تقدير القاضي الجنائي لمحاضر الشرطة القضائية المبنية على مسطرة مرجعية – سليم الناصري
سليم الناصري
حاصل على الماستر في العلوم الجنائية والأمنية
كلية الحقوق
جامعة القاضي عياض
مراكش
تقدير القاضي الجنائي لمحاضر الشرطة القضائية المبنية على مسطرة مرجعية
المقدمة
ينبني أساس القضاء الجنائي على حرية الإثبات، حيث أعطى المشرع المغربي للقاضي الجنائي حرية واسعة في تقييم الأدلة الجنائية المعروضة عليه والأخذ بها أو استبعادها، وذلك بهدف إدراك الحقيقة القضائية[1] سواء بنفي أو إثبات ارتكاب الجريمة من طرف المتهم.
ويعد قانون المسطرة الجنائية من القوانين التي كرست مبدأ حرية الإثبات، مع ربطه بنظام الإثبات الوجداني الذي يترك للقاضي سلطة واسعة لتقدير الحجج المعروضة عليه، وتعتبر الشهادة من بين وسائل الإثبات الأكثر شيوعا في المادة الزجرية، لكون الشاهد يدلي بما سمعه أو شاهده بنفسه بخصوص وقائع النزاع، غير أنه أصبح ما يطلق عليه شهادة متهم على متهم آخر سواء في نفس القضية أو بموجب مسطرة مرجعية أو استنادية، هذه الأخيرة هي عبارة عن تصريحات تضمن بمحضر الشرطة القضائية بشأن التثبت من جرائم مختلفة على رأسها قضايا المخدرات، حيث تقوم النيابة العامة بتسطير المتابعة في حق أشخاص، وذلك بناء على التصريحات التي يدلي بها بعض المشتبه فيهم أمام الشرطة القضائية، يدعون من خلالها وجود أشخاص اخرين قاموا بالمساهمة أو المشاركة معهم في ارتكاب الجريمة التي ضبطوا من أجلها، والتي بات العمل القضائي يعتمدها كأساس في الإثبات الجنائي ويقضي بإدانة الأشخاص من المصرح بهم بمقتضى المسطرة المرجعية[2].
فهذا النوع من الإجراءات التي تقوم به الشرطة القضائية خلال بحثها عن الجرائم والتثبت منها، قد يشكل مساسا بالمبدأ الدستوري الذي تضمنته مختلف المواثيق والتشريعات الدولية والمتعلق بمبدأ قرينة البراءة (La présomption d’innocence)[3].
ولدراسة هذا الموضوع، لابد من تبيان مدى شرعية محاضر الشرطة القضائية المحررة بناء على مسطرة مرجعية (المطلب الأول)، مع إبراز القيمة القانونية لهذه المحاضر من خلال التوجهات العامة للقضاء بهذا الخصوص (المطلب الثاني).
المطلب الأول: الشرعية الإجرائية للمحاضر المبنية على مسطرة مرجعية
يثير موضوع المساطر المرجعية جدلا واسعا ونقاشا كبيرا بين الباحثين والفقهاء في العلوم القانونية، حول مفهومها (الفقرة الأولى)، ومدى شرعيتها الإجرائية وتأثيرها على ضمانات المحاكمة العادلة المتفق عليها دوليا، كما لهذا الموضوع أهمية بارزة على المستوى العلمي والعملي وذلك نتيجة غياب تأطير قانوني للمسطرة المرجعية (الفقرة الثانية)، رغم كثرة اللجوء إليها لتصبح بدعة قضائية انجبتها الممارسة العملية للضابطة القضائية.
الفقرة الأولى: مفهوم المساطر المرجعية
بالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية المغربية، يتبين لنا أن المشرع المغربي لم يأتي بأي نص صريح يتضمن في طياته أي مصطلح أو أي إشارة حول موضوع المساطر المرجعية أو الاستنادية[4].
ولا شك أن مصطلح المساطر المرجعية، جاء نتيجة العمل القضائي المغربي[5]، وتم تداوله بالخصوص في جرائم المخدرات[6]، نظرا لأن هذا النوع من الجرائم له طبيعة خاصة، والتي تتضمن في أغلب الأحيان مجموعة من المشتبه فيهم أو المتهمين، وأيضا باعتبار قضايا الاتجار في المخدرات أصبحت من الجرائم المنظمة في وقتنا الراهن[7].
من خلال ما سبق، يتبين لنا جليا أن تعريف المساطر المرجعية أو الاستنادية، ما هو إلا محضر ضد مشتبه فيه لدى الشرطة القضائية، أثناء عملية البحث والتحري، وذلك استنادا إلى مجموعة من التصريحات التي يدلي بها شخص آخر.
كما تجدر الإشارة إلى أن مفهوم المسطرة المرجعية لم يبقى حبيسا في قضايا المخدرات، بل أصبح متداولا في قضايا جنائية أخرى، كالسرقة والهجرة غير المشروعة ثم النصب.
الفقرة الثانية: الأساس القانوني للمساطر المرجعية
إذا انطلقنا من أن القضاء اتجه إلى الأخذ بالمساطر المرجعية أو الاستنادية رغم غياب تأطير قانوني لها، فإن الإشكال الذي يطرح هو طبيعتها القانونية هل هي اعتراف أم شهادة أم مجرد استدلالات وتصريحات وأقوال، وما إذا كانت تعتبر محضرا منجزا في إطار المادة 24 من قانون المسطرة الجنائية أم لا تعتبر كذلك.
فبالرجوع إلى المساطر المرجعية في منظورها الفقهي والقضائي، نجد تسمية أقوال متهم على آخر باعتراف متهم على متهم، وتارة أخرى بشهادة متهم على متهم آخر، غير أن هاتين التسميتين تبقى محل نظر للاعتبارات والمبررات التالية:
أولا فهي لا توصف بأنها اعتراف لأنه شهادة من المتهم على نفسه وتصديق منه للتهمة المنسوبة إليه، وهذا الاعتراف هو سيد الأدلة كما يقال و أقواها تأثيرا في نفس القاضي، وبذلك يبقى هذا التعبير خاطئا لأن الاعتراف هو الصادر عن المتهم نفسه وما عداه من التصريحات فهي لا تعدو أن تكون شهادة، كما لا ينبغي وصف هذه التصريحات بأنها شهادة لكون الشاهد يكون طرفا في القضية المراد الشهادة فيها فهو شخص محايد على وقائع النزاع بخلاف المتهم فهو طرفا غير محايد لأنه طرف في القضية التي يشهد فيها فلا يكون موضوعيا في شهادته ولا يؤديها وفق الإجراءات المتطلبة ولو فرضنا أداءه اليمين القانونية للريبة والشبهة التي تصحبها فلا تتحول إلى يقين لدى القاضي، مما يتضح أن صفة المتهم مستقلة تمام الاستقلال عن صفة الشاهد ولا مانع من الناحية القانونية أن يجمع الشخص بين الصفتين معا شريطة مراعاة بعض القيود[8].
أما فيما يخص ق.م.ج فإننا لا نجد نصا صريحا ضمن فيها المشرع المغربي مصطلح المسطرة المرجعية، لكن يمكن القول أن المادة 24 من ق.م.ج[9] يمكن اعتمادها كأساس قانوني للمسطرة المرجعية، لأن ما يتضمنه محضر الشرطة القضائية هو مجرد تصريحات تمهيدية قد يدلي بها المشتبه فيه أو الضحايا أو الشهود على وقائع الجريمة، كم هو الشأن بخصوص مضمن المسطرة المرجعية فهو ليس إلا تصريحات تمهيدية ولكنها صادرة عن مشتبه فيه في مواجهة مشتبه فيه آخر.
المطلب الثاني: توجه القضاء بشأن المحاضر المبنية على مسطرة مرجعية
نصت المادة الأولى[10] من قانون المسطرة الجنائية على اعتبار البراءة هي الأصل إلى أن تثبت إدانة الشخص بحكم مكتسب لقوة الشيء المقضي به بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية، هذا المبدأ يكرس ما تضمنه الدستور[11] من أن المملكة المغربية تتعهد «بالتزام ما تقتضيه المواثيق الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات وتؤكد تشبتها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا»[12].
وإذا كانت قاعدة قرينة البراءة هي الإطار العام الذي تنبني عليه مقتضيات قانون المسطرة الجنائية، فإن هذا المبدأ (قرينة البراءة) يصطدم بقاعدة حرية الإثبات في المادة الجنائية التي تجد سندها القانوني في المادة 286 من ق.م.ج، والتي تنص على ما يلي: ” يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات، ما عدا في الأحوال التي يقضي القانون فيها بخلاف ذلك، ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقاً للبند 8 من المادة 365 الآتية بعده[13].
وبما أن مبدأ حرية القاضي الجنائي في تكوين اقتناعه الصميم، هو مبدأ عام يطبق في كافة مراحل الدعوى الجنائية، فإن هذا يندرج ضمن السلطة التقديرية المخولة للقاضي الجنائي في إطار تقدير وسائل الإثبات.
ومن هذا المنطلق، فإن القضاء له دور فعال في مراقبة وتقدير وسائل الإثبات، لكن العمل القضائي لمحاكم المملكة أظهر عدة اختلافات فيما يخص معالجته لموضوع المسطرة المرجعية، حيث يختلف التوجه من قاض لآخر، فهنالك من يعتمد على محاضر الشرطة القضائية المنجزة في إطار مسطرة مرجعية كدليل للإثبات (الفقرة الأولى)، وهنالك من يذهب لعدم الأخذ بها (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: الأخذ بمحاضر الشرطة القضائية المبنية على مسطرة المرجعية كدليل للإثبات
في هذا الإطار سنقوم بعرض وإبراز مضمون بعض الأحكام الابتدائية، والقرارات الاستئنافية، وكذا البعض من قرارات محكمة النقض، والتي تتعلق بهذا الموضوع، وذلك من خلال التطرق لمسألة أخد محاكم المملكة بمحاضر الشرطة القضائية المنجزة في إطار مسطرة مرجعية واعتمادها كدليل إثبات ضد المتهم.
وسيتم ذلك بتناول الأحكام والقرارات الصادرة عن محاكم الموضوع (أولا)، والقرارات الصادرة عن محكمة النقض (ثانيا).
أولا: على مستوى محاكم الموضوع
نحن الأن بصدد دراسة الحالة التي يتم فيها اعتماد التصريحات الواردة بمحاضر الشرطة القضائية المنجزة في إطار مسطرة مرجعية خلال مرحلة البحث التمهيدي، كدليل إثبات وإدانة قاطع ضد المتهم، رغم نفيه لهذه التصريحات، واعتبارها شهادة قائمة ضده بعد أداء الشاهد لليمين أمام المحكمة.
لذلك سنعرض من خلال هذه الفقرة لبعض من الأحكام والقرارات الصادرة عن المحاكم الابتدائية (أ) وكذا غرف الجنح الاستئنافية (ب).
- محاكم الدرجة الأولى:
صدر حكم[14] بإدانة شخص لما نسب إليه بشأن قضية ترويج المخدرات، حيث قضت المحكمة بإدانة المتهم بسنة واحدة حبسا نافذا وغرامة نافذة قدرها 5000 درهم، ويستفاد من مضمون هذا الحكم ما يلي:
إدانة المتهم المتهم بتهمة ترويج مخدر الشيرا بناء على معطيات جد ضعيفة وعلى تصريحات لا ترقى لمستوي الشهادة، وحيث إن المحكمة قد بنت قناعتها بإدانة المتهم، وذلك استنادا على ما ضمنته الشرطة القضائية بمحاضرها من معاينة اتصال هاتفي[15] وارد للمتهم بشأن طلبية مخدر الشيرا، واعتمادا على تصريحات مصرحي المسطرة المرجعية، وبكون محاضر الضابطة القضائية يوثق بمضمنها في ميدان الجنح ما لم يثبت ما يخالفها.
- محاكم الدرجة الثانية:
في هذه الفقرة سنعرض لقرار[16] يقضي بإلغاء الحكم المستأنف فيما قضى به من إدانة الظنين من أجل جنحة التهديد والحكم ببراءته منها وبتأييده في الباقي مع تعديله بالاقتصار في العقوبة الحبسية على شهر واحد حبسا نافذا.
ويستفاد من مضمون هذا الحكم أن المحكمة اعتمدت في حكمها الابتدائي الإدانة بناء على تصريحات واردة بمسطرة مرجعية وشهادة بعض مصرحي المسطرة رغم نفي المتهم لتصريحاتهم وللتهم الموجهة إليه، وفي المرحلة الاستئنافية يبدو أن المحكمة قد اتجهت إلى وجود العناصر التكوينية للجريمة من عدم وجودها من خلال ما تم إدراجه بمحضر الضابطة القضائية، خصوصا في ما يخص جنحة التهديد، إذ لم تعتمد التصريحات الواردة بالمسطرة المرجعية معللة كون المصرحين لم يذكروا عبارات التهديد والوعيد، بينما اعتمدت تصريحات المحضر في تأكيد إدانته بخصوص جنحة العنف، رغم نفي المتهم لها وعدم وجود أية شهادة طبية تثبت تعرض المشتكي للتعنيف، خصوصا مع صعوبة إثبات واقعة العنف لكونه لا يترك أية آثار على جسم الضحية في الغالب، إذ هنا نلاحظ اعتماد المحكمة على ما جاء بمحضر الشرطة القضائية واعتباره من الأدلة الجنائية وأنه يوثق بمضمنها في الجنح حسب ما ورد في المادة 290 من قانون المسطرة الجنائية[17].
ثانيا: على مستوى محكمة النقض:
في هذه الفقرة سنعرض لتوجه محكمة النقض لاعتبار شهادة متهم على متهم والتصريحات الواردة بمحاضر الشرطة القضائية بناء على مسطرة مرجعية أدلة إثبات قانونية، وذلك من خلال القرار الآتي[18]:
القاعدة في هذا القرار هي: ” شهادة متهم على متهم لا يمكن اعتمدها في غياب قرائن أخرى تعززها نعم”.
القانون لا يمنع القاضي الجنائي من الاعتماد على تصريحات متهم لإدانة متهم آخر بعد تقييمها واعتمادها حالة الاطمئنان إليها باعتبارها وسيلة إثبات قائمة بذاتها لا تتوقف على وسيلة أخرى تعززها.
حيث إن المحكمة أقرت باعتماد شهادة متهم على متهم آخر رغم عدم وجود قرائن أخرى تعززها، باعتبارها وسيلة إثبات قائمة بذاتها، مستندة إلى حرية القاضي الجنائي في الأخذ بأية وسيلة يراها مناسبة لإثبات الجرائم وفقا لاقتناعه[19].
وهنا نكون أمام إشكالية تصادم مبدأ قرينة البراءة التي هي الأصل، وحرية الإثبات، خاصة أن الواقع عرف عدة شهادات غير حقيقية ومرادها الانتقام من اشخاص أو من أجل الضغط والابتزاز من طرف مصرحي المساطر المرجعية لا غير[20].
الفقرة الثانية: عدم الأخذ بمحاضر الشرطة القضائية المبنية على مسطرة المرجعية كدليل للإثبات
في هذا الإطار سنقوم بعرض وإبراز مضمون بعض الأحكام الابتدائية، والقرارات الاستئنافية، وكذا البعض من قرارات محكمة النقض، والتي تتعلق بهذا الموضوع، وذلك من خلال التطرق لمسألة عدم أخد محاكم المملكة بمحاضر الشرطة القضائية المنجزة في إطار مسطرة مرجعية واعتمادها كدليل إثبات ضد المتهم.
وسيتم ذلك بتناول الأحكام والقرارات الصادرة عن محاكم الموضوع (أولا)، والقرارات الصادرة عن محكمة النقض (ثانيا).
أولا: على مستوى محاكم الموضوع:
لا يعتمد قضاة الموضوع الموالين لهذا الاتجاه (عدم الأخذ) على التصريحات الواردة بمحاضر الشرطة القضائية المنجزة في إطار مسطرة مرجعية خلال مرحلة البحث التمهيدي، كدليل إثبات ضد المتهم، خصوصا في حالة نفيه لهذه التصريحات خلال جميع مراحل الدعوى، دون وجود أي دليل مادي أو دليل قاطع، كوسيلة أخرى تعزز تلك التصريحات الواردة بالمسطرة المرجعية.
لذلك سنعرض من خلال هذه الفقرة لبعض من الأحكام والقرارات الصادرة عن المحاكم الابتدائية (أ) وكذا غرف الجنح الاستئنافية (ب).
- محاكم الدرجة الأولى:
صدر حكم[21] بشأن جنح المسك غير المشروع وترويج مخدر الشيرا، حيث قضت فيه المحكمة بعدم مؤاخذة المتهم وتبرئته من المنسوب إليه، ويستفاد من مضمون هذا الحكم
أن المحكمة بنت قناعتها بعدم إدانة المتهم، وذلك لعدة اسباب، إذ أنها حسب ما جاء في تعليلها على أن إنكار المتهم وتشبته بالبراءة ودحضه للتصريحات الواردة بالمسطرة المرجعية خلال جميع مراحل الدعوى، خصوصا كونها تعتبر تصريحات مصرح المسطرة المرجعية غير ذي أساس وانه لا حجية لها، إذ أنها لا ترقى إلى مستوى الشهادة المعمول بها في وسائل الإثبات بعد أداء اليمين أمام المحكمة وذلك حسب مقتضيات المادة 331 من ق.م.ج[22]، وكذا لكونها لا يمكن أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت عليها ونوقشت شفهيا وحضوريا أمامها أثناء الجلسة حسب مقتضى المادة 287 من ق.م.ج[23].
كما أن المحكمة لم تجد أية وسيلة إثبات أخرى بمحضر الشرطة القضائية تعزز التصريحات الواردة به، لإدانة المتهم، إذ أنها هنا تعتبر حجية محضر الشرطة القضائية ما هي إلا بشأن ما سمعوه وتلقوه من أقوال و تصريحات صادرة عن أحد المصرحين، وأن هذه التصريحات لا ترقى إلى مرتبة الشهادة على الغير، لأن القوة الثبوتية للمحضر بشأن هذه التصريحات لا تكون لمضمونها وإنما لصدورها عن أصحابها، حيث أصدر المجلس الأعلى عدة قرارات في هذا الشأن جاء في إحداها: ” محضر رجال الدرك حجة ما تضمنه من تصريحات يوثق بحقيقة صدورها عن أصحابها لا بفحواها “[24]، و أيضا بناء على إعمال مقتضيات المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية التي نصت على أن الشك يفسر لصالح المتهم، وأن الأصل في الإنسان هو البراءة، مما تكونت معه قناعة المحكمة ببراءة المتهم مستندة إلى المواد 1 و 286 و 287 و 290 و 331 من ق.م.ج[25].
- محاكم الدرجة الثانية:
صدر قرار يقضى بإلغاء الحكم الابتدائي فيما قضى به من براءة المتهم بشأن جنحة المسك غير المشروع للمخدرات، وتأييده بشأن براءته من الإتجار فيها[26].
ويستفاد من مضمون هذا القرار أن لأصحاب هذا التوجه نفس المبدأ و هو عدم الأخذ بالتصريحات الواردة في محاضر الشرطة القضائية المنجزة في إطار مسطرة مرجعية أمام إنكار المتهم لها ونفيها عنه، وعدم وجود دليل آخر يعزز تصريحاته ويفند إنكار المتهم، وكذلك أمام تعذر الاستماع للمصرح بصفة قانونية كشاهد أما المحكمة إذ أنه حسب مقتضيات المادة 287 من ق.م.ج، لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفاهيا وحضوريا أمامها، وكذلك حسب مقتضيات المادة 286 من نفس القانون التي نصت على أنه إن ارتأت المحكمة أن الإثبات غير قائم صرحت بعدم إدانة المتهم وحكمت ببراءته.
ثانيا: على مستوى محكمة النقض:
صدر قرار[27] لمحكمة النقض، قاعدته هي أن “حيازة ونقل وترويج مخدر الشيرا (مسطرة مرجعية) إنكار المتهم وإفادته بوجود عداوة مع مصرح المسطرة المرجعية – عدم اطمئنان المحكمة للشاهد لكونه يقضي عقوبة جنائية – يدخل في قناعة المحكمة وسلطتها في تقييم الأدلة”.
ويستفاد من مضمون هذا القرار أن القضاة الذين يرفضون الأخذ بما جاء بالمساطر المرجعية، يقومون بإعمال سلطتهم في تقدير أدلة الإثبات وعدم الانصياع لمحاضر وتوجهات الشرطة القضائية، وكذا إعمال مقتضيات المادة الأولى من ق.م.ج.
فالحكم الذي يعتمد التصريحات الواردة بمحضر الشرطة القضائية بمفردها كدليل إدانة، بدون أية قرينة أخرى، و مع تمسك المتهم بالإنكار في جميع الأطوار حتى أمام الشرطة القضائية يكون حكما باطلا لمخالفته للفصل 331 من ق.م,ج الذي يقضي بأن الشاهد يؤدي قبل الإدلاء بشهادته اليمين المنصوص عليها في الفصل 123[28] ، ويترتب عن الإخلال بذلك بطلان الحكم او القرار.
اما أمام المحكمة فإن اعتراف المتهم بأفعال معينة ونفس الوقت يوجه اتهامات إلى شخص أو أشخاص آخرين بأنهم ساهموا أو شاركوا في هذا الفعل، فهذه التصريحات لا ترقى إلى مرتبة الشهادة على الغير، لأن القوة الثبوتية لتصريحات المشتبه فيه بمحاضر الضابطة القضائية لا تكون لمضمونها وإنما لصدورها عن أصحابها، وقد أصدر المجلس الأعلى عدة قرارات حول هذا الأمر كما سبق وأشرنا سلفا[29].
وفي هذا الإطار أرسل رئيس النيابة العامة دورية للوكلاء العاميين للملك لدى محاكم الاستئناف ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية، يدعوهم فيها إلى اتخاذ القرارات المناسبة بخصوص المحاضر المبنية على مساطر مرجعية بحسب كل حالة على حدة، على ضوء ما تسفر عليه الأبحاث والتحريات، مع إعمال قواعد الإثبات المتعارف عليها قانونا في قانون المسطرة الجنائية، وعدم التردد في حفظ المساطر المرجعية إذا ما أسفرت إجراءات البحث الجنائي والمواجهة عن تراجع المصرحين الذين كانوا سببا في البحث مع المشتبه فيه، وغياب قرائن أو وسائل إثبات تدل على تورطه في الفعل الجرمي، مراعاة بذلك ما قد يتعرض له الأشخاص من ضغط أو ابتزاز من طرف مصرحي المساطر المرجعية مع الحرص على فتح أبحاث بهذا الخصوص عند الاقتضاء واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بكل حزم وصرامة من أجل التحقق من مثل تلك الادعاءات التي يتضمنها المحضر المبني على مسطرة مرجعية[30].
الخاتمة
ونخلص إلى أن المحاضر المبنية على مسطرة مرجعية يمكن أن تحقق المبتغى الكامن في حسن سير العدالة الجنائية و ضبط مرتكبي الجرائم و معاقبتهم طبقا للقانون إلا أن ذلك رهين بتدخل المشرع وسن قواعد منظمة لما سار عليه العمل الإجرائي في متابعة الأشخاص بناء على مسطرة مرجعية، و يجب أيضا أن تكون تلك المحاضر معززة بقرائن تبعث القناعة في وجدان القاضي لكي لا يكون مجال للشك الذي يفسر لصالح المتهم، فإذا لم تراعى هذه الضوابط سيعد أمر تحقيق عدالة إجرائية سوى حبر على ورق مع المساس بحقوق وحريات الأفراد و خرق بقرينة البراءة.
ويجب أن نشير في هذه النقطة أن المشرع المغربي من خلال مسودة مشروع القانون الذي يقضي بتغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية جاء بمستجد بخصوص المادة 286 حيث تنص في فقرتها الثانية على أنه:
“لا يجوز للمحكمة أن تبني قناعتها بالإدانة على تصريحات متهم على آخر إلا إذا كانت معززة بقرائن قوية ومتماسكة.
تتلقى المحكمة هذه التصريحات دون أداء اليمين القانونية”.
-[1]ن نظر القاضي تتجاذبه حقيقتان: الحقيقة القضائية، وهي النظر في الأدلة المعتبرة التي حددها الشرع والنظام ويتقيد القاضي بها, والحقيقة الأخرى هي الحقيقة الواقعية، وهي الأحداث الواقعة والظروف المحيطة التي يعلم بها القاضي ويشعر بها.
[2]– مجلة الشؤون الجنائية العدد الثاني، جمعية نشر المعلومة القضائية والقانونية، سنة 2012، ص 232 و233.
[3]– La présomption d’innocence
– toute personne suspectée ou poursuivie est présumée innocente tant que sa culpabilité n’a pas été établie, et en indiquant que les mesures de contraintes doivent être strictement limitées aux nécessités de la procédure.
– Philippe Auzou. Le Juridique, Pénal . Commercial . Communautaire International, Dépôt légal : 1 ” trimestre 2016. Éditions Auzou , 2016. Page 60.
– [4] أناس يمني، علي التوفيق، المساطر المرجعية في القضايا الزجرية بين النص و التطبيق، بحث نهاية التكوين بالمعهد العالي للقضاء، الرباط، 2013\2015، الصفحة 8.
– [5]إن أصل مصطلح المساطر المرجعية جاء نتيجة عمل ضباط الشرطة القضائية في جرائم المخدرات و السرقة.
[6]– يمكن تعريف المسطرة المرجعية بكونها يتم اللجوء إليها في الحالات التي يتم ضبط بعض الأشخاص في قضايا سابقة فيذكرون أشخاصا إما بأسمائهم الكاملة أو بألقابهم أو بأوصافهم والأماكن التي يترددون عليها على أساس أنهم هم من زودوهم بالمخدرات أو كونهم يشتغلون لفائدتهم أو يعرفون بأن لهم علاقة بالمخدرات فتحرر مذكرات بحث في حق هؤلاء ليتم ضبطهم بعد ذلك ومواجهتهم بما ذكره هؤلاء الأشخاص السابق تقديمهم للعدالة من اتهامات.
[7] -أناس يمني، علي التوفيق، مرجع سابق، الصفحة 11.
[8] – يوسف وهابي: “القول الأصلح في شهادة متهم على متهم” مقال منشور بمجلة الإشعاع العدد 29 غشت 2004 ص: 95.
[9]– الفقرة الأولى من المادة 23 من ق.م.ج: يجب على ضباط الشرطة القضائية أن يحرروا محاضر بما أنجزوه من عمليات وأن يخبروا وكيل الملك أو الوكيل العام للملك المختص فورا بما يصل إلى علمهم من جنايات وجنح.
– الفقرة الأولى من المدة 24 من ق.م.ج: المحضر في مفهوم المادة السابقة هو الوثيقة المكتوبة التي يحررها ضابط الشرطة القضائية أثناء ممارسة مهامه ويضمنها ما عاينه أو ما تلقاه من تصريحات أو ما قام به من عمليات ترجع لاختصاصه.
[10]– المادة 1 من ق.م.ج: كل متهم أو مشتبه فيه بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانوناً بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية.
[11]– الفقرة 4 من الفصل 23 من الدستور الجديد: ” قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان”.
[12]– هذا المبدأ كرسه تصدير الدستور الجديد في فقرته الثالثة: “وإدراكا منها لضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به على الصعيد الدولي، فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا”.
[13]– البند الثامن من المادة 365 من ق.م.ج: ” الأسباب الواقعية والقانونية التي ينبني عليها الحكم أو القرار أو الأمر ولو في حالة البراءة.”
[14]– حكم ابتدائي عدد 174 بتاريخ 2014/06/09 في ملف جنحي تلبسي 2014/169 بالمحكمة الابتدائية بكلميم، غير منشور.
[15]– اعتماد المحكمة على ما راج في مكالمة هاتفية بين المتهم وغيره دون أن تتحقق من مصداقيته والتأكد منه بالتحري التثبت من وجوده المادي، لا يرقي ذلك إلى إثبات الفعل الجرمي”. قرار عدد 719/1 بتاريخ 2007/06/27 في ملف عدد 06/21615 الصادر عن الغرفة الجنائية بالمجلس الأعلى (سابقا) محكمة النقض (حاليا).
قرار منشور بمجلة سلسلة العمل القضائي تحت عنوان “العمل القضائي في جرائم المخدرات”، العدد 4، لمركز الدراسات والأبحاث الجنائية بمديرية الشؤون الجنائية والعفو، دون وجود المطبعة والسنة، ص 8 و9.
[16]– قرار عدد 1540 بتاريخ 08/08/2018 ملف استئنافي جنحي عدد 2018/2802/205 عن المحكمة الابتدائية بإنزكان، قرار غير منشور.
[17]– المحاضر والتقارير التي يحررها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت من الجنح والمخالفات، يوثق بمضمنها إلى أن يثبت العكس بأي وسيلة من وسائل الإثبات.
[18]– قرار عدد 9/141 صادر بتاريخ 2017/02/02 ملف جنحي عدد 2015/ 9 /66196 منشور بمجلة محاكمة، عدد 16، أبريل – يونيو 2019، السنة الرابعة عشرة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص 224.
[19]– الفقرة الثانية من المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية المغربية: ” .. و يحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم و يجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناعه القاضي ..”.
[20]– دورية عدد 41 س/ ر ن ع، بتاريخ 16 أكتوبر 2014 صادرة عن رئيس النيابة العامة حول تدبير المساطر المرجعية.
[21]– حكم ابتدائي عدد 54 بتاريخ 2019/01/28 في ملف جنحي تلبسي عدد 2018/2105/2566 بالمحكمة الابتدائية بإنزكان، غير منشور.
[22]– المادة 331 من ق.م,ج: يؤدي الشاهد قبل الإدلاء بشهادته اليمين المنصوص عليها في المادة 123 أعلاه، ويترتب عن الإخلال بذلك بطلان الحكم أو القرار.
يمكن أن تتلى عليه قبل أدائه اليمين المقتضيات القانونية القاضية بالمعاقبة على شهادة الزور.
[23]– المادة 287 من ق.م.ج: لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفهياً وحضورياً أمامها.
[24]– قرار عدد 26 / 14 بتاريخ 1970/11/12 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى (سابقا) محكمة النقض (حاليا) عدد 19 السنة 3 بتاريخ نونبر 1970، ص 76.
[25]– المادة 1 من ق.م.ج: كل متهم أو مشتبه فيه بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانوناً بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية.
يفسر الشك لفائدة المتهم.
-المادة 286 من ق.م.ج: يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات، ما عدا في الأحوال التي يقضي القانون فيها بخلاف ذلك، ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقاً للبند 8 من المادة 365 الآتية بعده.
إذا ارتأت المحكمة أن الإثبات غير قائم صرحت بعدم إدانة المتهم وحكمت ببراءته.
-المادة 287 من ق.م.ج: لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفهياً وحضورياً أمامها.
المادة 290: المحاضر والتقارير التي يحررها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت من الجنح والمخالفات، يوثق بمضمنها إلى أن يثبت العكس بأي وسيلة من وسائل الإثبات.
-المادة 331 من ق.م,ج: يؤدي الشاهد قبل الإدلاء بشهادته اليمين المنصوص عليها في المادة 123 أعلاه، ويترتب عن الإخلال بذلك بطلان الحكم أو القرار.
[26]– قرار استئنافي عدد 2486 بتاريخ 2019/04/01 في ملف جنحي تلبسي استئنافي عند 616 /19، قرار غير منشور.
[27]– قرار عدد 1327 الصادر بتاريخ 17 شتنبر 2014 في الملف الجنحي عدد 9195/6/7/2014 منشور بمجلة تضاء محكمة النقض، العدد 78 سنة 2014، مطبعة الأمنية الرباط، ص 363.
[28]– المادة 123 من ق.م.ج: يؤدي كل شاهد بعد ذلك اليمين حسب الصيغة التالية:
» أقسم بالله العظيم على أن أشهد بدون حقد ولا خوف، وأن أقول الحق كل الحق وأن لا أشهد إلا بالحق«.
تسمع شهادة القاصرين الذين لم يبلغوا الثامنة عشرة من عمرهم وكذا الأشخاص المحكوم عليهم بعقوبة جنائية دون يمين.
يعفى أصول المتهم وفروعه وزوجه من أداء اليمين.
لا يعد سببا للبطلان أداء اليمين من شخص معفى منها أو فاقد الأهلية أو محروم من أداء الشهادة.
2– “محضر رجال الدرك حجة ما تضمنه من تصريحات يوثق بحقيقة صدورها عن أصحابها لا بفحواها”=
= كما جاء في القرار عدد 26 / 14 بتاريخ 1970/11/12 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى (سابقا) محكمة النقض (حاليا) عدد 19 السنة 3 بتاريخ نونبر 1970، ص 76.
[30]– دورية رئيس النيابة العامة، رقم 41 س / ر ن ع، حول تدبير المساطر المرجعية، بتاريخ 16 أكتوبر 2018.