مقال بعنـــــــوان:
التوثيق العدلي بين الرقابة والتأديب
من إعداد:
خديجة جليلي
طالبة باحثة بماستر المنازعات القانونية والقضائية الفوج الثاني بكلية الحقوق سلا-
مقدمة
يتبوأ التوثيق العدلي مكانة جوهرية في منظومة العدالة، وذلك نظرا لما يقوم به من مهام جسام. وتكتسي مهنة التوثيق العدلي منزلة رفيعة في الحياة، إذ به تحمى الحقوق، وتحفظ وتصان الأعراض، وتحسم الكثير من المنازعات. ولقد اهتم المشرع المغربي بهذه المهنة، فنظمها عبر الكثير من القوانين التي يشكل قانون 03-16 أحدثها. ولقد اهتم قانون 03-16 الذي صدر سنة 2006 بالعديد من المواضيع، فبين في القسم الأول الاحكام العامة التي تناول فيها شروط الانخراط وحقوق العدول وواجباتهم وحالات التنافي. فيما نظم في القسم الثاني لب التوثيق وجوهره وهو المتعلق بالشهادة العدلية من حيث تلقيها وتحريرها وأداءها. ولما كانت التمثيلة المهنية أمرا يفرضه الواقع في السنوات الأخيرة جهازا يوحد كلمة العدول، ويترجم مطالبهم وانتظاراتهم للجهات الوصية على قطاع العدل، فقد نظمت في القسم الرابع الهيئة الوطنية للعدول وأجهزتها. فيما نظمت في القسم الثالث التأديب.
ويشكل موضوع الرقابة المؤسساتية التي يخضع لها السادة العدول في عملهم، والتي نظمها القسم الثالث من قانون خطة العدالة موضوعا مهما، ذلك أن المراقبة تستمد أهميتها من كون العمل البشري دائم النقص والخطأ. فالعمل الخاضع للمراقبة لا يستو بحال مع العمل غير المراقب. فالمراقبة تبعث على الاطمئنان إلى العمل، وصيانة الحقوق والمصالح المتعلقة به. ويكتسي التوثيق العدلي مكانة هامة من حيث ارتباط مصالح الناس به، واستقرار المعاملات، وفض النزاعات بها. ولهذه الأهمية كان لا بد أن يختص جهاز معين بمجموعة من الصلاحيات لضمان حسن سير التوثيق العدلي.
وتنبغي الإشارة أن المراقبة لم تكن وليدة اليوم، بل كانت قديمة، فقد خول النظام الإسلامي للقاضي مجموعة من الصلاحيات والمهام، ومن أهمها تصفح أحوال العدول، وتتبع سيرهم، ومدى الاستمرار في محافظتهم على مواصفات العدالة والمروءة والاستقامة. وفي هذا يقول الماوردي:” والتاسع- أي من الأمور التي يرجع النظر فيها للقاضي- تصفح شهوده وأمنائه واختيار النائبين عنه من خلفائه، في إقرارهم والتعويل عليهم مع ظهور السلامة والاستقامة وصرفهم والاستبدال بهم مع ظهور الجرح والخيانة”[1]
ولقد اعتبر ابن فرحون مسألة مراقبة العدول وتأديبهم على رأس الأولويات التي ينبغي للقاضي المسلم أن يبدأ بها مهامه القضائية، يقول في هذا الشأن:” ويلزمه أن يكون أول ما يبتدئ به الكشف عن الشهود الموثقين، فيتعرف حال من لا يعرف حاله منهم، ويفحص عن عدالتهم، فمن كان عدلا أثبته، ومن كان فيه جرحة أسقطه وأزاح المسلمين من أذيته، ولا يحل له أن يترك غير المرضي ينتصب للناس، فإنها خديعة للمسلمين ووصمة في شعائر الدين، وعليه أن يصرح بعزل هؤلاء ويسجل على شاهد الزور كتابا مخلدا بعد عقوبته”[2]
ويظهر من هذه الأقوال مكانة المراقبة وأهميتها، ذلك أن التوثيق يستلزم مراقبة الشهود الموثقين. ولقد ركز النظام الإسلامي بشكل كبير في المراقبة على توافر العدالة.
أما بالنسبة للتقنين المغربي، فإنه لم يبتعد كثيرا عما ذكره علماء الإسلام في ميدان تتبع العدول ومراقبتهم، ونص على كيفية إجراء هذه المراقبة من طرف مجموعة من المؤسسات…غير أنه ميز بين التأديب والرقابة تجنبا للاستبداد، وطلبا للحكامة في تسيير هذا المرفق العمومي.
وعلى هذا الأساس تطفو مجموعة من الإشكالات، ومن أهمها: إلى أي حد تسهم المقتضيات المتعلقة بمراقبة عمل السادة العدول وتأديبهم في تحقيق الأمن القضائي؟
ولمعالجة هذا الموضوع، نقسم الموضوع إلى مبحثين، نتناول في الأول الأجهزة المنوط بها مراقبة عمل السادة العدول (المبحث الأول) فيما نتحدث في الثاني عن الأجهزة التي أوكل لها المشرع حق العدول الذين ارتكبوا مخالفات مهنية (المبحث الثاني).
المبحث الأول: الأجهزة المكلفة بمراقبة العدول
تتبوأ مراقبة التوثيق العدلي مكانة هامة تساعد على استمرارية هذه المؤسسة، وسلامة مساطرها الرقابة الإدارية والقضائية التي ينبغي تطبيقها للحفاظ على سلامة المرفق، وفي الحفاظ على مصالح المرتفقين، والتي لها دور فعال في ضبط سلوك العدول وتصرفاتهم.
ولقد أثبت مبدأ المراقبة نجاعته ليس على مستوى واحد، بل على مستويات عدة، وفي مجالات مختلفة، وقد أصبحت بعض التشريعات تخصص للمراقبة مؤسسات دستورية خاصة، وعيا منها أن هذا المبدأ لا يمكن التهاون فيه، لأن الإنسان بطبعه يرتكب أخطاء سواء عمدية كانت أو غير عمدية. لذلك جاء المشرع المغربي بمجموعة من الأجهزة لأجل مراقبة العدل، وذلك سعيا لضمان جودة واستمرارية مهنة خطة العدالة في جو يسمو بها أو بالأحرى يحافظ على سموها وعلى شرفها.
وتتمثل أجهزة المراقبة في كل من القاضي المكلف بالتوثيق، وهو الذي يمثل الرقابة القضائية على صحة المحررات العدلية (المطلب الأول) ثم نتحدث عن مراقبة مؤسساتية من نوع آخر، وهي مراقبة وزير العدل (المطلب الثاني).
المطلب الأول: رقابة قاضي التوثيق للعدول
يعتبر قاضي التوثيق مسؤولا عن صحة المحررات التي تتم بواسطة العدول، فالمشرع منح له مهمة مراقبة المحررات العدلية، والتأكد من خلوها من كل عيب أو نقص، فقاضي التوثيق يقدم مجموعة من التوصيات، ويقوم بمجموعة من الإجراءات، ومنها:
- التزام جانب التحري الكامل في شهادات اللفيف والإسراع في إنجاز الرسوم.
– مراقبة السجلات الإدارية، والتنبيه إلى ضرورة مسكها بشكل منتظم، ويتعلق الأمر بسجل الواردات والصادرات، وهو مخصص للمراسلات الإدارية الخاصة بقسم التوثيق وسجل التداول مع مختلف الأقسام الأخرى داخل المحكمة، وسجل كفالة الأطفال المهملين وسجل كفالة الأطفال غير المهملين.
– يراقب سجلات التضمين الممسوكة من طرف النساخ.
– يفتح قاضي التوثيق مذكرة الحفظ للعدول ويختمها، و يؤشر عند الاطلاع عليها
– يراقب تصرفات العدول ويفتش مكاتبهم مرة في السنة على الأقل، ويرفع تقارير سنوية عامة أو خاصة بذلك إلى وزارة العدل (المادة 40 من قانون المنظم لخطة العدالة، والمادة 38 من مرسوم تطبيقه)
– تسلمه مذكرات حفظ العدول في حالة عزلهم أو إعفائهم أو استقالتهم أو إسقاطهم، لحفظها بكتابة ضبط قسم التوثيق بعد التأشير عليها بتاريخ تسلمها[3].
– تكليفه أو تعيينه بعض العدول العاملين بدائرته في حالات محددة لتلقي بعض الشهادات، ومن ذلك مثلا تكليفه عدلين بالتناوب لتلقي شهادة اعتناق الإسلام، وشهادة زواج المعسرين. كما أن القاضي المكلف بالتوثيق هو الذي يعين من يخلف العدل المتغيب من بين عدول دائرة نفوذه كلما اقتضت المصلحة العامة ذلك (المادة 18 من قانون 16.03)
– إذنه للعدول في تلقي بعض الشهادات، ومثال ذلك إذنه في تلقي الوصية بعقار خارج الدائرة القضائية لموقع العقار(المادة 14 من القانون المذكور)
ولقد أناط التقنين المغربي بالقاضي المكلف بالتوثيق مراقبة أخرى وألزمه بها، وهي أهم مهمة يتكلف بها القاضي، ويتعلق بتصفح الشهادات والوثائق العدلية وقراءتها وتأملها قبل الخطاب عليها، ذلك أن المادة 35 من قانون التوثيق العدلي وكذا المادة 38 من مرسوم تطبيقه، أوجبا على القاضي المكلف بالتوثيق أن يتأكد في كل وثيقة قدمت إليه بقصد الخطاب عليها من كونها متلقاة في دائرة الاختصاص المكاني للعدول، ومن كونها تامة الأركان والشروط، ومن كونها مستوفية لكافة الإجراءات اللازمة لها، وأن يتيقن من خلوها من النقص وسلامتها من الخلل.[4] وهو ما أكده قرار لمحكمة الاستئناف بوجدة، والذي جاء فيه:”وحيث إن العدلين بمقتضى المادة 27 و28 من قانون16.03 ملزمان بتلقي الشهادة وأن قاضي التوثيق المكلف لا يخاطب على الشهادات إلا بعد إتمام الإجراءات اللازمة، والتأكد من خلوها من النقص وسلامتها من الخلل، كما يتعين عليه ألا يخاطب على الشهادات الخاضعة لواجبات التسجيل إلا بعد تأديتها وفق المادة 35 من قانون 16.03″[5]
ومعنى هذا أن القاضي المكلف بالتوثيق يتحمل كامل المسؤولية- إلى جانب العدلين المحررين طبعا- عن كل عيب أو خلل يقع في شهادة من الشهادات، سواء تعلق الأمر بشكلها وصياغتها، أو بمضمونها وجوهرها مما يمكنه الاطلاع عليه من خلال نص الرسم المقدم إليه للخطاب عليه. ولذا فليس في وسع القاضي التنصل من مسؤوليته في هذا الصدد تحت أي ذريعة أو عذر من الأعذار، كما أنه ليس في إمكان الهيئة القضائية على الأقل من الناحية القانونية أن تبرئ ساحة القاضي من هذا الإخلال أو التقصير في المراقبة، وهذا اتجاه سارت فيه بعض المحاكم المغربية كمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء التي رفضت دفع أحد القضاة المكلفين بالتوثيق، المتمثل في كونه لم يقرأ الشهادة التي خاطب عليها بدعوى كثرة الوثائق التي تعرض عليه للخطاب وضغط العمل اليومي، واعتبرت خطابه على الوثيقة الناقصة تقصيرا جسيما وإخلالا بواجبه المهني.[6]
وهناك من التمس لقاضي التوثيق العذر أخذا بعين الاعتبار حجم المسؤوليات التي يكلفون بها، حيث تجدهم يحكمون في القضايا المدنية والجنحية التلبسية والعادية فضلا عن قيامهم بمهام إدارية بالإضافة إلى التكليف بشؤون القاصرين، وأيضا بسبب أنهم نهلوا وتخرجوا من كليات الحقوق التي لم تدرس فيها قواعد الفقه المالكي المتعلقة بالتوثيق العدلي إلا قليلا، وبسبب أنهم لم يخضعوا لتكوين فقهي رصين في التوثيق العدلي، ولا في قضايا الأحوال الشخصية والمواريث التي يكثر الخطأ في فرائضها بين العدول أنفسهم إلى درجة توريث من لا يرث وحرمان من يرث. [7]
والذي يظهر لي أن التماس العذر لقاضي التوثيق، ونسبة الاخلالات المهنية للعدل دون قاضي التوثيق فيه خرق لمبدأ قانوني ودستوري، وهو ربط المسؤولية بالمحاسبة، فلا يعقل أن من مهام قاضي التوثيق أن يشرف على عمل السادة العدول، والتأكد من خلوه من أشكال الاخلالات التوثيقية، وألا يتم محاسبة القضاة على سوء إشرافهم. كما أن تجريد الإشراف القضائي من المساءلة يجعل الأمر يدور في دائرة العبث، فكيف يعقل أن نسند لقاضي التوثيق مهمة الإشراف والرقابة دون أن تربط بجزاء إذا ما أساء الإشراف والرقابة.
وتكتسي مراقبة قاضي التوثيق مكانة هامة من حيث مراقبة الوثيقة العدلية ومراقبة عمل السادة العدول، والاشراف عليهم. بيد أن هناك اتجاه ينادي برفع الرقابة القضائية على المحررات العدلية، وأن تضفى على المحررات صبغة الرسمية بمجرد توقيع العدول عليها، تحقيقا لاستقلال مرفق التوثيق العدلي، خاصة وأن الاستقلال يضمن للعدول التطوير من مهنتهم والرفع من مستوى أدائها، وخدمتها لمرفق القضاء.
المطلب الثاني: مراقبة وزير العدل للعدول
لا يتوقف الأمر في تسيير مرفق التوثيق العدلي على الإشراف القضائي، وإنما يتجاوزه إلى مراقبة مؤسساتية من نوع آخر، وهي مراقبة وزير العدل. ولقد نص المشرع في القانون 16.03 المنظم لخطة العدالة على أن العدل يخضع في مزاولة عمله لمراقبة وزير العدل. ويعزى ذلك لكون وزير العدل هو المسؤول عن تسيير شؤون العدالة، والسهر على حسن سيرها، وتتبع أحوالها. ولهذا أسندت له صلاحية مراقبة العدول، والقيام بكل ما من شأنه أن يحثهم على التقيد بالقواعد الشرعية والقانونية، وذلك رعاية لمصلحة الأفراد والمجتمع. ويمكن حصر مظاهر هذه المراقبة فيما يلي:
- تعيينه قاضيا أو عدة قضاة من محاكم الاستئناف أو ممن يزالون عملهم بالإدارة المركزية بالوزارة للقيام بتفتيش المكاتب العدلية تفتيشا عاما أو خاصا للبحث في وقائع محددة.[8] فإذا تبين من تقارير التفتيش التي ترسل حالا إلى وزير العدل وجود مخالفات مهنية أو خروقات قانونية، فإن وزير العدل- بواسطة المصالح المختصة- يبعث بها إلى الوكيل العام للملك المختص لتحريك المتابعة ضد المخالفين. [9]
- إعفاء كل عدل أصابته عاهة مرضية تمنعه كليا من مزاولة المهنة طبقا لما نصت عليه المادة 11 من القانون المنظم لخطة العدالة.
وما يلاحظ على المشرع المغربي أنه تمسك بشرط القدرة البدنية المطلوبة لمزاولة المهنة، في حين لم يتمسك بالشروط الأخرى إلا ابتداء، بمعنى أن العدل الذي يفتقد القدرة البدنية هو وحده الذي يعفى من ممارسة المهنة طبقا للمادتين 4 و11 من قانون 16.03، بينما العدل الذي يحبس في جنحة أو يسجن في جناية لا يسري عليه بالضرورة الإعفاء أو الإسقاط، بمعنى عزله من الخطة. [10]
وتجدر الإشارة إلى أن إعفاء العدل الذي أصابته عاهة تمنعه كليا من مزاولة المهنة هو قرار يتخذه وزير العدل بمبادرة منه حينما يصل ذلك إلى علمه، وإلا فإذا كان ذلك بطلب من العدل، فهذا الطلب يكيف على أساس أنه طلب استقالة لا طلب إعفاء.
ويحق لوزير العدل إسقاط أي عدل من المهنة إذا تحققت حالة التنافي، حيث أن مهنة التوثيق العدلي تتنافى مع كل عمل يؤدى عنه أجر باستثناء المهام الدينية والأنشطة العلمية المأذون له بها من قبل وزير العدل. [11] وهو ما نصت عليه المادة 22 من القانون المنظم لخطة العدالة:” إذا تحققت حالة التنافي أسقط العدل من الخطة بقرار لوزير العدل”. كما يحق لوزير العدل تعيين العدل الناجح في الامتحان المهني بقرار، ويحق له إسقاطه إذا لم يلتحق بمقر عمله وفقا لما تنص عليه المادة 7 من القانون المنظم لخطة العدالة.[12] وكذلك قبول استقالة العدول وفقا لما تنص عليه المادة 20 من القانون السالف الذكر. [13]
ويأذن وزير العدل للوكيل العام للملك المختص بإيقاف العدل مؤقتا عن عمله عند فتح متابعة تأديبية أو جنحية أو جنائية ضده، وذلك طبقا للمادة 48 من قانون 16.03 المنظم لخطة العدالة. [14]
- وضع حد لتمرين العدول المتمرنين، وهو ما نصت عليه المادة 8 من القانون المنظم للخطة:” يؤدي العدل المتمرن في نهاية فترة التمرين الامتحان المشار إليه أعلاه، فإن لم ينجح فيه وضع حد لتمرينه بقرار لوزير العدل مع حفظ حقه في المشاركة في المباراة لاحقا”.
- قبول استقالة العدول الشهود أو عدم قبولها المنصوص عليها في المادة 20 من القانون المشار إليه.
وبهذا فقد ثبت أن وزير العدل هو المعني الأول بمراقبة العدول، وتتبع أحوالهم وتصريف أشغالهم وتدبير قضاياهم من أولها إلى نهايتها، وإليه يرجع النظر في ضمان حسن سير خطة العدالة باعتبارها مرفقا عموميا. وتحصل من هذه المراقبة أن لوزير العدل أن يلزم العدول بكل ما يراه مناسبا في هذا الشأن ومفيدا لمصلحة الجهاز التوثيقي سواء من خلال المناشير الوزيرية أو من خلال الدوريات التي يصدرها من حين لآخر.
وتلعب مراقبة التوثيق العدلي دورا جوهريا في تحقيق الحكامة، خاصة وأن عنصر الرقابة يضمن تحقيق العديد من الإنجازات فيما يخص المهنة، ومن أهمها حسن سير مرفق التوثيق العدلي، وتصحيح عثراته، والحفاظ على مصالح وحقوق المتعاقدين. لكن إذا ارتكب العدل مخالفة مهنية أو جنحة أو جناية، كان لزاما أن تحرك المتابعة ضده، ولهذا جعل المشرع أجهزة تكلف بالمتابعة وتنفيذ المقتضيات القانونية المتعلقة بالتأديب، وهو محل حديث المبحث الثاني.
المبحث الثاني: الأجهزة المكلفة بتأديب العدول
يعد مبدأ الرقابة مبدأ مهما وأساسيا يجنب المؤسسات الكثير من العثرات، ويوفر لهم الكثير من الجهد، كما أنه يهدف بالأساس إلى صيانة حقوق الناس، واستقرار المعاملات، وتحقيق ما يعرف بالأمن. فلا شك أن تلك الأجهزة التي سلف الحديث عنها تراقب عمل العدل الموثق، وتهدف إلى حماية المرفق العمومي. بيد أن تلك الأجهزة غير كافية خاصة حينما يتعلق الأمر بجرائم ومتابعات تأديبية، فلا بد أن تتكفل أجهزة معينة لمتابعة العدل، ضمانا لتحقيق الردع، وصيانة لحق المجتمع في العقاب. ولقد جعل المشرع تحريك المتابعة في حق العدل المرتكب لاخلالات مهنية كانت أو غير مهنية للوكيل العام للملك. وبعد ذلك يحال الملف على المحكمة التي تقوم بإجراءات التحقيق للبت في الملف، وحتى تقرر إما الإدانة أو البراءة (المطلب الأول) ولما كانت الهيئة الوطنية هي الجهاز الذي يمثل العدول، ويدافع عنهم بهدف صيانة خطة العدالة، والرقي بها للإسهام في إصلاح منظومة العدالة باعتبارها من المهن المساعدة لجهاز القضاء، كان لزاما علينا أن نتحدث عن دور هذه الهيئة في متابعات السادة العدول(المطلب الثاني).
المطلب الأول: دور النيابة العامة في متابعة العدول
لقد ثبت أن النيابة العامة هي التي تستأثر بحق تحريك الدعوى وممارستها دون غيرها من الفاعلين الذي منحهم القانون حق تحريكها فقط.[15] فهي الجهاز الذي يسهر على ضمان حق المجتمع في العقاب.
يتوجب على النيابة العامة لدى محكمة الاستئناف حينما ترفع إليها شكاية بعدل تتهمه بارتكاب اخلالات مهنية، أن تجري بحثا أوليا في الموضوع تحت إشراف الوكيل العام للملك لدى المحكمة أو نوابه[16] ويمكن لها بغية تقريب الإدارة القضائية من المواطنين أن تفوض ذلك إلى النيابة العامة لدى المحكمة الابتدائية المختصة ترابيا، كما يمكنها أن تعمق البحث التمهيدي عن طريق الضابطة القضائية. [17]
وإذا ظهرت دلائل للنيابة العامة تورط العدل في مخالفة مهنية، فإن الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف المعين العدل بدائرة نفوذها، يقرر متابعة العدل المعني بالأمر ويحيل القضية إلى محكمة الاستئناف لتبت فيها غرفة المشورة وهي مكونة من خمسة أعضاء بعد استدعاء الأطراف المعنية لسماع ملاحظاتهم وتلقي الملتمسات الكتابية للوكيل العام للملك، وتطبق فيها قواعد المسطرة العادية. [18]
ولقد منح المشرع للوكيل العام للملك إمكانية إيقاف العدل كلما فتحت متابعة تأديبية أو جنحية أو جنائية، بحيث إن كل متابعة فتحت ضد عدل تكون سببا ومبررا للوكيل العام للملك لإيقاف العدل. [19] ويتعرض العدل للمتابعة التأديبية المتعلقة باخلالات توثيقية وبمخالفات في تلقي الشهادة وتحريرها أو أن يتلقى العدل شهادة مع زميل له دون أن يوقع أسفل الشهادة بمذكرة الحفظ، والمتابعات الزجرية التي تتعلق باخلالات زجرية بمناسبة مزاولة مهامه كأن يتهم باختلاس أموال للمتعاقدين أو بالنصب عليهم بصفته عدلا، أو يتهم بارتكاب جريمة بعيدا عن ممارسة مهامه، كأن يتهم في جنحة الخيانة الزوجية أو السكر العلني أو غير ذلك من الجنح، أو تعلقت متابعته بجناية ذات الصلة بمهامه كاتهامه بجريمة التزوير في المحررات الرسمية، أو بجناية عامة لا صلة لها بمهامه التوثيقية كاتهامه بجريمة القتل العمد أو جريمة المس بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي، فمتابعة العدل بواحدة من المتابعات، تعطي الحق للوكيل العام لإيقاف العدل المتابع مؤقتا عن عمله.[20] ولا يمكن أن يتم هذا الإيقاف المؤقت إلا بعد حصول الوكيل العام للملك على إذن خاص بذلك من وزير العدل.
إذا توبع العدل الموقف مؤقتا عن عمله من أجل جنحة تمس شرف المهنة، فإنه يستأنف مهامه تلقائيا وبقوة القانون بعد مضي أربعة أشهر من تاريخ إيقافه، ما لم تبت المحكمة ببراءته قبل ذلك، فيستأنف عمله فورا، أو بإدانته فيستمر إيقافه إلى أن يبت في متابعته التأديبية.[21]
وإذا توبع العدل جنائيا، يستمر إيقافه عن العمل إلى حين صدور أمر نهائي بعدم المتابعة، أو الحكم ببراءته مما نسب إليه. ويتوجب في الحالتين معا ألا تتعدى مدة الايقاف سنة. وفي حالة الحكم بإدانته من طرف غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بعد استئنافه عمله، يمكن للوكيل العام للملك أن يوقفه مؤقتا عن عمله من جديد، ويستمر إيقافه إلى أن تبت غرفة المشورة في متابعته التأديبية. [22] ويتعين على الوكيل العام للملك- عند صدور حكم نهائي بالإدانة في الموضوع- إحالة المتابعة التأديبية على غرفة المشورة داخل أجل ثلاثة أشهر. [23]
ولقد منح المشرع للوكيل العام للملك ممارسة الطعن بالنقض وفق الشروط والقواعد والآجال العادية. ويتميز طعنه بالإعفاء من الرسوم، وأنه يكون دون محام. [24] وأوجب عليه إشعار وزير العدل والقاضي المكلف بالتوثيق وكذا المجلس الجهوي للعدول، بكل مقرر صادر في حق كل عدل متابع تأديبيا أو زجريا. [25] ويعد هذا المقتضى من مستجدات قانون 16.03 حيث لم يكن الوكيل العام للملك ملزما بهذا الإشعار في القانون السابق. ويتبوأ هذا الإشعار أهمية كبيرة على ممارسة المهنة وله أثره على حقوق المتعاقدين، حيث إنه في بعض الأحيان يتابع العدل ويحكم عليه تأديبيا أو زجريا، وقد يعتقل ويحبس أو يسجن والقاضي المكلف بالتوثيق الأقرب إلى العدل لا علم له بذلك، ويترتب عن هذا مشاكل كثيرة تتعلق بحقوق المتعاقدين. [26]
وبعد أن يحرك الوكيل العام للملك المتابعة في حق العدل المرتكب لمخالفة مهنية سواء كانت تأديبية أم زجرية، يحال العدل على محكمة الاستئناف، ومن ثم تبدأ إجراءات التحقيق. [27] وبالرجوع إلى المادة 47 من قانون 16.03 نجد أن مسطرة تأديب العدل من اختصاص الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف التي عين العدل بدائرة نفوذها، فتحريك المتابعة التأديبية ضد العدل لا تتوقف على وجود شكاية أو أمر، فبمجرد علم الوكيل العام للملك بارتكاب مخالفات لمقتضيات قانون مهنة التوثيق العدلي يتم تحريك مسطرة التأديب. ذلك أن الوكيل العام للملك في هذا الصدد له سلطة تقديرية واسعة في اعتبار فعل ما أو عدم اعتباره مخالفة تأديبية، سواء انصبت المخالفة على نصوص القانون المنظم لخطة العدالة أو مدونة الأسرة أو القوانين الخاصة، وفي هذا الإطار ارتكز قرار متابعة عدلين تأديبيا المقدم من قبل الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بمكناس على مخالفة توثيقية تمثلت في إشهادهما على عقد زواج أجنبي يجمع بين أجنبي مسلم ومغربية دون اعتمادهما على إذن النيابة العامة حسب ما تأمر به المناشير الصادرة في الموضوع. [28] وهو ما يدفع للتساؤل حول ما إذا كان إخلال العدل بالمناشير الوزارية يعد مخالفة تأديبية؟
أما بخصوص تقادم المتابعة التأديبية في إطار المسؤولية المهنية فتحكمها قوانين المهنة، حيث تختلف حسب كل مهنة، وبذلك فالقانون المنظم لمهنة التوثيق العدلي، ينص على أن المتابعة التأديبية تسقط بمضي ثلاثة سنوات تبتدأ من تاريخ ارتكابها.[29] وفي هذا الإطار قضت محكمة الاستئناف بالناظور في قرار لها جاء فيه:”حيث أن هذه المحكمة وبعد اطلاعها على الرسمين الذين اعتمدتهما النيابة العامة للقول بإخلال العدل المتابع بواجبه المهني تبين أنهما حررتا بتاريخ 28 نونبر 1999، وحيث أن المادة 44 من القانون المنظم لخطة العدالة التي بوشرت في إثارة المتابعة تنص على أن المتابعة التأديبية في حق العدل تتقادم بمرور 3 سنوات ابتداء من تاريخ ارتكاب المخالفة. وحيث إنه وبمقارنة تاريخ الفعل موضوع المتابعة، وتاريخ تحرير هذه المتابعة يتبين أن أجل التقادم قد انقضى وانصرم. وحيث يتعين تأسيسا على ذلك التصريح بسقوط المتابعة لتقادمها”[30] وهكذا تتضح الغاية من إقرار تقادم المتابعة التأديبية للعدل، والتي تكمن في الحيلولة دون أن يظل شبح المتابعة يراود العدل بسبب ارتكاب مخالفة مهنية مهما طال عليها الوقت، وإنما يجب أن تسقط بمرور المدة الزمنية المحددة قانونا تحقيقا لمقصد الاستقرار.
وبعد أن يحال العدل على محكمة الاستئناف من قبل الوكيل العام للملك، تبدأ فصول المتابعة التي تسبق عادة المحاكمة، هذه الأخيرة تطبق بشأنها قواعد المسطرة العادية. ويقصد بهذه القواعد المسطرة العادية تلك المقررة بموجب الفصل 329 من قانون المسطرة المدنية.[31] وهكذا يتوجب على الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف أن يسلم ملف المتابعة في ظرف أربع وعشرين ساعة للمستشار المقرر الذي يعينه للتحقيق في القضية، والذي يصدر فورا أمرا يقضي بتبليغ المقال للعدل، كما يقوم بالبحث في المتابعة وأسبابها وإجراء تحقيق مدقق فيها، وله في هذا الصدد كامل الصلاحية في جمع الأدلة الممكنة بأي إجراء من إجراءات التحقيق التي ينص عليها قانون المسطرة المدنية،[32] كما يمكنه الاستماع إلى العدل المتابع وإلى كل الأشخاص الذين يظهر أنه من المفيد الاستماع إلى أقوالهم بما في ذلك الزملاء العدول أنفسهم. [33]
ولابد من الإشارة إلى أنه يمكن للمستشار المقرر التغاضي عن الاستماع إلى الشهود والاكتفاء بتقرير النيابة العامة وبالمستندات المدرجة أمامه لاستنتاج المخالفة التأديبية. [34] وقد جاء في قرار للمجلس الأعلى:” وحيث يعيب الطاعن على القرار المطعون فيه نقصان التعليل الموازي لانعدامه، ذلك أن المحكمة بناء على تقرير النيابة العامة وعلى المقارنة بين مذكرة الحفظ وصور الرسوم دون الاعتماد على أية عناصر قد استمدها العدل نفسه باعتبار أن الحقيقة تستخلص من مرتكب الفعل، إضافة إلى أن الطالب لم يعترف بأية مخالفة أمام المحكمة ومع ذلك جاء في تعليلها، سواء تسلم المتابع نصيبه في واجبات التسجيل المستولى عليها أو لم يتسلم فهو شارك المرحوم في هذا الاستيلاء والمشاركة في الميدان التأديبي كالمشاركة في الميدان الجنائي تتعين مؤاخذته بنفس مخالفة الفاعل الأصلي كما جاء في تعليل القرار المطعون فيه”[35]
وطبقا للفصل 334 و 335 من قانون المسطرة المدنية، فإن القاضي المقرر في جميع القضايا يحرر تقريرا مكتوبا يضمن فيه ما حدث من عوارض في تسيير المسطرة واستيفاء الشكليات القانونية، ويحلل فيه الوقائع ووسائل دفاع الأطراف، ويورد النص الحرفي لمستنتجاتهم أو ملخصا عند الاقتضاء مع بيان النقط التي يجب الفصل فيها دون أن يبدي رأيه، وبعد أن تصبح القضية جاهزة للحكم، يصدر المستشار المقرر أمرا بتخليه عن الملف ويحدد تاريخ الجلسة بخمسة أيام كاملة.
وتجدر الاشارة إلى انه وإن تمت مناقشة القضية أمام محكمة الاستئناف بغرفة المشورة، فإنه يلزم النطق بالحكم في جلسة علنية، وهذا ما أكده قرار صادر عن محكمة النقض جاء فيه:” وحيث تقدم الطاعن بمقال يرمي إلى نقض القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بالجديدة بتاريخ 21/07/2011 تحت عدد 32/2011 في الملف رقم 49/18/2011 قضى سريا بغرفة المشورة غيابيا بقيم وانتهائيا بمؤاخذة العدول من أجل المنسوب إليهم ومعاقبتهم بالعزل، وذلك خلافا لمقتضيات الفصول المشار إليها أعلاه التي تلزم النطق بالحكم في جلسة علنية ولو تمت المناقشة في جلسة سرية، الأمر الذي يجعل القرار المطعون فيه معرضا للنقض. [36] هكذا يمكن القول أن القانون والقضاء مجمع على أن يكون النطق بالحكم بالنسبة للقرارات والأحكام القضائية بصفة علنية ولو تمت مناقشة القضية بصفة سرية.
يتبين لنا من خلال ما سبق أن المشرع المغربي قد حافظ على نفس مقتضيات الفصل 17 من ظهير 6 ماي 1982، دون أن يواكب الاصلاحات التشريعية التي نهجها ابتداء من بداية القرن الواحد والعشرين، ومن ثم كان على المشرع أن يعيد النظر في بعض المقتضيات القانونية المنظمة للتوثيق العدلي، خاصة فيما يتعلق بالتحقيق بشأن المخالفات التأديبية المرتكبة من طرف العدل من خلال إسناد هذه المهمة للهيئات الممثلة للعدول، وذلك حتى يحس العدل المتابع بالاطمئنان بكونه متابع من طرف أبناء عمومته المنتمون إلى نفس المهنة من جهة، وعلى اعتبار أن هذه الهيئات أكثر اطلاع من غيرها على عمل السادة العدول من جهة أخرى. وهو محل حديثنا في المطلب الموالي.
المطلب الثاني: دور التمثيلية المهنية في متابعة العدول
تعتبر الهيئة الوطنية للعدول مؤسسة اجتماعية فاعلة، لذلك منحها القانون مجموعة من الصلاحيات لأجل إبراز دور العدول، وتكوين طاقات قادرة على المشاركة في تأطير المجتمع والدفاع على الخصوصيات والثوابت من جهة، ومراقبة العدول فيما يخص التقيد بمقتضيات القانون المنظم لخطة العدالة من جهة ثانية. فلا شك أن الممارسين لمهنة معينة يجمعهم هدف واحد، وهو حماية مصالحهم والذب عنها. ولابد لهذه الحماية أن تتخذ شكلا قانونيا يوحد الكلمة، وينظم التواصل مع المؤسسات التشريعية بغرض صيانة المهنة أو تقديم المقترحات الكفيلة بتطوير المهنة إسهاما منها في تكريس دولة الحق والقانون. ومن هذا الهيئة الوطنية للعدول التي أحدثت بمقتضى القانون 16.03. وبالرجوع إلى المادة 52 من القانون السالف الذكر، يتضح بأن الهيئة الوطنية للعدول هي ذلك الجهاز الممثل للعدول بحيث تضم تحت لواءها جميع العدول، وتتمتع بالشخصية المعنوية، ولها مجموعة من الاختصاصات، ومنها: العمل على صيانة مبادئ وتقاليد وأعراف خطة العدالة، والحرص على تثبيت أخلاقياتها وعلى تقيد العدول بواجباتهم المهنية، والسهر على حماية حقوقهم. وتعمل كذلك على تنسيق عمل المجالس الجهوية للعدول، ووضع النظام الداخلي وتعديله. كما تعمل على إنشاء وإدارة مشاريع الاحتياط والتقاعد الخاصة بخطة العدالة، وكذا طبع مذكرة الحفظ وكناش وصولات الأجور والكناش المنصوص عليه في المادة 17 من هذا القانون بالعدد الكافي بعد إذن وزير العدل. كما أنها تسهر على تنظيم لقاءات وندوات علمية من شأنها أن ترفع من مستوى الأداء، وأن تضمن تطوير وتحديث أساليب خطة العدالة.[37]
وتمثل الهيئة الوطنية للعدول مهنة التوثيق العدلي اتجاه الإدارة، وتبدي رأيها فيما يعرض عليها من مسائل تتعلق بالممارسة العامة للمهنة، وتقدم المقترحات الكفيلة بتطوير المهنة. [38] وتمارس اختصاصاتها بواسطة أجهزة، وتجتمع الجمعية العامة بالرباط مرة كل ثلاث سنوات لانتخاب رئيس الهيئة الوطنية للعدول، واستثناء كلما دعت المصلحة إلى ذلك بطلب من الرئيس أو من ثلثي أعضاء المكتب التنفيذي. ولقد نص المشرع من خلال القانون المنظم لخطة العدالة من خلال المادة 41 على الاستئناس برأي المجلس الجهوي للعدول عند البحث الأولي في الشكايات المقدمة ضد السادة العدول.
ونشير في هذا السياق إلى ما ورد في دورية صادرة عن وزير العدل إلى السادة الوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف حول تطبيق المادة 41 من القانون المتعلق بخطة العدالة التي جاء فيها:”…غير أنه تبين من خلال الواقع العملي أن بعض النيابات العامة لا تستأنس برأي المجلس الجهوي للعدول في بعض الاخلالات المهنية. وضمانا لحسن تطبيق المادة المشار إليها أعلاه، ونظرا لما لرأي المجلس الجهوي للعدول من أهمية بخصوص الاخلالات المهنية المنسوبة للعدول المشتكى بهم، خاصة وأنها ترتبط بقواعد التوثيق. نطلب منكم الاستئناس برأي المجلس الجهوي للعدول في كل شكاية ضد عدل بسبب مباشرته لمهامه التوثيقية، وذلك قبل إحالة العدل المشتكى به على الضابطة القضائية لإجراء بحث تمهيدي وتعميق البحث إن اقتضى الأمر ذلك”[39]
ولا شك أن هذه الدورية تبين حجم الفرق بين النص القانوني، وبين الممارسة العملية خاصة وأن النيابة العامة تكون لها مهام كثيرة، كما أن عبارة المشرع التي جاءت بلفظ الاستئناس لا تسعف في بيان أهمية الاستشارة خاصة إذا تعلق الأمر بمخالفات توثيقية.
وفي هذا السياق، طالبت الهيئة بالدفاع على كرامة العدول- الذين تم استهدافهم بوشاية كاذبة- أمام القضاء، وأن يكون لها حق المتابعة، وهو ما تؤكده المادة 55 من المقترحات المقدمة من طرف الهيئة الوطنية للعدول لأجل تعديل القانون 16.03 المنظم لخطة العدالة، إذ جاء فيها:”…تحتفظ الهيئة لنفسها بحق المتابعة في حق كل من رفع بعدل وشاية كاذبة ولها أن تطالب بحقها المدني أمام مختلف المحاكم”.[40]
ويتضح بهذا أن دور الهيئة ضئيل ومهمش مقارنة ببعض الهيئات المهنية الأخرى كهيئة المحامين مثلا، وهو ما يبرر مطالبات السادة العدول الموثقون بإعطاء هذه المجالس دورا كبير في إبداء رأيها في حالة متابعة أحد العدول. والذي يبدو لي أن استشارة المجلس الجهوي تكتسي أهمية كبيرة خاصة، وأنها الممثل الوحيد للعدول، والأحرص على مصالح المهنة ومستقبلها. وأن تعبير المشرع في المادة 41 إلى عبارة “الاستئناس” لا يفي بالغرض المقصود من تدخل المجلس الجهوي للعدول، ولا يلزم وكلاء الملك باستشارتهم في جميع الحالات. ولقد كان حريا بالمشرع أن يلزم النيابة العامة بضرورة استشارة المجلس الجهوي للعدول، ويجعل لذلك الإلزام أثرا يترتب على غيابه، ألا وهو البطلان.
وتبقى الهيئة الوطنية للعدول مؤسسة لها مكانة كبيرة في حماية مرفق التوثيق العدلي، خاصة وأن أهل التوثيق أدرى بمصالحهم، وأفقه من غيرهم بما يقوّم المهنة مما يفسدها. ومنهنا كان على المشرع أن يعمل على تقوية هذه المؤسسة، ويتيح لها مجالات تبدع من خلالها، وتطور من خلالها مرفق التوثيق العدلي، وذلك تجاوزا للعديد من اكراهات إصلاح منظومة العدالة. كما أن الهيئة لا بد وأن تسعى لجمع كلمة العدول وتوحيد صفهم، وتنظمهم، وتستفيد من الأطر والباحثين الممارسين لخطة العدالة لتقوية صف العدول.
خاتمة
لقد ثبتت أهمية التوثيق العدلي في بناء العدالة الوقائية، وتكريس الأمن التوثيقي الذي يشكل ركنا أصيلا في تحقيق الأمن القضائي الذي يروم المغرب تحقيقه، وهو ما يشكل دعوة للنظر في إصلاح مهنة التوثيق العدلي، وانسجامها في نسق المهن القضائية المساعدة للقضاء. فالناظر في موضوع تأديب السادة العدول، يجدها تعج بالكثير من الإشكالات، ومن أهمها إشكال التوقيف المؤقت عن العمل الذي تنص عليه المادة 48 من 03-16، والذي يتنافى مع قرينة البراءة المنصوص عليها دستوريا، والتي أكدت عليها المسطرة الجنائية في مادتها الأولى التي ترى أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فلا يعقل أن يوقف العدل عن عمله في انتظار ثبوت إدانته من عدمها، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته. ويخطر الأمر حينما يستحضر الويلات التي يجرها توقيف العدل من عمله من تفكك أسري ومشاكل عائلية تضر بكرامة العدل ووضعه الاجتماعي. ولقد كان حريا إزالة هذا الجزاء في انتظار ثبوت أو نفي ما نسب إلى العدل في انسجام مع المقتضيات الدستورية ومقتضيات حماية حقوق الإنسان التي صادق المغرب على العديد من الاتفاقيات الدولية.
وفي هذا السياق، فقد ناقشت الهيئة الوطنية للعدول في المؤتمر الوطني الذي عقدته في أبريل 2019 مجموعة من الإشكالات التي تخص المهنة، وأثارت في شخص رئيسها بوشعيب الفضلاوي العديد من النقط التي تفض مضجع العدول، وتقف في طريق مهنتهم الشريفة العريقة في محاولة للتواصل مع الجهات الساهرة على حسن سير قطاع العدل، ولقد أسفر هذا الملتقى الوطني على مجموعة من التوصيات التي سيسهم بها السادة العدول في الإدلاء بكلمتهم في مستقبل المهنة.
لائحة المراجع:
النصوص القانونية:
قانون خطة العدالة 03-16
المرسوم التطبيقي لقانون خطة العدالة
قانون المسطرة الجنائية
قانون المسطرة المدنية
الكتب القانونية:
– أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تحقيق أحمد مبارك البغدادي،ط1(الكويت: مكتبة دار ابن قتيبة،1409ه/1989م).
– تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، خرج أحاديثه وعلق عليه وكتب حواشيه الشيخ جمال مرعشلي، ج 1، طبعة خاصة(الرياض: دار عالم الكتب،1423ه/2003م)
– العلمي الحراق، التوثيق العدلي بين الفقه المالكي والتقنين المغربي وتطبيقاته في مدونة الأسرة.
– العلمي الحراق، الوجيز في شرح القانون المتعلق بخطة العدالة، ط 1 (2009/1430 ه)
محمد الزاوي، المسؤولية المدنية والتأديبية للعدل في ظل القانون المغربي
القرارات والأحكام القضائية:
– قرار صادر عن غرفة المشورة بمحكمة الاستئناف وجدة، عدد 92، صادر بتاريخ 11/05/2015 في ملف رقم 18/1125/2015.
– قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، عدد 84/11، بتاريخ 10 يناير 1984، ملف جنائي83/433.
– قرار محكمة الاستئناف بالناظور رقم 66، صادر بتاريخ 23/12/2014، في ملف عدد63/1125/14.
– قرار رقم 201/94 صادر في 16 يونيو 1994 ملف إداري رقم 100054/90 منشور بمجلة قرارات المجلس الأعلى لسنوات من 1958 إلى 1977، ص 206
– قرار صادر عن محكمة النقض عدد676، صادر بتاريخ 30/09/2014، في ملف شرعي عدد767/2/1/2013.
الرسائل والأطروحات:
الجرائم المرتكبة من طرف العدول على ضوء الفقه الإسلامي والتشريع الجنائي المغربي، وهو بحث مرقون تقدم به الطالب عبد الغاني اعابد لنيل شهادة الماستر بإشراف الاستاذ محمد العلمي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سلا.
الفهرس
المبحث الأول: الأجهزة المكلفة بمراقبة العدول. 4
المطلب الأول: رقابة قاضي التوثيق للعدول. 5
المطلب الثاني: مراقبة وزير العدل. 8
المبحث الثاني: الأجهزة المكلفة بتأديب العدول. 11
المطلب الأول: دور النيابة العامة في متابعة العدول. 11
المطلب الثاني: دور التمثيلية المهنية في متابعة العدول. 17
[1] – أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تحقيق أحمد مبارك البغدادي،ط1(الكويت: مكتبة دار ابن قتيبة،1409ه/1989م) ص 95.
[2] – تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، خرج أحاديثه وعلق عليه وكتب حواشيه الشيخ جمال مرعشلي، ج 1،طبعة خاصة(الرياض: دار عالم الكتب،1423ه/2003م) ص 35
[3] -المادة 23 من المرسوم التطبيقي:” يتسلم القاضي المكلف بالتوثيق من العدل في حالة إسقاطه أو إيقافه أو إقصائه مؤقتا عن العمل أو عزله أو إعفائه أو استقالته أو نقله جميع كنانيش الجيب ومذكرات الحفظ، وفي حالة وفاته من رئيس المجلس الجهوي للعدول، لحفظها بكتابة الضبط”.
[4] – العلمي الحراق، التوثيق العدلي بين الفقه المالكي والتقنين المغربي وتطبيقاته في مدونة الأسرة، ص 313
[5] – قرار صادر عن غرفة المشورة بمحكمة الاستئناف وجدة، عدد 92، صادر بتاريخ 11/05/2015 في ملف رقم 18/1125/2015.
[6] – قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، عدد 84/11، بتاريخ 10 يناير 1984، ملف جنائي83/433.
[7] – العلمي الحراق، التوثيق العدلي بين الفقه المالكي والتقنين المغربي وتطبيقاته في مدونة الأسرة، ص 314
[8] – تنص المادة 37 من المرسوم التطبيقي لقانون خطة العدالة على أنه:” يكلف وزير العدل بمقتضى مقرر قاضيا أو أكثر بشؤون التوثيق في دائرة كل محكمة ابتدائية. بوضع حد لهذا التكليف بنفس الطريقة كلما استوجب الأمر ذلك”
[9] – العلمي الحراق، التوثيق العدلي بين الفقه المالكي والتقنين المغربي وتطبيقاته في مدونة الأسرة، ص 310
[10] – العلمي الحراق، مرجع سابق، ص 310
[11] – نصت المادة 22 من القانون المنظم لخطة العدالة:” تتنافى خطة العدالة مع الوظائف العمومية ومهام المحامي والعون القضائي والوكيل العدلي ووكيل الأعمال والمستشار القانوني والخبير والترجمان والناسخ والسمسار، ومع كل نوع من أنوع النجارة يتعاطاه العدل شخصيا. تتنافى الخطة بصفة عامة مع كل عمل يؤدى عنه أجر باستثناء المهام الدينية والأنشطة العلمية المأذون له بها من قبل وزير العدل”.
[12] – نصت المادة 7 على ما يلي:… يعين العدل الناجح في الامتحان المهني المشار إليه أعلاه في مقر عمله بقرار لوزير العدل، حسب ما تقتضيه المصلحة التوثيقية، فإن لم يلتحق به ولم بدل بعذر مقبول خلال أجل ستة أشهر ابتداء من تاريخ توصله بقرار تعيينه، أسقط من الخطة بنفس الطريقة.”
[13] – نصت المادة 20 من القانون 16.03 على ما يلي:” يمكن للعدل تقديم استقالته من الخطة، ولا يحق له أن يكف عن مزاولة عمله إلا بعد قبول هذه الاستقالة..”
[14] – نصت المادة 48 من 16.03:”يمكن للوكيل العام للملك- كلما فتحت متابعة تأديبية، أو جنحية أو جنائية، ضد عدل- أن يوقفه مؤقتا عن عمله بإذن من وزير العدل”.
[15] – نصت المادة 3 من قانون المسطرة الجنائية في الفقرة الثانية:” يقيم الدعوى العمومية ويمارسها قضاة النيابة العامة، كما يمكن أن يقيمها الموظفون المكلفون بذلك قانونا”
[16] – تنص المادة 41 من قانون 16.03 المنظم لخطة العدالة:” تجري النيابة العامة لدى محكمة الاستئناف بحثا أوليا في كل شكاية ضد عدل تتعلق بإخلالات مهنية، مع الاستئناس برأي القاضي المكلف بالتوثيق التابع لدائرة نفوذه العدل المشتكى به ما لم يكن هو الذي أثار المخالفة، وكذا برأي المجلس الجهوي للعدول بدائرة محكمة الاستئناف، المنصوص عليه في المادة 52 بعده”.
[17] – العلمي الحراق، الوجيز في شرح القانون المتعلق بخطة العدالة، ط 1 (2009/1430 ه) ص 130
[18] – ينص الفصل 47 من قانون 16.03 المنظم لخطة العدالة:”يحيل الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف المعين العدل بدائرة نفوذها المتابعة التأديبية إلى محكمة الاستئناف…”
[19] – نصت الفقرة الأولى من المادة48 من قانون 16.03 على ما يلي:”يمكن للوكيل العامل للملك- كلما فتحت متابعة تأديبية أو جنحية أو جنائية، ضد عدل- أن يوقفه مؤقتا عن عمله بإذن من وزير العدل…”
[20] – العلمي الحراق، الوجيز في شرح القانون المتعلق بخطة العدالة، ص 139
[21] – نصت الفقرة الخامسة من المادة 48 من قانون 16.03 على ما يلي:” في حالة متابعة العدل الموقف مؤقتا عن عمله من أجل جنحة تمس شرف المهنة، فإنه يستأنف مهامه تلقائيا وبقوة القانون بعد مضي أربعة أشهر من تاريخ إيقافه وإدلائه بالشهادة المشار إليها أعلاه، ما لم تبت المحكمة ببراءته قبل ذلك، فيستأنف عمله فورا، أو بإدانته فيستمر إيقافه إلى أن يبت في متابعته التأديبية…”
[22] – نصت الفقرة السادسة من المادة 48 من قانون 16.03 على ما يلي:” وفي حالة متابعته جنائيا، فإن إيقافه عن العمل يستمر إلى حين صدور أمر نهائي بعدم المتابعة، أو حكم ببراءته في الموضوع، وفي كلتا الحالتين لا تتعدى مدة الايقاف سنة، وفي حالة الحكم بإدانته من طرف غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بعد استئناف عمله يمكن للوكيل العام للملك أو يوقفه مؤقتا عن عمله من جديد، ويستمر إيقافه إلى أن تبت غرفة المشورة في متابعته التأديبية”.
[23] – الفقرة الثامنة من المادة 48 من قانون 16.03.
[24] – نصت المادة 49 من قانون 16.03 على ما يلي:” يمارس الطعن بالنقض الوكيل العام للملك والعدل المحكوم عليه تأديبيا وفقا للشروط والقواعد والآجال العادية. غير أن طعن الوكيل العام للملك يقدم دون محام ويعفى من الرسوم القضائية”.
[25] – نصت المادة 50 من قانون 16.03 على ما يلي:” يشعر الوكيل العام وزير العدل والقاضي المكلف بالتوثيق وكذا المجلس الجهوي للعدول، بكل مقرر صادر في حق العدل.”
[26] – العلمي الحراق، الوجيز في شرح القانون المتعلق بخطة العدالة، ص 147
[27] – محمد الزاوي، المسؤولية المدنية والتأديبية للعدل في ظل القانون المغربي، ص 90
[28] – محمد الزاوي، مرجع سابق، ص 91
[29] -تنص المادة 44 من قانون 16.03 على انه: تتقادم المتابعة التأديبية في حق العدل:
– بمرور ثلاث سنوات ابتداء من تاريخ المخالفة…”
[30] – قرار محكمة الاستئناف بالناظور رقم 66، صادر بتاريخ 23/12/2014، في ملف عدد63/1125/14.
[31] – نص الفصل 329 من قانون المسطرة المدنية:”يعين رئيس المحكمة الابتدائية أو الرئيس الأول لمحكمة الاستيناف مقررا يسلم إليه الملف في ظرف أربع وعشرين ساعة…”
[32] – ينص الفصل 334 من قانون المسطرة المدنية في فقرته الأولى:” يتخذ المستشار المقرر الاجراءات لجعل القضية جاهزة للحكم ويأمر بتقديم المستندات التي يرى ضرورتها للتحقيق في الدعوى. ويمكن له بناء على طلب الأطراف أو حتى تلقائيا، بعد سماع الأطراف أو استدعائهم للحضور بصفة قانونية، الأمر بأي إجراء للتحقيق من بحث وخبرة وحضور شخصي دون مساس بما يمكن للمحكمة المرفوع إليها الاستيناف أن تأمر به بعد ذلك من إجراءات في جلسة علنية أو في غرفة المشورة…”
[33] – محمد الزاوي، المسؤولية المدنية والتأديبية للعدل في ظل القانون المغربي، ص 94
[34] – محمد الزاوي، مرجع سابق، ص 94
[35] – قرار رقم 201/94 صادر في 16 يونيو 1994 ملف إداري رقم 100054/90 منشور بمجلة قرارات المجلس الأعلى لسنوات من 1958 إلى 1977، ص 206
[36] – قرار صادر عن محكمة النقض عدد676، صادر بتاريخ 30/09/2014، في ملف شرعي عدد767/2/1/2013.
[37] – المادة 53 من القانون المتعلق بخطة العدالة.
[38] – تنص المادة 54 من القانون المتعلق بخطة العدالة على أنه:”تمثل الهيئة الوطنية للعدول المهنة تجاه الإدارة، وتبدي رأيها فيما تعرضه عليها من مسائل تتعلق بالممارسة العامة للمهنة، وتقدم المقترحات الكفيلة بتطوير المهنة”.
[39] – الجرائم المرتكبة من طرف العدول على ضوء الفقه الإسلامي والتشريع الجنائي المغربي، وهو بحث مرقون تقدم به الطالب عبد الغاني اعابد لنيل شهادة الماستر بإشراف الاستاذ محمد العلمي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سلا.
[40] – محمد الزاوي، المسؤولية المدنية والتأديبية للعدل في ظل القانون المغربي، ص 83,