غالبا بمبالغ مالية مقابل قبول الصلح، الشيء الذي يجعل المشتكى به يخرج منتصرا على مجهودات الشرطة القضائية، بل ومستهترا أحيانا بأفرادها، على اعتبار أنها بدلت مجهودات لإيقافه ومباشرة البحث معه وما يتطلبه ذلك من انجاز لمساطر قضائية، اشتراها هو في أخر المطاف من الضحية، وهكذا يعاود ارتكاب جرائمه لأنه يضمن مستقبلا استصدار التنازل من ضحاياه أو مصالحتهم[10].

ويبدو لنا أنه يتعين النظر في هذه المسطرة، وذلك بجعلها تراعي ما تم ذكره أعلاه، خاصة انعكاسها السلبي على مجهودات الشرطة القضائية.

الفقرة الثالثة: أهم الحلول المقترحة لمعالجة إشكاليات مسطرة الصلح الزجري

تحدثنا فيما سبق عن أهم الإشكالات العملية والقانونية التي تحول دون تطبيق السليم لمسطرة الصلح الزجري، وهي إشكالات رغم حدادتها إلا أنها قابلة للتقويم و المعالجة، ومن أهم الحلول التي نقترحها في هذا الصدد:

أولا: جعل مسطرة الصلح الزجري من النظام العام

إن أول حل يمكن اقتراحه في هذا الصدد هو جعل مسطرة الصلح الزجري من النظام العام، ذلك انه كما اشرنا سابقا أن إحجام بعض النيابات العامة وحتى بعض النواب داخل نفس المحكمة عن اللجوء إلى تفعيل مسطرة الصلح الزجري، فإن هذه الإشكال يمكن تجاوزه بإقرار وجعل اللجوء إلى مسطرة الصلح الزجري من النظام العام ينتج عن عدم سلوكه من ظرف عضو النيابة العامة عدم قبول المتابعة، كما هو عليه الأمر في المادة الإجتماعية و الأسرية، وعند فشل أو رفض الأطراف الصلح الزجري يشار إلى ذلك في صك المتابعة[11]، وهو ما سيقيد من حرية النيابة العامة في اللجوء إلى هذا الإجراء من عدمه، رغم أن ذلك سيؤثر على مبدأ الملائمة الممنوحة للنيابة العامة بوصفها ممثلة للحق العام وساهرة على حماية مصالح المجتمع، وهنا أقول بأن حماية المجتمع لا تتأتى دائما بتحريك المتابعة وملء السجون التي لم تعد تحقق غايات العقوبة حتى في الدول الكبرى المتقدمة، وتقييد مبدأ الملائمة الممنوح للنيابة العامة باعتبارها ممثلة للحق لن يؤثر في شيء، خاصة إذا تقرر جعل الصلح الزجري من النظام العام في نوعية خاصة من الجرائم، كتلك التي  لا يوجد فيها متضرر مثلا، أو ذات الطابع الأسري، سيما إذا علمنا ما قد يتحقق بالصلح الزجري من نتائج لن تتحقق بالمتابعة التي تعتبر حسب البعض ضمانة أكيدة لتجنب اي انتقادات محتملة، وعدم إيلاء الإهتمام لتوصيات المناظرات والمناشير الوزارية أو المذكرات الدورية بشأن تفعيل آلية العدالة التصالحية، ومنها الصلح الزجري[12].

ولا شك أن التجربة هي التي ستحكم على درجة تفوق المشرع في هذا الأسلوب، وعلى مدى نجاح النيابة العامة في تخفيف العبء على القضاء و الحفاظ على أواصر المودة في المجتمع دون التخلي عن المهام التقليدية في مكافحة الجريمة.

ثانيا: النص على استفادة ذوي قواعد الإختصاص الاستثنائية من مسطرة الصلح الزجري

إن المسطرة الجنائية أتت بمعطيات جديدة شجعت طرفي الخصومة على اللجوء إلى مسطرة الصلح في جنح محدد على سبيل الحصر لا تعتبر في حد ذاتها خطرا على النظام العام وينصرف ضررها مباشرة إلى طرفيها ومن ثم يتطلب رضاهما لتحقيق المصالحة القانونية، إذا استوفت كافة شروطها المنصوص عليها في الفصل 41 من قانون المسطرة الجنائية.

ويظهر أن المشرع قصر مسطرة الصلح على المحكمة الإبتدائية وحدها فقط على اعتبار أنها المختصة، كما حدد دور وكيل الملك  ورئيس المحكمة في إطار الفصل 41 من قانون المسطرة الجنائية ودور هيئة الحكم في إطار الفصل372 من نفس القانون[13].

لكن ما هو الموقف إذا كانت الجنح المشار إليها منسوبة لذوي قواعد الإختصاص الإستثنائية من بعض الموظفين و القضاة؟

إن هؤلاء الأصناف من ذوي قواعد الإختصاص الاستثنائية، أوجب المشرع أن يجرى التحقيق معهم قبل المحاكمة، من طرف عضو أو عدة أعضاء من الغرفة الجنائية بمحكمة النقض أو من طرف مستشار مكلف بالتحقيق لدى محكمة الإستئناف حسب الترتيب الوارد من الفصل 265 إلى 268 من قانون المسطرة الجنائية.

والحقيقة أن شريحة واسعة من هؤلاء الأصناف أولى بالإستفادة من مسطرة الصلح الزجري نظرا للاحتكاك اليومي الذي يحصل بينهم وبين المواطنين أثناء تأدية وظيفتهم، كما هو حال ضباط الشرطة القضائية ورجال السلطة المحلية، فقد يقترف أحد هؤلاء في حق مواطن جنحة من الجنح الضبطية المشار إليها في الفصل 41 من قانون المسطرة الجنائية المتعلقة بمسطرة الصلح مما قد  يؤدي إلى تقديم شكاية إلى الوكيل العام للملك في مواجهة صاحب الاختصاص الإستثنائية[14]، فإذا جرى صلح بين الأخير وصاحب الشكاية، فهل ينتج هذا الصلح أثاره في إيقاف إجراءات قيام الدعوى العمومية أثناء إجراءات التحقيق أو قبل ذلك أمام الوكيل العام للملك أسوة بآثار الصلح أمام المحكمة الإبتدائية؟

والجدير بالذكر أنه لا يوجد نص يجعل هؤلاء الأصناف من القضاة والموظفين من المشمولين بالإستفادة من مسطرة الصلح الزجري أثناء إجراء التحقيق معهم من أجل الجنح التي تكون موضوع صلح بينهم وبين المتضرر، ومن الغرابة بمكان أن يمتع المشرع هؤلاء القضاة والموظفين بقواعد استثنائية لقيام الدعوى العمومية في حقهم عن طريق سلوك قنوات مسطرية دقيقة مكفولة بضمانات كبيرة منصوص عليها في الفصول من 265 إلى 268 من قانون المسطرة الجنائية، وفي نفس الوقت يحرمهم من مسطرة الصلح إذا حصل بينهم وبين المتضرر !

ونرى أنه يجب على المشرع المغربي أن يتدخل لجعل مسطرة الصلح الزجري سارية في حق هؤلاء الأصناف من ذوي قواعد الإختصاص الإستثنائية بالنسبة للجنح الخاضعة لمسطرة الصلح، وان يرتب عن ذلك إيقاف إجراءات التحقيق إذا اجري صلح بين صاحب الإختصاص الإستثنائي والمشتكي أو المتضرر وذلك مساواة لهم بباقي المتقاضين العاديين.

ثالثا : تدعيم المحاكم بالموارد البشرية الكافية

إذا كانت الصياغة التشريعية للقاعدة القانونية تلعب دورها الأساسي في تحقيق هذه القاعدة لغاياتها، حيث يكون  متاحا متى توفرت صياغة سليمة وواضحة، فان دور العنصر البشري الذي سيسهر على تطبيق القاعدة القانونية لا يمكن إغفاله، هذا العنصر الذي يشكل إحدى العيوب والعراقيل التي تحول دون الوصول الى الجودة المبتغاة في الحقل القضائي المغربي بصفة عامة، ونجاعة مسطرة الصلح الزجري بصفة خاصة، فظاهرة قلة الأطر من قضاة (نيابة عامة و رئاسة) وموظفين، هي من إشكالات هذه المسطرة التي لا بد من إيجاد العلاج لها، حيث أصبح مطلب توفير الموارد البشرية الكافية ملحا لإعطاء الحركية اللازمة للنصوص القانونية، هذا الحل أضحت تؤمن به وزارة العدل ولو بشكل بطيء، حيث صبت اهتمامها على توفير الموارد البشرية، وذلك بالإعلان عن عدة مباريات للتوظيف في مراكز قانونية متعددة كالقضاء وكتابة الضبط، الشيء الذي سيشكل إحدى الحلول الناجعة لتفعيل مسطرة الصلح الزجري، وتحقيق الغايات التي ينشدها المشرع المغربي.

ونقترح حلا آخرا في هذا الصدد، يكمن في إعطاء مسطرة الصلح الزجري الدور الذي تستحقه، وذلك بتبني خطة عملية تهدف الى تكوين بعض قضاة النيابة العامة تكوينا يلائم هذه المهمة النبيلة، بحيث يتفرغ البعض منهم لمباشرة إجراءات الصلح الزجري، وإعطائها ما تستحقه من العناية و الإهتمام، وذلك بتخصيص حيز زمني كاف لها.

رابعا :تأهيل الموارد البشرية عن طريق القيام بدورات تكوينية

إذا كنا قد تحدثنا في النقطة السابقة عن ضرورة الإهتمام بالجهاز القضائي وتدعيمه بالكفاءات الكافية، فان ذلك وحده لا يكفي، بل يلزم تأهيلها للقيام بدور الصلح الزجري على أكمل وجه، عن طريق عقد ندوات وتنظيم دورات تكوينية للقضاة، خاصة منهم قضاة النيابة العامة، ولم لا تبادل التجارب مع الدول المتقدمة التي كانت سباقة لتبني مسطرة الصلح الزجري، هذا المقترح منوط في إعماله بوزارة العدل  باعتبارها الساهرة على الشأن القضائي بالمغرب، حيث يجب أن يحظى الصلح في المادة الزجرية بنفس الإهتمام الذي تحظى به الوساطة والصلح في المجال الأسري، حيث دأبت  وزارة العدل على تنظيم دورات تكوينية لقضاة الأسرة لتحسيسهم بالدور المنوط بهم بموجب مقتضيات مدونة الأسرة، لذلك فالدعوة صريحة إلى إيلاء هاته الآلية الجديدة مزيدا من التكوينات ونقل التجارب الرائدة، لان التوفر على العنصر البشري المكون والمؤهل أصبحت ضرورة ملحة، لتستطيع النيابة العامة انجاز المهام المنوطة بها على أكمل وجه.

 

 

خامسا: إصلاح نظام التبليغ

يعد التبليغ من الإجراءات العامة المتحكمة في مصير الدعوى، فإذا تم هذا الإجراء داخل  أجال معقولة أمكن تحقيق الأهداف المرجوة، والتجربة العملية أثبتت أن أهم العراقيل التي تحول دون تصريف القضايا في الآجال المعقولة و المحددة هو عدم فعالية نظام التبليغ الحالي[15].

لا يخفى على احد أهمية التبليغ في نجاح مسطرة الصلح الزجري المنصوص عليها في المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية، سيما أن فقرتها الثالثة اشترطت ضرورة إشعار الطرفين بتاريخ جلسة المشورة، وضرورة حضورهما أو دفاعهما بهذه الجلسة، لذلك أضحى لزاما إصلاح هذا النظام بشكل كامل، والإستئناس بما انتهت إليه التشريعات الجنائية الحديثة في هذا المجال، وخاصة ما يتعلق بالإستفادة من تقنيات الإتصال الحديثة كالهاتف والفاكس والبريد الإلكتروني في حالات خاصة، مع الأخذ بنظام التبليغ بين المحامين وضبط عناوين المواطنين بإجبارهم قانونا على التصريح بعنوان الجديد أمام هيئة معينة كالجماعات المحلية، وردع كل من يدلي بعنوان وهمي من خلال معاقبته بجزاء مالي، وهو الأمر الذي إن كان بأقل حدة في هذه المساطر التي يقدم فيها المتهم إلى النيابة العامة رفقة المحضر المنجز من طرف الضابطة القضائية، فإنه يستفحل في تلك المحاضر الواردة على شكل معلومات قضائية، ومن شأن إصلاح هذا النظام المساعدة على تجاوز إحدى أهم إشكاليات الصلح الزجري.

 

ألهمتنا مختلف النتائج التي استعرضناها آنفا، توصيات واقتراحات، نوجهها إلى المسؤولين عن السياسة التشريعية ببلادنا، لعلها تساهم في إعطاء هذه البدائل الدور الذي يجب أن تؤديه كآلية قانونية حديثة في السياسة الجنائية المعاصرة، وذلك على الشكل التالي:

  • نقترح ضرورة توعية المواطنين بمزايا سلوك بدائل الدعوى العمومية ومنها الصلح الزجري ، ذلك أن خضوع المواطنين المخاطبين بالقاعدة القانونية واقتناعهم بفاعليتها من أسباب نجاح أية قاعدة قانونية، لذلك من الواجب القيام بحملات واسعة النطاق ترمي إلي بعث الثقة في نفوس المغاربة بمزايا وأهمية مسطرة الصلح الزجري، وكذا تحسيس الرأي العام بأهمية العدالة التصالحية، لأن تطوير العدالة الجنائية لا يتحقق بدون إشراك جميع الفاعلين فيها.
  • نقترح إدخال الضابطة القضائية في مسطرة الصلح الزجري، وذلك بحثهم الأطراف على سلوك مسطرة الصلح الزجري لما فيه خير للطرفين معا،لا سيما أن الضابطة القضائية في الغالب هي أول من يطلع على مجريات النزعات وفحواها وأقرب إلى عموم المواطنين، ولها تأثير بالغ عليهم.
  • يجب على الجهة المعنية -النيابة العامة- بإجراء مسطرة الصلح الزجري، أن تجعل المصادقة على محضر الصلح الزجري رهينة بتنفيذ الالتزام حالا، فإذا التزم المشتكى به بأداء تعويض لفائدة المتضرر مثلا، كان لزاما عليه أن يقوم بإيداع مبلغ التعويض بصندوق المحكمة مقابل وصل يتسلمه، بعدها يمكن إحالة الطرفين على غرفة المشورة، حينها نضمن تنفيذ الإلتزامات المتعهد بها في محضر الصلح الزجري، وهو الأمر الذي يتوج مجهودات النيابة العامة ورئاسة المحاكم في إنجاح مسطرة الصلح الزجري والوصول إلى الغايات المنشودة من وضعها.
  • تدعيم الجهاز القضائي بالكفاءات الكافية وتأهيلها للقيام بدور الصلح على أكمل وجه، عن طريق عقد ندوات وتنظيم دورات تكوينية للقضاة، خاصة منهم قضاة النيابة العامة، لتدارس كيفية تفعيل هذه المستجدات، والوقوف على الصعوبات المثارة بهذا الخصوص.
  • وضع الثقة في نظام الصلح الزجري وتهيئة كل الوسائل المادية والبشرية وتوفير الآليات القانونية الكفيلة لإنجاحه.

 

[1]عبد العالمي الدليمي، مدى ملائمة الصلح الزجري للأعراف والعادات المحلية بالصحراء المغربية، الندوة الجهوية الحادي عشر قصر المؤتمرات بالعيون، مطبعة الامنية الرباط نوفمبر 2007 ،ص 151

[2] شادية شومي، حقوق الدفاع خلال مرحلة ما قبل المحاكمة في النظام الجنائي المغربي، اطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص، جامعة الحسن الثاني عين الشق، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية الدار البيضاء، السنة الجامعية 2002_2003 ، ص 144

[3]تنص المادة 124من قانون المرافعات المصري  “للخصوم أن يطلبوا من المحكمة في أية حالة تكون عليها الدعوى إثبات ما اتفقوا عليه في محاضر الجلسة ويوقع عليه منهم أو من وكلاهم فإذا كانوا قد كتبوا ما اتفقوا عليه الحق المكتوب بمحضر الجلسة وأثبت محتواه  فيه ويكون لمحضر الجلسة في الحالتين قوة السند التنفيذي واعتباره ، وتعطي صورة وفقا للقواعد المقرر لإعطاء صور الأحكام”

[4]عرف مامون الكزيري الأجل بأنه أمر مستقبل محقق الوقوع يتوقف على حدوثه نفاذ الالتزام أو انقضاؤه . نظرية الالتزامات في ق ا ع الجزء الثاني ص 65.

[5] (Pour sauvegarder les droite de la personne poursuivie et protéger sa liberté et de venir les législations contemporaines prennent généralement soin de formuler la règle soit dans la constitution ou son préambule soit dans la code de procédure pénale )  ESSAID Mohamed- Jalal, la présomption d’innocence,  rabat, ed technique Nord – africaines 1971 p 411

[6]فريد السموني، مقارنة بين مقتضيات القانون الجديد للمسطرة الجنائية المغربية وبين القانون المسطرة الجنائية الفرنسية، مقال منشور من جريدة القانونية، عدد  15

[7] يوسف بناصر، أزمة الصلح في القانون والقضاء المغربي: رصد ميداني لحصيلة التطبيق ، وقراءة في أسباب الأزمة و الحلول المقترحة لمعالجتها، سلسلة بناصر للدراسات القانونية والأبحاث القضائية ،الداخلة 2006 عنوانها الالكتروني benbaceryoussef@menarama

[8]* حيت حضر أمامنا المشتكى به واكد ما جاء في محضر الصلح المشار اليه اعلاه والذي قام الاتفاق بمقتضاه على ما يلي:

اداء مبلغ 400 درهم كنصف الحد الأقصى للغرامة لارتكابه مخالفة نقل الركاب خارج نقطة محددة مع تحديد الصائر في 100 درهم.

وحيث ان المخالف ابدى رغبته في أداء ما أتم الاتفاق عليه، وحيث ان  ما نسب للمخالف يعد ضمن زمرة الفعال التي اجاز المشرع الصلح فيها طبقا لمقتضيات المادة  41 من قانون المسطرة الجنائية.

وحيث ان النيابة العامة التمست المصادقة على الصلح.

لأجله، نصرح بالمصادقة على الصلح موضوع المحضر المشار إليه أعلاه*

حكم صدر بتاريخ 27/11/2007،ملف الصلح عدد 171/07، عن المحكمة الابتدائية بأنزكان،حكم غير منشور

 

 

[9] يعد عبارة العدالة التصالحية من العبارات المستحدثة التي غزت ميادين البحوث الجنائية ودراسات نظم العدالة الجنائية ، والعدالة التصالحية هي تدبير بديل في نظام العدالة الجنائية وهي ليست عقابية في طبيعتها، بل تسعى الى إقامة العدل على الجناة والضحايا على السواء، بدلا من ترجيح الكفة بقوة لصالح أحد أصحاب المصلحة في غير مصلحة الطرف الآخر(لتوسع أكثر انظر بالخصوص تقرير الأمين العام للأمم المتحدة ،لجنة منع الجريمة والعدالة الجنائية ، الدورة الحادي عشرة، البند 3 من جدول الأعمال، إصلاح نظام العدالة الجنائية ،2002 فيينا،ص4

[10] مولاي الحسن الإدريسي، السياسة العقابية بالمغرب بين التحديات والإصلاحات، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس السويسي كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية ، سلا، السنة الجامعية 2013_2014، ص 230

[11] بأن تكون الصياغة مثلا ” بعد فشل الصلح المقترح على الطرفين قررنا   ”

[12] احمد اركينين، مسطرة الصلح الزجري في التشريع المغربي، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القضاء والتوثيق، كلية الشريعة ايت ملول، السنة الجامعية 2016_2017 ، ص113

[13]المادة 372 من ق م ج (اذا كان الامر يتعلق بمتابعة من اجل جنحة من الجنح المنصوص عليها  في المادة  41  من هذا القانون، فانه يمكن للمحكمة المعروضة عليها القضية بناء على ملتمس تقدمه  النيابة  العامة في حالة تنازل  الطرف المتضرر من الفعل الجرمي عن الشكاية، ان توقف سير اجراءات الدعوى العمومية، ما لم تكن بتت فيها بحكم نهائي

يمكن مواصلة النظر في الدعوى العمومية بطلب من النيابة العامة، اذا ظهرت عناصر جديدة تمس الدعوى العمومية، ما لم تكن قد سقطت بالتقادم أو بسبب اخر)

[14] بوشعيب عسال، اشكاليات محل نقاش على ضوء قانون المسطرة الجنائية الجديدة، مجلة الملحق القضائي ، العدد 39، دجنبر 2005 ص 14.

[15]الحسن بويقين، أسباب عدم نجاح مسطرة الصلح في النظام القضائي المغربي والوسائل الكفيلة بتفعيل هذه المسطرة، الطرق البديلة لتسوية المنازعات، أشغال الندوة العلمية التي نظمتها شعبة القانون الخاص، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية و الاجتماعية بفاس بشراكة مع وزارة العدل وهيئة المحامين بفاس يومي 4 و5 ابريل 2004، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية و القضائية، سلسلة الندوات و الأيام الدراسية، العدد 2، الطبعة الأولى، 2004، ص 38

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى