في الواجهةمقالات قانونية

تأثيرات مجلس الأمن الدولي على العدالة الجنائية الدولية

تأثيرات مجلس الأمن الدولي علىالعدالة الجنائية الدولية

بقلم: الطالب الباحث محماد الفرسيوي 

مقدمة

بعد أن شهد العالم في مطلع القرن العشرين حربين عالميتين في أقل من أربعة عقود، انهار خلالها السلم والأمن الدوليين وسقط خلالها الملايين من الضحايا والجرحى ناهيك عن الخسائر الاقتصادية، كل ذلك دفع الدول الكبرى بعد فشل عصبة الأمم المتحدة في منع اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى إنشاء منظمة الأمم المتحدة التي أكد ميثاقها على أن الهدف الأسمى الذي تسعى لتحقيقه هو حفظ السلم والأمن الدوليين، وهذه المهمة من نصيب مجلس الأمن الدولي.

إلا أن الطابع السياسي الذي يحكم هذا الجهاز، والإتهامات التي وجهت إليه بأنه جاء فقط لمعاقبة الدول المنهزمة  في الحرب، عندما أنشئ محكمتي رواندا  ويوغسلافيا،  وهو الأمر الذي دفع الضمير العالمي إلى التفكير في خلق قضاء جنائي دولي دائم ومستقل، لتجاوز حالات القصور التي أبانت عنها التجارب الدولية السابقة.

وبعد مسار طويل من النقاش والمفاوضات تم اعتماد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة سنة 1998، والذي دخل حيز التنفيذ في الأول من يوليوز 2002، إلا أن نظام روما الأساسي جاء بأحكام جعلته في علاقة مع أجهزة الأمم المتحدة، خاصة مجلس الأمن الدولي، وذلك بغية تعزيز مكانتها كجهاز قضائي دولي وشمولية اختصاصها بمحاربة الإفلات من العقاب، وتحقيق العدالة الدولية بإنصاف جميع الضحايا دون استثناء، مما يستتبع ذلك في معظم الأحيان صيانة السلام الدولي.

إلا أن الحسابات السياسية التي تحكم عمل مجلس الأمن، لا يمكن أن تفصل المحكمة الجنائية عن هذا الإعتبار، مما يجعل عملها  يتأثر بهذا الجهاز، الذي خول له نظام روما الأساسي صلاحيتين مهمتين تتمثل  الأولى في الحق في إحالة[1] الدعوى على المحكمة أما الثانية قتتمثل في سلطة الإرجاء، مما يطرح معه إشكالية محورية تتمثل في مدى قدرة المحكمة الجنائية الدولية الإستجابة لمتطلبات العدالة الجنائية الدولية في ظل سلطتين الإحالة والإرجاء؟

وللإجابة عن الإشكالية، ومحاولة الوقوف على مختلف جوانب التأثير الذي يشكله مجلس الأمن الدولي بالنسبة للعدالة الجنائية الدولية سنعتمد التصميم التالي:

  • المحور الأول: تأثير مجلس الأمن الدولي على العدالة الجنائية الدولية من خلال المادة 13 من نظام روما.
  • المحور الأول: تأثير مجلس الأمن الدولي على العدالة الجنائية الدولية من خلال المادة 16 من نظام روما.

 

 

 

المحور الأول: تأثير مجلس الأمن الدولي على العدالة الجنائية الدولية من خلال المادة 13 من نظام روما.

عرف مؤتمر روما مناقشات مطولة  بشأن إعطاء مجلس الأمن هذه الآلية، واتسم النقاش بكونها آلية سياسية أكثر منها قانونية، وكما كان منتظرا وقع بشأنها خلاف كبير بين الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن[2] من جهة وباقي الدول من جهة أخرى، وعلى الرغم من كل تلك الانتقادات الموجه لهذه السلطة، فقد ساد الإتجاه الغالب، ونجح في فرض رأيه وذلك بوضع المادة 13 ضمن مقتضيات نظام روما الأساس، التي تؤكد على صلاحيات المجلس بإحالة حالة إلى المدعي العام في حالة ارتكاب جريمة واردة في المادة 5 من هذا النظلم، ويكون ذلك متصرفا بموجب الفصل السابع من الميثاق والذي يعطي لمجلس الأمن مثل هذه السلطات للحفاظ على السلم والأمن الدوليين [3].

وإذا كانت لهذه السلطة الممنوحة لمجلس الأمن إيجابيات في توقيع المسؤولية الجنائية الفردية على مرتكبي الجرائم الدولية، وأهمها تمكين المحكمة الجنائية الدولية الدائمة النظر في الجرائم المرتكبة في إقليم دولة غير طرف في نظام روما أو المرتكبة من قبل رعايا مثل هذه الدول كما هو الحال في قضية السودان .

كما أن إعطاء مجلس الأمن مثل هذه السلطة من شأنه أن يجنبه إنشاء محاكم خاصة [4] للنظر في جرائم محددة، كما وقع بالنسبة إلى محكمة روندا ويوغوسلافيا التي تم إنشاؤهما بمقتضى قرارات لمجلس الأمن، الأمر الذي يدعم دور المحكمة الجنائية الدولية .

إلا أن كل هذه الإيجابيات يقابلها جانب سلبي يحول دون تحقيق أغراض القضاء الجنائي الدولي، حيث تشكل هذه السلطة المخولة لمجلس الأمن خطرا على العدالة الجنائية الدولية، باعتبارها فرصة أمام الدول الدائمة العضوية داخل المجلس في استغلال  سلطة الإحالة في توجيه قراراته خدمة لسياسة الدول الانفرادية مما يؤدي إلى الحد من استقلالية المحكمة  مما يؤدي إلى الحد من استقلالية المحكمة والسيطرة عليها من قبل هذه الدول .

لكن الأخطر من ذلك، هو أن منح مجلس الأمن هذه السلطة يعني تعطيل مبدأ من المبادئ الجوهرية في نظام روما الذي يعطي الأولوية للقضاء الوطني[5]، مما يشكل تهديدا على سيادة الدول سواء الدول الأطراف أو الدول غير الأطراف في نظام روما، حيث لا يتقيد مجلس الأمن  هنا بكون الدولة طرف من عدمه، بل يصبح له الإختصاص الكوني أو العالمي.

إن تجربة عمل المحكمة الجنائية الدولية منذ سنة 2002، تبين أن المحكمة الجنائية الدولية تعمل لخدمة الدول النافذة، وتتعامل وفق مصالحها، بحيث أن العالم يعرف مجموعة من الجرائم التي تدخل في نطاق اختصاص المحكمة، إلا أن مجلس الأمن وعبر إعماله لحق الفيتو  كذلك صلاحيات المستمدة من نظام روما، وقف في عديد من المحطات في وجه العدالة الجنائية الدولية، مما جعل مجموعة من الدول اليوم تطالب بإلغاء حق الفيتو خصوصا في الجرائم الوحشية.

ومن هنا تبدو لنا ازدواجية المعايير والمكاييل في العدالة الجنائية الدولية وعدم الإنصاف في تطبيق القانون الدولي الجنائي، إذ من المفروض أن يطبق القضاء الجنائي الدولي على المجتمع الدولي برمته بصورة متساوية دون أي تمييز بين أشخاصه وفقا للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهذا ما يبرز وجها آخر لعدالة الأقوى وحصانة الدول العظمى وتطبيق القانون الجنائي الدولي على الضعفاء بصفة أساسية.

ومن نتائج هذه العدالة الانتقائية التي تمارس على الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، والتي يفترض أن تتخذ نفس الإجراءات بشأنها، انسحاب والتهديد  بالانسحاب من قبل دول عديدة وذلك بالخروج من معاهدة نظام روما الأساسي، وجاءت هذه الانسحابات بعد اتهام المحكمة  بتوجيه صلاحياتها صوب الدول الضعيفة خاصة  الإفريقية منها لحساب الدول النافذة، مما يجعل من المحكمة عبارة  عن معركة سياسية إلا أنها تجرى بقفازات قانونية.

المحور الأول: تأثير مجلس الأمن الدولي على العدالة الجنائية الدولية من خلال المادة 16 من نظام روما.

بالإضافة إلى ما تقدم ذكره حول تأثير منح مجلس الأمن سلطة الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية على السيادة الوطنية، نجد أن المادة 16 من نظام روما[6] تمنح مجلس الأمن سلطة أكثر خطورة وهي سلطة إرجاء التحقيق أو المقاضاة.

وفي هذا الصدد تقضي هذه المادة أن لمجلس الأمن أن يوقف أو يعرقل عمل المحكمة بخصوص بدئ التحقيق أو المحاكمة أو المضي فيهما لمدة 12 شهرا قابلا للتجديد، وذلك بموجب قرار يصدره مجلس الأمن استنادا إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

تعتبر هذه السلطة الممنوحة للمجس قيدا خطيرا على عمل المحكمة، وفشلا بالنسبة للدول الراغبة في إنشاء قضاء جنائي دولي قوي ومستقل، وما يزيد الأمر سوءا أن قرار المجلس بإيقاف الإجراءات وفقا للمادة 16 من نظام روما، كما سبق وذكرنا، لمدة اثني عشر شهرا وهذه المدة قابلة للتجديد إلى ما لا نهاية، مما يعني تصور تعطيل عمل المحكمة بصفة دائمة.

تكمن الحساسية في نص المادة 16 في اختلاف أراء الدول أثناء المفاوضات حول طبيعة هذه العلاقة التي يجب أن تربط المحكمة الجنائية الدولية كهيئة قضائية لمجلس الأمن كهيئة سياسية، ومدى إمكان منحه سلطة وقف التحقيقات والمحاكمات التي تباشرها المحكمة،  فقد أشارت العديد من وفود الدول أثناء مناقشات مؤتمر روما إلى هذه الثغرة وطالبت بمعالجتها .

وإذا كان القرار الصادر من مجلس الأمن بطلب إرجاء التحقيق أو المحاكمة يمكن أن يشل دور المحكمة في هذا الشأن، فإنه من باب أولى سوف يؤثر على دور السلطات الوطنية إلى الاضطلاع بالتحقيق والمحاكمة لذلك فإن سلطة مجلس الأمن في إرجاء التحقيق والمحاكمة المخولة له بموجب المادة 16 تحد أيضا من تطبيق مبدأ الاختصاص التكميلي وهي سلطة غير مطلقة، وغير خاضعة لأي قيد، ذلك أن الإدعاء بوجود قيود أو ضمانات مفترضة هو ادعاء يهدر كون المجلس ذاته هو الذي يقدر وجود هذه القيود وتحقيقها ويتعين التزامه بها .

بالإضافة إلى ما سبق تعتبر مسألة  ترك سلطة مجلس الأمن في إيقاف إجراءات المحكمة إلى ما لا نهاية من القضايا الذي دار بشأنها نقاش خلال مؤتمر روما، حيث اقترحت مجموعة من الدول ( من أمريكا اللاتينية ) أن يكون هذا القرار قابل للتجديد لمرة واحدة فقط.

كما اقترحت بلجيكا بأن يسند إلى المدعي العام سلطة المحافظة على أدلة الجريمة خلال المدة التي يتم فيها إرجاء أو إيقاف الإجراءات، ولكن هذه الآراء لم يتم الأخذ بها، وأقر النظام الأساسي عدم وضع حد أقصى لمدد تجديد قرار مجلس الأمن في هذا الشأن، الأمر الذي دفع جانبا من الفقه إلى القول بأن القرار المذكور لا يوصف بأنه مجرد إيقاف لعمل المحكمة، وإنما هو في الحقيقة إغلاق الطريق أمامها، أي منعها من ممارسة اختصاصها، وبالتالي يشكل خطورة على ضمانة الاستقلال اللازم  توافرها في المحكمة  باعتبارها آلية قضائية إزاء مجلس الأمن  كأداة سياسية، إذ لا يتبغي للسلطة السياسية أن تمارس اختصاصها على السلطة القضائية حتى لا يؤثر ذلك على منظومة العدالة الجنائية الدولية[7].

لكن يبقى السلام العالمي فوق كل اعتبار، وتحيق هذا السلام يأتي عن طريق تظافر الجهود لقطع الطريق أمام أي ثغرة  للإفلات من العقاب، لكن أحيانا تستعمل هذه الثغرات في  لأغراض أخرى سياسية، مما يؤثر سلبا في نبل فكرة القضاء الدولي.

وخلاصة القول هو أن السياسة هي فن تحقيق الممكن، وهذا الممكن يتشكل بسب ظروف كل حالة، أما القضاء فهو رمز تحقيق العدالة من خلال الأدلة والأسانيد وتقرير الشرعية، وموضوعية الحكم على الدعوى ليكون بذلك عنوان الحقيقة .

 

 

الخاتمة:

إن أهم سمة طبعت القرن العشرين هو أنه وضع أسس العدالة الجنائية الدولية، وهو ما تجسد في شكل هيئة قضائية جنائية دولية ودائمة، تقوم على الاقتصاص لضحايا الجرائم الدولية، عن طريق محاكمة الأفراد المتورطين في ارتكاب جرائم اصطلح على تسميتها الجرائم الدولية، المتميزة بطابعها الشديد الخطورة وذات البعد الدولي تحقيقا لمحاربة اللاعقاب الذي استمر لأزمنة طويلة.

لكن التجربة برهنت العكس بحيث أثبتت المحكمة عكس ما كان متوقع منها، الحقيقة أن المعايير الإنسانية لا يتم اتخاذها إلا في مواجهة الدول الصغيرة والضعيفة، في حين نجد أن هناك العديد من الانتهاكات الجسيمة ضد الإنسانية ترتكب في أماكن أخرى من العالم، لم يحرك  القضاء الجنائي الدولي ساكنا ولم يجري أي تحقيق بشأنها، كما أن الواقع يؤكد فعلا أن القواعد الإنسانية لا تطبق بعدالة، حيث نجد أن هناك صراعات دولية وإقليمية ارتكبت فيها أبشع المجازر ضد البشرية ولم تتدخل الأمم المتحدة ولا الدول الكبرى ذات الوزن الثقيل والتأثير الكبير على قرارات المجتمع الدولي بشأنها، مثل الصراع في الشيشان وفلسطين والعراق وأفغانستان، أي أن كل الصراع تتورط فيه الدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي لا تتدخل فيه الأمم المتحدة.

 

 

[1] ـ يقصد بالإحالة إستدعاء نظر المحكمة إلى وقوع جريمة تدخل  في اختصاصها فهي بذا المعنى، آلية يلتمس من خلالها تدخل المحكمة لتسهيل المرحلة الأولى من الإجراءات الجنائية دون أن ترتقي إلى درجة الشكوى أو الإدعاء ضد شخص معين. انظر علي عبد القادر القهواجي، القانون الدولي الجنائي، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2001، ص 288.

[2] ـ الأعضاء الدائمي العضوية  هم: الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، روسيا، فرنسا، المملكة المتحدة.

[3] ـ خالد الشرقاوي السموني،  المحكمة الجنائية الدولية، مطبعة وراقة الكرامة، الطبعة الأولى 2014، ص 55

[4] ـ خالد الشرقاوي السموني، المرجع السابق، ص 102.

[5] ـ جاء مبدأ التكامل في نظام روما بمثابة حل لتنازع الإختصاص بين المحكمة الجنائية الدولية والقضاء الوطني للدول الأطراف فيها، وهو يعطي الأولوية للقضاء الوطني على المحكمة الجنائية الدولية.

[6] ـ جاءت المادة 16 من نظام روما الساسي لتنص على أنه: ” لا يجوز البدء أو المضي في تحقيق أو مقاضاة بموجب هذا النظام الأساسي لمدة اثني عشر شهرا بناء على طلب من مجلس الأمن إلى المحكمة بهذا المعنى يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة؛ ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها “.

[7] ـ هشام محمد فريحة، محمد هشام فريجه، دور القضاء الجنائي الدولي في مكافحة الجريمة الدولية، أطروحة مقدمة لنيل شهادة دكتوراه في الحقوق تخصص قانون دولي جنائي، جامعة محمد خيضر ـ سكرة، الجزائر، السنة الجامعية، 2013 ـ 2014، ص 289 ـ 290.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى