مقالات قانونية

عيب الانحراف بسلطة تأديب الموظف العام

قيادة

أ. لعلام محمد مهدي

أستاذ جامعي في القانون العام

كلية الحقوق والعلوم السياسية – بجامعة تلمسان

مقدمة

من المعروف بأنه لرجل الإدارة بعض من السلطة التقديرية في اتخاد القرارات الإدارية التي يراها مناسبة في إطار ممارسته لمهامه، إلا أن ممارسة تلك السلطة في إطار القيام بتلك المهام يجب أن تتم فيها الشكل الذي يفرضه القانون، والإدارة منها السلطة التأديبية في الكثير من الممارسات تتخذ قرارات تدخل في اختصاصها ولكن لتحقيق أغراض أخرى غير التي من أجلها منحت هذه السلطة وهذا ما يعرف بعيب انحراف استعمال السلطة.

والسلطة التي تتمتع بها الإدارة ليست غاية في حد ذاتها وإنما هي وسيلة لتحقيق الغاية المتمثلة في المصلحة العامة للمجتمع، فإذا انحرفت الإدارة في استعمال سلطتها بإصدارها قرارات تتعارض أهدافها مع المصلحة العامة فإنها تكون مشوبة بعيب إساءة استعمال السلطة أو الانحراف بها (Détournement de pouvoir)، حيث يعد هذا العيب من أهم أوجه الطعن بالإلغاء التي تصيب القرارات التأديبية.

        ويجد عيب الانحراف بسلطة التأديب أساسا له في الدستور الجزائري من خلال المادة 22 منه حيث تنص: ” يعاقب القانون على التعسف في استعمال السلطة”. ولذلك سيتم دراسة هذا العنصر المهم من عناصر القرار الإداري والتأديبي على وجه التحديد أولا من خلال التعرف على ماهية عيب الانحراف بالسلطة (المبحث الأول)، كمقدمة لدراسة صور عيب الانحراف بالسلطة إصدار القرار التأديبي ووسائل إثباته (المبحث الثاني).

المبحث الأول
ماهية عيب الانحراف بالسلطة

يعتبر عيب الانحراف بالسلطة من أهم العيوب وأخطرها من حيث خروجه عن مبدأ المشروعية، وذلك لاعتباره عيب قصدي مرتبط بنية مصدر القرار، حيث يقوم عن طريق توظيف السلطة التي منها له القانون لتحقيق أهداف غير مشروعة. فلذلك سيتم التطرق لماهية عيب الانحراف بالسلطة وإساءة استعمالها من خلال التعرض لمفهوم هذا العيب (المطلب الأول)، ثم بيان الخصائص التي تميزه (المطلب الثاني).

المطلب الأول
مفهوم عيب الانحراف بالسلطة

    إن
إقدام رجل الإدارة على استخدام سلطاته الواسعة لتحقيق أغراض غير المصلحة العامة أو غير الأهداف المسطرة، تجعل تصرفه مخالفا للقانون منتهكا لمبدأ المشروعية انتهاكا صارخا.

    والهدف يعبر عن الغاية النهائية والنتيجة التي يستهدف مصدر القرار الإداري تحقيقها من وراء إصدار قراره، ويتميز عنصر الهدف أو الغرض عن عنصر السبب أو الدافع أو المبرر، من حيث أن السبب هو الواقعة التي تدفع بالإدارة إلى التدخل، في حين أن الهدف هو النتيجة النهائية لذلك التدخل، ومثال ذلك أن سبب توقيع عقوبة تأديبية هو ارتكاب خطأ تأديبي، أما الغاية والهدف من توقيع العقوبة فهو توفير الردع العام صيانة للقانون وضمان سير المرفق العام بانتظام واضطراد.

والتفرقة بينهما تكون سهلة في القرارات الغير معيبة بالانحراف، أما في المعيب بالانحراف فقد يختلطان، كأن تفصل السلطة التأديبية أحد الموظفين إرضاء لشهوة الانتقام في نفس أعضائها، فهنا يختلط السبب بالهدف وينحصران في رغبة الانتقام، حيث يكون الانتقام هو السبب في توقيع عقوبة الفصل وفي نفس الوقت الهدف والنتيجة التي تسعى إلى تحقيقها.

        ويعرف عيب الانحراف بالسلطة بأنه وجه لعدم مشروعية القرار التأديبي متصل بغاية إصداره، يتحقق حينما ُتستخدم السلطة بواسطة جهة إدارية من أجل تحقيق غرض آخر غير الذي من أجله منحت لها تلك السلطة بواسطة القانون. والسلطة التي منحها القانون لرجل الإدارة لا تجد لها أساس يبررها سوى تحقيق المصلحة العامة أو إحدى صورها التي يبينها القانون على وجه التحديد طبقا لقاعدة الأهداف المخصصة.

وخطورة عيب الانحراف بالسلطة تتمثل في تعلقه بعدم المشروعية الخفية وراء سلامة جميع عناصر القرار الإداري التي تعطيه مظهرا خارجيا سليما من وجهة النظر القانونية، ولكنه يخفي وراءه قصد سيء أو على الأقل خطأ غير مقصود ناتج عن إهمال وتقصير في اختيار الهدف المشروع الذي يعتبر العنصر الوحيد المعيب فيه.

    ولا يقصد بعيب الانحراف دائما مجرد البعد عن المصلحة العامة (Intérêt général)، وإنما يقصد به كذلك وهو الغالب خروج رجل الإدارة عن الهدف المسطر لبعض القرارات وفقا لقاعدة تخصيص الأهداف(La specialisation de but) . حيث أنه إذا لم يحقق الهدف المسطر، فإن قراره يكون معيبا بعيب الانحراف حتى لو حقق المصلحة العامة.

المطلب الثاني
الخصــائـص التي تمـيزه

        يعتبر عيب الانحراف بالسلطة مظهرا لاتساع نطاق الرقابة القضائية على أعمال الإدارة كوجه مستقل يضاف إلى أوجه الإلغاء، ويتميز بأنه ملازم للسلطة التقديرية للإدارة (أولا)، حيث يساهم في كبح عنان سلطة رجل الإدارة في ظل سلطته التقديرية، وخاصة أنه عيب قصدي مرتبط بنفسية رجل الإدارة ونواياه ( ثانيا).

أولا: عيب ملازم للسلطة التقديرية للإدارة

        إن تحديد غرض العمل الإداري هو عمل المشرع لا رجل الإدارة، وإنه بذلك يدخل ضمن السلطة المحددة – المقيدة- لا التقديرية، وهذا هو الأصح مادام أنه لكل قرار إداري إن لم يكن المشرع حدد له هدف محدد (مخصص)، يجب أن يستهدف الصالح العام باعتباره هدف عام. وهذا يبين بوضوح عدم وجود سلطة تقديرية للإدارة في عنصر الهدف.

ويمكن القول أنه أيا ما كان مدى السلطة التقديرية التي يعترف بها القانون للإدارة في نطاق معين، فإن أمرا واحدا لا يمكن أن يكون محلا للسلطة التقديرية وهو الهدف الذي دائما تكون سلطة الإدارة مقيدة بتحقيقه، وهذا يدفع للقول بأنه لا يوجد أي قرار إداري مهما كان نوعه تستقل الإدارة بتقدير جميع عناصره.

        غير أن هذا العيب لا يظهر ويؤدي دوره في إلغاء القرار الغير مشروع إلا إذا كانت الإدارة في إصداره أمام اختصاص تقديري بشأن بقية العناصر، حيث أنه عيبا ملازما لتلك السلطة وموطنه الأساسي، أما إذا كانت سلطة الإدارة مقيدة فإن العيب الذي يصيبه هو عيب مخالفة القانون.

ثانيا: ارتباطه بنفسية رجل الإدارة ونواياه

يتميز عيب الانحراف بالسلطة أنه عيب قصدي يعلم رجل الإدارة مسبقا بأن قراره يخرج عن المصلحة العامة كهدف عام أو يخالف قاعدة تخصيص الأهداف، ويشترط أن تكون إرادته قد تعمدت الوصول إلى النتيجة الغير مرغوب فيها قانونا.

والصفة القصدية لعيب الانحراف بالسلطة تتحقق بصفة مطلقة في صورة الانحراف عن المصلحة العامة كهدف عام، أما في صورة مخالفة قاعدة تخصيص الأهداف، فالوضع يختلف لأن رجل الإدارة قد يحقق المصلحة العامة، من دون أن يحقق الهدف الذي كان يجب عليه أن يحققه، وقد يكون ذلك إما مقصودا يخفي وراءه سوء نية، أو بدون قصد كخطأ ناتج عن إهماله وتقصيره في الحكم على الهدف الذي كان يجب عليه تحقيقه.

وارتباطه بنية مصدر القرار تجعل مسألة إثباته صعبة على القاضي مما قد يجعل منه عيبا احتياطيا، لا يلجأ إليه مباشرة إلا إذا اتضح له عدم وجود عيب آخر. وتبعا لأنه عيب قصدي صعب إثباته فإنه لا يمكن تغطيته تحت أي ظرف مثلما هو الشأن لعنصر الشكل الذي يمكن تجاوزه في الظروف الاستثنائية، أو حتى التصحيح اللاحق له.

المبحث الثاني
صور عيب الانحراف بالسلطة إصدار القرار التأديبي ووسائل إثباته

        يقع على الإدارة منها السلطة التأديبية أثناء قيامها بأعمالها المختلف الالتزام الدائم المتمثل في تحقيق المصلحة العامة لما فيها من الخير العام باعتبارها هدف عام
وقاعدة عامة بديهية
. وفي المجال التأديبي بالتحديد
هناك قيد خاص يضاف إلى القيد العام الذي يكمله، وهو أن يستهدف النظام التأديبي دائما الهدف المخصص له المتمثل في ضمان سير المرفق العام بإنتضام وإضطراد.

وهذا ما يدفع بالبحث عن صور هذا الانحراف التي تساعد الموظف المعني في إثارتها (المطلب لأول)، كما أن الطبيعة الخاصة لهذا العيب تجعل مسألة إثباته أو حتى اكتشافه صعبة، مما يتعين البحث عن وسائل إثباته (المطلب الثاني).

المطلب الأول
صور الانحراف عن هدف التأديب

سيتم التعرض لصور الانحراف بسلطة التأديب من خلال الانحراف المباشر عن هدف التأديب بدون أي قناع كصورة أولى (أولا)، وقد يظهر الانحراف في صورة ثانية عندما يقع بطريقة غير مباشر تحت قناع التدابير الداخلية ( ثانيا).

أولا: الانحراف المباشر عن هدف التأديب

خطورة هذه الصورة من الانحراف تبرز من خلال أنه انحراف منفصل عن نشاط الإدارة العامة وناتج عن سوئ نية رجل الإدارة، ولذلك فهو انحراف مباشر وبعيد في آن واحد عن تحقيق غاية التأديب المتمثلة في السير الحسن للمرفق العام بإنتضام وإضطراد كهدف خاص، وعن تحقيق أي مصلحة عامة كهدف عام لكل قرار إداري. ويتحقق في 03 حالات:

    1/ الانحراف بسلطة التأديب لأهداف شخصية

تعتبر هذه الصورة من أخطر صور الانحراف في مجال التأديب، تتحقق عندما تسعى السلطة التأديبية لما تملك من سلطة تقديرية في توقيع الجزاء من أجل تحقيق هدف شخصي يعد أجنبيا وبعيدا عن هدف ضمان سير المرفق العام بإنتضام وإضطراد كهدف خاص، وعن المصلحة العامة التي ينتهي إليها في نهاية المطاف كهدف عام، حيث ُتحول السلطة كوسيلة لأغراض شخصية تكون الدافع نحو إصدار ذلك القرار. كأن يكون الهدف من ذلك القرار الانتقام لوجود خلافات شخصية بين الرئيس والمرؤوس سابقة على توقيع العقوبة.

وتطبيقا لذلك ألغى مجلس الدولة الفرنسي في قراره الصادر بتاريخ 25 أكتوبر1972 بمناسبة قضية مكتب المساعدة الاجتماعية، قرار تسريح موظفة لدى هذا المكتب لما اعتبره من تسريح تعسفي لتحقيق أهداف شخصية بعيدة عن مصلحة المرفق العام.

    2/ الانحراف بسلطة التأديب لمصلحة الغير

يقع على عاتق السلطة التأديبية التزامات أخلاقية كممارسة مهامها بأمانة وعدم تحيزها في قراراتها لمصلحة شخصية لأطراف على حساب مصلحة المرفق العام، وهذا ما تؤكده المادة 41 من الأمر 06-03المتضمن القانون الأساسي للوظيفة العمومية والتي تفرض على السلطة التأديبية باعتبارها رئيس كموظف أو هيئة مشكلة من موظفين حيث تنص:” يجب على الموظف أن يمارس مهامه بكل أمانة وبدون تحيز”.

ومثال ذلك قرار بفصل أحد الموظفين ليس لمصلحة المرفق العام، وإنما تمهيدا لشغور منصبه بهدف ضمان تعيين موظف آخر في ذلك المنصب، الأمر الذي يجعله جديرا بالإلغاء.

    3/ الانحراف بسلطة التأديب لأغراض سياسية

    وهذه الحالة كسابقاتها لا تضع السلطة التأديبية بين نصب أعينها مصلحة المرفق العام كهدف لاختصاصها التأديبي، وإنما تتخذ قراراتها متشبعة بالباعث السياسي، وهدفها دائما الانتقام لمن يخالفها في الرأي السياسي كتوقيع عقوبة التسريح أو النقل الإجباري لأحد الموظفين بهدف الحد من نشاطه السياسي وليس لضمان سير المرفق العام بإنتضام وإضطراد.

ثانيا: الانحراف غير مباشر عن هدف التأديب

وهو انحراف متصل بنشاطات الإدارة مخالف للهدف المخصص لها، حيث يظهر في صورة بعض التدابير التي تختص بها الإدارة أصلا لمصلحة المرفق العام، وتكون مشروعة إذا اتخذت رعايتا للهدف المخصص لها، وقد تكون غير مشروعة إذا انطوت على عقوبة خفية مقنعة وراء تلك التدابير (Une sanction disciplinaire déguisée).

فعوض أن تسلك السلطة التأديبية الطريق الصحيح الذي هو التأديب، تأخذ طريقا آخر مختصرا وذلك تفاديا لاصطدامها بالإجراءات التأديبية والتخلص منها كضمانة مهمة في التأديب مثل حق الدفاع، وتتمثل أهمها، في استخدام إجراءات النقل لغير هدفه (1)، أو اللجوء إلى التسريح بغير الطريق التأديبي (2).

1/ استخدام إجراء النقل التلقائي كعقوبة مقنعة

وتكون عقوبة مستترة خلف ستار تنظيم العمل في المرافق العامة، حيث تستخدم إجراءات قانونية في غير الأغراض والحالات التي تقررت لها، فعوض اللجوء إلى هذا الإجراء لضمان استمرارية المرفق العام وسيره بانتظام واضطراد، يتم اللجوء إليه لتحقيق هدف شخصي كالتنكيل والانتقام لخلافات بين الموظف ورئيسه، ويكون قد أخذ معنى التأديب المقنع وانحرف عن الهدف المخصص له.

أو حتى في حالة وقوع خطأ من الموظف محل النقل، فعوض اللجوء إلى التأديب كطريق صحيح، تلجأ إلى النقل كعقوبة مقنعة خلف ستار تنظيم العمل داخل المرفق، وذلك تفاديا للضمانات التي يحملها معه التأديب القانوني التي قد تخفف من العقاب.

2/ اللجوء إلى التسريح بغير الطريق التأديبي

وهو التسريح التعسفي البعيد عن مصلحة المرفق العام، يقع دون توفر الأسباب التي تبرر اللجوء إليه مما يأخذ مسارا آخر يجعل منه عقوبة مقنعة، ويتحقق التسريح بغير الطريق التأديبي في ثلاث حالات:

الحالة الأولى: التسريح أو الفصل لعدم القدرة

ويدخل ضمن التسريح لعدم القدرة كل من التسريح لعدم اللياقة الصحية والتسريح لعدم الكفاءة المهنية، فوفقا لسلطة الإدارة التقديرية في إطار التدابير الداخلية يمكنها الاستغناء عن بعض الموظفين بتسريحهم إذا ثبت لديها عدم كفاءتهم المهنية التي قد تضر بمصلحة المرفق العام، غير أنه عوض اتخاذ هذا الإجراء لغايته الحقيقية التي أقرها المشرع من أجل مصلحة المرفق العام، يتم استخدامه لغاية أخرى تتمثل في التأديب، وبذلك تكون قد تخطت الإجراءات المقررة قانون لهدف التأديب بإجراءات أخرى غير معقدة تجنبها الضمانات المقررة في التأديب. ويتحقق الانحراف في هذه الحالة عند اللجوء إلى العزل لعدم الكفاية المهنية ضد موظف مريض بدل إحالته إلى عطلة طويلة الأمد.

الحالة الثانية: التسريح بسبب إلغاء الوظيفة

    يمكن للإدارة استثناء في إطار حرصها على مصلحة المرفق العام أن تقوم بإلغاء الوظيفة التي لم يعد لوجودها مبرر للتخلص من النفقات الزائدة، ومن تبعات ذلك استغناءها عن الموظفين الذين كانوا يشغلونها. غير أنه لا يمكن استعمال هذه الوسيلة السهلة لأهداف أخرى غير مشروعة كأن يتم تسريح أحد الموظفين المرتكبين لخطأ بناء على إلغاء وظيفته، ثم تعيد إنشاء نفس الوظيفة وإسنادها إلى موظف آخر.

الحالة الثالثة: التسريح عن طريق الإحالة على التقاعد المسبق

يمكن للإدارة في إطار التدابير الداخلية أن تقطع علاقتها مع الموظف عن طريق إجراء إحالته إلى التقاعد المسبق حرصا منها على مصلحة المرفق، غير أن صحة هذا الإجراء تستدعي أن لا يكون القصد منه التخلص من الموظف الذي ارتكب خطأ تأديبيا وإلا كان عقوبة مقنعة. فعلى سبيل المثال يمكن اللجوء إلى هذا الإجراء عند إصابة أحد الموظفين بمرض يعجز معه عن أداء مهامه بالوجه الصحيح لما فيه من مصلحة المرفق العام ومصلحة الموظف في نفس الوقت.

المطلب الثاني
وسائل إثبـات عيب الانحراف بسلطة إصدار القرار التأديبي

إن الطبيعة الخاصة لهذا العيب تجعل مسألة إثباته أو حتى اكتشافه صعبة، خاصة لطبيعته الشخصية المرتبطة بنية مصدره وتعلقه بعدم المشروعية الخفية وراء سلامة جميع عناصر القرار التأديبي التي تعطيه مظهرا خارجيا سليما من وجهة النظر القانونية، غير أنه معيب في اختيار الهدف المشروع.

والإثبات بصفة عامة في ظل القرينة العامة التي تقضي بصحة القرارات الإدارية منها التأديبية وافتراض مشروعيتها، تجعل المدعي هو المكلف بإثبات عيب الانحراف بالسلطة طبقا للقاعدة الأصولية – البينة على من ادعى- بمبادرته تقديم الدليل واكتفاءه بزعزعة قرينة السلامة أو المشروعية اللصيقة بالقرارات الإدارية لدى القاضي وتوليد الشك في ذهنه.

غير أنه يخفف عبئ الإثبات الملقى على عاتق المدعي كاستثناء إذا كانت الدعوى موجهة ضد قرار معيب بعيب الانحراف بالسلطة، حيث ُيسمح للمدعي طلب معلومات من الإدارة.
فبعدما يبادر الموظف بتقديم الدليل وزعزعته قرينة السلامة لدى القاضي، يستعين هذا الأخير في إثباته لهذا العيب بطريقتين:

أولا: الإثبات المباشر لعيب الانحراف بالسلطة

    يتمثل الإثبات المباشر لعيب الانحراف بالسلطة من خلال استخلاص وجوده من عدمه من صلب القرار التأديبي المطعون فيه ذاته كلما أمكن ذلك، كخطوة أولى في مجال الإثبات، رغم حرص الإدارة المنحرفة على أن يكون النص الظاهر للقرار التأديبي مطابقا للقانون.

حيث يسعى القاضي الإداري للكشف عن هذا العيب من خلال تفحص عبارات القرار المطعون فيه خاصة إذا كانت الإدارة ملزمة بالإفصاح عن أسباب قرارها بتسبيبه، والربط بينها وبين الأهداف الحقيقة التي ابتغتها الإدارة من وراء قرارها، مما يغنيه عن بحث الأدلة من سائر أو راق الدعوى.

غير أن حرص الإدارة لمطابقة نص القرار للقانون قد يحول دون كشف القاضي لهذا العيب بسهولة مما ينتقل إلى مرحلة ثانية يوسع من نطاق البحث عن هذا العيب يستعين فيها بملف الدعوى وما تحتويه من أوراق ومستندات، مثل المراسلات التي سبقت أو أعقبت صدور القرار أو التعليمات الصادرة عن السلطة الرئاسية والتي تم صدور القرار بناء عليها، والملف الشخصي للموظف وتقارير تقييم الأداء والتقارير الطبية والتحقيقات التي أجريت.

ثانيا: الإثبات غير مباشر لعيب الانحراف بالسلطة

إذا لم تفلح وسيلة الإثبات المباشر لهذا العيب ينتقل إلى مرحلة البحث القصوى، فيستعين بمجموعة من القرائن المحيطة بظروف النزاع كالقرائن القضائية التي يستنبطها من ظروف الدعوى، وتتمثل في الوقائع المجاورة أو الملازمة لموضوع النزاع ويستنتج منها ثبوت عيب الانحراف.

وبمقتضى القرائن القضائية يتدخل القاضي لإعمال سلطاته التحقيقية ويقلب عبء الإثبات من على المدعي إلى الإدارة المدعى عليها عن طريق أمرها بتقديم ما لديها من مستندات وأوراق لم يستطع المدعي الوصول إليها، إما لامتناعها تقديمه أو لعدم كفايتها. فإذا امتنعت عن الإجابة فذلك يقيم قرينة لصالحه (الموظف).

ومن تلك القرائن حالة وجود خلافات جوهرية بين الرئيس والمرؤوس سابقة على اتخاذ القرار التأديبي توحي بأن هدفه هو الانتقام كمصلحة شخصية، بالإضافة إلى قرينة القرار الفجائي، حينما يصدر في وقت غير ملائم أو إثر تسرع الإدارة في إصداره، كذلك الاستعانة بقرينة القرار بدون أي فائدة مثل توقيع عقوبة الفصل أو إجراء النقل بدون أي فائدة.

خاتمة

عيب الانحراف عن قاعدة تخصيص الأهداف كما هو الشأن في انحراف سلطة التأديب عن هدف سير المرفق العام بانتظام واضطراد، وان كان يعد صورة من صور الفساد الإداري إلا أنه اقل خطوة ر من الصور الأخرى للانحراف بالسلطة، لأن رجل الادارة في الغالب ينصرف هدفه لتحقيق مصلحة عامة لكنها غير تلك التي حددها المشرع.

وسلطة قاضي الإلغاء في الدعوى الإدارية تشمل النظر في كافة العيوب التي قد تشوب القرار التأديبي سواء أكان عيب الاختصاص أو عيب الشكل والإجراءات وعيب مخالفة القانون (المحل) وعيب السبب وعيب الانحراف في استعمال السلطة، غير أن سلطة القاضي الإداري وهو ينظر في عيب الانحراف تتوسع نظرا لطبيعة العيب الخفية، مستعينا في ذلك بسلطته في توجيه أوامر للإدارة من أجل اثبات الدعوى الإدارية التي ينظر فيها، وذلك لعدم التوازن بين طرفي الدعوى الإدارية.

ولمكافحة هذا العيب لابد من تدخل المشرع في تيسير وسائل إثبات هذا العيب، لمساعدة المدعي على الاضطلاع بدوره في إثباته مما يؤدي إلى سرعة الكشف عنه في قرارات الإدارة بما يجعلها تعزف عن إتيان هذا السلوك المعيب خشية إلغاء القضاء لقرارها المعيب، ومن أجل تسليط الضوء أكثر على هذا العيب لابد من تخلي القاضي عن الصفة الاحتياطية له ، مما يؤدي إلى إلغاء القرارات التأديبية المشوبة به ، وذلك لكي لا تحول تلك الصفة دون إلغائها، ويساعد غي توقف السلطة التأديبية عن يؤدي إلى الإقلال من إقدام ارتكابه مستقبلا.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى