الفصل الأول: الجرائم الجمركية بين الخصوصية والجنوح
تعد الجرائم الجمركية ذات طابع خاص نظرا لتميزها وانفرادها بقواعد خاصة تخالف القواعد المألوفة في القانون الجنائي وذلك بسبب صعوبة تحديد هذه الأفعال وتبيانها، وكذا ارتباطها الوثيق بحياة الدولة المالية والاقتصادية.
وعليه سنحاول معالجة هذا الفصل من خلال مبحثين متتاليين، نتطرق في الأول لخصوصية الجرائم الجمركية، على أن نتعرض في الثاني لتصنيف الجرائم الجمركية محاولين أن نلتمس مظاهر شذوذها عن القواعد العامة.
المبحث الأول: خصوصية الجرائم الجمركية
تتسم الجريمة الجمركية ببعض الاستثناء والخروج عن المفهوم العادي للجريمة وفقا للقانون الجنائي، حيث أن المشرع المغربي في إطار مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة جاء بقواعد خاصة ومتميزة، ويتجلى هذا في عناصرها التجريمية التي تنفرد بها و كذا في كل ركن من اركانها .
وقصد تسليط الضوء على هذه الجرائم ارتأينا تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين:
نتناول في المطلب الأول ماهية الجريمة الجمركية، وفي الثاني عناصر التجريم في الجريمة الجمركية.
المطلب الأول: ماهية الجريمة الجمركية
إن الوقوف على ماهية الجريمة الجمركية يقتضي بالضرورة التعرض لمفهومها وإبراز الخصائص التي تميزها عن الجرائم العادية في القانون الجنائي.
الفقرة الأولى: مفهوم الجريمة الجمركية
لقد عرف المشرع المغربي الجريمة بشكل عام في الفصل 110 من مجموعة القانون الجنائي واعتبرها ” كل عمل أو امتناع مخالف للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه “.
بينما تطرق لتعريف الجريمة الجمركية في المادة 204 من مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة، حيث عرفها بأنها ” عمل أو امتناع مخالف للقوانين والأنظمة الجمركية ومعاقب عليها بمقتضى هذه النصوص “.
هكذا يظهر لنا جليا أن المشرع المغربي تبنى نفس المفهوم للجريمة الجمركية في كلا القانونين، غير أنه تجدر الإشارة إلى أنه قبل التعديل الأخير الذي طال مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة في 5 يونيو 2000، كان المشرع المغربي يستعمل مصطلح مخالف للجريمة الجمركية، رغم أنها كانت أحيانا تأخذ صبغة الجنح الضبطية، غير أن هذا المقتضى الذي أسال الكثير من المداد وخلق الكثير من الخلاف تم تجاوزه بفعل التعديل الأخير عند تعريفه الجريمة الجمركية وذلك عندما تحدث عن الجنحة والمخالفة[2].
الفقرة الثانية: خصائص الجريمة الجمركية
للجريمة الجمركية جملة من الخصائص التي تميزها وتنفرد بها، حتى أن بعض الفقه ذهب إلى إمكانية الحديث عن فرع جديد من فروع القانون الجنائي يسمى بالقانون الجنائي الجمركي[3]، نذكر منها ما يلي:
- الطابع الشكلي:
تتميز الجريمة الجمركية بطابع شكلي وذلك لكون القانون اشترط لقيامها أن تتم في شكل معين، ودون أن تتطلب تحقيق نتيجة معينة[4]، ذلك أن مدونة الجمارك لا تعير اهتماما للنتيجة المترتبة عن الفعل المخالف للقوانين والأنظمة الجمركية، ومن الأمثلة على ذلك ما نص عليه الفصل 201 من مدونة الجمارك التي تقضي بأن الغرامات الجبائية يجب الحكم بها في جميع الحالات ولو لم تلحق الأفعال المرتكبة أي ضرر مادي بالدولة.
- يغلب عليها الطابع المادي:
إن الجريمة الجمركية تتحقق في الغالب بمجرد تحقق ماديتها دون حاجة للبحث في توفر سوء النية.
فمن تجليات هيمنة الركن المادي على هذا النوع من الجرائم ما نصت عليه مدونة الجمارك في الفصل 181 عندما تحدث عن جنحة التهريب، والذي أوجب على الأشخاص الموجودة في حوزتهم البضائع الخاضعة للرسوم والمكوس عن الاستيراد أو الأشخاص الذين ينقلون هذه البضائع، أن يدلوا بمجرد ما يطلب منهم ذلك أعوان الإدارة الجمركية مما يثبت أصلها أو دخولها بصفة قانونية إلى التراب الجمركي، وإلا اعتبرت عناصر الجنحة قائمة في حقهم، دون اخد مسألة تهريب هذه البضائع بعين الاعتبار.
- من حيث الجزاء:
فبالإضافة إلى العقوبات الجنائية الأصلية أو التكميلية، يوجد أيضا تدابير احتياطية والتي يمكن أن تصدر إما بقرار قضائي أو إداري بأمر من الإدارة الجمركية، وإن كان هذا المقتضى الأخير ترد عليه العديد من الانتقادات على أن الإدارة الجمركية لا يمكن أن تكون حكما وخصما في نفس الوقت.
- ذات طابع اقتصادي:
مراعاة لكثير من الاعتبارات التي تمس مصالح الدولة وخاصة المصالح الاقتصادية والضريبية وكذا الحفاظ على النظام الجمركي فإن معظم التشريعات احتفظت بمبدأ العقاب على الجريمة الجمركية .
لكون هذه الأخيرة تتصل اتصالا وثيقا بالنشاط الاقتصادي والمالي للدولة، ولا سيما ما للسياسة الجمركية من تأثير على السياسة الاقتصادية التي تتبعها الدولة، لتمويل مرافقها العامة، وتنفيذ مشاريع التنمية داخل الوطن، ولعل من أبرز مظاهر الطابع الاقتصادي للجريمة الجمركية تتجلى في توسيع دائرة المسؤولية عن هذه الجرائم، وتقرير أن المسؤولية من فعل الغير بالإضافة إلى إضفاء مزيد من من الضمانات لإنجاح السياسة الاقتصادية وذلك بالنص على مسؤولية الأشخاص المعنوية، حيث تعاقب هذه الأخيرة بالعقوبات التي تلاءم طبيعتها فهي تمسها في مالها أو نشاطها كغرامات والمصادرات.
المطلب الثاني: عناصر التجريم في الجرائم الجمركية
للجريمة بصفة عامة أركان لا يمكن أن تتحقق إلا بوجودها، والجريمة الجمركية شأنها شأن باقي كل الجرائم حيث لا بد أن تتوفر فيها عناصرها وأركانها، حتى تكتسي طابع التجريم، غير أنها تعتبر شاذة ومتمردة عن بعض القواعد الأساسية للجريمة، الأمر الذي يحتم علينا كشفه في كل ركن على حدة.
الفقرة الأولى: الركن القانوني
إن الركن القانوني للجريمة الجمركية يتمثل في النص القانوني الذي يجرم ويعاقب على كل إخلال بالقوانين الجمركية، فما دام أن الركن القانوني بالمفهوم المادي، يعني أن التصرف مهم كان ضارا بالفرد أو المجتمع فإنه لا يعتبر جريمة إلا إذا تدخل المشرع واعتبره كذلك بنصوص قانونية تجرم الفعل أو الترك وتعاقب الفاعل[5].
فإن المادة 204 من القانون الجمركي نصت على أن ” الجنحة أو المخالفة الجمركية عمل أو امتناع مخالف للقوانين والأنظمة الجمركية ومعاقب عليها بمقتضى هذه النصوص ” فهذا النص وباقي النصوص الأخرى التي تنظم القانون الجمركي هي التي تضفي الشرعية على الجرائم الجمركية.
غير أنه إذا كان مبدأ الشرعية يقتضي أن يكون الفعل المجرم محددا تحديدا كافيا لا يسمح للملزمين بالاعتذار بجهله، فإن القانون الجمركي يحدد فقط المبدأ العام للجريمة الجمركية وتتكفل الإدارة بتنظيم شروط التطبيق وهذا يتكرر في أغلبية النصوص.[6] وهذا راجع لعدة اعتبارات منها الطابع التقني للعمل الجمركي وكذا صعوبة تحديد بعض الأفعال بشكل دقيق، الأمر الذي يؤدي بإدارة الجمارك لإصدار العديد من المراسيم التي من خلالها تبح تقوم بعمل تشريعي أكثر مما هو تنفيذي.
وبالتالي فخصوصية الجريمة الجمركية من ناحية الركن القانوني التي تقوم عليه لا يتسم وطبيعة المحافظة على شرعية الجرائم المنصوص عليها في الفصول 3و4 من ق ج.