في الواجهةمقالات قانونية

حقوق الموثق والتزاماته وتحديد نطاق مسؤوليته  في التشريع المغربي – الباحث محمد القسطيط

 

محمد القسطيط

خريج ماستر الدراسات العقارية ـ بطنجة ـ

تحت عنوان:

حقوق الموثق والتزاماته وتحديد نطاق مسؤوليته

 في التشريع المغربي

مقدمة:

يعتبر القانون المنظم لمهنة التوثيق الصادر بتاريخ 24 نوفمبر 2011، تحت رقم 09.32 قفزة نوعية نحو اعتماد مقاربة شمولية لإصلاح منظومة العدالة، إذ لا يمكن الحديث عن أمن توثيقي دون تحديث وتطوير الجهات المتدخلة في التوثيق، وهذا راجع بالأساس للدور المحوري الذي تضطلع به عملية إبرام العقود في استقرار المعاملات العقارية.

وعليه فإن مهنة التوثيق رافعة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذلك من خلال الضمانات القانونية التي توفرها في مجال إثبات التصرفات القانونية، فالاهتمام بمهنة التوثيق راجع لحاجيات المجتمع لكونها أداة لتحقيق العدالة وتكريس الإنصاف وضمان للاستقرار والأمن الاجتماعيين.[1]

وتحظى مهنة التوثيق بأهمية خاصة في مختلف الدول، إذ تعتبر من بين المرافق المهمة المساعدة بشكل أساسي في تنظيم المعاملات المدنية والتجارية، كما تعد من المرافق المساهمة في الحفاظ على استقرار المعاملات، نظرا لما لها من دور في ضمان الثقة بين مختلف الفاعلين، وذلك بإضفاء الصبغة الرسمية على العقود والمحررات بهدف تكريس استقرار المعاملات كما ذكرنا، وتحقيق الأمن التعاقدي بين الأطراف.[2]

ولم يعرف القانون 32.09 المنظم لمهنة التوثيق العصري الموثق، بل اقتصرت المادة الأولى منه على تعريف التوثيق بأنه:

“مهنة حرة تمارس وفق الشروط وحسب الاختصاصات المقررة في هذا القانون وفي النصوص الخاصة”.[3]

وتعتبر مهنة التوثيق من المهن القانونية المساعدة للقضاء والتي تعتبر بأهمية بمكان حيث لعبت دورا فعالا في المساعدة على تحقيق العدالة القانونية والاجتماعية، وهو ما يخفض على المحاكم مجموعة من النزاعات ويساعد القضاء على إصدار أحكام تتميز بالجودة لتحقيق النجاعة القضائية.[4]

وباعتبار الموثق الشخص المسؤول عن إضفاء الصبغة الرسمية على العقد، فإن مسؤوليته متنوعة، قد تكون مسؤولية تقصيرية أو عقدية خلال الإخلال بالعقد الذي يجمع بين المتعاقد والموثق، كما قد تترتب مسؤولية تأديبية وفي بعض الأحيان قد تكون مسؤولية جنائية.

فهل استطاع المشرع المغربي من خلال قانون 32.09 حماية حقوق الموثق وتقرير واجباته؟ وإلى أي حد توفق في تأطير الرقابة الممارسة على الموثق؟

وسنحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء على مجموعة من المقتضيات المرتبطة أساسا بالموثق، لاسيما المتعلقة بحقوقه وواجباته كما هي منصوص عليها في قانون 32.09  القانون المنظم لمهنة التوثيق، والرقابة على أعماله.

وسنعتمد في مناقشة الموضوع على مطلبين استنادا إلى التقسيم الثنائي:

المطلب الأول: حقوق الموثق العصري والتزاماته

المطلب الثاني: الرقابة على عمل الموثق العصري

المطلب الأول: حقوق الموثق العصري وواجباته

بالرجوع إلى المادة 15 من قانون التوثيق فإن للموثق الحق في أتعاب يحدد مبلغها وطريقة استيفائها، كما أعطت المادة 17 الحق للموثق في التغيب إذا عاق عائق، إلى غيرها من الحقوق.

أما أهم الالتزامات التي يتحملها الموثق العصري هي الحفاظ على أموال الغير المودعة لديه، كما يلتزم بعدم تسليم الثمن للبائع إلا بعد إتمام البيع، وغيرها من الالتزامات.

وللإشارة فإن الموثق يبقى مسؤولا شخصيا وماليا عن الأضرار المرتكبة من طرفه أو من أشخاص مسؤول عنهم.[5]

الفقرة الأولى: حقوق الموثق العصري

يتمتع الموثق بمجموعة من الحقوق التي تمكنه من أداء واجبات وظيفته المتمثلة في الإشهاد على رسوم الأطراف وضبط تصرفاتهم وعقودهم، ومختلف تعاملاتهم لإضفاء عليها طابع الرسمية، وهي حقوق ذكرها المشرع في القانون المنظم للمهنة رقم 32.09، وهذه الحقوق هي كالتالي:

أولا: الحق في استخلاص الأتعاب

لقد جاء في الفصل 19 من قانون 32.09 المتعلق بمهنة التوثيق:

“للموثق النائب الحق في الاستفادة من ثلث الأتعاب الواجبة عن العقود والمحررات التي أنجزها أو تلقاها، ما لم يقع الاتفاق على غير ذلك”.[6]

وحق الأتعاب يحدد مبلغها وطريقة استيفائها بنص تنظيمي، ويعتبر الأجر والأتعاب مبدأ ومن أهم الحقوق التي يتمتع بها الموثق، كما أن الغالب في الأتعاب أن تكون من أجل بذل عناية لا تحقيق غاية، وتستعمل في العرف المهني لعمل غير محدد ولا معلوم في بدايته ولا نهايته، وهذا ليس من مهام الموثق الذي يتعين عليه قانونا وعملا تحقيق غاية محددة ومقصودة، وعليه إنجاز كل الهدف المنشود من إشهاده وتوثيقه، وعمله ليس مجرد بذل عناية، وإلا كان مخلا بواجباته المهنية ومقصرا ومسؤولا عن ذلك، بينما الغالب في الأجرة تكون محددة بمقتضى قانون أو نص تنظيمي، أو بمقتضى العرف والعادة، ونادرا ما يترك ذلك لاتفاق الأطراف.[7]

ثانيا: الحق في التغيب أو التوقف أو الانقطاع عن العمل والانتقال

من بين حقوق الموثق العصري الحق في التغيب أو التوقف عن العمل أو الانتقال، بالنسبة للحق في التغيب نصت المادة 17 من قانون 32.09 على أنه يمكن للموثق التغيب عن مكتبه لمدة لا تتجاز خمسة عشر يوما شريطة إشعار المجلس الجهوي للموثق بذلك، وإذا كان الموثق مضطرا للتغيب أكثر من خمسة عشر يوما، عين الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بناء على ملتمسه موثقا آخر للنيابة عنه بصفة مؤقتة.[8]

ونصت المادة 18 من قانون 23.09 على أن الموثق إذا انتابه عارض كأن يسقط فجأة ويكتشف أنه أصيب بمرض نفسي أو يمرض خطير يحتاج إلى وقت طويل من أجل العلاج، أو لسبب طارئ لم يكن في الحسبان، أو بمرض عام الم به هو شخصيا أو واحدا من أولاده أو زوجه، يتعذر عليه مع وجوده ممارسة مهنته بطريقة عادية، جاز له أن يلتمس من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف المعين بدائرة نفوذها، اعتباره في حالة انقطاع مؤقت عن ممارسة المهنة.[9]

ونصت المادة 21 من قانون 32.09 بأن الموثق العصري له الحق في الانتقال وتغيير مقر عمله.[10]

 

الفقرة الثانية: التزامات الموثق العصري

بخصوص مسألة تكييف الالتزامات المهنية للموثق لقيت اهتماما من طرف فقهاء ورجال القانون وكذا الباحثين، وذلك راجع إلى أهميتها، فالموثق تقع على عاتقه مجموعة من الالتزامات.

وبالتالي فالموثق أنيطت به العديد من الالتزامات وجملة من الإجراءات  التي تتداخل فيما بينها، وعلى طول المراحل التي يمر منها العقد التوثيقي بدءا من تلقيه لها  وأثناء تحريرها وصولا إلى ما بعدها تحقيقا لأمن تعاقدي يرتبط أساسا بجودة الخدمات التوثيقية والرسمية التي يضفيها على تعاملات المتعاقدين، والتي ما يعتبر منها التزاما منه بوسيلة ومنها ما ينحصر في التزامه بتحقيق نتيجة الشيء الذي يطرح مسالة وصعوبة تكييفها.[11]

وقبل مباشرة الموثق  لمهامه يجب عليه القيام بمجموعة من الأمور التي تؤسس له أرضية الانطلاق في عمله، وتتجلى في:

أولا: مسك قرار التسمية بعد النجاح في الامتحان المهني إذ الناجح الذي لم يعين لعمل التوثيق بقرار رئيس الحكومة لا يعتبر موثقة بل يعد في حكم المتمرن.

ثانيا: وضع الشكل والتوقيع وكذا نسخة مشهود بصحتها من محضر أداء اليمين لدى كتابة ضبط المحكمة الابتدائية التابع لها مكتب الموثق، واتخاذ دمغة تحمل الاسم والصفة وفق نموذج موحد يوافق عليه وزير العدل طبقا للمادة 14 من قانون التوثيق.

ثالثا: إبرام عقد التأمين المخصص لضمان أداء المبالغ المحكوم بها لفائدة الأطراف المتضررة من إعسار الموثق أو نائبه، وهذا ما أشار له المشرع في المادة 26 من قانون التوثيق.[12]

رابعا: التزام الموثق بالمحافظة على السر المهني

إن الموثق وبحكم اطلاعهم على قضايا الناس وأحوالهم ملزمون بعدم إفشاء الأسرار التي قد يتوصلون بها، كما يعتبر الالتزام بكتمان السر المهني في الحقيقة واجبا تفرضه طبيعة مهنة التوثيق نفسها.[13]

فالموثق يقوم بدور مهم في حفظ حقوق المتعاقدين وضمان استقرار معاملاتهم، بفعل الصبغة الرسمية التي يضفيها على تعاقداتهم، وتحقيق أمن توثيقي وتعزيز ثقة المتعاقدين في العقد الرسمي.

والتزام الموثق بصفته ناصحا للأطراف ملزم بالحفاظ على سرية ما يبوحون له به من معلومات أثناء التعاقد، ويجد هذا الالتزام الملقى على عاتق الموثق سنده في المادة 24 من قانون 32.09.[14]

والتزام الموثق في هذه الحالة هو التزام بتحقيق نتيجة، والتي تتجلى في كتمان السر المهني، وإلا تحمل عقوبة إفشاء السر المهني التي نص عليها الفصل 446 من مجموعة القانون الجنائي.[15]

ويتضح من خلال ما سبق أن واجب المحافظة على السر المهني من الأسس والأعمدة التي تقوم عليها مهنة التوثيق، فالموثق ملزم بكتمان السر المهني مع مراعاة الاستثناءات التي ترد عليه.

خامسا: التزام الموثق بنصح الأطراف

إن الملاحظ بخصوص التزام الموثق بنصح الأطراف إنما هو التزام ببذل عناية ولا يهدف إلى تحقيق غاية معينة، بل هو التزام ببذل الجهد للوصول إلى غرض سواء تحقق هذا الغرض أم لم يتحقق، فمتى بذل الموثق العناية المطلوبة منه يكون قد نفذ التزامه، ويتجلى هذا الالتزام في قيام الموثق أثناء عملية التعاقد باطلاع الأطراف على مضمون العقد وآثاره وأن يبين لهم حقوقهم وواجباتهم.[16]

سادسا: التزام الموثق بالمحافظة على الأصول

يعتبر الالتزام بحفظ أصول المحررات الرسمية من أهم الالتزامات الملقاة على عاتق الموثق استنادا إلى المادة 50 من قانون 32.09 الذي جاء فيه:

“يجب على الموثق أن يحفظ تحت مسؤوليته أصول العقود والوثائق الملحقة بها، وصور الوثائق التي تثبت هوية الأطراف.”[17]

فحفظ أصول المحررات من طرف الموثق يعد من أهم الالتزامات الملقاة على عاتق الموثق، وهذا المقتضى القانوني يساهم في زيادة الاطمئنان لدى المتعاقدين، حيث أوجبت المادة 50 أعلاه على الموثق أن يحفظ تحت مسؤوليته أصول العقود والوثائق الملحقة بها، وصور الوثائق التي تثبت هو الأطراف، وبالنسبة لغير فإن اطلاعهم على العقد وملحقاته وتسلم نسخ نظائر منها لا يتم إلا بمقتضى مقرر قضائي وهو ما أشار إليه المشرع المغربي في المادة 55 من نفس القانون.[18]

المطلب الثاني: الرقابة على عمل الموثق العصري

يتولى الموثق في تحريره للعقود وإضفاء عليه الصفة الرسمية، لمجموعة من الشروط القانونية والشكليات المتطلبة لصحة العقود التوثيقية ويخضع للرقابة، حيث تتخذ هذه الرقابة على العمل التوثيقي عدة أشكال.

وعليه فإن الرقابة إما رقابة ذاتية تضطلع بها الهيئات الوطنية والدولية المنظمة للمهنة، وإما رقابة خارجية قضائية يمارسها الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف التي يوجد مكتب الموثق في دائرة نفوذها، أو رقابة إدارية تباشرها أجهزة الدولة على عمل الموثق.[19]

الفقرة الأولى: الرقابة الذاتية والقضائية والإدارية

إن الموثق يساهم في تحقيق السلم الاجتماعي واستقرار المعاملات بين الأفراد، فهو يضطلع بمسؤولية ومهمة خطيرة في تحريره للعقود بحفظ حقوقه وحقوق زبنائه المتعاقدين وإشاعته أمنا تعاقديا لتعاملاتهم وذلك بفعل الرسمية التي يضفيها على مختلف العقود المعروضة على مكتبه، لذلك كانت وضرورة ممارسة الرقابة على شخص الموثق وعقوده.[20]

 

أولا: الرقابة الذاتية

يخضع الموثق بمناسبة مزاولة مهامه لرقابة داخلية والمتمثلة أساسا في إضفاء الصبغة الرسمية على العقود التي يتلقاها من الأطراف لرقابة الهيئات المنظمة للقطاع، وذلك على المستوى الجهوي والوطني، وذلك بهدف الحفاظ على مبادئ وتقاليد المهنة، وتحصينها حتى تؤدي الدور المنوط بها على أحسن وجه.

فعلى الصعيد الداخلي، تسهر الأجهزة الوطنية والمتمثلة في كل من الغرفة الوطنية للموثقين والغرف الجهوية على تنظيم المهنة، وتمثيلها أمام الأغيار والمؤسسات كما أنها تتمتع بنفوذ أدبي في حالة إخلال الموثق بواجباته التي تمس شرف المهنة وأخلاقياتها.[21]

ثانيا: الرقابة القضائية على أعمال الموثق

نعني هنا بالرقابة القضائية كشكل من أشكال الرقابة المفروضة على الموثق، تلك الرقابة التي تمارسها الهيئات القضائية والمتمثلة في الوكيل العام للملك بالنسبة للموثق العصري.

وتعتبر الرقابة القضائية غاية في الأهمية، يخضع لها الموثق أثناء مزاولة عمله، حتى وإن كانت هذه الرقابة تختلف عن الرقابة التي تمارس على العدول الموثقين، وكان بالأحرى أن تكون أكثر صرامة وتشديدا، ما دام التلقي فيه يتم انفراديا والإشهاد كذلك.

وتمارس هذه الرقابة من طرف الوكيل العام للملك أو من ينوب عنه بمرافقة مفتش من وزارة المالية وأيضا ممثل المجلس الجهوي حيث يقومون بتفتيش الموثقين، طبقا لما جاء في المادة 69 من قانون 32.09 المتعلق بالتوثيق.[22]

كما أن للوكيل العام للملك أن يقوم بهذه المراقبة ولو بكيفية مفاجئة، على أن هذا التفتيش يشمل مجموع نشاط الموثق أو موضوع معين، حسب ما وضحت المادتين 69 و70 من نفس القانون، وله أن يختار من يساعده في ذلك، فينجز تقريرا في الموضوع ويشير هذا النائب إلى وجود مخالفات خطيرة أو وضعيات من شأنها المس بأمن المحفوظات والودائع، فيتم إشعار الوكيل العام للملك ما لم يكن هو من قام بالعملية (رئيس المجلس الجهوي وعند الاقتضاء رئيس المجلس الوطني) وذلك حسب المادة 71.[23]

ثالثا: الرقابة الإدارية على أعمال التوثيق

تشكل الرقابة الإدارية وسيلة فعالة لمراقبة محرري العقود الرسمية، إذ يخضعون في تدبير شؤونهم المهنية لإدارات عمومية تختلف باختلاف صفاتهم ومهامهم.

ومن هنا فإن الهيئات المهنية تخضع في مجملها لرقابة إدارية من طرف الإدارة الوصية، سواء من حيث الانخراط فيها، تنظيمها وأعمالها.

ويأتي عل رأس هذه الإدارات وزارة العدل، التي تمثل الإدارة الوصية على التوثيق، وكذا وزارة المالية، التي تضطلع بدور الجهاز المكلف بإعداد السياسة المالية والنقدية للدولة وتتبع تنفيذها ومراقبة قبض الموارد النقدية للدولة.

ويجب التأكيد على أن وزارة المالية لا تراقب إلا الأمور المالية كمدى التزام الموثق بأداء الضرائب المترتبة عن العقود، ومدى إلزاميته بتسجيل العقود التي يبرمها في سجلاته.[24]

الفقرة الثانية: مسؤولية الموثق العصري

إن المقصود بالمسؤولية هو تحمل الشخص لنتائج وعواقب التقصير الصادر عنه أو الصادر عن الشخص لذي يتولى رقابته، والمسؤولية القانونية تتخذ صورا متعددة.[25]

ويمكن اعتبار المسؤولية القانونية للموثق الوسيلة الفعالة الموضوعة رهن إشارة القانون والقضاء، فهي بذلك تكون الحائل دون تجاوز الحدود المرسومة بنص القانون أو العقد ابتداء، والآلية الكفيلة بجعل التوثيق يؤدي الغاية المرجوة منه انتهاء.[26]

وتعد المسؤولية المدنية للموثق من أكثر المواضيع التي أولاها الباحثون والمؤلفون اهتماماتهم وذلك على أساس قاعدة كل شخص مسؤول عن أعماله الشخصية، وهو ملتزم بعدم الإضرار بالغير وإذا ارتكب فعل سبب ضررا للغير فيجب تعويضه وإصلاح الضرر وأساس ذلك مقتضيات قانون الالتزامات والعقود.[27]

ويميز الفقه باعتبار مصدر الالتزام بالتعويض بين نوعين من المسؤولية المدنية، المسؤولية العقدية التي تترتب عند إخلال المتعاقد بالتزاماته، والمسؤولية التقصيرية التي تنشأ عند الإخلال بالتزام ققانوني، وهو ما يطرح مسألة الطبيعة القانونية لمسؤولية الموثق.

أولا: المسؤولية العقدية والتقصيرية للموثق

ذهب جانب من الفقه في معرض تمييزه بين المسؤولية العقدية والمسؤولية التقصيرية، نحو الميل إلى اعتبار المسؤولية المدنية للمهنيين بصفة عامة، والموثق بصفة خاصة ذات طبيعة عقدية، وبالتالي فهم يقيمون مسؤولية الموثق المدنية على أساس مخالفته التزاما فرضه العقد الرابط بينه وبين زبونه.[28]

وهو الموقف الذي تبنته المحكمة الابتدائية بمراكش، سنة 1992 حينما اعتبرت أن المشرع المغربي قد كيف العلاقة الرابطة بين من يمارس مهنة حرة وزبونه على أساس أنها علاقة تعاقدية.[29]

وتبعا لذلك فإن طبيعة الالتزامات التي تربط الموثق وزبونه تبين أنهما مرتبطين بعقد، فالموثق يكوون التزامه في الغالب التزام بتحقيق نتيجة والمتمثلة في صحة المحرر الرسمي من الناحية الشكلية، وإن كان الموثق ملزم ببذل العناية بخصوص إرشاد زبنائه  ونصحهم فيما بخص البيانات الموضوعية. بل إنه ملزم بإبراز مزايا المحررات الرسمية للزبناء قبل أن يقبل على تحرير المحررات العرفية لهم.

وفي هذا الصدد قضت المحكمة الابتدائية بمراكش بتاريخ 21 ـ 05 ـ 1992 على أنه يمكن القول بأن المشرع المغربي كيف العلاقة بين من يمارس مهنة حرة

والزبون على أنها علاقة تعاقدية.[30]

ومن هنا تفردت وتميزت مسؤولية الموثق عن غيرها من المسؤوليات المدنية الأخرى للمهنيين، فمسؤوليته المهنية ذات طبيعة خاصة، ومرد هذه الخصوصية والذاتية هو ما تحدثه القواعد الأساسية لهذه المهنة من انعكاس وأثر على طبيعة هذه المسؤولية، فالتمييز بين أحكام المسؤولية مسألة مهمة لا يمكن إغفالها.

وللإشارة فإن الموثق تربطه بالزبناء التزامات عقدية، بحيث تتم مسائلته طبقا للفصل 230 من ق.ل.ع، والذي ينص على أن الالتزامات التعاقدية المنشاة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون.[31]

ثانيا: المسؤولية الجنائية للموثق

إن المسؤولية الجنائية هي الالتزام بتحمل النتائج القانونية المترتبة عن ارتكاب فعل يجرمه القانون الجنائي ويعاقب عليه.

ولمساءلة الموثق جنائيا يجب أن يكون قد ارتكب فعلا أو امتناعا مخالفا للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه، ويلزم أن تتحقق أركان الجريمة وشروطها، ولهذا فأهم ما يميز قيام المسؤولية عموما هو توافر أركانها من ركن قانوني ومادي ومعنوي.[32]

وإذا كان مناط المسؤولية المدنية هو التعويض، فإن غاية المسؤولية الجنائية إضافة إلى معاقبة المسؤول، حماية المجتمع، لذلك نجد الموثق كغيره من أصحاب الوظائف العامة أو المهن الحرة خاضعا للمسؤولية الجنائية، نظرا لما في ذلك من ضمانات لحقوق المتعاملين معه من جهة، وتحقيق الأمن التعاقدي من جهة أخرى.[33]

فالموثق العصري بحكم مهنته قد يكون عرضة للمساءلة الجنائية الناشئة عن فعله الشخصي نتيجة إتيانه لأفعال إجرامية سواء أثناء ممارسة مهامه التوثيقية أو خارج مهنته، وبالتالي يعاب بصفته فردا في المجتمع أو بصفته موثقا يمارس مهنة حرة لحسابه الخاص.[34]

وحتى تتحقق المسؤولية الجنائية للموثق لابد من حدوث واقعة توجبها، وشروط الواقعة الموجبة للمسؤولية الجنائية أي أن يكون الفعل المرتكب يدخل في دائرة التجريم، وكذا حتى تتحقق المسؤولية لابد من وجود جاني ويلزم فيه شرطان أن يكون أهلا لتحمل المسؤولية الجنائية، وأن يكون هو مرتكب الجريمة عملا بالفصل 132 من القانون الجنائي.[35]

وإذا كانت المسؤولية الجنائية عامة تقوم على مجموعة من الأسس، فإن مسؤولية الموثق خاصة تقوم على هذه الأسس الثلاث، فيجب أن تتوفر شروط معينة تجعل الموثق محلا للمساءلة، وتتمثل في أن يكون مميزا قادرا على الفعل أو الامتناع الجرمي الذي اقترفه من جهة، وأن يتوفر على حرية اختيار كاملة  عند تنفيذ الفعل، إلا أنه قد يطال عارض أهليته أو عيب إرادته تؤدي إلى انتقاص أو انتفاء مسؤوليته.[36]

خاتمة:

ونخلص إلى أن مؤسسة التوثيق ترجع إلى عصور قديمة، غير أن تنظيمها وتقنينها يجد أصله في قانون 25 فانتور الفرنسي لسنة 1803 والذي قام المستعمر الفرنسي بإدخاله للمنظومة المغربية من خلال قانون 4 ماي 1925.

وبسبب النقص الكبير الذي كان يشوب هذا القانون وكذا تعارضه مع المبادئ والهوية المغربية دفع المشرع إلى إعداد قانون 32.09 الصادر في 22 نوفمبر 2011 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق.

ويبقى الغرض من وضع التزامات على عاتق الموثق هو تفادي النزاعات وتحصين حقوق المتعاقدين والحفاظ عليها من الضياع، وتكريس الأمن التعاقدي.

وبالنسبة للصعوبة في تكييف الالتزامات المهنية للموثق تجاه العقد والأطراف المتعاقدة نتيجة تداخل التزاماته هو ما يظهر أهمية الموضوع النظرية والعملية، إذ الأهمية الأولى تتجلى في معرفة الأطراف لنوع التزاماته مما سيمكنهم من اتخاذ احتياطاتهم اللازمة عند وضع معاملاتهم لديه، الشيء الذي سيمكن من معرفة مصدر التزاماته في كونها تنشا عن التعاقد المبرم بينه وبين زبنائه، أو ترجع إلى التزاماته القانونية المهنية.

والموثق يتحمل مهمة جسيمة ومسؤولية عظمى مما دفع بالمشرع إلى العمل على حمايته وحفظ حقوقه حتى يتمكن من أداء واجباته والتزاماته من خلال مجموعة من المقتضيات القانونية أوردها المشرع المغربي ضمن القانون المنظم لمهنة التوثيق.

والمسؤولية الملقاة على عاتق الموثق إلى جانب خطورة مهامه في إضفاء الصبغة الرسمية على تعاقدات الأفراد والخدمة التي يقدمها لزبنائه المتعاقدين، وأهمية عقوده في توفير أمن توثيقي تعاقدي لحقوق زبنائه كانت دافعا لإخضاع أعماله للرقابة بمختلف أنواعها.

وفي الختام فإن مهنة التوثيق بفعل التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تحدث عرفها المغرب جعلت من الموثق يحظى بمكانة هامة في دواليب الاقتصاد الوطني.

[1]  ـ عبد اللطيف الكلعي، دور التشريعات العقارية الحديثة في تعزيز الأمن العقاري ـ قوانين التوثيق ونظام التحفيظ العقاري نموذجا ـ أطروحة الدكتوراه، السنة الجامعية: 2016 ـ 2017. ص: 45 ـ 46.

[2]  ـ عبد اللطيف الكلعي، م.س، ص: 16 ـ 17.

[3]  ـ راجع في ذلك: المادة الأولى من قانون 32.09 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق.

[4]  ـ أنظر: وليد تويلي، الطبيعة القانونية للموثق ولوظيفته، مقال منشور بمجلة القانون والأعمال الدولية.

[5]  ـ أنظر: جمال الخمار، القواعد الأساسية لمهنة التوثيق، مقال منشور بمجلة مغرب القانون.

[6]  ـ راجع: المادة 19 من قانون رقم 32.09 المتعلق بمهنة التوثيق.

[7]  ـ أحمد جباري، محاضرات في التةثيق والعقود، السنة الجامعية: 1018 ـ 2019، ص:  61.

[8]  ـ نفس م.س.

[9]  ـ راجع: المادة 18 من قانون 32.09.

[10]  ـ راجع: المادة 21 من قانون 32.09.

[11]  ـ راجع في ذلك: عبد الخالق الناجي، تكييف التزامات الموثق على ضوء القانون 32.09 ودورها في حماية حقوق الزبناء المتعاقدين، مقال منشور بمجلة القانون والأعمال.

[12]  ـ راجع في ذلك: حميشي  احميدة، نفس م.س.

[13]  ـ أحمد جباري، محاضرات في التوثيق والعقود، السنة الجامعية: 2018 ـ 2019، ص: 27.

[14]  ـ أنظر: المادة 24 من قانون 32.09.

[15]  ـ راجع: الفصل 446 من ق.ج.

[16]  ـ عبد الخالق الناجي، تكييف التزامات الموثق على ضوء القانون 32.09 ودرها في حماية حقوق الزبناء المتعاقدين، مقال منشور بمجلة القانون والأعمال الدولية.

[17]  ـ راجع المادة 50 من قانون 32.09 المتعلق بمهنة التوثيق.

[18]  ـ راجع المادة 55 من قانون 32.09 المتعلق بمهنة التوثيق.

[19]  ـ الرقابة على عقود الموثق وضرورة الأمن التوثيقي التعاقدي، مقال منشور بمجلة القانون والأعمال الدولية.

[20]  ـ عبد الخالق الناجي، الرقابة على عقود الموثق وضرورة الأمن التوثيقي التعاقدي، مقال منشور بمجلة القانون والأعمال الدولية.

[21]  ـ راجع في ذلك: عبد اللطيف الكلعي، دور التشريعات العقارية الحديثة في تعزيز الأمن العقاري ـ قوانين التوثيق ونظام التحفيظ العقاري نموذجا ـ أطروحة الدكتوراه، السنة الجامعية: 2016 ـ 2017. ص: 108 ـ 109.

[22]  ـ أنظر: نفس م.س، ص: 122 ـ 123.

[23]  ـ حسناء زيو، مراقبة عمل الموثق العصري ومسؤوليته في ضوء القانون المغربي، مقال منشور بمجلة المعلومة القانونية.

[24]  ـ عبد اللطيف الكلعي، م.س، ص:  112 ـ 113.

[25]  ـ حسناء زيو، م.س.

[26]  ـ جابر التامري: مؤسسة التوثيق العصري في القانون المغربي، مقال منشور ب مغرب القانون.

[27]  ـ الفصل 77 من ق.ل.ع.

[28]  ـ جابر التامري،  م.س.

[29]  ـ راجع في ذلك: جابر التامري، م.س.

[30]  ـ مسؤولية الموثق في التشريع المغربي، مقال منشور بموقع: محاماة نيت.

[31]  ـ حسناء زيو، م.س.

[32]  ـ أنظر، عدنان السباعي، المسؤولية الجنائية للموثق على ضوء القانون الجنائي المغربي والقانون المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق رقم 32.09، مقال منشور ب مجلة القانون والأعمال الدولية.

[33]  ـ جابر التامري، م.س.

[34]  ـ المهدي بوي، المسؤولية لجنائية للموثق دراسة على ضوء القانون 32.09. مقال منشور بمجلة القانون والأعمال الدولية.

[35]  ـ المهدي بوي، نفس م.س.

[36]  ـ المسؤولية الجنائية للموثق في القانون المغربي، مقال منشور بموقع: القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى