العدوان الاقتصادي بين التجريم والإباحة
المصطفى سيدعالي
الباحث بسلك الدكتوراه في جامعة نواكشوط العصرية ؛ مكونة:
إن ما تسببت فيه الحروب من مآس ودمار عبر التاريخ خاصة إبان الحرب العالمية الثانية ، جعل العالم في أمس الحاجة إلى مجتمع دولي تراعي سلوكه قواعد قانونية؛ تعكس التطور البشري ذلك عبر خلق نظام عالمي يحد من اللجوء للقوة ويدفع بها إلى تحكيم قواعد قانونية ووسائل سلمية لحل النزاعات فيما بينها .
وقد تجسدت هذه الرغبة في التوقيع على ميثاق مهم هو القانون التأسيسي للأمم المتحدة .
هذا الميثاق الذي ينص على مقاصد الهيئه الكونيه وفي مطلعها “حفظ السلم والأمن الدوليين” وذلك بالوسائل السلمية وفقا لمبادئ العدل والقانون الدولي .
ورغم كون تلك الخطوة مهمة في تاريخ البشرية إلا أن السمة البارزة في القرن العشرين أنه انتهى إلى واقع في منتهى التناقض.
فرغم التطور المادي فيه إلا أنه من جهة كان أشد القرون عنفا ودموية في التاريخ ، أما من جانب آخر فيظهر ذلك بأنه القرن الذي وضع أسس ما يسمى اليوم بالعدالة الجنائية الدولية، وهو ما تجسد في شكل هيئة قضائية جنائية دولية دائمة ؛ تعرف اليوم بالمحكمة الجنائية الدولية .
لكن المسار نحو تحقيق هذا الهدف كان شائكا بدليل الوقت الكبير المستغرق لاستحداث هذه الهيئة ، فمن محاكمات نورنبرغ إلى أول حكم على جريمة إبادة من طرف محكمة دولية ، ومن القبض على دكتاتوري سابق إلى أول تهمة علنية من طرف محكمة دولية لرئيس دولة ممارس لمهامه ،ثم إلى أول محاكمة فعلية من طرف المحكمة الجنائية الدولية في 2009 كل هذه المحطات التاريخية في سجل العدالة الجنائية الدولية كان نجاحها مرهونا بالوجود القوي لإرادة المجتمع الدولي[1].
وساهمت المحكمة الجنائية الدولية في إحداث تطور كبير في قواعد القانون الدولي الجنائي وذلك بإيجاد سلطة قضائية أعلى من السيادة الوطنية ، وهو ما جعل بعض الدول تحاربها خوفا من أن تحل مكان قضائها الوطني ، أو تحد من هيمنتها.
وتتعدد صور الجرائم التي تختص بها المحكمة بتعدد النماذج والصور التي مرت بها الدول الحديثة بدءا بالاستعمار الأوربي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين مرورا بالحربين العالميتين وانتهاء بالحروب التي جرت في نطاق الحرب الباردة ثم ما تلاها من انهيار القطبين وهيمنة القطب الواحد وسياسة الاحتواء التي اعتمدت للسيطرة الاقتصادية والاجتماعية وانتهاء بما يشهده العالم اليوم من صراعات وفتن تلعب فيها الدول دور المساهم، وإن كانت تزاحم أثناءها من تنظيمات لا تأخذ شكل الدول بالمفهوم القانوني والسيادي لكنها تملك السيطرة الميدانية وتملك فرض شروطها على الدول وعلى غيرها من المنظمات وتكتسب بتلك القوة إمكانيات التفاوض وإبرام الصفقات وفرض القرارات[2].
ويقتصر اختصاص هذه المحكمة على أشد الجرائم خطورة، والتي تكون موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب نظامها الأساسي اختصاص النظر في جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب[3] و خاصة جريمة العدوان والتي تعتبر الاختصاص الجديد للمحكمة الجنائية الدولية بعد أن وافقت الدول الاطراف على إدراجها ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية[4].
وعند إطلاق مصطلح العدوان يتبادر إلى الذهن العدوان المسلح إلا أنه ليس الصورة الوحيدة لجرائم العدوان إذ تشهد العلاقات الدولية العديد من الممارسات التي وإن كانت لا تستخدم القوه المسلحة إلا أنها لا تقل خطورة عنها من جهة الآثار المترتبة عليها والنتائج التي تستهدف تحقيقها ويعد العدوان الاقتصادي أبرز مظاهر وصور العدوان غير المسلح وهو الموضوع الذي سأتطرق لدراسته في هذا المقال من خلال التطرق لمختلف الإشكاليات المرتبطة به، لاعتبارات علمية وعملية عديدة[5].
وتبعا لذلك فلقد تم تقسيم هذا البحث وفق ما يقتضيه التسلسل المنطقي لمعالجة هذا الموضوع.
ولذلك قسمت هذا الموضوع إلى مبحثين يتضمن أولهما “مفهوم وصور العدوان الاقتصادي”
على أن أتناول مدى مشروعيته كشكل من أشكال العدوان غير المسلح في المبحث الثاني.
المبحث الاول: مفهوم وصور العدوان الاقتصادي
من المتفق عليه أن العدوان المسلح ليس هو الصورة الوحيدة للعدوان، إذ تشهد العلاقات الدولية العديد من الممارسات التي، وإن كانت لا تستخدم القوة المسلحة، إلا أنها لا تقل خطورة عنها من جهة الآثار المترتبة عليها والنتائج التي تستهدف تحقيقها.
وهكذا فإنه إلى جانب العدوان المسلح تشهد العلاقات الدولية ظاهرة العدوان غير المسلح وهو مفهوم يتسع ليشمل مجمل التدابير غير المتضمنة لاستخدام القوة المسلحة الموجهة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي والاقتصادي بما يخل بالمبادئ المعلنة في ميثاق الأمم المتحدة[6].
وبالتالي فإن هذا المفهوم يصدق على كافة أنواع التدخل في شؤون الدول الأخرى غير المشتمل على استخدام القوة، وهو بالتالي ليس مفهوما جديدا في العلاقات الدولية إلا من حيث التعبير الذي ظهر أثناء المناقشات التي دارت في الأمم المتحدة حول تعريف العدوان.
ويعد العدوان الاقتصادي أبرز مظاهر وصور العدوان غير المسلح، وهو ما سأعرضه بصورة تفصيلية في هذا المبحث، وذلك نظرا لانتشار هذا الشكل من العدوان علي نطاق واسع في العلاقات الدولية إضافة إلي خصوصية تكوينه الحقوقي، الأمر الذي يجعل له توصيف قانوني متميز فضلا عن خطورة ما قد يترتب عليه من آثار يكون من شأنها تهديد السلم والأمن الدوليين وانتشار العنف والعدوان بين الدول .
ودراسة هذا المبحث نتطرق لمفهوم العدوان في مطلب أول على أن أذكر صور العدوان الاقتصادي – كشكل من أشكال العدوان- في مطلب ثاني.