بحوث قانونيةفي الواجهةمقالات قانونية

دور القضاء المدني في تطويع العقد – الباحث : أشرف ركراكي



دور القضاء المدني في تطويع العقد

The role of civil justice in the adaptation of the Decade

الباحث : أشرف ركراكي

طالب باحث في صف الدكتوراه

جامعة محمد الخامس السويسي-الرباط

لتحميل المجلة كاملة

مجلة القانون والأعمال الدولية : الاصدار رقم 49 لشهري دجنبر 2023 / يناير 2024

ملخص:

يعد العقد المبرم من قبل الأطراف بطريقة قانونية بمثابة القانون بالنسبة لهم، على اعتبار الالتزام الناشئ عن هذا العقد قد تضمن ما تم الموافقة عليه من قبل الأطراف بمحض ارادتهم ووفق سلطان إرادتهم، وبالتالي لا يمكن تعديله إلا برضاهم، لأن الإرادة التي أنشأت الالتزام هي القادرة على تعديله، غير أن هذا المبدأ يمكن الخروج عليه بين الفينة والأخرى في مجموعة من الحالات المقررة قانونا، والتي فرضتها التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية…الخ، وبالتالي أصبح من غير الممكن تبني مبدأ سلطان الإرادة والقوة الملزمة للعقد بشكل مطلق، الأمر الذي ترتب عنه، منح سلطات أكبر للقضاء من أجل التدخل في محتوى العقد من أجل تطويعه انطلاقا من مجموعة من النظريات سواء أثناء تكوينه أو تنفيذه، وذلك تكريسا لمبدأ العدالة الأمن التعاقديين ، وحماية الطرف الضعيف وتحقيق التوازن العقدي.

Summary:

A contractlawfullyenteredinto by the parties is the law for them. the obligation arisingfromthiscontractshallbedeemed to have includedwhatwasfreelyagreedupon by the parties and in accordance with the authority of theirownwill, Thusitcanonlybemodifiedwiththeir consent, because the willthatcreated the obligation is able to modifyit, However, thisprinciplecanbeinvokedfrom time to time in a series of legallyestablished cases. imposed by economic, social and political transformations… etc, and therefore the principle of the sovereignty of will and binding force of the Decadecould not beembraced in absolutetermswhichresulted in greaterpowers for the judiciary to interferewith the content of the contract in order to adaptitfrom a range of theories, bothduringits formation and itsimplementation s rights, in order to uphold the principle of contractualsecurity justice, the protection of the vulnerable party and the achievement of nodal balance.

مقدمة:

يعتبر مبدأ سلطان الإرادة أساس نظرية العقد في القانون المدني، وقد كرسه المشرع المغربي من خلال الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود. وفي ضوء هذا المبدأ يصبح من غير الممكن -مبدئيا-تدخل أي شخص من غير المتعاقدين لتعديل محتوى العقد لأن ذلك مرتبط بإرادتهما.

ولما كان للأطراف العلاقة التعاقديةالحرية الكاملة في تحديد مضمون العقد باعتباره ثمرة ونتاج إرادتهم، فإنه من طبيعجدا أن يكونمطابقا لما كانوا ينتظرونه ومستجيبا لمصالحهم، وبالتالي فهو لا يمكن أن يكون إلا عادلا وهو ما عبر عنه “fouille” من قال عقدا قال عدلا، لأن كل متعاقد يجد فيه استجابة لمصالحه الخاصة.

وعليه فإن سلطان الإرادة كنظرية يجعل من هذه الأخيرة أساسا لكل المؤسسات القانونية، وبالدرجة الأولى العقد الذي يرى فيه المذهب الفردي غايته ويحقق به ضالته.

وإذا كانت هذه النظرية تجد تجسيدها في القانون المدني الفرنسي أب القوانين المدنية الأخرى التي تنتمي إلى المدرسة اللاتينية، فإنها ليست وليدة صدفة أو بنت اللحظة، وإنما هي نتاج تفاعل بين مجموعة من التراكمات المعرفية التي تمخضت عن فكر فلاسفة القانون الطبيعي وعلى رأسهم روسو وكانت.

ولذلك فإن اختلال التوازن الذي قد يراه المتعاقدين أو يعتقدونه تعسفا أو استغلالا وقع على أحدهما لا يمكن الأخذ به من منظور مبدأ سلطان الإرادة، ولا يمكن أن يؤدي الى تعديل التزامات أحد الأطراف على اعتبار أن الإرادة في حالة إقدامها على التعاقد تكوم قد حققت العدالة من منظور شخصي يتنافى مع أي محاولة لقياس الالتزامات المترتبة عنها أو تعديلها.

غير أن عامل التطور الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي أظهر عيوب الأخذ بإطلاقيةمبدأ سلطان الإدارة نظرا لما رافق هذا التطور من اختلال في موازين القوة للعلاقات القانونية.

ونتيجة لذلك حرصت التشريعات الحديثة على أن تسند سلطات كبيرة للقاضي بإرادة خارجية على التعاقد من أجل فرض التزامات غير إرادية في مكان الالتزامات الإرادية المتفق عليها.

وأصبح في خضم ذلك للقاضي دور إيجابي في مجال المعاملات العقدية، كما أصبح للحرية التعاقدية مفهوم أقرب إلى العدالة مما كان لها قبل ذلك، وصار القاضي هو صاحب السلطة في حماية حقوق الأفراد ومصالح المجتمع، يراقب العقد منذ نشأته إلى حين تنفيذه، ويتدخل كلما وجد ميزان العدالة مختلا ليعيد إليه اتزانه، ويزيل أية اختلال يشوبه من أجل تطويعه، فله أن يعدل الالتزامات التي تضمنها العقد سواء في مرحلة تكوينه أو تنفيذه إذا ما وجد المبرر لذلك.

وانسجاما مع الدور الكبير الذي يقوم به القضاء في سبيل تحقيق التوازن العقدي، ومواكبة مختلف صور التطور الاقتصادي والاجتماعي…الخ نجده يتدخل في كثير من الحالات المحددة قانونا وفق سلطته التقديرية، والذي يمكنه بموجبها تعديل العقد من أجل تطويعه، أو بإنقاص الالتزامات الواردة فيه أو زيادة الالتزام المقابل، كما أن له تأجيل التنفيذ تبعا لتغير الظروف المحيطة بنشأته، .

وأمام هذا الوضع كان لزاما على القضاء التدخل من أجل تطويع العقد أو تعديل بنوده وذلك من أجل توفير الحماية اللازمة للطرف الضعيف وتحقيق التوازن العقدي.

أهمية الموضوع:

تظهر أهمية الموضوع المتمثلة أساسا في سلطة القضاء في تطويع العقد المدني وذلك من أجل تحقيق العدالة التعاقدية وضمان استقرار المعاملات وتوفير الأمن التعاقدي، وقد يستند القاضي في ذلك على مجموعة من الوسائل والآليات القانونية التي تمكنه من التدخل في محتوى العقد لتطويعه سواء أثناء تكوينه من خلال نظرية عيوب الإرادة أو مؤسسة التفسير أو من خلال تنفيذه باعتماد على كل من نظرية القوة القاهرة والظروف الطارئة وكذلك مهلة الميسرة أو تعديل الشرط الاتفاقي.

الإشكالية:

إلى أي حد توفقت النظريات التي تمنح للقضاء السلطة في التدخل في محتوى العقد من أجل تطويعه وجعله ملائما لظروف الأطراف العلاقة التعاقدية من أجل تحقيق العدالة التعاقدية وتكريس الأمن التعاقدي؟

إلى أي حد استطاع القضاء من خلال تطويعه للعقد حماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية وتحقيق التوازن العقدي؟

هل الوسائل القانونية التي يستند عليها القضاء من أجل تطويع العقد تحقق العدالة التعاقدية على اعتبار أن منها ما ينهي الالتزام بصفة نهائية ومنها ما يبقي عليه؟

ولمعالجة هذه الإشكالية بالدراسة والتحليل يتطلب منا الأمر نهج التصميم التالي:

المطلب الأول: سلطة القضاء المدني في تطويع العقد أثناء تكوينه

المطلب الثاني: سلطة القضاء المدني في تطويع العقد أثناء تنفيذ

المطلب الأول: سلطة القضاء المدني في تطويع العقد أثناء تكوينه

إذا كان الأصل أن العقد ملزم في حد ذاته بحيث لا يجوز تعديله أو إلغائه إلا بواسطة الإرادة التي خلقته تكريسا لمبدأ سلطان الإرادة، إلا أن هذا المبدأ لم يستطع مسايرة التطورات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية لذلك أصبح لزاما على القاضي التدخل في محتوى العقد من أجل تطويعه سواء خلال عيوب الإرادة (الفقرة الأولى) أو من خلال مؤسسة التفسير (الفقرة الثانية) وذلك لحماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية من أجل تحقيق التوازن العقدي وتكريس العدالة والسلم الاجتماعي.

الفقرة الأولى: مساهمة القضاء المدني في تطويع العقد من خلال عيوب الإرادة

تعد عيوب الرضى مدخل أساسي يخول للقاضي التدخل في محتوى العقد من أجل تطويعه، حتى يستجيب لمتطلبات العدالة التعاقدية، وتتمثل هذه العيوب فيما يلي:

أولا: الغلط والتدليس

1-الغلط

يقصد بالغلط ذلك الوهم الذي يتصور للمتعاقد الواقع على غير حقيقته ويدفعه إلى التعاقد نتيجة لهذا التصور الخاطئ.

وقد عالج المشرع المغربي الغلط بمقتضى الفصول من 40 الى 45 من قانون الالتزامات والعقود، بحيث أنه أكد في الفصل 39 على أنه يكون قابلا للإبطال الرضا الصادر عن غلط، أو الناتج عن تدليس، أو المنتزع بإكراه.

من خلال التمعن في هذه الفصول نجد أن المشرع المغربي أراد توفير حماية أكبر لطرف الضعيف في العقد الذي كان ضحية عيب الغلظ سواء كان في الواقع، والذي يتضمن الغلظ في مادة الشيء ونوعيته، أو في الشخص المتعاقد أو صفته، أو في الوسيط، أو كان في القانون، والذي يتضمن بدوره شروط حتى يعتد به ألا وهي أن يكون هو السبب الوحيد أو الأساسي وكذلك إذا أمكن العذر عنه.

وتتجاذب الغلظ نظريتان التقليدية والحديثة، فأما المشرع المغربي فقد زاوج بين النظريتين، فمن مظاهر تأثره بالنظرية الحديثة عدم إدراجه للغلط المانع ضمن أنواع الغلط، فضلا عن اشتراطه أن يكون الغلط هو الدافع للتعاقد سواء كان غلطا في القانون أو الواقع، ومن مظاهر ميله للنظرية التقليدية أنه قسم الغلط إلى منتج وغير منتج من جهة، وغلط في القانون وغلط في الواقع من جهة أخرى، مما يعني أن الغلط حتى ولو كان جوهريا مؤثرا في نفسية المتعاقد دافعا إلى التعاقد فقد، لا يخول حق إبطال العقد كما إذا وقع على القيمة لأن مكان الاعتداد بالحيف الحاصل في القيمة هو نظرية الغبن متى توافرت شروطه.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك الارتباك الحاصل في الفصول المتعلقة بالغلط، فالمشرع ذكر الفسخ عوض الإبطال، والحال أن جزاء العقد المشوب بالغلط هو الإبطال، في حين أن الفسخ هو جزاء يترتب عن إخلال أحد المتعاقدين بالتزاماتهما. فهناك إذن فرق شاسع بين الجزاءين سواء من حيث طبيعتهما أو من حيث نطاقهما.

وعموما يبقى الغلظ من بين الوسائل التي تخول للقضاء مكنة من أجل تطويع العقد وذلك من أجل تحقيق العدالة التعاقدية.

2-التدليس

يعد التدليس عيب من عيوب الإرادة وقد نظمه المشرع المغربي بمقتضى الفصلين 52و53 من قانون الالتزامات والعقود، والملاحظ أن المشرع لميقم بتعريفه، وقد عرفه الفقه بأنه” استعمال وسائل احتيالية لتظليل المدلس عليه، وايقاعه في غلط يدفعه إلى التعاقد”.

من خلال هذه الفصول يتضح أن لتدليس ثلاث شروط هي:

-استعمال الحيال والكتمان

-نية التضليل للوصول إلى غرض غير مشروع

-أن تكون وسائل الاحتيال هي الدافعة إلى التعاقد.

لقد أثار الفقه مجموعة من التساؤلات حول ما إذا كان بالإمكان طرح نظرية التدليس جانبا والإبقاء على نظرية الغلظ فقط؟

وبصدد الإجابة على الاشكال فإن الاتجاهات الفقهية قد تباعدت فيما بينها، فهناك من يرى بأنه ليس من المعقول دمج هذين العيبين في عيب واحد مخافة تضييق دائرة تقرير الابطال.

وهناك اتجاه آخر متحرر يقول بأن الأوان قد حان للاستغناء عن نظرية التدليس بالتوسع، في نظرية الغلظ خصوصا في ظل التشريعات التي اعتنقت النظرية الحديثة للغلظ.

ويبدوا في نظرنا أن الرأي الأول هو الأقرب للصواب، على اعتبار أنه يحقق حماية أكبر للطرف الذي عيبت إرادته من جهة، ويفتح الباب على مصراعيه للقاضي لتدخل في العقد لتطويعه من جهة أخرى.

ثانيا: الإكراه والغبن

1-الإكراه

تولى المشرع تعريف الإكراه في الفصل 46 من ق.ل.ع بأنه “إجبار يباشر من غير أن يسمح به القانون يحمل بواسطته شخصا شخص آخر على أن يعمل عملا بدون رضاه”.

ويعرفه الفقه بأنه «ضغط غير مشروع يقع على إرادة الشخص فيبعث في نفسه رهبة تحمله على التعاقد”.

وحتى يعتد بالإكراه كعيب من عيوب الرضا لابد من توفر من توفر ثلاثة شروط أساسية:

الشرط الأول: استعمال وسائل للضغط: وقد تكون هذه الوسيلة مادية كالضرب والتعذيب ويعرف بالإكراه المادي، وقد تكون معنوية أو نفسية كالتهديد بإلحاق الأذى بالنفس أو المال أو الشرف، وقد تكون نفسية كما هو الحال في الإكراه الذي يوقع في نفس المتعاقد المُكرَه يجعله يحس أن خطراً جسيماً يحدق بنفسه.

الشرط الثاني: أن تبعث هذه الوسائل رهبة في نفس المتعاقد تحمله على التعاقد: ومعيار جسامة الخطر معيار شخصي محض يعتد فيه بشخص المكره وظروفه، فيجب حسب المشرع المغربي مراعاة السن والذكورة والأنوثة وحالة الأشخاص ودرجة تأثرهم، ولا يشترط أن يكون الخطر حقيقياً بل يكفي أن يكون كذلك من وجهة نظر المكره، فالتهديد بالسحر لشخص يعتبر خطراً جسيماً ولا يكون كذلك لغيره. ولا يشترط أن يكون الخطر محدقاً، أي وشيك الوقوع، وهنا يتميز المشرع المغربي عن نظيره الفرنسي الذي لا يعتد بالإكراه حين يكون بعيداً بحيث يمكن تلافيه.

الشرط الثالث: أن يهدف هذا الإكراه إلى تحقيق هدف غير مشروع: فالإكراه الذي يعتد به حسب المشرع المغربي يتمثل في كون المكرِه يهدف من وراء استعماله للوسائل الترهيبية إلى تحقيق غرض غير مشروع دون وجه حق ومن غير أن يسمح به القانون، مما يدفعه إلى التعاقد تحت تأثير هذا الخوف وهذه الرهبة.

2:الغبن

لقد عرف الفقه الغبن بأنه “التفاوت وانتقاء التوازن بين ما يعطيه العاقد وما يأخذه بمعنى آخر هو عدم التعادل المادي بين ما يأخذه العاقد وما يعطيه”.

واستنادا إلى مبدأ سلطان الإرادة فإن ذلك ليس من شأنه التأثير في صحة العقد، لأن العقد مفروض فيه التوازن بين الالتزامات المتقابلة، والمرجع في ذلك هو إرادة المتعاقدين أنفسهما.

ولا يخول الغبن الإبطال إلا إذا كان مقرونا بتدليس ومعناه أن الغبن مجرد لا يعتبر عيبا من عيوب الرضا، وبالتالي لا يكون سببا من أسباب الإبطال، غير أن الغبن المجرد يخول الإبطال في حالة واحدة وهي الحالة التي يكون فيها الطرف المغبون قاصرا أو ناقص الأهلية، وهناك ثلاث أنواع من الغبن.

أ) الغبن المجرد: وهو لا يخول الإبطال بحيث لا يعيب الإرادة رغم انتفاء التوازن بين ما يعطيه أحد المتعاقدين وما يأخذ مقابل ما يعطيه، وتبرير الفقه لذلك أن القانون لا يحقق التوازن الاقتصادي وإنما يسعى إلى إحقاق التوازن القانوني.

ب) الغبن المقرون بالتدليس: هو الغبن الذي يعتد به ويصلح لكي يكون سببا من أسباب إبطال العقد، إلا أن المشرع حينما نص على أن الغبن المقرون بالتدليس لكي يخول الإبطال، إنما يقصد التدليس غير الدافع للتعاقد.

ج) الغبن الذي يكون فيه الطرف المغبون قاصرا أو ناقص الأهلية: لقد نص الفصل 56 من ق.ل.ع على هذه الحالة بقوله: “الغبن يخول الإبطال إذا كان الطرف المغبون قاصرا أو ناقص الأهلية”، فلو أبرم قاصر أو ناقص الأهلية عقدا، بإذن من نائبه القانوني ثم أدى ثمنا باهظا وقع هذا العقد قابلا للإبطال بسبب الغبن الذي لحق القاصر أو ناقص الأهلية.

وعليه يتضح من خلال ما سبق أن عيوب الرضا تعتبر آلية مهمة للقاضي من أجل تطويع العقد، من أجل تحقيق التوازن العقدي، على اعتبار أن من عيبت إرادته له الحق في إبطال الالتزام المعيب. وذلك تكريسا للعدالة العقارية، غير أنه ما يلاحظ أن العيوب الرضا لا يمكن للقاضي أن يثيرها تلقائيا بل يبقى لمن له مصلحة أن يثير ذلك.

الفقرة الثانية: تفسير العقد كآلية لتطويعه من طرف القضاء

تعد مؤسسة من الوسائل القانونية التي خولها المشرع المغربي للقاضي من أجل الكشف عن إرادة أطراف العلاقة التعاقدية، وذلك من أجل إعطاء التكييف الصحيح للعقد، من اجل تطويعه، إلا أن إطلاع القاضي بهذه تجعله يتمتع بمجموعة من السلطات تختلف بين العقد الواضح والغامض العبارة.

أولا: سلطة القضاء في تطويع العقد الواضح العبارة

عملا بمقتضيات الفصل 461 من قانون الالتزامات الذي ينص على أنه” إذا كانت ألفاظ العقد صريحة امتنع البحث عن قصد صاحبها”، من خلال مقتضيات هذا الفصل يتضح بشكل لا يدع مجالا لأي شك أن العقد الواضح العبارة لا يحتاج إلى التفسير وقد أكدت على ذلك محكمة النقض في قرار لها جاء فيه ما يلي ” يجب على القضاة تطبيق الاتفاقات المبرمة بين الأطراف وليس لهم تغيير شروطها متى كانت واضحة بينة“.

وعليه فإذا كانت ألفاظ وعبارات العقد صريحة وواضحة أي لا تحتمل سوى معنى واحد سواء فيما يتعلق بطبيعة العقد المقصود أو فيما يتعلق بالآثار القانونية التي تترتب عنه، فإنه يجب على القضاة الأخذ بالمعنى الواضح والصريح الظاهر من ألفاظ وعبارات العقد، وذلك باعتباره تعبيرا صحيحا عن الإرادة المشتركة للمتعاقدين.

وبعبارة أخرى يجب على القضاة عند وضوح وصراحة ألفاظ وعبارات العقد أن يعتدوا بالإرادة الظاهرة للمتعاقدين التي يفترض مطابقتها للإرادة الحقيقية، ولا يجوز له حمل ألفاظ وعبارات العقد مع صراحتها ووضوحها خلاف المعنى الظاهر منها والانحراف عنها بدعوى التفسير.

إلا أنه في مقابل هذا الأصل فإن العقد الواضح العبارة قد يكون في حاجة إلى تفسير من أجل تطويعه متى كان ظاهره مخالفا لقصد المتعاقدين، كأن تكون العبارات المستعملة مغلوطة من أصلها، الأمر الذي يتطلب تصحيحها كحالة الغلظ المنصوص عليه في الفصل 43 من قانون الالتزامات والعقود على اعتبار أن المراجعة الحسابية ماهي إلا صورة من صور تفسير العقد الواضح.

ولا يفهم من ذلك أن العبارة إذا كانت واضحة فلا يجوز تفسيرها، بل إن القاضي قد يجد نفسه في حاجة إلى تفسير العبارات الواضحة مهما بلغ وضوحها، وسلس معناها وارتفع عنها اللبس والإبهام ذلك أن وضوح العبارة غير وضوح الإرادة، فقد تكون العبارة ذاتها واضحة، ولكن محتواها ومغزاها تدل على أن المتعاقدين أساء استعمال هذا التعبير الواضح، ففي هذه الحالة لا يأخذ القاضي بالمعنى الواضح للفظ، ويجب عليه أن يعدل عنه إلى المعنى الذي قصده المتعاقدان، وهو بذلك يفسر اللفظ بل وينحرف عن معناه من أجل تطويعه دون أن يحرفه أو يمسحه أو يشوهه.فالعبارة الصريحة التي لا تقبل التفسير هي التي معناها الحرفي متفقا مع الإرادة المشتركة للمتعاقدين.

وبالتالي تعد السلطة الممنوحة للقضاء من أجل تطويع العقد الواضح العبارة مقيدة، بحيث أنه يبقى خاضعا في ممارسة هذه المكنة لرقابة محكمة النقض، وهذا ما يتضح من قرار هذه الأخيرة الذي جاء فيه ما يلي “لمحكمة الموضوع الحق في ألا تعتبر من العقود إلا معناها دون مبناها وإنما هي حينما تقرر أن العقد المبرم بين الطرفين عقد كراء لا عقد شركة، تصحح الوضع بالنسبة للتعبير الفاسد”.

وفي واقع الأمر فإذا كانت سلطة القضاء في تطويع العقد الواضع العبارة تبقى ضيقة ومقيدة، بخلاف ما هو عليه الحال في ظل العقد الغامض العبارة هذا الأخير يتمتع القاضي حياله بسلطات واسعة من أجل تطويعه.

ثانيا: سلطة القضاء في تطويع العقد الغامض العبارة

يقصد بالشروط الغامضة عدم التوافق بين الألفاظ والإرادة الحقيقية للمتعاقدين، وقد تكون العبارة واضحة لكن الإرادة غامضة، كما تكون الإرادة واضحة لكن العبارة غامضة، وقد تكون الإرادة والعبارة معا يشملها الغموض.

وبناءا على ذلك فإذا كانت عبارة العقد غامضة في دلالتها على المعنى المقصود منها، بأن كان من الممكن تأويلها على أكثر من معنى، تعين الالتجاء إلى التفسير لاستجلاء غامضها وتحديد حقيقة مدلولها، وفي واقع الأمر أن تفسير العقد يناط بالقاضي حينما يستهدف من وراء ذلك البحث عما قصدته الإرادة المشتركة لطرفيه، وفي هذا السبيل لا يقف بداهة عند المعنى الحرفي للألفاظ إذ العبرة بالمقاصد والمعاني وليس بالألفاظ والمباني.

وبطبيعة الحال يتعين البحث عن الغرض المقصود أثناء التعاقد، وهذا ما أكدته الفقرة الأخيرة من الفصل 462 من قانون الالتزامات والعقود التي نصت على ما يلي ” وعندما يكون التأويل موجب يلزم البحث عن قصد المتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ ولا عند تركيب الجمل”.

وفي هذا المقام قد عمد المشرع المغربي إلى توضيح الحالات التي يسمح فيها بتأويل العقد لغموض عبارته في الفصل 462 قانون الالتزامات والعقود والتي تتجلى فيما يلي:

1-إذا كانت الألفاظ المستعملة لا يتأتى التوفيق بينها وبين الغرض الواضح الذي قصد عند تحرير العقد: كما لو أطلق المتعاقدان على نفسهما صفة المودع والوديع في العقد، في حين تكون نيتهما قد انصرفت إلى إبرام عقد قرض بينهما وليس عقد وديعة.

2-إذا كانت الألفاظ المستعملة غير واضحة بنفسها، أو كانت لا تعبر تعبيرا كاملا عن قصد صاحبها: كأن يقع النص في العقد على أن أحد المتعاقدين تخلى عن مال له وسلمه للمتعاقد الآخر دون بيان ما إذا كان المقصود من التخلي هو إعارة أوهبة.

3-إذا كان الغموض ناشئا عن مقارنة بنود العقد المختلفة، بحيث تثير المقارنة الشك حول تلك البنود: كأن يرد في إحدى فقرات العقد أن أحد الأطراف قد وهب عقارا لآخر في حين يرد في إحدى الفقرات الأخرى من نفس العقد أن الطرف الآخر التزم لقاء ثمن العقار المذكور بأن يدفع إيرادا عمريا عينه مالك العقار، ففي هذه الحالة يثور الشك حول معرفة ما إذا كنا أمام هبة أم أمام بيع عادي.

ولا يعني سرد هذه الحالات أنها وردت على سبيل الحصر، وإنما يكون الغموض كلما كانت عبارة العقد تحول دون استخلاص النية المشتركة المتعاقدين.

وفي هذا المقام قد أجمع الفقه والقضاء على أن تفسير العقد الغامض يخضع للسلطة المطلقة لقضاة الموضوع، ولا رقابة لمحكمة النقض عليه، عملا بالقرار الصادر عن هذه الأخيرة الذي جاء فيه ما يلي “الشروط الغامضة أو المعارضة لاتفاقات الأطراف لا تخضع لرقابة المجلس الأعلى”.

وتأسيسا على ذلك إذا كانت هذه السلطة الممنوحة للقضاء تبقى إيجابية ومطلقة باعتبارها وسيلة بيده من أجل تطويع العقد الغامض العبارة ولا تخضع لأي رقابة من طرف محكمة النقض كما سبق التأكيد على ذلك، إلا أن هذه السلطة ليست مطلقة بشكل كلي، بل هناك حالتين يخضع فيها قضاة الموضوع لرقابة محكمة النقض وهما:

-تجريد العقد من كل آثر: وهذا ما جاء في قرار لمحكمة النقض الذي قضى بما يلي ” إن الغموض الناشئ عن المقارنة بين بنود العقد لا يؤدي إلى تجريده من كل آثر، فإعمال العقد خير من إهماله، وهذا يقتضي إعمال العقد أن تقوم المحكمة بتأويله وتبحث عن نية المتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ ولا على تركيب الجمل، إن المحكمة لما جردت العقد من كل آثر، والحال أنه يمكن التوفيق بين بنوده، تكون قد خرقت مقتضيات الفصل 462 من قانون الالتزامات والعقود وعرضت قضاءها للنقض”.

-عند تفسير الشك بشكل مخالف لروح الفصل 473 من قانون الالتزامات والعقود: فإذا كان هذا الفصل يشكل قاعدة عامة من شأنها حماية المدين في العلاقة التعاقدية والذي غالبا ما يكون طرفا ضعيفا، لكن هذا الأمر يمكن تطبيقه في العقود التي تنبني على المساومة فقط، وهذا جعل المشرع يتبنى مبدأ أكثر حماية في ظل القانون رقم 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك بحيث أصبح الشك يفسر لفائدة المستهلك سواء كان دائنا أو مدينا.

وتجدر الإشارة إلى أن مؤسسة التفسير تبقى سلاحا فعالا في يد القضاء من أجل تطويع العقد، وإن كانت هذه السلطة تبقى ضيقة شيئا ما في ظل العقد الواضح العبارة بخلاف ما عليه الأمر بالنسبة للعقد الغامض العبارة، وهذا من شأنها حماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية وبالتالي خلق توازن عقدي.

المطلب الثاني: سلطة القضاء المدني في تطويع العقد أثناء تنفيذه

لم تقتصر القوانين سواء التقليدية أو الحديثة بمنح سلطة تقديرية للقاضي بهدف تطويع العقد في مرحلة تكوينه فقط، وذلك استنادا على عيوب الرضى ومؤسسة التفسير بل حرصت على سن نصوص قانونية لحماية مصلحة طرفي الرابطة التعاقدية لتمتد هاته الحماية إلى مرحلة التنفيذ، انسجاما مع ما تقتضيه العدالة التعاقدية من جهة وتكريس لمبدأ الأمن التعاقدي وضمان استقرار المعاملات من جهة أخرى.

ومن هذا المنطلق تعد السلطة الممنوحة للقضاء المدني مدخلا أساسيا لتطويع العقد، سواء تعلق الأمر بالقوة القاهرة التي أخد بها المشرع المغربي أو بنظرية الظروف الطارئة التي مازال يتجاهلها (الفقرة الثانية) أو من خلال تعديل الشرط الجزائي والمهلة الميسرة (الفقرة الأولى).

الفقرة الأولى: دور القضاء المدني في تطويع العقد لأسباب ناشئة عن إرادة الأطراف

مما لا شك فيك أن الإرادة تعتبر الركيزة الأساسية في تكوين وتنفيذ العقد، على اعتبار أنها هي من تنشئ الالتزام، غير أنه في بعض الأحيان قد لا تكون هذه الإدارة مطابقة لقواعد العدالة، مما يطلب الأمر تدخل القضاء من أجل تطويع العقد خروجا عن الشروط التي وضعها الأطراف، استجابة لظروفهم وتماشيا مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية، سواء من أجل تعديل الشرط الاتفاقي (أولا) أو منح المدين مهلة الميسرة (ثانيا).

أولا: دور القضاء في تعديل الشرط الاتفاقي

يسوغ لأطراف العلاقة التعاقدية الاتفاق مسبقا عن مبلغ التعويضات الواجبة للدائن عند الإخلال بالتنفيذ، وقد تأتي هذه الشروط إما في شكل شرط جزائي أو في شكل شرط محدد للمسؤولية.

والشرط الجزائي هو تعويض اتفاقي بين المتعاقدين على مقدار محدد جزافا قبل الإخلال بالالتزامات التعاقدية يدفعه الطرف الآخر في حالة عدم التنفيذ أو التنفيذ الجزئي.

وقد عرف الشرط الجزائي الأستاذ عبد الرزاق السنهوري بأنه “اتفاق بين المتعاقدين على التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم يقم بالتزامه وهذا هو التعويض عدم التنفيذ، أو عن مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه، وهذا هو التعويض عن التأخير”.

وفضلا عن ذلك قد عرفه المشرع المغربي عند تعديله للفصل 264 من ق.ل.عبأنه “…يجوز للمتعاقدين أن يتفق على التعويض عن الأضرار التي تلحق الدائن من جراء عدم الوفاء بالالتزام الأصلي كليا أو جزئيا أو التأخر في تنفيذه…“.

وقد عرف الشرط الجزائي انتشارا واسعا في الممارسة التعاقدية نظرا لما ينطوي عليه من تفادي بطيء المسطرة القضائية. وكذا اقتصاد الوقت والنفقات هذا من جهة، أما من جهة أخرى فهو يحمل المتعاقدين على تنفيذ التزاماتهم في الوقت المعقول. إلا أن الممارسة جعلته أداة للتهديد والإكراه يستعملها الطرف القوي من أجل استغلال الطرف الضعيف.

وفي واقع الأمر فإنه قد يحدث أن يتفق أطراف العقد على أن يمنح المتعاقد الذي يوجد في حالة مطل عن تنفيذ التزاماته إلى الطرف الأخر تعويضا جبرا للضرر الذي يلحق به، وغالبا ما يتخذ التعويض شكل جزائي يؤديه المدين بالالتزام.

وعليه فإنه يشترط لاستحقاق التعويض الاتفاقي ما يشترط لاستحقاق التعويض عموما، ولكي يتحقق هذا التعويض يجب توفر الشروط التالية:

1: إخلال المدين بالتزامه: لا يجادل اثنان في أنه لكي يتحقق الإخلال فإنه يجب أن يمتنع المدين عن الوفاء بالالتزام موضوع الشرط الجزائي، فمثلا في الالتزام يعتبر المدين مخلا بالتزاماته العقدية إذا لم يحقق النتيجة التي التزم بتحقيقها.

وفي نفس السياق جاء في قرار المحكمة النقض ما يلي “تعويضات التأخير عن تنفيذ العقد والمضمنة في طلب العقد تخضع لرقابة القضاء وللتحقق من وجود مبالغة أو من مناسبتها مع الخسائر والأرباح طبقا للفصل 264 من ق.ل.ع”

2. إصابة الدائن بالضرر: باعتبار هذا الأخير الركن الأساسي في المسؤولية المدنية ويعرف بأنه الخسارة التي لحقت الدائن وما فاته من كسب متى كانا ناتجين عن مباشرة عدم الوفاء بالالتزام طبقا للفصل 264 من ق.ل.ع.

كما أن الضرر هو الذي يمثل مصلحة الدائن في دعوى التعويض، إلا أن الشرط الجزائي يشكل استثناء من هذه القاعدة فهو يستحق بمجرد ثبوت إخلال المدين بالتزامه، وأساس استحقاقه هو اتفاق أطراف العلاقة التعاقدية احتراما للعقد شريعة للمتعاقدين.

غير أن الاجتهاد القضائي اختلف حول ضرورة تحقق الضرر للحكم بالتعويض الاتفاقي من عدمه وبالتالي مراجعة التعويض الاتفاقي ليستقر فيما بعد على تعديله وفق حجم الضرر كما جاء في قرار لمحكمة النقض الذي قضى بما يلي “إن الغرامة التعاقدية المتداول تسميتها بالشرط الجزائي هي اتفاق مسبق على التعويض عن الأضرار التي تلحق الدائن عن عدم الوفاء بالالتزام الأصلي كليا أو جزئيا أو عن التأخير في تنفيذه”.

3-إنذار المدين: يعتبر هذا الإنذار إجراء قانوني يتعين على الدائن توجيهه إلى المدين قبل كل إجراء ناتج عن عدم تنفيذ العقد وذلك بالنسبة للالتزامات التي لا يكون لهأجلا معينا لتنفيذها، وذلك لإثبات مطل المدين في تنفيذ التزامه، أما بالنسبة للالتزامات المحددة المدة فإن المدين يكون في حالة مطل بمجرد حلول الآجال دون تنفيذ التزامه المتفق عليه.

ويتخذ تعديل شروط العقد طبعا للفصل 264 المشار إليه أعلاه ثلاث صور وهي:

1-تخفيض التعويض الاتفاقي إذا كان مبالغا فيه: وذلك في الحالة التي يتجاوز فيها بالشرط الجزائي مقدار الضرر بشكل مبالغ فيه، يظهر معه للمحكمة أن الدائن إنما يريد الاثراء على حساب المدين.

ويتمتع القاضي بسلطة تقديرية واسعة عند تخفيض الشرط الجزائي المبالغ فيه، وذلك عندما يظهر له أنه مبالغا فيه بشكل كبير، وهذه السلطة مقدرة بوظيفة الشرط الجزائي في القانون المطبق فيها حسبما كانت وظيفة تعويضية أم تهديدية، بحيث إذا كانت وظيفة الشرط الجزائي التي يقوم بها هي وظيفة تعويضية فلا يجوز أن ينزل مبلغ التعويض عن مقدار الضرر الحاصل، وأما إذا كانت وظيفة الشرط الجزائي تهديدية فعلى القاضي أن يراعي عند تخفيضه لمبلغ الجزاء والذي لا ينبغي أن يزيد عن طابع المبالغة.

2-الرفع قيمة التعويض الاتفاقي إذا كان زهيدا: ويكون التعويض المتفق عليه زهيدا عندما يكون تافها أو ضئيلا بحيث لا يتناسب البتة مع الضرر الذي وقع، بشكل يجعله أقرب ما يكون إلى العدم منه الوجود، وفي هذه الحالة يتمتع القاضيبسلطة واسعة في زيادة مبلغ التعويض الاتفاقي حتى يجعله متناسبا مع الضرر الوقع.

3-تخفيض التعويض المتفق عليه بنسبة النفع من جزاء التنفيذ الجزئي: حيث خول المشرع للمحكمة تخفيض التعويض المتفق عليه من جراء التنفيذ الجزئي للالتزام المدين بنسبة النفع العائد إلى المدين.

وعليه فإنه يمكن القول إنهبعد التعديل الذي طرأ على الفصل 264 من ق.ل.ع أصبح بإمكان القاضي التدخل لتطويع العقد في حالة وجود شرط اتفاقي، مراعيا بذلك مصلحة الضرف الضعيف في العلاقة التعاقدية.

ثانيا: دور القضاء في منح المدين مهلة الميسرة

مما لا شك فيه أن المشرع المغربي قد أخذ بعين الاعتبار الظروف والأزمات التي قد تعصف بالمدين فتجعله معسرا، الشيء الذي جعله يخول للقاضي إمكانية تمتيع المدين بمهلة الميسرة.

وعليه فإنه يقصد بمهلة الميسرة “إعفاء المدين من الوفاء بالتزامه في الأجل المضروب للوفاء ومنحه أجلا جديدا آخر يسدد فيه الدين إن اقتضت ظروفه ذلك”.

وفي تعريف آخر جاء فيه بأن مهلة الميسرة “ذلك الآجال القضائي وتلك المهلة المعقولة التي يمنحها القاضي للمدين المعسر حسن النية والغير المتماطل من أجل تنفيذ الالتزامات المترتبة في ذمته والمتفق عليها بين الطرفين.

والجدير بالذكر فإن المشرع المغربي سنة 1913، لم يكن يسمع للقاضي بالتدخل في العقد من أجل تطويعه بصفة مباشرة عن طريقه استعماله لنظرة الميسرة، تكريسا منه لمبدأ سلطان الإرادة، عملا بالفصل 243 من قانون الالتزامات والعقود الذي نص على أنه” إذا لم يكن هناك إلا مدين واحد لم يجبر الدائن على أن يستوفي الالتزام على أجزاء ولو كان هذا الالتزام قابل للتجزئة، وذلك ما لم يتفق على خلافه إلا إذا تعلق الأمر بالكمبيالات”.

لكن بعد قيام الحرب العالمية الأولى، وما ترتب عنها من إضرابات اقتصادية خاصة عندما قامت ألمانيا بضرب حصار خانق على المغرب بواسطة الغواصات سنتي 1917.1918 ، الأمر الذي دفع بالمشرع إلى تخويل القاضي منح المدين الأجل القضائي أو مهلة الميسرة حتى يتمكن من التدخل في العقد من أجل تطويعه، وذلك بإصدار ظهير 18 مارس 1917 الذي أضيفت بموجبه الفقرة الثانية إلى الفصل 243 من قانون الالتزامات والعقود التي تنص على أنه” ومع ذلك يسوغ للقضاة، مراعاة منهم لمركز المدين، ومع استعمال هذه السلطة في نطاق ضيق، أن يمنحوه آجالا معتدلة للوفاء وأن يوقفوا إجراءات المطالبة مع بقاء الأشياء على حالها”.

وبطبيعة الحال يعد هذا التعديل استثناء من الأصل العام المنصوص عليه في الفصل 128 من قانون الالتزامات والعقود، الذي منع على للقاضي أن يمنح أجلا أو أن ينظر إلى ميسرة، ما لم يمنح هذا الحق بمقتضى الاتفاق أو القانون، وإذا كان هذا الأجل محددا بمقتضى اتفاق أو القانون لم يسغ للقاضي أن يمدده مالم يسمح له القانون بذلك.

وفضلا عن ذلك يتضح من خلال مقتضيات الفصل 243 من قانون الالتزامات والعقود، بأن القضاء لا يمكنه منح المدين مهلة الميسرة إلا بتوفر الشروط التالية:

أ-مراعاة مركز المدين: ويقتضي هذا الشرط أن تتطلب حالة المدين منحه آجالا معتدلةللوفاء، وذلك في غير المجال التجاري، الذي يتطلب السرعة في المعاملات والثقة، مما يجعله يتشدد في منح المدين أي أجل في هذا المجال. وفي غير هذا الخير فمتى كان المدين حسن النية، بأن لم يعبر صراحة أو ضمنا عن امتناعه عن التنفيذ، أو كان لا يستهدف من طلب مهلة الميسرة سوى المماطلة والتسويف، فإن القاضي يمكنه أن يمنح للمدين المعسر آجال معقول للوفاء بالتزامه.

ب-ألا يصيب الدائن من جراء نظرة الميسرة ضررا جسيما: أي أنه ليس من العدل إغاثة المدين عن طريق الإضرار بالدائن فإذا لحق الدائن من جراء التأجيل الوفاء ضررا جسيم، يمنع على القاضي أن يمنح للمدين أي أجل، كأن يكون الدائن في حاجة إلى الدين من أجل إبرام صفقة لا تحتاج إلى تأخير، أو لأداء دين لا يستطيع التأخير في وفائه.

ج-أن يكون الأجل معقولا: يستفاد هذا الشرط من مقتضيات الفصل 243 من قانون الالتزامات والعقود، الذي نص على ما يلي”…أن يمنحوه أجالا معدلة للوفاء…” يستفاد من هذا المقتضى على أن يجب على القاضي التوسط في منح أجالا للمدين، بحيث أنه لا يجب أن يطول هذا الأجل حتى يلحق بالدائن ضررا، ولا يقصر بحيث يكون هدرا لا طائل منه.

والملاحظ أن المشرع المغربي ترك أمر منح الأجل المعقول لمطلق السلطة التقديرية للقاضي، بحيث خول له منح ذلك حسب ظروف المدين وقيمة الدين من جهة، ونوع المعاملة من جهة أخرى.

د-عدم وجود نص قانوني مانع من منح مهيلة الميسرة: ففي هذه الحالة يمنع على القاضي منح المدين مهلة الميسرة كما هو الشأن بالنسبة للمادة 304 من مدونة التجارة التي تمنع أي إهمال قضائي على اعتبار أنها نصت على ما يلي ” لا يمنح أي إهمال قانوني أو قضائي إلا في الأحوال منصوص عليها في المادة 291″.وعليه فإن هذه المادة، لا تعترف بأي تمديد لهذه الآجال إلا في حالة القوة القاهرة.

وتأسيسا على ما سبق يتضح من خلال هذه الشروط أن مهلة الميسرة تبقى استثناء من القاعدة العامة سواء المنصوص عليها في الفصل 128 من قانون الالتزامات والعقود التي تمنع على القاضي منح أو تمديد، أو المنصوص عليها في الفقرة الأولى من الفصل 243 من نفس القانون التي تأكد على مبدأ عدم تجزئة الوفاء، وبالتالي لا تطبق هذه المهلة إلا في حالة وجود نص قانوني، على اعتبار أن الاستثناء يجب تطبيقه في نطاق ضيق جدا لأنه لا يتوسع في تفسيره ولا يقاس عيه.

وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى ما إذا كانت سلطة القاضي في منح مهلة المسيرة من النظام العام، ومع وجود هذا الفراغ التشريعي، قد يتفق الأطراف على حرمان المدين من هذه المهلة وبشكل مسبق، مما يفرغ هذا الحق من محتواه، لاسيما مع انتشار العقود النموذجية، والتي يستطيع عن طريقها الطرف القوي، باعتباره من يحررها، إدراج مثل هذا الشرط، في وقت لا يتمكن فيه الطرف الضعيف حتى من قراءة مثل هذه العقود.

من خلال كل ما تقدم يمكن القول بأن مهلة الميسرة تعد من أهم الآليات القانونية التي خولها المشرع المغربي للقضاء من أجل تطويع العقد عن طريق منح أجال للمدين المعسر الذي يكون في وضعية تستحق الإغاثة، حتى يمكنه الوفاء بالتزامه كاملا في أجل معقول تحقيقا لمبدأ العدالة التعاقدية.

الفقرة الثانية: دور القضاء المدني في تطويع العقد لأسباب خارجة عن إرادة الأطراف

في بعض الأحيان قد يضمنوا أطراف العلاقة التعاقدية مجموعة من الالتزامات إيمانا منهم في أن يتم الوفاء بما تم تضمينه وبالكيفية التي تم بها، إلا أنه في بعض الأحيان قد لم تسير الأمور وفق ما تم الالتزام به لأسباب خارجة عن إرادتهم، وهو ما يتطلب إما الاعفاء من المسؤولية أو التخفيف منها كما هو الحال في حالة حدوث قوة قاهرة أو ظروف طارئة.

ومن هنا يظهر دور القضاء في التدخل في محتوى العقد من أجل تطويعه، في حالة ظهور ظروف غير متوقعة، خارجة عن إرادة الأطراف، سواء التي أخدها بها المشرع المغربي كالقوة القاهرة (أولا) أو التي تجاهلها كما هو الحال في نظرية الظروف الطارئة (ثانيا).

أولا: سلطة القضاء في تطويع العقد في حالة القوة القاهرة

لقد عرف المشرع المغربي القوة القاهرة بمقتضى الفصل 268 من قانون الالتزامات والعقود بقوله “القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان توقعه، كالظواهر الطبيعية (الفيضان والجفاف والعواصف والحرائق والجراد) وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام عملا مستحيلا.

ولا يعتبر من القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه، ما لم يقم الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه.

وكذلك لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطا سابق للمدين”.

وقد أشار المشرع المغربي كذلك للقوة القاهرة باعتبارها سببا معفيا من المسؤولية التقصيرية بمقتضى الفصل 95 من قانون الالتزامات والعقود الذي نص على ما يلي” لا محل للمسؤولية المدنية في حالة الدفاع الشرعي أو إذا كان الضرر قد نتج عن حدث فجائي أو قوة قاهرة لم يسبقها أو يصطحبها فعل يؤاخذ به المدعى عليه…”.

وحتى تتحقق القوة القاهرة باعتبارها سببا أجنبي معفي من المسؤولية لابد من توفر الشروط الأتية:

أ-استحالة الدفع: يعتبر هذا العنصر ضروريا، تطبيقا للقاعدة التي تقضي بأنه لا تكليف بمستحيل، وتعد الاستحالة المقصودة هنا لا استحالة بالنسبة لشخص المسؤول فحسب بل تلك التي تكون بالنسبة إلى أي شخص يوجد في موقف المسؤول.

وهكذا يتطلب لتحقق هذا الشرط معنيين، الأول يتمثل في عدم قدرة الشخص على منع نشوء الواقعة المكونة للقوة القاهرة، والثاني يتمثل في عدم تمكنه من التصدي للآثار المترتبة عنها. على اعتبار أن القوة القاهرة التي تترتب عنها استحالة المقاومة هي التي لا يمكن دفعها أو تلقيها، فلا يكفي للمدين إثبات أن الحادث كان غير متوقع، بل يجب أن يبين الطابع القهري لهذا الحادث الذي جعله عاجزا عن تنفيذ التزامه.

وقد أكد المشرع المغربي على ذلك بمقتضى الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود الذي نص على ما يلي “…. ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا…. ولا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه….”.

ب-عدم التوقع: نص المشرع المغربي على هذا الشرط بمقتضى الفقرة الأولى من الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود بمناسبة تعريفه للقوة القاهرة بقوله” القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه…”.

والمقصود بهذا الشرط أن يكون الحادث الطارئ غير متوقع الحدوث ولا يدخل في دائرة المسائل التي تقبل التنبؤ أو التوقع من طرف الإنسان.

ومعنى أن تكون القوة القاهرة غير متوقعة لا يعني استحالة توقعها، فحدوثها لأول مرة لا ينفي عنها صفة القوة القاهرة، وتكرار حدوثها فيما بعد يجعل منها متوقعة.

ج-انتفاء خطأ من جانب المدين: يستشف هذا الشرط من مفهوم المخالفة للفقرة الأخيرة من الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود التي تنص على ما يلي” وكذلك لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين” أي ألا يكون الحادث سببه خطأ المدين، فإن كان صادرا عنه اعتبر مقصراً ويستوجب تحمله لمسؤولية خطئه.

وعليه فإن هذا الشرط ينفي العلاقة السببية وبالتالي تنتفي معه المسؤولية، لذلك فحدود تحمل المدين للمسؤولية في القوة القاهرة يكون مفترضا مالم يقم الدليل على كون أن الحادث خارج عن إرادته وسيطرته، وهذا ما أكدته محكمة النقض الفرنسية في قرار لها صادر بتاريخ 17 فبراير 2010 الذي جاء فيه ما يلي: “وقوع حادث في كمبيوتر البنك، والذي كان سببا في تأخير تحويل مبلغ الكراء، يعتبر بمثابة حادث خارج عن إرادة المكتري ولا يمكن له السيطرة عليه ولا يمكن التنبؤ به، وأن ما اعتبرته محكمة الاستئناف سببا يبرر القوة القاهرة وقامت برفض طلب الإفراغ ومن تم لا يبرر الإخلاء، يكون ذي أساس”

وأنه كذلك قام بما يلزم لتجنب وقوعه، وهو ما أشار إليه كذلك المشرع المغربي في الفقرة الثانية من الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود بقوله: “… ما لم يقم المدين الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه…”.

وعليه في حالة تحقق الشروط المتطلبة للقوة القاهرة يتدخل القاضي في محتوى العقد لتطويعه من أجل ملائمته للوضعية الراهنة تكريسا للأمن التعاقدي وتحقيقا للعدالة التعاقدية. وهذا الأمر من شأنه أن يشكل حماية للطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية.

ثانيا: سلطة القضاء في تطويع العقد في حالة الظروف الطارئة

يمكن تعريف الظرف الطارئ أو نظرية الظروف الطارئة بأنها حالة استثنائية عامة تطرأ بين مرحلة إبرام العقد ووقت تنفيذ الالتزام ومن شأن هذا الأمر الطارئ التأثير على مصلحة المتعاقدين لا سيما المدين بالالتزام، بحيث يجعل هذا الظرف تنفيذ الالتزام مرهقا لا مستحيلا، يقتضي ذلك سلطة القاضي بالتدخل لوضع حد لهذه المسألة من خلال إعادة النظر في العقد وتعديل هذا الأخير على نحو يلائم مصلحة الأطراف في العقد.

ويعد أساس هذه النظرية مثار جدال وخلاف فقهي، فالبعض يقيم هذه النظرية على أساس ضرورة التعادل الاقتصادي بين الالتزامات المتقابلة في العقود التبادلية دون النظر إلى نية المتعاقدين، وفي هذه الحالة نكون قد خرقنا مبدأ سلطان الإرادة، دون مبرر كاف ومقنع يخولنا مثل هذا الخرق لأن التعادل الاقتصادي لا يؤخذ فيه في الدول ذات الأصل لاتيني.

ومن ثم فإذا كان المشرع المغربي قد أخد بالقوة القاهرة فنجده بالمقابل ذلك لم يقنن نظرية الظروف الطارئة في قانون الالتزامات والعقود عكس مجموعة من التشريعات.

وبالرجوع إلى التشريعات التي تبنت هذه النظرية يتضح أنها وضعت شروط أساسية لتحققها تتجلى فيما يلي:

أولا: أن يكون العقد متراخي التنفيذ: يشترط لإعمال نظرية الظروف الطارئة أن يبرم العقد في ظل أوضاع عادية، ثم تقع عقب ذلك حوادث استثنائية لم تكن متوقعة تجعل تنفيذ الالتزام جد مرهق، سواء أكان ذلك العقد عقدا زمنيا أم عقدا فوريا مؤجل التنفيذ، وسواء أكان عقدا ملزما للجانبين أم عقدا ملزم لجانب واحد.

وعلة هذا الشرط تاريخية الأصل، ذلك أن مجال تطبيق نظرية الظروف الطارئة منذ نشأتها وأثناء تطورها كان هو العقود المتلاحقة أو الزمنية، خصوصا وأنها تعتبر استثناء من مبدأ سلطان الإرادة والاستثناء لا يتوسع في تفسيره حتى لا يهدر مبدأ القوة الملزمة للعقد.

ثانيا: طروء حادث استثنائي عام: من شروط انطباق نظرية الظروف الطارئة طروء حادث استثنائي عام بين وقت إبرام العقد ووقت تنفيذه، بحيث أنه يكون هذا الحادث استثنائي بدرجة أنه باغث المتعاقدين بصورة فجائية ولم يكن لأي منهم توقع حصوله، أي أنه ليس بحادث اعتيادي، وليس بإمكان الشخص العادي التنبؤ بحدوثه، وهو غير مألوف، لأجل ذلك أطبقت عليه الصفة الاستثنائية. مثل الزلازل أو الحروب أو الإضرابات المفاجئة أو الارتفاع المفاجئ للعملة أو النزول الفاحش فيها أو انتشار الأوبئة أو الجراد وما يشابه ذلك.

وترتيبا على ليس كل ظرف طارئ أو حادث أيا كان نوعه ومصدره مبررا لإعمال نظرية الظروف الطارئة، وإنما يلزم لتطبيق هذه النظرية أن يكون الظرف استثنائيا، أي غير مألوف ولا يقع في الأحوال العادية.

وعليه فإن المعيار الواجب التطبيق لتحديد ما يعتبر طرف طارئ هو تضرر الناس كافة من هذه الحوادث لا شخص المدين وحده، ويعد ذلك أمر منطقي إبان الكوارث والحروب والأوبئة والنوازل الطبيعية، لكن إذا صدر من المدين فعل زاد في تكاليف تنفيذ التزامه، مع حصول حوادث طارئة واستثنائية وعامة فإنه لا يسعف ذلك باللجوء إلى النظرية الظروف الطارئة، بل يتحمل المدين نتيجة فعله أو تبعة خطئه وبالتالي يلزمه التنفيذ.

ثانيا: أن يكون الحادث غير متوقع الحصول: يشترط لتطبيق هذه النظرية أن يوجد حادث غير متوقع عند إبرام العقد. وأصبح من الصعب تنفيذ الالتزامات المتعاقد من أجلها بين الطرفين بموجب هذه الظروف التي تشكل في مجملها حادث استثنائي وغير متوقع، إذ لو كان المدين الملتزم قد توقعه لما جاز له التظلم من تحققه.

وكذلك يجب أن يكون الحادث لا يستطاع دفعه لأن الحادث الذي يستطاع دفعه يستوي في شأنه أن يكون متوقعا أو غير متوقع، والعبرة بالعناية التي يأخذ بها رب الأسرة المعني بأمور نفسه.

رابعا: أن يؤدي الحادث إلى جعل التزام المدني مرهقا لا مستحيلا: هذا ما يميز الطرف الطارئ عن القوة القاهرة، فإذا كانت تجمعهما خاصية عدم التوقع، فهما يختلفان من حيث الأثر، فبينما تجعل القوة القاهرة تنفيذ الالتزام مستحيل مما يستتبع انقضاءه، فإن الظرف الطارئ يجعله مرهقا فقط.

ولمعرفة ما إذا كان تنفيذ الالتزام التعاقدي أصبح مرهقا للمدين يجب الاعتماد على معيار موضوعي، حيث ينظر فيه إلى الأداء في ذاته بصرف النظر عن الظروف الاقتصادية الخاصة بالمدين، من حيث يسره أو فقره، فالعبرة إذن بظروف المدين العادي أو المتوسط.

وتجدر الإشارة إلى أن المدين إذا نفد التزامه بالكامل قبل المطالبة القضائية بتعديل العقد، فإن تنفيذ الالتزام في هذه الحالة يعتبر القرينة قاطعة لا تقبل اثبات العكس على أساس أن التزام المدين غير مرهق له.

وفي حالة توفر الشروط المشار إليها يصبح من حق القاضي التدخل في العقد لتطويعه تبعا لظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول في الدول التي تأخذ بنظرية الظروف الطارئة، وكما سبق القول أن المشرع المغربي مازال لم يأخذ بهذه النظرية بعد رغم إيجابياتها في تحقيق التوازن العقدي، وتكريس العدالة التعاقدية، وبالتالي أصبحت الحاجة تدعوا المشرع إلى تقنينها مسايرة منه للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها المغرب.

خاتمة:

نستخلص مما سبق أن مبدأ سلطان الإرادة لم يستطع الصمود في وجه التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزت علاقات تعاقدية غير متوازنة فرضت نفسها بقوة وبالتالي منحت للقضاء سلطة أكبر في تطويع العقد المدني، وذلك من أجل حماية الطرف الضعيف وتحقيق التوازن العقدي تكريسا للعدالة التعاقدية والأمن التعاقدي.

ولذلك فإن الوسائل والآليات القانونية المعتمدة من قبل القضاء لتطويع العقد غير كافية لتوفير الحماية المرجوة للطرف الضعيف في مواجهة الطرف القوي لاسيما ما يتعلق بعيوب الإرادة التي تقف عند إمكانية إبطال العقد فقط لمصلحة الطرف الضعيف، هذا الأخير يبقى هدفه الأسمى والأساسي هو الإبقاء على العقد الذي يخدم مصالحه، مع تعديل ما يتضمنه من شروط مجحفة في حقه.

وعلاوة على ذلك، تعد نظرية الظروف الطارئة من الوسائل المهمة لتطويع العقد إلا أن المشرع لا زال لم يأخذ بها في إطار قانون الالتزامات والعقود ماعدا في المجال الإداري وفي نطاق ضيق.

  • لائحة المراجع:
  • أولا: باللغة العربية
  • المراجع العامة
  • إدريس العلوي العبدلاوي:”شرح القانون المدني النظرية العامة للالتزامات، نظرية العقد”، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، السنة 1996.
  • سليمان مرقس: “الوافي في شرح القانون المدني”، الجزء الثاني نظرية العقد والإرادة المنفردة، طبعة الثالثة، مطبعة القاهرة سنة 1997.
  • عبد الحق صافي:”القانون المدني، الجزء الأول، المصدر الارادي للالتزامات”، الطبعة الأولى، سنة 2007، مطبعةالنجاح الجديدة، دار البيضاء عبد الحق صافي، القانون المدني، الجزء الأول، المصدر الارادي للالتزامات الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة، دار البيضاء. سنة 2007.
  • عبد الرحمان الشرقاوي: “القانون المدني-دراسته حديثة للنظرية العامة للالتزام على ضوء تأثيرها بالمفاهيم الجيدة للقانون الاقتصادي”، الكتاب الأول: مصادر الالتزام، الجزاء الأول: التصرف القانوني، مطبعة المعاريف الجديدة، الطبعة الثانية، سنة 2014.
  • عبد الرزاق أحمد السنهوري: “الوسيط في شرح القانون المدني الجديد”، المجلد الأول نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام، الجزء الأول، دون ذكر المطبعة، السنة 1980.
  • عبد الرزاق أيوب: “سلطة القاضي في تعديل التعويض الاتفاقي”، دراسة مقارنة مطبعة النجاح الجديدة، سنة 2003.
  • عبد القادر العرعاري: “نظرية العقد، الكتاب الأول مصادر الالتزامات”، مطبعة الأمنية الرباط، الطبعة الثالثة، سنة 2013.
  • العربي ميعاد: عقود الاذعان دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة، سنة 2004
  • فواد معلال: “شرح القانون التجاري الجديد، نظرية التاجر والنشاط التجاري”، مطبعة الأمنية الرباط، الطبعة الرابعة، سنة 2004.
  • مأمون الكزبري، “نظرية الالتزامات في ضوء قانون الالتزامات والعقود المغربي”، الجزء الأول، مصادر الالتزام دون ذكر المطبعة، السنة 1980.
  • محمد الكشبور: “نظام التعاقد ونظرية القوة القاهرة والظروف الطارئة”، دراسة مقارنة من وحي حرب الخليج، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة. السنة 2000.
  • نبيل إبراهيم سعد: “نظرية العامة للالتزام”، الجزء الأول، مصادر الالتزام الإرادية، الإرادة المنفردة، دار المعرفة الجامعية، السنة 1994.

  • الأطروحات والرسائل
  • أبو بكر مهم: “الوسائل القانونية لحماية المستهلك، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، جامعة الحسن الثاني، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الدار البيضاء، السنة الجامعية، 2003.2004.
  • أسامة عبد الرحمان: “نظرية الظروف الطارئة بين النظرية التطبيق”، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال الرباط السنة الجامعية 1982-1983.
  • جميلة الصبار: “اختلال التوازن العقدي الناجم عن الشروط التعسفية”، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، جامعة الحسن الأول كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سطات، السنة الجامعة 2014.201
  • حسناء جبرون: “حماية المستهلك القرض العقاري في ضوء القانون رقم 31.08″، رسالة لنيل دبلوم الماستر، جامعة الحسن الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سطات، السنة الجامعية، 2011.2012
  • خالد الفكاني:”نظرة الميسرة”، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال، الرباط، السنة الجامعية،2006-.2007
  • خالد صبار: “حماية المستهلك من الشروط التعسفية في ضوء القانون رقم 31.08 القاضي بتحديد التدابير لحماية المستهلك”، رسالة لنيل دبلوم الماستر بجامعة الحسن الثاني عين الشق، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية الدار البيضاء، السنة الجامعية 2012.201
  • دالي بشير: “دور القضاء في حماية الطرف الضعيف في العقد، دراسة مقارنة”، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة أبو بكر بلقايد، تلمسان كلية الحقوق والعلوم السياسية، السنة الجامعية 2015.2016.
  • عبد الرحمان الشرقاوي: “دور القضاء في تحقيق التوازن العقدي”، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال الرباط،السنة الجامعية 2007 -2008.
  • عبد الهادي نجار: “دور القاضي في تعديل العقد”، أطروحة لنيل شهادة دكتوراه، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال، الرباط، السنة الجامعية 2009-2010.
  • ماجدة عبد الهادي المخاتر:”سلطة القاضي في تحقيق التوازن العقدي”، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية -فاس، السنة الجامعية 2013،2014
  • محمد شيلح: “سلطان الإرادة في ضوء قانون الالتزامات والعقود المغربي، أسسه ومظاهره في نظرية العقد”، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال، الرباط، السنة الجامعية 1983-1984.
  • المقالات
  • الدكتور محمد المجدوبي الإدريسي: “تحولات الاجتهاد ومتطلبات ضمان الأمن القانوني”، مقال منشور بمجلة قرارات المجلس الأعلى،السنة 2011.
  • زيد قدري الترجمان: “الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود المغربي”، مقال منشور بمجلة المغربية للقانون والاقتصاد والتنمية، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، سنة 1984.
  • مروان يوسف: “تنفيذ الالتزامات التعاقدية في ظل فيروس كورونا-كوفيد19-بين اعتباره قوة قاهرة أم ظرف طارئ”، مقال منشور بمجلة الدولة والقانون في زمن جائحة كورونا، مطبعة دار السلام للتوزيع والنشر، الرباط، السنة 2020.

  • ثانيا: باللغة الفرنسية
  • Mathieu Devinat, Édith Guilhermont : La Réception des Théories Juridiques Françaises en Droit Civil Québecois, Article, 42 R.D.U.S, 2012, page 460.LON, École Doctorale, Année universitaire 2015-2016.
  • Cass. Civ., 6 novembre 2002, Sté Clio “Voyages Culturels” c/ T. : Juris-Data n° 016221 et 1ère Civ. – 30 octobre 2008, BICC n°697 du 1er mars 2009.
  • Stefan Martin : Pour une réception de la théorie de l’imprévision en droit positif québécois, Les Cahiers de droit, 34 (2), 599–633, Faculté de droit de l’Université Laval, 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى