الحكومة المغربية وصندوق المقاصة .. إلى أين؟
الحكومة المغربية وصندوق المقاصة .. إلى أين؟
*يونس مليح
لقد أظهرت تطورات السوق العالمية خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة، محدودية نظام المقاصة الذي صار مكلفا وخاضعا للتقلبات. للتذكير فإن نفقات المقاصة قد سجلت مبلغ 52 مليار درهما سنة 2011 و56,6 مليار درهما في سنة 2012. وقد بلغ مجموع نفقات المقاصة خلال الفترة 2011-2015 حوالي 200 مليار درهما، كان من الممكن توظيف هذه الأموال في الاستثمار العمومي، وتطوير البنيات التحتية أو تسديد جزء من الدين المالي لخزينة البلاد.
فمسألة إصلاح صندوق المقاصة أصبح ضرورة ملحة، في ظل الدعوات المتصاعدة في السنوات الأخيرة إلى إعادة النظر في آلياته، التي أصبحت في نظر العديدين “منبعا للريع” وتكريسا للفوارق الاجتماعية المستفحلة، عوض أن يكون وسيلة لدعم الفئات المعوزة والفقيرة. غير أن هذا المطلب الملح وإن اتفق الجميع على ضرورته فإنه يطرح أكثر من إشكال على مستوى التطبيق، مما يجعل أي تحرك في هذا الاتجاه وخارج حل شامل للمنظومة الاقتصادية والسياسية مجرد تضييع للجهود وكما يقول المثل الغربي “ماذا يجدي الجري نفعا إن كنا على الطريق الخطأ”، فماذا فعلت الحكومة المغربية من أجل إصلاحه؟ أم أن الأمر عكس ذلك تماما؟.
أولا: نظرة حول المواد الأساسية
بالنسبة لمادة السكر على سبيل المثال فقد قامت الحكومة بالزيادة في المنحة المخصصة له ابتداء من سنة 2012 لتبلغ 2.366 درهم للطن (دون احتساب الرسوم) على إثر إعادة تقييم أسعار النباتات السكرية والهادفة لتشجيع وتأهيل هذه السلسلة؛ وتم إخضاع واردات السكر الخام والسكر المكرر (مسحوق وقطع) لتعرفة جمركية تبلغ على التوالي 35% و42% و47% من السعر المحتسب على أساس التكلفة ومصاريف النقل، واعتبرت الحكومة هذه التسعيرة المطبقة على السكر أداة لحماية الإنتاج الوطني من خلال تحديد السعر المستهدف عند الاستيراد والمحدد في 5.051 درهم للطن بالنسبة للسكر الخام، و5.700 درهم بالنسبة للسكر المسحوق، و6.500 درهم بالنسبة لمكعبات السكر؛ بالإضافة إلى أنه تم الرفع من سعر الشمندر وقصب السكر على التوالي ب +35 و+25 درھم للطن وذلك عبر الزيادة في الدعم المخصص للسكر المكرر من 2531 إلى 2847 درھم للطن (باحتساب جميع الرسوم)، مع رفع السعر المستهدف من 5051 إلى 5335 درھم للطن؛ كما أن سنة 2018 بلغ الغلاف المالي لدعم مادة السكر عند استهلاك السكر المكرر ما يناهز 3437 مليون درهما. وقد انتقل الدعم الإضافي المتعلق بتسوية استيراد السكر الخام إلى 431 مليون درهم لصالح الدولة، نتيجة لانخفاض أسعار السكر الخام في السوق الدولية.
أما بالنسبة لتمويل دعم الدقيق والقمح؛ فقد تم تمويل جل الدعم الموجه للدقيق والقمح من طرف الميزانية العامة حيث بلغ متوسط هذه المساهمة ما يناهز 88% سنة 2012، أما عن الحساب الخاص للخزينة “صندوق دعم الأسعار بعض المواد الغدائية”، فقد تناقصت مساهمته في دعم الدقيق بسبب إلغاء أو تخفيض الرسوم الجمركية المطبقة على القمح اللين.
– سنة 2015 تم تقميص حصيص الدقيق الوطني المدعم ب 500 ألف قنطار خلال الأسدس الثاني لسنة 2015، حيث بملغ إجمالي 8 مليون قنطار برسم هذه السنة.
– سنة 2017، ومن أجل تغطية النقص في الإنتاج الوطني لسنة 2016، تم استيراد 75.6 مليون قنطار من الحبوب في سنة 2017 أي بزيادة 10% مقارنة مع السنة الماضية. وهو ما يتناقض مع المعطيات التي تقر بأن الانتاج الوطني للحبوب الثلاثة الرئيسية برسم الموسم الفلاحي 2016/2017 ما يناهز 96 مليون قنطار، بارتفاع بنسبة 176% مقارنة مع الموسم الماضي. ويعزى هذا المستوى القياسي إلى هطول أمطار كافية ومنتظمة ودرجة حرارة معتدلة، يقدر الإنتاج المتوقع للقمح اللين ب49 مليون قنطار، متبوعا بالقمح الصلب ب22 مليون قنطار، ثم الشعير ب25 مليون قنطار.
– سنة 2018 بلغت الكلفة الإجمالية لدعم القمح اللين والدقيق ما يناهز 1501 مليون درهم. ومع الحفاظ على حصيص الدقيق المدعم في 5,6 مليون قنطار، فقد ظلت تكلفة دعم الدقيق المدعم ثابتة في نفس المستوى (1003 مليون درهم). وبما أن السعر العالمي للقمح اللين ظل في مستوى مقبول، فلم يتم اللجوء إلى آلية الدعم عند الاستيراد، على غرار سنة 2017. أما بالنسبة للبنود الأخرى المتعلقة بنقل وجمع وتخزين الدقيق، فقد بلغت 490 مليون درهم.
بالنسبة لدعم عباد الشمس: بالنسبة لسنتي 2011 و2012، فإنه لم يتم منح أي دعم لهذا المنتج بسبب الارتفاع الكبير في أسعار المنتج على مستوى السوق الدولية. ويتم تمويل عباد الشمس من الميزانية العامة، ويبلغ متوسط الدعم لهذه المادة منذ سنة 2001 إلى سنة 2012 ما يناهز 1.225 درهم للطن بتكلفة إجمالية بلغت 400 مليون درهم؛ كما تم تخفيض الحصيص للدقيق الوطني من القمح اللين إلى 5,8 مليون قنطار ابتداء من الأسدس الثاني لسنة 2013. ويقتصر هذا الإجراء على الحصيص المتعلق بالمناطق الحضرية التي تسجل معدل الفقر أقل من 10٪.
بالنسبة للمنتجات البترولية فقد سجلت نفقات المقاصة للمواد النفطية مستويات قياسية فاقت 48 مليار درھم خلال سنة 2012 ما يمثل 85 %من الدعم الإجمالي خلال سنة 2014؛ كما تم حذف الدعم الموجه للبنزين، والفيول رقم 2، والفيول المخصص لإنتاج الكهرباء، والخفض التدريجي للدعم الموجه للغازوال كالتالي: 15,2 درھم للتر في يناير، 70,1 درھم للتر في أبريل، 25,1 درھم للتر في يوليو، و80,0 درھم للتر في أكتوبر من سنة 2014. وسنة 2015 تم رفع الدعم عن الغازوال على غرار باقي المواد النفطية، وتم عقد اتفاق للمصادقة على أسعار المواد النفطية السائمة بتاريخ 26 ديسمبر 2014 بين الحكومة وقطاع المواد النفطية الممثل بجمعية النفطيين بالمغرب والشركة المغربية لصناعة التكرير وذلك برسم الفترة الممتدة من فاتح يناير إلى 30 نونبر 2015، زيادة على حذف إيرادات المعادلة التي كانت تبلغ 88,0 درهم للمتر و 11,0 درهم للمتر بالنسبة للبنزين والغزوال على التوالي.
بالنسبة لغاز البوطان، سنة 2015 بلغ الدعم المتوسط الحالي ما يناهز 7 درهم للكلغ، أي 83 درھم للقنينة من فئة 12 كلغ، و21 درھم للكلغ للقنينة من وزن 3 كلغ، أي ما يعادل 207 %من ثمن البيع؛ وخصص قانون مالية 2018 اعتمادات تبلغ 12.650 مليار درهم، من أجل دعم غاز البوطان والسكر والدقيق الوطني للقمح اللين، وفي سنة 2018 خصص قانون ماليتها اعتمادات تبلغ 13.019 مليار درهم من أجل دعم غاز البوطان والمواد الغذائية (السكر ودقيق القمح اللين)؛ وإثر انخفاض أسعار غاز البوتان، انتقلت نسبة دعم هذه المادة من 4840 درهم للطن سنة 2018، أي ما يعادل 58 درهم للقنينة من فئة 12 كلغ و5,14 درهم للقنينة من فئة 3 كلغ، إلى 3652 درهم للطن سنة 2019 (خلال الفترة الممتدة من يناير إلى سبتمبر)، أي ما يعادل 44 درهم لقنينة 12 كلغ و11 درهم لقنينة 3 كلغ. كما سجلت نفقات دعم غاز البوتان 12.093 مليار درهما سنة 2018 مقابل 10.315 مليار درهما سنة 2017، ويعزى ذلك أساسا إلى ارتفاع السعر العالمي لغاز البوتان الذي انتقل من467 دولار إلى 522 دولار للطن بين سنتي 2017 و2018، ثم إلى ارتفاع الاستهلاك الوطني بنسبة 1,2% وتشمل كلفة دعم البوتان 732,11 مليار درهما برسم دعم الثمن و361 مليون درهما برسم نقل الغاز بالجملة من الموانئ نحو مراكز التعبئة، و ذلك من أجل الحفاظ على ثمن أساسي موحد على المستوى الوطني.
ثانيا: الانتقادات الموجهة للحكومة
توجهت الحكومة منذ سنة 2015 بشكل مباشر إلى الفئة المهمشة والضعيفة، عبر جملة برامج وسياسيات اجتماعية، مع توفير الإعتمادات المالية الكافية لها، وبالخصوص عبر الميزانيات المتحصلة من إصلاح صندوق المقاصة، ومن أهم هذه البرامج، نجد “صندوق التماسك الاجتماعي”، إذ انتقل من 2.24 مليار درهم سنة 2012 ليسجل أعلى مستوى سنة 2015 بـ5.13 مليار درهم، وينخفض إلى 1.78 مليار درهم سنة 2017، زيادة على قوانين المالية على أنه سيتم تخصيص حوالي 4 ملايير درهم من أموال هذا الصندوق، لمواصلة جهود تعميم نظام المساعدة الطبية “راميد” لفائدة الفئات الفقيرة في أفق بلوغ 8,5 ملايين مستفيد، وزيادة عدد المستفيدين من برنامج “تيسير” للمساعدات المالية المشروطة بالتمدرس، ليصل إلى 812.000 تلميذ ينتمون إلى 494.000 أسرة، فضلا عن رفع عدد المستفيدين من برنامج “مليون محفظة” ليصل إلى 3.914.949 مستفيدا، ومواصلة دعم الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، وتخصيص منحة للنساء الأرامل.
لكن مختلف هذه الإجراءات تبقى محدودة ولا تمس بالأساس المواطن المغربي، وقد أبانت عدة تجارب قامت بها الحكومة عن محدوديتها وعن ضعفها، لعل أبرزها نظام “RAMED”. لذلك، فإن رفع الدعم المباشر عن بعض المواد الاستهلاكية الأساسية سيضع المواطن بشكل مباشر بين فكي الحيتان الكبرى للسوق المتوحشة، مما يجعل الصندوق يثير مسألة القيمة النقدية للدعم المتوقع، وهو الأمر الذي يدفع إلى طرح عدد من الأسئلة منها: هل سيتمكن من تعويض الخسارة الحتمية للقدرة الشرائية غداة ارتفاع الأسعار؟، بمعنى أدق هل سيمنح لرب أسرة فقيرة 500 درهم شهريا ليجد نفسه أمام ازدياد للحاجيات في الغاز والدقيق والسكر وغيره بقيمة 600 درهم شهريا مثلا؟ ثم ما هي الضمانات لحماية الطبقة المتوسطة الأكثر تضررا من هذه العملية ؟، كون الأخيرة توجد في منزلة بين المنزلتين فلا هي من المستفيدين من الدعم ولا من الآمنين من فئة الأغنياء.
زيادة على ذلك، فالحكومة الحالية ترفع شعار العدالة الاجتماعية، وأنها تشتغل على هذا المفهوم وووفق هذه المقاربة، لكن واقع الحال يوحي بغير ذلك، فالطبقة الفقيرة والهشة تؤدي ثمن هذه المقاربة الفاشلة. في حين كان على الحكومة العمل على تسهيل حياة هذه الفئة بدل ضرب قدرتهم الشرائية، فالعدالة الاجتماعية تتطلب أن تكون هناك عدالة ضريبية، وهو الأمر غير الموجود، فرغم دسترة مبدأ العدالة الضريبية في كل من الفصول 39 و40 من دستور المملكة المغربية لسنة 2011؛ لكن، الواقع يؤكد عكس ذلك، فالضريبة على الدخل مثلا ما يقارب 75% من الإيرادات الضريبية المتأتية من هذه الضريبة هي تلك المتحصلة من المنبع وهي الأجور والدخول المعتبرة في حكمها، أما فيما يخص الضريبة على الشركات ف 2% من الشركات تؤدي ما يقارب من 80% من إيرادات هذه الضريبة، أما الضريبة على القيمة المضافة فهي المورد الرئيسي لخزينة الدولة، في حين أن عبئها يتحمله الملزم.
زيادة على ما قيل، فالمواد المستوردة من الخارج وبالذات المواد الأساسية اليومية التي يستهلكها المواطن البسيط والفقير، فالأرز مثلا يؤدى عنه 50% من الرسوم الجمركية، بالإضافة إلى الضريبة على القيمة المضافة ورسوم أخرى تصل إلى أكثر من 65% من ثمن الأرز. كذلك، فاللوبيا أيضا تصل رسومها الجمركية إلى 40% بالإضافة إلى الضريبة على القيمة المضافة ورسوم أخرى يمكن أن تصل إلى أكثر من 65%. العدس أيضا عند استيراده تصل رسومه الجمركية إلى أكثر من 40%، وإذا أضفنا الضريبة على القيمة المضافة ورسوم أخرى يمكن أن يصل إلى نسبة 60%. أيضا فبعد عشر سنوات من الإعفاء، سيصبح استيراد الزبدة خاضعا لرسوم الاستيراد بنسبة 2.5 بالمائة، اعتبارا من شهر يناير 2018. لذلك، فالمواد الأساسية التي يستهلكها المواطن العادي والبسيط، والفئات الهشة والفقيرة من المجتمع، هي التي تؤدي فاتورة هذه الزيادات في الأسعار، فأين هي العدالة الاجتماعية، وأين هي العدالة الضريبية التي تتحدث عنها الحكومة؟ وما موقع صندوق المقاصة الداعم والمستهدف للطبقة الفقيرة والهشة؟.
بالإضافة إلى ذلك، ففي حالة الطبقة الغنية، فإذا ما أراد شخص استيراد طائرة خاصة، فسيبلغ ثمن رسومها الجمركية 2,5% فقط، وهو ما يؤكد بالملموس بأن الحكومة لا تستهدف الطبقة الفقيرة بسياساتها، وإنما هي تستهدف الأغنياء لإغنائهم، والفقراء لإفقارهم.
فالحكومة، يجب أن تعيد رسم سياساتها الحالية التي تستهدف العدالة الاجتماعية لأنها غير صالحة وغير مجدية، والانتقال الآني الذي لا يقبل التريث إلى سياسة إعادة النظر في منظومة الرسوم الجمركية التي تستهدف المواد الأساسية واليومية للمواطن المغربي البسيط، والعمل على إصلاح عيوب صندوق المقاصة عبر إعادة توجيه بوصلته نحو استهداف ودعم الفقراء، وسنخفف بذلك على جيوب الفقراء والمساكين، ولن ننتظر إلى سنة 2022 من أجل عمل جرد للفقراء ودعمهم ب200 أو 500 درهم.
*كاتب وباحث بسلك الدكتوراه، عضو هيئة تحرير مجلة القانون والأعمال الدولية