دور مبدأ الحيطة في تعزيز العلاقة بين التجارة الدولية و البيئة
بن قطاط خديجة
باحثة في القانون العام
متحصلة على ماجستير في القانون الدولي و العلاقات السياسية الدولية
عضو بمخبر القانون العقاري والبيئة
كلية الحقوق و العلوم السياسية جامعة مستغانم – الجزائر-
مقدمة
إذا كانت الزيادة في المبادلات الدولية للمنتجات المصنعة، القائمة على تحويل الموارد الطبيعية، تسهم في تحقيق النمو الاقتصادي، فإن ذلك لا يزال يسبب أضررا بيئية، لا يمكن إصلاحها في كثير من الأحيان. التفطن إلى هذه الحقيقة أدى إلى اعتماد قواعد دولية و إقليمية تهدف إلى ضمان حماية البيئة، في إطار تحرير التجارة الدولية. ولقد أدى ظهور أنماط جديدة للحياة والاستهلاك – نظرا لتقدم العلم وتسارع التجارة الدولية – إلى زيادة حجم المخاطر المتكبدة في مجال البيئة، الغذاء والصحة. تأثيرات هذه المخاطر، الفعلية أو المحتملة، هزت ثقة الأفراد في المنتجات الغذائية التقنوعلمية. ومن المفارقات، اكتساب المعرفة العلمية، الذي سمح بتحديد أو تسليط الضوء على الآثار الضارة لبعض المنتجات المعروضة في الأسواق، من دون ضمان كافي. وفي مواجهة حالة عدم اليقين، الذي يعلمنا بأوجه القصور في الأنشطة الفنية والعلمية، ظهر مبدأ الحيطة أو الاحتياط. وعليه تطرح الإشكالية التالية: هل يمكن لمبدأ الحيطة التوفيق بين منطق تحرير التجارة الدولية ومنطق حماية البيئة؟
وللإجابة على هذه الإشكالية، قسمنا الدراسة إلى مبحثين، سنتناول في المبحث الأول مفهوم مبدأ الحيطة وقيمته القانونية أما في المبحث الثاني فسنتطرق إلى مبدأ الحيطة في ظل النظام التجاري المتعدد الأطراف.
المبحث الأول: مفهوم مبدأ الحيطة وقيمته القانونية
لقد أصبح مبدأ الحيطة في القانون الدولي و الوطني للبيئة، أكثر المبادئ التي يحتج بها في مواجهة الأوضاع المعقدة، التي لم توجد لها إجابات واضحة حتى الآن.
المطلب الأول: مفهوم مبدأ الحيطة
صياغة مفهوم هذا المبدأ وتحديد نطاقه وشروطه، عرفت كثيرا من الاختلافات، رغم وروده في العديد من النصوص الدولية و الوطنية.
1- تعريف مبدأ الحيطة
يقصد لغويا بالحيطة أو الاحتياط، تلك التدابير المتخذة لاستدراك أو تجنب الضرر والحد من آثاره المحتملة، و هو قبل كل شيء تصرف أخلاقي يهدف إلى احترام وحماية البيئة.([1]) أما قانونيا، فإن التعريف المستنبط من خلال الإعلانات والاتفاقيات الدولية، يفضي إلى أن مبدأ الحيطة (le principe de précaution) يقصد به أن لا يحتج بالافتقار إلى اليقين العلمي، كسبب لتأجيل اتخاذ تدابير احتياطية لحماية البيئة.
2- مبدأ الحيطة ضمن الاتفاقيات البيئية
ورد تعريف مبدأ الحيطة في عدة نصوص دولية، ورغم اعتبار هذه الأخيرة صريحة في إشارتها له، إلا أن تعريفها يبقى غامضا، و تختلف الاتفاقيات الدولية في معالجتها لهذا المبدأ.([2])
بالرجوع إلى بعض النصوص، نجدها قد اكتفت بالإشارة لمبدأ الحيطة دون ذكر أي إرشادات أخرى، ومن أمثلة ذلك الإعلان الوزاري للمؤتمر الدولي الثاني حول بحر الشمال لسنة 1987، وكذا اتفاقية حماية الوسط البحري لمنطقة بحر البلطيق لسنة 1992. في حين جاءت بعض الاتفاقيات بصيغ أكثر إلزامية، فألزمت الأطراف بتطبيق مبدأ الحيطة، إلا أنها تبقى غامضة، فيما يخص الالتزامات التي يوجبها محتواها، الأمر الذي يوحي بنوع من التردد، بالنسبة لقيمتها القانونية،([3]) ونذكر على سبيل المثال اتفاقية هلسنكي 1992 المتعلقة بحماية واستعمال المياه العابرة للحدود والبحيرات الدولية. وهناك من النصوص ما كان أكثر وضوحا، فأضاف ضرورة فعالية التكاليف، كالاتفاقية الإطارية لتغير المناخ لسنة 1992.([4]) بالإضافة إلى هذه النصوص، هناك اتفاقيات بينت التدابير الاحتياطية (les mesures de précaution) المتخذة من طرف الدول، كما هو الشأن بالنسبة لاتفاقية بماكو لسنة 1991 حول منع استيراد النفايات الخطيرة ورقابة حركتها العابرة للحدود في إفريقيا، حيث ألزمت الدول بتطبيق مبدأ الحيطة صراحة، أما الاتفاق التطبيقي الخاص باتفاقية قانون البحار والمتعلق بمخزون الأسماك المتنقلة وكثيرة الترحال، فيعتبر أكثر النصوص وضوحا في هذا الصدد، إذ أن المادة السادسة الواردة تحت عنوان " تطبيق النظرة الاحتياطية"، تشير لمختلف التدابير التي ترشد الدول حول مخازن الأسماك، حسب ما هو متفق عليه.([5]) إن عدم وجود معنى واضح لمبدأ الحيطة يعود إلى أن التعريفات الواردة في النصوص الدولية المتعلقة بالبيئة غير دقيقة ولا تستند على نفس الشروط.
3- شروط تطبيق مبدأ الحيطة
يبدأ سريان مبدأ الحيطة عند اجتماع شروطه، وتتمثل هذه الشروط في:
· غياب اليقين العلمي: فمبدأ الحيطة يعترف أن الإنسان لا يمكنه التحكم في كل المعطيات والاعتبارات العلمية، فهو يعترف بعدم اليقين العلمي(L'incertitude scientifique)، ويهدف المبدأ إلى أخذ الحيطة في مواجهة أخطار لا تزال مجهولة أو غير معروفة جيدا، وأصبح غياب اليقين العلمي، تدريجيا، حقيقة معترف بها دوليا.([6])
· احتمال حدوث الخطر: لقد غير القانون نظرته تماما، بتكريس مبدأ الحيطة، فأصبح يعتبر أنه من الضروري، الأخذ بعين الاعتبار، ليس فقط الأخطار المتوقعة ولكن أيضا الأخطار غير المؤكدة.
· تكييف الضرر: يرى معظم فقهاء القانون، أنه من الضروري، تحديد درجة معينة للضرر، لتفادي امتداد وتوسع مبدأ الحيطة، على عدد كبير من الحالات، أكثر مما هو محدد.([7]) ومتى توافرت جميع شروط مبدأ الحيطة يجب العمل على تطبيق هذا المبدأ على أرض الواقع.
بعد أن تم التطرق إلى الجانب المفاهيمي لمبدأ الحيطة، سنتناول القيمة القانونية لهذا المبدأ، نظرا لما تثيره هذه الأخيرة من تساؤلات.
المطلب: الثاني: القيمة القانونية لمبدأ الحيطة
يرى البعض، أن السبب في تحديد القيمة القانونية، يتمثل في أن ورود المبدأ ضمن نصوص الاتفاقيات، لا يعني بالضرورة الكشف عن قيمته القانونية، أي أن النص عليه ضمن أحكام اتفاقية ما، لا يعني أنه يمثل مبدأ من مبادئ القانون الوضعي.([8]) أما البعض الآخر، يرى أن المبادئ المنصوص عليها ضمن أحكام الاتفاقيات، تعتبر مبادئ من القانون الوضعي، وتكتسب قوة ملزمة قانونيا إزاء الدول أعضاء الاتفاقية، أما تلك المبادئ المنصوص عليها ضمن الديباجة، فهي تمثل عموما مبادئ مفسرة لقواعد قانونية أخرى أكثر دقة، وأما تلك التي تم النص عليها ضمن الإعلانات، فليست لها أية قيمة ملزمة، بل هي مجرد مبادئ توضيحية (Principes explicatifs)، ذات طابع إعلاني.([9])
زيادة عن المكانة التي يحتلها ضمن مختلف النصوص التي تشير إليه، هناك مسألة أخرى متعلقة بنوعية النص الذي يكرسه مبدأ الحيطة في حد ذاته، إذ يظهر المبدأ عادة ضمن اتفاقيات إطارية، وهي تعد تقنية مستخدمة كثيرا في قانون البيئة، حيث تسمح هذه التقنية بجمع مشاركة كبيرة من الدول، لكنها لا تشكل إلا مرحلة أولية في إعداد قواعد القانون الدولي للبيئة.([10])
كذلك، يظهر أن معظم المبادئ المنصوص عليها ضمن الاتفاقيات، سبق النص عليها ضمن الإعلانات، كما ساهمت هذه الإعلانات، في تكريس بعضا من مبادئ القانون الدولي للبيئة، لجعلها ترتقي لمرتبة القاعدة العرفية (Règle coutumière)، وطبيعة هذه النصوص تجعل نوع من التردد يحوم حولها، فيما يتعلق بقدرتها على النص على قواعد قانونية حقيقية، ونجد هذه الحالة خاصة، ضمن الإعلانات الصادرة عن المنظمات الدولية. كـمثال عـلـى ذلك الميثـاق العالمـي حـول الطبيعـة المؤرخ فـي 28 أكتوبر1982، وكـذا إعـلان ريـو حـول البيئـة والتنميـة المـؤرخ في 13 جوان 1992، وهي إعلانات مجردة من أي قيمة قانونية ملزمة، حتى بالنسبة للدول المخاطبين بها.([11])
وبالرجوع إلى القضاء الدولي، نجد أن العمل بهذا المبدأ جاء محتشما، فبالنسبة لمحكمة العدل الدولية، ظهر موقفها من مبدأ الحيطة، على إثر قيام فرنسا في السبعينات بإجراء بعض التجارب النووية، حيث رفعت عليها نيوزيلندا عام1973 ، دعوى أمام المحكمة، للمطالبة بوقف هذه التجارب. انتهت المحكمة في حكمها عام 1974 إلى عدم الفصل في موضوع النزاع، استنادا إلى صدور تصريح من الحكومة الفرنسية في 8 جوان 1974 بوقف تلك التجارب،([12]) إلا أن المحكمة نصت في الفقرة 83 من حكمها، على إجراء احترازي، بقولها إذا تم المساس بأساس حكمها فإن للمدعي أن يطلب منها بحث الموقف، وفقا لنصوص النظام الأساسي. وعلى إثر تصريح الرئيس الفرنسي في 21 أوت1995 ، بأن بلاده ستقوم بإجراء بعض التجارب النووية في المحيط الهادي، أودعت نيوزيلندا طلبا لبحث الموقف، استنادا للفقرة السابقة الذكر، واحتجت نيوزلندا بأن فرنسا عند مباشرة التجارب الأرضية في منطقة جنوب المحيط الهادي، لم تحترم مبدأ الحيطة الذي تعتبره كمبدأ متفق عليه في القانون الدولي المعاصر، فكان عليها تطبيق مبدأ الامتناع عن كل تجربة أرضية، مادامت لم تقدم الدليل على عدم خطورة هذه التجارب على البيئة. ردت فرنسا أن نظام المبدأ القانوني في القانون الوضعي هو"غامض" ولا يؤدي إلى تغيير لعبء الإثبات، وأنها قدمت معلومات موجهة لإثبات عدم خطورة التجارب النووية تحت الأرضية، على المدى القصير والبعيد، وحرصت على احترام أحدث متطلبات القانون الدولي، في مجال الوقاية من الأضرار التي قد تلحق بالبيئة.([13]) أما محكمة العدل الدولية، لم تذكر بتاتا حجة نيوزلندا وأصدرت قرار في 22 سبتمبر1995 ، رفضت من خلاله طلب نيوزلندا لأسباب مختلفة، ترجع إلى الإجراءات المتخذة، وبالتالي لم تقرر في إعطاء المبدأ القيمة القانونية.([14])
بالرجوع إلى الفقه، نجد أن مواقف الفقهاء قد اختلفت، حيث يرى البعض، أن هذا المبدأ يتمتع بقيمة عرفية، زيادة عن قيمته القانونية، فهو مؤكد ضمن النصوص الدولية، كما أنه حظي بممارسة دولية لبأس بها. في حين يرى البعض الآخر، أنه مجرد مبدأ توجيهي ذات طابع سياسي، فهو يستبعد تماما الطبيعة القانونية والعرفية للمبدأ.([15])
يتضح لنا، أن هذا المبدأ لا يزال محل اختلاف حول قيمته القانونية، سواء ضمن الاتفاقات الدولية أو على مستوى القضاء الدولي وحتى بالنسبة للفقه الذي تباينت مواقفه.
المبحث الثاني:مبدأ الحيطة في ظل النظام التجاري المتعدد الأطراف
من القضايا التي يمكن من خلالها التضرع بمبدأ الحيطة، تلك القضايا ذات التأثيرات الاجتماعية والصحية والبيئية. كما يؤثر مبدأ الحيطة في مجال المبادلات التجارية الدولية، إذ حاولت منظمة التجارة العالمية العمل به من خلال اتفاقية الصحة والتدابير الصحية، كما كان محورا لبعض النزاعات والقضايا التجارية، في إطار هيئة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية.
المطلب الأول:انفتاح منظمة التجارة العالمية على مبدأ الحيطة من خلال اتفاقية الصحة والصحة النباتية
إن اتفاقية الصحة والصحة النباتية، هي الاتفاقية الوحيدة، من جميع الاتفاقات المتعلقة بمنظمة التجارة العالمية، التي تتضمن أحكاما تتسق مع توجهات مبدأ الحيطة، إذ أن التطورات الموازية للعلاقة بين التجارة الدولية وحماية البيئة، يمكن تعديلها من خلال التطبيق الرشيد لمبدأ الحيطة.([16]) وقد أقرت ديباجة الاتفاقية بفكرة التوازن الضروري بين المصالح التجارية والاعتبارات البيئية، بقولها: "ينبغي منع أي عضو من تبني أو تنفيذ أي ترتيبات ضرورية لحياة أو صحة الإنسان والحيوان أو النبات، شرط أن لا تطبق مثل هذه التدابير، بطريقة قد تشكل وسيلة للتمييز التعسفي أو غير المبرر، بين البلدان التي تسود فيها نفس الظروف، أو أن لا يتم استخدامها مقنَّعة للحد من التجارة الدولية ".([17]) إذن، يلاحظ أن الديباجة قد أشارت إلى مبدأ الحيطة، إلا أن هذا الأخير سيتم تناوله بطريقة أكثر رسمية من خلال مواد هذا الاتفاق.([18])
عملا بأحكام الاتفاقية، للدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، الحق في اتخاذ التدابير الصحية والصحة النباتية، اللازمة لحماية صحة وحياة الإنسان والحيوانات أو المحافظة على الحياة النباتية، شريطة أن لا تتعارض تلك التدابير مع قواعد التجارة الدولية.([19]) إذ يجب أن تستند هذه التدابير على مبادئ علمية، و أن لا تخلق تمييزا تعسفيا أو غير مبرر في قواعد التجارة الدولية، و أن لا تتسبب في وضع حواجز مقنّعة أمام التجارة الدولية.([20])
إن تدابير اتفاقية الصحة والصحة النباتية (المتخذة أو التي يجب اتخاذها)، يجب أن تتطابق، بموجب المادة الثالثة من هذه الاتفاقية، مع المعايير والمبادئ التوجيهية والـتـوصـيـات الـدولـيـة ذات الصـلــة، ومثـال ذلك الدستــور الغـذائـي (Codex alimentarius)،([21]) وهو مجموعة من المعايير غير الملزمة، التي تم التفاوض بشأنها على المستوى الدولي، والمتعلقة بالمواد الغذائية. مع ذلك، يسمح للدول وفق هذه الاتفاقية،([22]) باتخاذ المزيد من التدابير المناسبة والصارمة، شرط أن تكون قائمة على أساس تقييم المخاطر، الذي وضعته المنظمات الدولية ذات الصلة، وأن تأخذ بعين الاعتبار الأدلة العلمية المتاحة والعوامل الاقتصادية ذات الصلة.([23])
وفي الحالة التي تكون فيها الأدلة العلمية ذات الصلة غير كافية، على العضو أن يعتمد تدابير الصحة والصحة النباتية بصفة مؤقتة، على أساس المعلومات المتاحة، بما في ذلك الصادرة عن المنظمات الدولية. في مثل هذه الظروف، يتعين على الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، أن تسعى للحصول على معلومات إضافية وضرورية لزيادة موضوعية تقييم المخاطر، وإعادة النظر في تدابير الصحة والصحة النباتية وفقا لذلك، في غضون فترة زمنية معقولة.([24])
كل هذه الأحكام، جاءت لتحث على تطبيق مبدأ الحيطة في العلاقات التجارية الدولية، رغم أن منظمة التجارة العالمية لم تتخذ موقفا نهائيا بشأن تطبيقه. رغم عدم اعتبار مبدأ الحيطة الدافع الذي يقوم عليه تطبيق تدابير الصحة والصحة النباتية، فإن التفسير الواسع للمعايير اللازمة لتنفيذ تدابير الصحة والصحة النباتية، يشير إلى أن هذه المعايير هي في صالح تطبيق هذا المبدأ.
المطلب الثاني: مبدأ الحيطة في إطار جهاز تسوية المنازعات
لقد كان لقضاء منظمة التجارة العالمية الفرصة للبت في مدى انطباق مبدأ الحيطة في قضية تعرف بـ"اللحوم المعالجة بالهرمون"، و التي سبق و أن أشرنا إليها،([25]) حيث منع الاتحاد الأوروبي واردات الولايات المتحدة وكندا من لحم البقر المعالج بالهرمون، وادعى أن المنع يعتبر ضروريا، نظرا للضرر الذي يسببه هذا النوع من الغذاء على صحة الإنسان (المنع لأسباب صحية). احتجت الولايات المتحدة الأمريكية وكندا بعدم وجود دليل علمي، بخصوص الآثار المضرّة للحم المعالج بالهرمون. تدخلت هيئة الاستئناف، للبت في مدى انطباق مبدأ الحيطة، على النحو الوارد في الفقرتين 121 و 122 الواردتين في تقريرها حول هذه القضية، الصادر في 16 يناير 1998.([26])
وتستند حجة الجانب الأوروبي، على أن مبدأ الحيطة أصبح قاعدة عرفية عامة في القانون الدولي، وهو لا يقل عن أي مبدأ عام في القانون، وأن تطبيقه لا يعني بالضرورة، أن جميع العلماء في جميع أنحاء العالم يتفقون على احتمال أو حجم الخطر.([27]) فسواء بالنسبة لجميع أعضاء منظمة التجارة العالمية، أو بالنسبة لمعظمهم، فإن تحديد المخاطر و تقييمها لا يكون بنفس الطريقة. إن التدابير الأوروبية المطعون فيها تعتبر بالنسبة للجانب الأوروبي، تدابير احترازية. أما الولايات المتحدة، تعتقد أن مبدأ الحيطة ليس قاعدة من قواعد القانون الدولي، وإنما يعتبر نهجا وليس مبدأ. كما تعتبر كندا أيضا، أن مبدأ الحيطة لا يعد جزءا لا يتجزأ من القانون الدولي العام، إلا أنها تعترف بأن "مفهوم" أو "نهج الحيطة"، هو مبدأ من مبادئ القانون الناشئة، التي يمكن أن تصبح في المستقبل "واحدة من مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدنة"، بالمعنى المقصود في المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.([28])
إن الحجج المقدمة أمام هيئة الاستئناف (l'Organe d'appel)، تتطلب من قضاء منظمة التجارة العالمية، أن يعطي رأيه حول أساس مبدأ الحيطة، إلا أن رأي هيئة الاستئناف جاء واسعا وغامضا، إذ ذهبت إلى القول بأنه، "إذا أصبح هذا المبدأ عند البعض مبدأ عاما من مبادئ القانون الدولي العرفي للبيئة، فإنه لحد الآن لم يتم إقراره (كمبدأ) بوضوح من قبل أعضاء منظمة التجارة العالمية". وأشار جهاز الاستئناف أن الفريق نفسه لم يتقدم بأي استنتاج نهائي، بشأن وضع مبدأ الحيطة في القانون الدولي، كما أشار إلى أن هذا المبدأ، لم تكن له أي صياغة تسمح باللجوء إليه، على الأقل خارج القانون الدولي للبيئة.([29])
إن عدم وجود أي قرار رسمي بشأن هذه المسألة، يعني أن التطبيق الصارم لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية، هو المسار المعتمد عليه من طرف هيئة الاستئناف، لحل النزاعات الناجمة عن القيود المفروضة على التجارة الدولية، التي وضعتها بعض الدول الأعضاء في المنظمة، بسبب مشاكل صحية أو أمنية. وبالإضافة إلى ذلك، أشار جهاز الاستئناف، أن اتفاقية تدابير الصحة و الصحة النباتية لا تتجاهل تماما مبدأ الحيطة، لأنها تشير إلى ذلك في المادتين 5/7 و 3/3، إلا أن ذلك لا يعني الأخذ به.([30])
نلاحظ أن جهاز تسوية المنازعات، رفض اتخاذ موقف واضح، سواء بالنسبة للجانب الأوروبي أو الجانب الآخر، فلم يعارض صراحة النطاق الحقيقي لمبدأ الحيطة، كما أنه لم يؤكد عليه بوضوح.([31])
ونظرا لأهمية قواعد منظمة التجارة العالمية، سيكون لقرارات جهاز تسوية المنازعات دورا هاما في تطبيق مبدأ الحيطة، لذا، فمن الضروري أن يتحرر هذا الجهاز من موقفه المتباين اتجاه هذا المبدأ. وللإشارة، فإن هذا الأخير، تم تبنيه من قبل الاتحاد الأوروبي ومن خلال القانون الدولي للبيئة، باعتباره يهدف إلى إنشاء علاقات ثقة فيما يتعلق بالمصالح المتبادلة بين التجارة الدولية والبيئة.
الخاتمة
يبدو أن ضرورة تطوير التفاعل الإيجابي بين السياسات التجارية والسياسات البيئية، و العمل على إنجاح الفرص المتاحة لذلك، أمرا لابد من تشجيعه أكثر على مستوى الدولة، ثم على مستوى الهيئات في منظمة التجارة العالمية والاتفاقات البيئية المتعددة الأطراف. كما أن التوازن الضروري بين التجارة الدولية وحماية البيئة، يعد جزءا من أهداف التنمية المستدامة، لذلك لا ينبغي وجود تعارض مباشر بين المبادئ الأساسية لمنظمة التجارة العالمية، والتدابير التجارية المتخذة لحماية البيئة، بما في ذلك مبدأ الحيطة الذي ساهم بشكل أو بآخر، في تحقيق نوع من التقارب التجاري البيئي. وعليه، يمكن إعطاء بعض التوصيات خدمة لأهداف الدراسة:
1. إعطاء الكثير من الاهتمام لمبدأ الحيطة، باعتباره من أهم المبادئ التي يستند عليها القانون الدولي للبيئة.
2. إدراج مبدأ الحيطة في جميع الاتفاقيات التجارية المتعددة الأطراف.
3. الضغط على جهاز تسوية المنازعات التابع لمنظمة التجارة العالمية، لأخذ مبدأ الحيطة بعين الاعتبار، في القضايا ذات الصلة بحماية البيئة.
([1]) تكارلي فريدة: مبدأ الحيطة في القانون الدولي للبيئة، مذكرة ماجستير، جامعة الجزائر، 2005، ص 4.
([2]) تكارلي فريدة: المرجع نفسه، ص 57.
([3]) عماد اشوي: الطبيعة القانونية لمبدأ الحيطة في الاتفاقيات الدولية المنظمة للبيئة، مجلة الفقه و القانون، أكتوبر 2012، ص 5، http://www. Majalat.new. ma، تاريخ الاطلاع 17- 01-2013.
([4]) تنص المادة 2 الفقرة 3 من الاتفاقية الإطارية لتغير المناخ على:" حيث ألزمت الأطراف باتخاذ تدابير الحيطة لاستباق أسباب تغير المناخ أو الوقاية منها أو تقليلها إلى الحد الأدنى و للتخفيف من آثاره الضارة، و حيثما توجد تهديدات بحدوث ضرر جسيم أو غير قابل للإصلاح، لا ينبغي التذرع بالافتقار إلى يقين علمي قاطع كسبب لتأجيل اتخاذ هذه التدابير، على أن يؤخذ في الاعتبار أن السياسات والتدابير المتعلقة بمعالجة تغير المناخ، ينبغي أن تتم بفعالية الكلفة بما يضمن تحقيق منافع عالمية بأقل تكلفة".
)[5] ( Laurent LUCCHINIM : le principe de précaution en droit international de l’environnement: ombres plus que lumières », Annuaire français de droit international, volume 45, 1999, p 223.
([6] ) عماد اشوي: المرجع السابق، ص 7.
([7]) Abraham Yao GADJI: libéralisation du commerce international et protection de l’environnement, thèse de doctorat en droit, Université de Limoges, France, 2007, p 414.
([8]) Laurent LUCCHINIM : Op.Cit, p 717.
([9]) تكارلي فريدة: المرجع السابق، ص 66.
([10]) عماد اشوي: المرجع السابق، ص8.
([11]) عماد اشوي: المرجع نفسه، ص 9.
)[12]( Demande d’examen de la situation au titre du paragraphe 63 de l’arrêt rendu par la cour le 20 décembre 1974 dans l’affaire des essais nucléaires (Nouvelle – Zélande c France), Ordonnance du 22 septembre 1995. Cour International de justice. Recueil des arrêts avis consultatifs et ordonnances.
http://www.icj-cij.org/docket/files/97/7554.pdf, 20-02-2013.
([13]) تكارلي فريدة: المرجع السابق، ص 70.
)[14]( Laurent LUCCHINI : Op.Cit. p 720.
)[15]( Laurent LUCCHINIM : Ibid. p 718.
)[16] (Mario PROST : D’abord les moyens, les besoins viendront après commerce et environnement dans la « jurisprudence » du GATT et de l’OMC, Op.Cit, p 134.
[17])) مصطفى رشدي شيحة: اتفاقية التجارة العالمية في عصر العولمة، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2004، ص 159.
([18]) تكارلي فريدة: المرجع السابق، ص 74.
([19]) Vincent Thierry BOUANGUI: La protection de l'environnement et l'OMC : nature des rapports et perspectives d’harmonisation, thèse doctorat, université de Reims, Atelier national de reproduction des thèses, 2001, p 95.
([20]) جاء النص على ذلك في المادة 2 من اتفاقية الصحة والصحة النباتية حيث حددت هذه المادة الحقوق والالتزامات الأساسية.
([21])هيئة الدستور الغذائي هي هيئة حكومية دولية أنشئت في عام 1962 من قبل منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية (OMC) من أجل وضع معايير دولية للمنتجات الغذائية.
([22]) المادة 5/2 من اتفاقية الصحة والصحة النباتية تنص على: "على البلدان عند تقييم المخاطر أن تأخذ في الاعتبار الأدلة العلمية المتاحة، وعمليات الإنتاج المناسبة، وطرق المعاينة و أخذ العينات و الاختبار المناسبة، و مدى انتشار الأمراض والآفات المحددة، ووجود المناطق الخالية من الآفات أو الأمراض، و الأوضاع الإيكولوجية والبيئية المناسبة وتدابير الحجر الصحي أو أي علاج آخر".
)[23]( Abraham Yao GADJI: Op.Cit, p 422.
([24]) تنص المادة 5/7 من اتفاقية الصحة و الصحة النباتية على: "في الحالات التي لا يوجد فيها دليل علمي كافي، يجوز للبلد العضو، بصورة مؤقتة أن يعتمد تدابير لحماية صحة الإنسان أو النبات على أساس المعلومات الواردة من المنظمات المعنية بالإضافة إلى تدابير حماية صحة الإنسان أو النبات التي تطبقها بلدان أعضاء أخرى. وفي مثل هذه الحالات، على البلدان الأعضاء السعي إلى الحصول على معلومات إضافية ضرورية لزيادة موضوعية تقييم المخاطر وإعادة النظر في تدابير حماية صحة الإنسان أو النبات طبقا لذلك في غضون فترة معقولة من الزمن."
)[25]( Mario PROST: Op.Cit, p 134.
)[26]( Laurent LUCCHINIM : Op.Cit, p 720.
([27]) مصطفى رشدي شيحة: المرجع السابق، ص 158.
)[28]( Voir le site web de l’OMC :
http://www.wto.org/french/tratop_f/sps_f/sps_agreement_cbt_f/c8s2p1_f.htm, date de consultation : 02-03-2013
)[29]( Abraham Yao GADJI: Op.Cit, p 425.
([30]) مصطفى رشدي شيحة: المرجع السابق، 161.
)[31]( Laurent LUCCHINIM : Op.Cit, p 721.