ضمانات حقوق الأجراء خلال مساطر صعوبات المقاولة – العدد 22 من سلسلة الأبحاث الجامعية و الأكاديمية
ضمانات حقوق الأجراء خلال مساطر صعوبات المقاولة – العدد 22 من سلسلة الأبحاث الجامعية و الأكاديمية
إعداد الباحث زهير الخليفي
لقد عرف المجتمع الدولي على مستوى النشاط الإقتصادي عدة تطورات، فرضت على مكوناته التوجه نحو الإنفتاح ورفع الحواجز، لبناء نظام إقتصادي جديد يستطيع تحقيق التنمية على جميع المستويات.
والمغرب بإعتباره يشكل أحد مكونات هذا المجتمع، وبإعتباره جزءا أو طرفا في هذا النظام العالمي الجديد الذي يقوم على المنافسة الدولية، فقد سار في إتجاه تحديث نصوصه التشريعية لملاءمتها مع التطورات التي يعرفها العالم كل يوم، إذ أن النصوص التي يضعها المشرع سرعان ما يتجاوزها الواقع المتطور والمتغير، ومن ثمة تتولد الحاجة إلى إعادة النظر فيها بإلحاح شديد.
كما أن التحولات التي يعرفها الإقتصاد والمرتبطة من جهة بعنصر المنافسة، الذي يفرض على المقاولة التوفر على آليات ووسائل تمكنها من الحفاظ على مكانتها داخل المنظومة الإقتصادية، ومن جهة أخرى ترتبط بوثيرة الأزمة التي تؤثر على بقاء المقاولة داخل السوق، وتفرض على هذه الأخيرة ضرورة تصحيح هياكلها قصد مواجهة المنافسة وتوقي الأزمات[1].
ولما تنبه المشرع المغربي إلى أن نظام الإفلاس[2] المتسم بالطابع العقابي، أضحى عاجزا عن مواكبة التطور الذي عرفه الإقتصاد العالمي، إضافة إلى كونه لم يعد يخدم الأهداف الإقتصادية، بسبب إعتماده على تصفية أموال المدين المتوقف عن الأداء، إلى جانب كونه لا يراعي المصلحة العامة، وإنما كان إهتمامه مركزا على حماية المصالح الخاصة للدائنين، مما كان يؤثر على وجود المقاولة التي كانت مهددة في ظل هذه الوضعية بالتصفية الكلية لأصولها.
لهذا سعى المشرع إلى تجاوز هذا النظام، ليتبنى منظور جديد يهدف إلى معالجة الصعوبات التي تعترض المقاولة، وذلك بعد أن ظهرت الحاجة إلى إعتماد نظام قانوني بديل، يكون هدفه الأول ضمان بقاء المقاولة مع مراعاة المصالح المرتبطة بها، عبر إعتماد آليات تقوم على الوقاية والمعالجة بالشكل الذي يضمن إستمرار تلك المقاولة، وهذا ما تمت ترجمته على أرض الواقع مع صدور مدونة التجارة[3] لسنة 1996، والتي يمكن إعتبارها من أهم حلقات إصلاح وتحديث ترسانة قانون الأعمال بالمغرب[4]، إذ جاءت في ظل التطورات والتحولات الإقتصادية المتسارعة، التي حتمت على المغرب ضرورة إصلاح ترسانته القانونية، من أجل تدعيم العلاقات التجارية ومعالجة النزاعات المرتبطة بها بمنظور جديد وفق واقعية إقتصادية[5].
إذ بمجرد صدور مدونة التجارة تم إعتماد ذلك النظام من خلال كتابها الخامس (المواد من 545 إلى 732) المخصص لنظام صعوبات المقاولة[6]، هذا الأخير الذي شكل قطيعة مع نظام الإفلاس ذو الطابع التصفوي[7]، عبر أخذه بالمعيار الإقتصادي للتوقف عن الدفع[8]، بهدف الحفاظ على المقاولة كوحدة إقتصادية منتجة والحفاظ على مصالح مختلف الأطراف العاملة فيها والمتعاملة معها، وذلك بالعمل على إيجاد توازن بين هذه المصالح، ومن تم الحفاظ على الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي.
وعليه فإن المشرع المغربي في م.ت، تخلى عن الطابع العقابي لنظام الإفلاس لفائدة النظام الوقائي المتمثل في مسطرة المعالجة، إذ تتضمن هذه المسطرة مجموعة من التدابير، التي تبرز رغبة المشرع في تمكين المقاولة من كل الوسائل وصيغ المرونة، التي تسمح لها في حالة وجودها في وضعية صعبة من تجاوز كَبوتها، وذلك عن طريق توقيف كل المطالبات أو المتابعات القضائية التي تواجه المقاولة، وكذا عن طريق وضع مخطط التسوية والمعالجة.
ولعل أهم ما يسترعي الإنتباه في قانون صعوبات المقاولة، هو التغيير الذي حصل في الوظيفة القضائية، حيث تحول الدور القضائي من دور سلبي موضوعه وغايته حماية الدين، إلى دور إيجابي –إقتصادي إجتماعي– موضوعه وغايته حماية وإنقاد المقاولة بإعتبارها نواة الإقتصاد الوطني، ومن تم إقرار السلم الإجتماعي عبر الحفاظ على أكبر عدد ممكن من مناصب الشغل، وقد عمد المشرع في هذا الإطار إلى تنويع الأجهزة القضائية المتدخلة حسب طبيعة المسطرة المفتوحة، وحسب المرحلة التي تمر منها المسطرة وطبيعة المهام الواجب إنجازها، بدءا من رئيس المحكمة التجارية[9]، إلى القاضي المنتدب[10]، والنيابة العامة[11]، ثم السنديك[12] كفاعلين أساسيين في مساطر صعوبات المقاولة.
تبعا لذلك وبدافع الضرورات الإجتماعية بالأساس، عمد المشرع المغربي إلى الإهتمام بالجانب الحقوقي للأجراء[13]، عبر إدخال مجموعة من التعديلات والإصلاحات على نصوصه القانونية لتساير المناخ العام الدولي والتوجهات العالمية، لإستقرار الشغل، حيث أعلن بتاريخ 11 شتنبر 2003، عن ميلاد مدونة الشغل[14]، التي أتت بمجموعة من المستجدات القانونية، تصدرتها ديباجة تبرز دور الشغل في البلاد، وصيانة كرامة الإنسان والنهوض بمستواه المعيشي، لتحقيق الشروط المناسبة لإستقراره العائلي وتقدمه الإجتماعي، كما ربطت المدونة وجود المقاولة وإستمرارها بتواجد الأجراء وإستقرار حقهم في الشغل[15]، ليتم بعد ذلك تكريس هذا الحق دستوريا[16].
فإذا كان لنظام صعوبات المقاولة أهمية كبرى[17] في العمل على إستمرار المقاولة في الحياة الإقتصادية، رغم الصعوبات التي تعترضها، فإن الجانب الإجتماعي لم يحظى بنفس الإهتمام في هذا النظام، بما يضمن حقوق الأجراء داخل المقاولة الخاضعة له، وهو ما سعت مدونة الشغل لتداركه رغبة في تحقيق نوع من التوازن بين ما هو إقتصادي وما هو إجتماعي، إذ بتصفح هذين القانونين نجدهما متداخلين، ويصعب تحقيق أهداف أحدهما دون الأخذ بعين الإعتبار أهداف القانون الآخر، فنظام صعوبات المقاولة لا يمكن أن ينجح في إنقاذ المقاولة من الصعوبات، إذا لم تتم مراعاة قانون الشغل الذي يحمي الأجراء بإعتبارهم أحد مكونات هذه المقاولة، وهذا الإرتباط يظهر جليا من خلال بعض النصوص الواردة في الكتاب الخامس من م.ت[18]، والتي على الرغم من قلتها إلا أنها تؤكد عزم المشرع على المضي في الإصلاح بشكل منسجم ومتناسق مع م.ش[19]، تبعا لذلك وأمام قلة النصوص المنظمة لحقوق الأجراء في نظام صعوبات المقاولة، يظهر أن تحقيق أهداف هذا الأخير يبقى رهينا بحماية الأجراء وضمان حقوقهم التي أقرتها لهم مدونة الشغل، وبمطالعة هذه الأخيرة نجد أنها تضمن للأجراء الحق في الشغل، والحق في الأجر، ثم تضفي عليهما طابعا حمائيا يستحضر خصوصياتهما.
لكن معالجة صعوبات المقاولة، التي إما أن تتخذ شكل تسوية قضائية، أو تصفية قضائية غالبا ما يستلزم فصل بعض الأجراء، وهو ما يدعو للتساؤل عن حجم الضمانات التي سنها المشرع لحماية حقوق هذه الفئة، خاصة إذا أصبحت حقوقها تشكل عرقلة أمام نجاح أهداف نظام صعوبات المقاولة -وهو هدف المشرع الرئيسي-، دون التضحية ولو ببعض مناصب الشغل، ما يجعل من تحقيق أهداف القانونين معا أمرا مستعصيا، وفي ظل هذه المفارقة يصبح الجهاز القضائي هو الموفِق بين مساطر صعوبات المقاولة، ومدونة الشغل، من خلال حرصه ما أمكن على معالجة المقاولة من الصعوبات التي تعترضها دون إعفاء الأجراء، وفي الحالة التي لا مفر فيها من الإعفاء، فرض الرقابة عليه بما يتماشى وأهداف م.ش.
كل هذه النقط يمكن معالجتها من خلال موضوع: “ضمانات حقوق الأجراء خلال مساطر صعوبات المقاولة“، والذي إخترنا البحث فيه لعدة إعتبارات أهمها: حساسية موقع الأجراء إذ لا يجب إغفال أن الأجير يكفل أسرته بما تدره عليه المقاولة التي يشتغل فيها من أجر، هذا الأخير الذي يتهدده شبح عدم أدائه في ظل توقف المقاولة عن الدفع، إذ مازال الأجير يعد من أكبر المتضررين نتيجة الأزمات التي تهدد المقاولة والتي قد تعصف بها، كما تتأكد أهمية هذا الموضوع من خلال الصعوبات التي تواجهه والإشكالات التي يطرحها.
أولا : صعوبات البحث
إن أول ما يجابه البحث في هذا الموضوع من صعوبات، هو قلة النصوص القانونية التي تتطرق له في إطار الكتاب الخامس من م.ت، والذي أبان عن قصوره من خلال الإنتقادات التي وجهت إليه[20]، إضافة إلى قلة المراجع الخاصة في موضوع حقوق الأجراء في مساطر صعوبات المقاولة، إلى جانب عدم إفراد تبويب خاص لفئة الأجراء في الكتاب الخامس من م.ت، الأمر الذي إستدعى البحث بين كل فقرات هذا الكتاب للوقوف على كيفية تعامل المشرع المغربي مع هذه الفئة، تنضاف إلى ذلك صعوبة قانونية تتجلى في الترابط بين قانونين مختلفين، قانون الشغل وقانون صعوبات المقاولة، مع ما ينتج عن ذلك من غموض في بعض الأحيان، فقانون صعوبات المقاولة يحيل على قانون الشغل دون تحديد دقيق للمواد المحال عليها[21] هذا من جهة.
ومن جهة أخرى قلة الأعمال القضائية المنشورة، مما فرض علينا البحث عن الأحكام والأوامر والقرارات غير المنشورة مع ما يتسم به ذلك من صعوبة.
دون إغفال كثرة التعديلات والتغييرات، التي شهدتها مقتضيات القانون الفرنسي المؤطرة للموضوع سواء في قانون العمل، أو في القانون التجاري، أو القانون رقم 98-85 ل 25 يناير 1985، والتي أمامها يستعصي على الباحث في هذا الموضوع، مواكبة أخر مستجدات الساحة القانونية الفرنسية.
غير أنه رغم هذه الصعوبات التي تجابه الموضوع فقد تم بدل جهد فيه، والإستئناس بالكتابات الفقهية التي تيسر الإطلاع عليها، حتى تيسر لنا فهمه والوقوف على الإشكالات التي يثيرها.
ثانيا : الإشكالات المطروحة
إذا كان قانون صعوبات المقاولة قد جاء لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، وهي حماية المقاولة، ومناصب الشغل ثم تصفية الديون، فإن إشكالا محوريا يطرح في هذا المقام حول حجم الضمانات التي سنها المشرع لحماية حقوق الأجراء؟ والذي تتفرع عنه العديد من التساؤلات أبرزها: هل حظيت حقوقهم بالأولوية مقارنة مع الأهداف الأخرى؟ أم سيتم التضحية بهم في سبيل إنقاذ المقاولة على إعتبار أن إنقاذها هو إنقاذ للإقتصاد برمته؟ ثم ما مصير عقد الشغل في ظل الحل المعتمد؟ وما ضمانات أداء أجور الأجراء المستحقة لهم خاصة أمام تقرير فصلهم من طرف القضاء بغية إنجاح مخطط التسوية؟ أو عند تقريره لتصفية المقاولة؟
كما أن القضاء وعلى ضوء التغيير الحاصل في وظيفته لم يعد دوره مقتصرا على فض النزاعات بين الأطراف، بل أصبح له دور إقتصادي وإجتماعي كذلك من أجل إنقاذ المقاولة، وإيجاد السبل الكفيلة بمعالجتها وبالتالي إستقرار علاقات الشغل داخلها، ومن تم فإن إشكالا آخر يطرح حول دور القضاء في تفعيل حقوق الأجراء في إطار مساطر صعوبات المقاولة ؟ والذي تتفرع عنه مجموعة من التساؤلات نابعة من صميم الدور الذي ينبغي أن يضطلع به الأجراء في هذه المساطر بإعتبارهم من أبرز المعنيين بها.
فالأجير قد يكون من مصلحته فتح المسطرة في مواجهة المقاولة المتوقفة عن أداء مستحقاته، فيتقدم بطلب بذلك إلى المحكمة، فهل تستجيب هذه الأخيرة لطلبه؟ وعلى أي أساس؟ وإذا ما إستجابت لطلبه فهل سيتم إشراكه في إختيار الحل المناسب للمقاولة؟ وإذا ما تم إختيار حل معين، وكان هذا الحل المختار سيؤدي إلى إنهاء بعض عقود الشغل، فهل يمكن للمحكمة مراقبة هذا الإنهاء، في ظل وجود مسطرة إدارية تحرج المحكمة في قيامها بمهامها كسلطة مستقلة؟ ومدى مراعاة أجهزة المسطرة –المعينة من طرف القضاء– لحقوق الأجراء؟ وكيف وظف القضاء النصوص القانونية القليلة، لإنقاذ المقاولة وفي نفس الوقت الحفاظ على عقود الشغل وأداء الأجور؟ ثم أهم العراقيل التي تواجه القضاء في سبيل تحقيقه لكل هذه النقط؟
ثالثا : منهجية البحث
من أجل الإجابة على الإشكالات التي يثيرها الموضوع وتفادي الصعوبات التي تواجهه، فقد تم الإعتماد على منهجية للبحث تم التركيز فيها على العمل القضائي، من خلال إستعراض مواقف المحاكم المغربية من الموضوع التي تيسر لنا الحصول أو الإطلاع عليها، ثم المنهج المقارن وذلك بالوقوف على مختلف النقاط التي يختلف فيها التشريع المغربي عن التشريع الفرنسي، إلى جانب المنهج التحليلي والنقدي، من خلال تحليل المقتضيات القانونية والوقوف على مختلف الثغرات بها من خلال ما أمكن تسجيله إليها من مؤاخذات.
رابعا : خطة الدراسة
يبقى البعد الإجتماعي أحد العناصر البارزة داخل المقاولة، لذلك يتوخى التشريع المحافظة عليها لتوفير ضمانات البقاء للمصالح المرتبطة بها، ويتعلق الأمر هنا بالحق في الشغل، إلى جانب العنصر الثاني المرتبط بضمان أداء مستحقات الأجراء وهو الحق في الأجر، هؤلاء الأجراء الذين يلعبون بحكم موقعهم داخل المقاولة دورا بارزا في النهوض بها.
وتناول هذين الحقين معا –الحق في الأجر والحق في الشغل– وتوضيح موقف القضاء منهما لا يمكن أن يستقيم، إلا من خلال عنوان يأخذ بعين الإعتبار هذه الخاصية المشتركة بينهما، وهي أن كلاهما حق من حقوق الأجراء يتكفل القانون بضمانهما لهم كيفما كانت وضعية المقاولة، على أن الأمر يدِق في الحالة التي تكون فيها وضعية المقاولة مختلة ومتعثرة.
لذلك يكون من المفيد جمعهما في فصل مستقل عنوناه بالضمانات القانونية لحقوق الأجراء خلال مساطر صعوبات المقاولة.
ولكي تطلع الدولة بمسؤولياتها اتجاه المقاولة، أوكلت للقضاء التجاري صلاحيات مهمة تتجلى في سلوك مجموعة من المساطر لضمان إستمرار نشاط المقاولة، والحفاظ على التشغيل، وحماية مصالح الدائنين دون إهمال تنفيذ إلتزامات المقاولة، وذلك إستجابة لمسايرة التطور الإقتصادي، وهكذا أصبح القضاء يقوم إلى جانب مهامه الكلاسيكية بأخرى إقتصادية تسير في إتجاه خدمة المصالح الإجتماعية.
وحتى تتضح الرؤيا أكثر ويكتمل البحث العلمي، فإنه لابد من عرض الدور الذي يلعبه القضاء ضمانا لحقوق الأجراء في مساطر صعوبات المقاولة، فالقضاء بإعتباره المختص بفتح المسطرة وتعيين أجهزتها، وتتبع هذه المسطرة من بدايتها إلى نهايتها، يبقى ملزما بمراعاة المصالح المتواجدة والتي تتأثر حتى قبل فتح تلك المسطرة ومنها مصالح الأجراء.
يظهر أن مجمل هذه النقط، ومختلف تلك التساؤلات التي تم طرحها تتعلق بموضوع واحد وهو: الضمانات القضائية لحقوق الأجراء خلال مساطر صعوبات المقاولة، والذي سيكون عنوانا للفصل الثاني.
فتكون بذلك خطة هذا البحث التي نعتبرها الأقرب للإحاطة بعناصر هذا الموضوع، خطة ثنائية من فصلين على الشكل التالي:
الفصل الأول : الضمانات القانونية حقوق الأجراء خلال مساطر صعوبات المقاولة
الفصل الثاني : الضمانات القضائية حقوق الأجراء خلال مساطر صعوبات المقاولة
لتحميل البحث