حماية الغير في ضوء قانون المسطرة المدنية المغربي – سلسلة الأبحاث الجامعية و الأكاديمية العدد 27 – دجنبر 2019
تعتبر القواعد الإجرائية بمثابة الجسر الأساسي لإعمال الحماية القانونية المضمنة في قوانين الموضوع، وغالبا ما يترتب على عدم احترامها ضياع الحقوق، أو على الأقل التأخر في اقتضائها، فالقواعد الإجرائية تشكل إذن قطب الرحى لوصول الأفراد إلى حقوقهم وحماية مراكزهم القانونية[1].
ولما كانت الخصومة[2] كما هو معلوم قد لا تقتصر على أطرافها، بل تتعداها إلى طائفة الأغيار مما يجعل المركز القانوني لهاته الطائفة عرضت للضرر والمساس سواء قبل صدور الحكم أو بعده، فإن المشرع المغربي وعلى غرار التشريعات المقارنة، أوجد مجموعة من الآليات لحماية المراكز القانونية للاغيار في قانون المسطرة المدنية[3].
فحماية الغير إذن، ضرورة تقتضيها مبادئ العدالة، لأنه لم يكن طرفا في الدعوى التي صدر فيها الحكم. وبالتالي، فإن حمايته من آثار الحكم، يأتي انسجاما مع قواعد العدالة، التي تقتضي بعدم اعتبار الحكم حجة إلا على أطرافه، ومن ثم تمكينه من الدفاع عن حقوقه التي يكفلها له القانون.
ويعتبر مفهوم الغير من المصطلحات التي تستعمل في التشريعات دون أن يتدخل المشرع لتحديد معناها[4]، مما ساهم في جمود مفهوم الغير ولمدة ليست بالقصيرة.
وتعود الجذور التاريخية لمصطلح الغير إلى عدة آلاف من السنين[5]، لهذا فهو من أقدم المصطلحات القانونية التي نشأت في أحضان القانون المدني ثم انتقلت إلى باقي فروع القانون. وقد استعمل القانون الروماني مصطلح الغير في عبارة” إن العقود وأحكام القضاء لا تتعدى لغير أطرافها بنفع ولا ضرر أو أن حكم العقود والقضاء الاقتصار“[6].
وللافت للانتباه أن اصطلاح الغير لم يستقر في البداية على مصطلح واحد بداية من القانون الروماني، حيث تم التعبير عنه بلفظ ALLIS وهو الشخص الذي لا يعنيه الأمر المتفق عليه بين شخصين ولا يضره، ثم تطور هذا المصطلح نسبيا، حيث أصبح يعني الشخص الثالث ( LA tierce personne) وقد تم ذلك عن طريق الفقيه الفرنسي Domat ثم جاء بعده الأستاذ (Poitier )الذي أعطى لهذا المصطلح معنى آخر أقل تعقيدا وأقرب إلى الدقة باستعمال مصطلح جديد وهو (Le tiers)[7] .
ورغم إجماع الفقه الفرنسي[8] على استحالة إعطاء تعريف واضح ودقيق لمصطلح الغير، إلا أن ذلك لم يمنع بعض الفقه[9] من القيام ببعض المحاولات لتعريفه. فيقول الأستاذ عبد الرزاق أحمد السنهوري عند تعريفه للغير بأن: ” تعريف الغير وتحديده يختلف تبعا لأوضاعه المتخلفة، فهناك الغير في العقود – في أثر العقد أو سريانه وفي التسجيل- وهناك الغير في حجية الورقة العرفية والغير في الصورية والغير في الأحكام، وهو في كل الأوضاع يتحدد على نحو يتلاءم مع هذا الوضع. والفكرة المشتركة في كل هذه الأوضاع، أن أثرا قانونيا معينا قد يمتد لشخص تقضي المبادئ العامة للقانون بحمايته من أن يمتد إليه فيعتبر من الغير بالنسبة إلى هذا الأثر”[10].
ومرد هذا الاختلاف في تعريف الغير بالدرجة الأولى إلى أن كل ينظر للغير من زاويته الخاصة تبعا للموضوع المتعلق به. فالغير في نطاق الأحكام يختلف عن الغير في الاتفاق وكل منهما يختلف عن الغير في نطاق الحقوق وعن الغير في حوالة الدين، وكذا الغير في مجال الإجراءات المسطرية وكذلك الغير في مجال التنفيذ، فكل واحد من هؤلاء له مدلوله الخاص، مما يجعلنا لا نتحدث عن المركز القانوني للغير وإنما عن المراكز القانونية للغير، فتبعا لهذا الاختلاف أصبحنا أمام عدة مراكز قانونية للغير. غير أن، دراستنا ستنصب على الغير في المجال الإجرائي أي قانون المسطرة المدنية.
فإذا كانت الدعوى عادة تقتصر بين طرفيها أي المدعي والمدعى عليه أو أكثر وأن الحكم الصادر بشأنها يقتصر أثره على أطراف الخصومة، دون أن يكون له مساس بالغير، لأنه ليس من العدل أن تتضرر حقوق هذا الأخير نتيجة عمل لم يكن له دخل فيه، هذا ما يسمى بمبدأ نسبة قوة الشيء المقضي به[11]، فإن هذا المبدأ غير كفيل بتوفير حماية مطلقة للغير، إذ يمكن أن تمس حقوقه نتيجة حكم صادر في الدعوى لم يكون طرفا فيها.
إن الأخذ بالمفهوم الجامد لمبدأ ثبات النزاع[12] يؤدي إلى تعدد الدعاوى وإضاعة الوقت والإجراءات والنفقات، وهذه الوضعية من شأنها أن تؤدي إلى تعارض في الأحكام، كما أن حيازة الحكم لقوة الشيء المقضي به لا يجعله عنوانا للحقيقة، فتنفيذه يمكن أن يمس بحقوق الغير، فيما إذا كان هذا الأخير يملك موضوع الحكم بمقتضى سند يختلف عن السند الذي ارتكز عليه أطراف الحكم.
فإذا كان للغير[13] الذي سيلحق ضرر من تنفيذ الحكم، أن يسلوك طريق الطعن بالتعرض الغير خارج عن الخصومة، وإثارة الصعوبات سواء منها الوقتية أو الموضوعية، فإنه من الأفيد عدم الانتظار إلى ذلك الحين، لذلك يمكن له التدخل أو الإدخال فورا في الدعوى للدفاع عن حقوقه مباشرة قبل صدور حكم في النزاع.
أهمية الموضوع
يكتسي البحث في موضوع حماية الغير في قانون المسطرة المدنية المغربي أهمية بالغة وذلك من خلال مقاربة الأحكام المنظمة للغير من أجل حماية مركزه وحقوقه ضمن علاقاته المباشرة أو غير مباشرة بأطراف الحكم سواء قبل صدوره أو بعد ذلك.
ومن هذا المنطلق يمكن تحديد أهمية موضوع حماية الغير في قانون المسطرة المدنية المغربي من عدة نواحي:
من الناحية القانونية: يتسم موضوع حماية الغير في قانون المسطرة المدنية بتعدد وتشعب الإشكالات التي يطرحها، والتي يقابلها شبه سكوت المشرع عن معالجتها سواء في القانون الحالي أو مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية، وسكوت المشرع هذا وإحجامه عن إيجاد الحلول المناسبة للعديد من الإشكالات التي يطرحها هذا الموضوع من شأنها أن تمس بحقوق الأغيار من جهة. وعدم تحقيق الأمن القانوني والقضائي من جهة ثانية، وذلك من خلال ترك المجال للتضارب القضائي نتيجة عدم كفاية النصوص المنظمة لحماية الغير ولغموض واقتضاب بعض الفصول المؤطرة لها في قانون المسطرة المدنية.
من الناحية الاجتماعية: تكمن الأهمية الاجتماعية لموضوع حماية الغير من خلال النتيجة النهائية التي يرمي إليها الغير، وهي حماية مركزه القانوني وحماية مصالحه وحقوقه، وبما أن الدعوى تعد وسيلة حمائية للأشخاص بما فيها الغير، فإن من الأحسن تمكين الغير بوسائل أخرى أقل تكلفة وأكثر ضمانة لحقوقه، وذلك من أجل تحقيق عدالة اجتماعية بصفة خاصة، والمساهمة في تحقيق الاستقرار الاجتماعي بصفة عامة.
من الناحية الاقتصادية: تتجلى الأهمية الاقتصادية لهذا الموضوع في أن حماية حقوق ومصالح الأطراف بما فيها الغير فيه تشجيع على الاستثمار وزرع الثقة في نفوس المستثمرين وذلك من خلال إيجاد الحلول القانونية للإشكالات التي يطرحها إدخال وتدخل الغير في الدعوى أو بعد صدور الحكم.
دواعي اختيار الموضوع
لقد تحكمت عدة عوامل في اختياري لهذا الموضوع منها: الرغبة في دراسة الجوانب المرتبطة بقواعد المسطرة المدنية التي تعتبر قطب الرحى وحجر الزاوية في توفير حماية قصوى للمتقاضين والغير سواء أثناء سير الدعوى أو بعد صدور الحكم. إلى جانب ذلك النقص التشريعي الذي يعرفه هذا الموضوع، حيث إن المشرع المغربي لم يعمد إلى تنظيمه بشكل دقيق يوازي أهميته. كما أن نذرة الدراسات القانونية التي تناولت الموضوع بشكل خاص ومستفيض، باستثناء بعض المراجع العامة لشرح قانون المسطرة المدنية والتي تناولته بشكل مقتضب.
لذلك ارتأيت الغوص في دراسة موضوع حماية الغير في قانون المسطرة المدنية المغربي، عبر تسليط الضوء على مختلف الآليات التي جاء بها المشرع المغربي من أجل تكريس هذه الحماية، والمتمثلة في مسطرة الإدخال ولتدخل المخولة للغير أثناء سير الدعوى، وكذا ممارسته للتعرض الغير الخارج عن الخصومة وإثارة صعوبات التنفيذ كوسيلتين دفاعيتين، أقرهما المشرع للغير بعد صدور الحكم.
إشكال البحث
إن حماية الغير أصبحت ضرورة ملحة، وذلك لتعقد المعاملات وتشابكها بين الأفراد،وبالتالي لا يمكن التعامل مع الحكم الناتج عن الخصومة، إلا بأنه يولد في مجتمع يؤثر ويتأثر به، ومن المحتمل أن يتعدى ويمس الحكم الصادر في الدعوى نشأت بين أطرافها، أشخاصا من الغير لم يشهدوا مراحل سيرها، ومن غير المنطقي أن يلزم الغير الذي تعارضت مصالحه مع الحكم، والقول بغير ذلك يخالف مبادئ العدالة التي تكفل القانون بحمايتها. مما يقودنا إلى طرح إشكالية لهذا الموضوع، والمتمثلة في مدى قدرة القواعد القانونية الحالية المنظمة لوسائل حماية الغير من أجل ضمان فعالية كبرى لحماية حقوق الغير، ومدى انعكاس ذلك على حماية الأمن القانوني والقضائي؟
وتتفرغ عن هذه الإشكالية مجموعة من التساؤلات الفرعية منها:
- ما هو دور مسطرة التدخل الغير في الدعوى في تكريس الحماية القانونية والقضائية للغير؟
- وكيف نظم المشرع مسطرة إدخال الغير في الدعوى من أجل حماية مصالح هذا الأخير؟
- ما مدى فعالية التعرض الغير الخارج عن الخصومة من أجل حماية الغير؟
- وهل يحق للغير إثارة صعوبة التنفيذ الوقتية من أجل حماية حقوقه أمام ضبابية الفصول المنظمة لإثارة الصعوبة؟
المنهج المتبع
سأعتمد في الإجابة على الإشكالية المحورية للموضوع، مقاربة متعددة المناهج قوامها المنهج الوصفي وذلك بهدف جمع الأفكار المختلفة وإدراجها بطريقة علمية، والمنهج السردي من خلاله سرد النصوص القانونية المرتبطة بالموضوع، وكذلك المنهج المقارن من خلال استحضار موقف بعض التشريعات المقارنة في المسألة، كما سأعتمد كذلك على المنهج التحليلي، بحيث سنقوم بتحليل النصوص القانونية والأحكام القضائية. إلى جانب المنهج الاستنباطي من خلال الانتقال من فكرة عامة إلى فكرة خاصة.
خطة البحث
إيمانا منا للمنهجية القانونية الأكاديمية التي تفرض علينا تناول هذا الموضوع في شقين، لذلك ارتأينا تقسيمه إلى فصلين وذلك وفق التقسيم التالي:
الفصل الأول: آليات حماية الغير قبل صدور الحكم
الفصل الثاني: آليات حماية الغير بعد صدور الحكم