في الواجهةمقالات قانونية

مستقبل الدعوى الموازية في الاجتهاد القضائي الاداري المغربي؟

 

مستقبل الدعوى الموازية في الاجتهاد القضائي الاداري المغربي؟

الميلود بوطريكـي

أستاذ القانون الإداري

بالكلية المتعددة التخصصات

بسلوانالناضور

 

تنص  الفقرة الأخيرة من المادة 23 من قانون 90-41 المحدث للمحاكم الإدارية على ما يلي:”لا يقبل الطلب الهادف إلى إلغاء قرارات إدارية إذا كان في وسع المعنيين بالأمر أن يطلبوا بما يدلونه من حقوق بطريق الطعن العادي أمام القضاء الشامل”. وهو ما يطلق عليه الدعوى الموازية.

 

ويجمع الفقه[1] على أن الدعوى الموازية تعني أن لا يكون في وسع الطاعن اللجوء إلى طريق قضائي آخر يحقق له نفس النتائج التي يريد الوصول إليها عن طريق دعوى الإلغاء.

 

ويعود أصل الدعوى الموازية إلى قضاء مجلس الدولة الفرنسي، فبعد صدور مرسوم 2 فبراير 1864 الذي تقرر بموجبه الإعفاء من دفع الرسوم القضائية وتوكيل محام مجانا لرفع دعوى الإلغاء أمام المجلس نفسه تراكمت القضايا المتعلقة بإلغاء قرارات الإدارة غير المشروعة[2]، مما دفع الاجتهاد القضائي إلى البحث عن حل قضائي آخر يخفف من عدد قضايا الإلغاء من جهة، وتعويض المحامين المتضررين من جراء حرمانهم من امتيازاتهم بسبب المرسوم المذكور من جهة أخرى، فقلق مجلس الدولة الفرنسية أمام العدد المرتفع للطعون المتعلقة بتجاوز السلطة أمامه بعد صدور هذا المرسوم، أدى به إلى البحث عن وسيلة لوقف هذا الغزو لمحرابه فعثر عليها في استثناء الدعوى الموازية[3] ، وتبقى إذن الغاية الأساسية لهذه الأخيرة هي الحد من دعاوى الإلغاء.

 

ورغم الانتقادات الموجهة لها فقد تطورت هذه النظرية مع نهاية القرن التاسع عشر حيث كان الطعن بالإلغاء بسبب تجاوز السلطة طعنا احتياطيا. ويرتكز عدم القبول المستخلص من وجود الدعوى الموازية يتضمن تبريرات مختلفة: فهو يجنب خطر أن يحصل مجلس الدولة بالاعتراف له بسلطة الإلغاء والتجاوز في استعمال السلطة على ” اختصاص شامل” بالتطاول على اختصاصات المحاكم الإدارية الأخرى أو المحاكم العادية، كما أنها تحول دون وقوع النزاعات التي يمكن أن تنشأ بين المحاكم، وأخيرا فإنها تحفظ التمييز بين أنواع  القضاء”[4].

 

ومع التسليم بالأصل الفرنسي للدعوى الموازية، فالملاحظ أنها قد قامت في المغرب على سند من القانون خلافا لما تميز به في بلد نشأتها[5] إذ أنه إضافة إلى المادة 23 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية[6] نصت نصوص قانونية أخرى عليها، فقد جاء الفصل 14 في الفقرة الأخيرة من ظهير 27 شتنبر 1957 المحدث للمجلس الأعلى[7] على أن: “لا تقبل دعوى الإلغاء الموجهة ضد القرارات الإدارية إذا كان في استطاعة من يعنيهم الأمر المطالبة بحقوقهم لدى المحاكم العادية” وجاءت الفقرة الأخيرة من الفصل 360 من قانون المسطرة المدنية لتؤكد نفس الصياغة.

 

هذه النصوص لا تجسد تجديدا تشريعيا ولكنها على العكس تكرار لقاعدة قديمة وكلاسيكية ألا وهي الدعوى الموازية[8].

 

فعلى أساس أي معيار يتحتم الإقرار بوجود دعوى موازية وبالتالي إعفاء القرارات الإدارية من الرقابة القضائية عن طريق دعوى الإلغاء لانعقاد الاختصاص بشأنها للقضاء الشامل، وما هو مستقبل الدعوى الموازية ؟ وما جدوى الإبقاء على شرط الدعوى الموازية سيما وأن المحاكم الإدارية  أصبحت مختصة بالنظر في منازعات قضاء الإلغاء و منازعات القضاء الشامل؟

 

الفرع الأول: مضمون الدعوى الموازية.

 الفرع الثاني: حدود الدعوى الموازية.

 

الفرع الأول: مضمون الدعوى الموازية

 

توجد هناك دعوى موازية لدعوى الإلغاء من أجل التجاوز في استعمال السلطة عندما يوجد طعن قضائي آخر يؤدي عن طريق دعوى مباشرة إلى إلغاء أو إبعاد تطبيق القرار المطعون في شرعيته.

 

يستفاد من ذلك أنه لتطبيق الدعوى الموازية يجب أن يتوفر الطاعن عن طريق قانوني آخر من شأنه أنه يؤدي إلى نتيجة عملية تعادل على الأقل النتيجة التي يوفرها الطعن بالإلغاء. أي أن الدفع بعدم القبول المستمد من هذا الشرط لا يقوم على أساس سليم إلا إذا توفر للطاعن عن مسعى قانوني وقضائي، من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة عملية تعادل على الأقل النتيجة التي يوفرها الطعن بالإلغاء[9].

الفقرة الأولى:أخذ الطعن المقابل لصورة الدعوى

 

لكي تطبق نظرية الدعوى الموازية ولا تقبل دعوى الإلغاء يجب أن يكون الطريق الآخر الذي نظمه القانون لصاحب الشأن دعوى لا مجرد دفع أي أن يكون أداة هجوم وليس فقط مجرد وسيلة للدفاع. أي عدم أخذ الطعن القضائي الذي وفره القانون للمعني بالأمر لصورة دفع بعدم الشرعية، أو تظلم إلزامي، باعتبار أن الدفع ليس في مرتبة دعوى الإلغاء للتجاوز في استعمال السلطة[10].

 

فالدفع بعدم الشرعية لا يقف عقبة في سبيل قبول دعوى الإلغاء ضد القرار الإداري التنظيمي غير المشروع أو ضد القرار الفردي الصادر تطبيقا له، باعتبار أن الدفع ليس في مرتبة دعوى الإلغاء للتجاوز في استعمال السلطة لما بين الطريقين من تفاوت كبير في النتائج، إذ بينما تنتهي دعوى الإلغاء بحكم قضائي يلغي القرار الإداري و يزيله من الوجود بالنسبة للكافة وذلك بطبيعة الحال إذا كان القرار غير مشروع، لا يترتب على الدفع بعدم الشرعية إلا مجرد الامتناع عن تطبيق القرار الإداري بالنسبة للنزاع المعروض على القاضي ويظل القرار قائما وقابلا للتطبيق على الحالات المشابهة[11].

 

ومن ناحية أخرى فإن دعوى الإلغاء وسيلة هجومية، بينما الدفع بعدم الشرعية أداة دفاع، وشتان ما بين الهجوم والدفاع، إذ في الحالة الأولى لا ينتظر صاحب المصلحة حتى تنفذ عليه الإدارة قرارها غير المشروع بل يسارع إلى الطعن فيها والوصول إلى إلغائها أما في الحالة الثانية، فالفرد ينتظر حتى تهاجمه الإدارة وتنفد عليها قرارها أو تقدمه إلى المحاكمة إذا خالف هذا القرار، وحينئذ يتولى الدفاع بوسيلة الدفع بعدم الشرعية، وإذا أفلح في التخلص من نتائج القرار بامتناع القاضي عن تطبيقه عليه في القضية المعروضة، فإن القرار مع ذلك يظل قائما ينتج أثاره في حق غيره من الأفراد بل وفي حقه في مناسبات جديدة[12].

 

كما أن التظلم الإداري لا يمنع من قبول دعوى الإلغاء سواء أكان في صورة التماس موجه إلى مصدر القرار أم في شكل طعن رئاسي مرفوع إلى السلطة الرئاسية، إذ أن التظلم الإداري يترتب عليه تعليق قبول دعوى الإلغاء على شرط سلوك طريق التظلم الإداري.

 

فالتظلم إلى جهة الإدارة ينتهي بقرار إداري جديد صريح أو ضمني، أما دعوى الإلغاء فتنتهي بحكم القاضي له حجية الأحكام وتكون هذه الحجية حجية مطلقة إذا صدر الحكم بإلغاء القرار. ولا جدال أن الحكم القضائي بإلغاء القرار الإداري يحقق لمن صدر في صالحه ضمانات لا يحققها له قرار جهة الإدارة الصادر لصالحه بناء على تظلم مرفوع إليها.

 

فعندما لا يتوفر الطاعن على إمكانية ممارسة دعوى القضاء الشامل للطعن بصفة مباشرة أو غير مباشرة في شرعية القرار الإداري، فإن الدعوى الموازية لا تطبق هنا بمعنى أن المتقاضي يجب أن يتوفر على طعن قضائي أخر غير دعوى الإلغاء لمهاجمة القرار الانفرادي. وهذا ما ذهب إليه المجلس الأعلى في تعليله لعدم قبول الطعن بالإلغاء كلما كان “في إمكان الطاعن المطالبة بحقوقه أمام المحاكم العادية والحصول على نفس النتيجة التي توفرها دعوى الإلغاء”[13] وفي قضية أخرى أكد أن: “مهمة المستأنفة تنحصر في القيام بدور كاتب رئيسي مساعد، ولذلك فهو يعتبر من فئة المستخدمين الخاضعين لأحكام القانون الخاص في علاقته التعاقدية مع بنك المغرب كما لاحظ قضاة الدرجة الأولى ،وبذلك فإن قرار الفصل إن كان قرارا إداريا صادر عن سلطة إدارية قابلا للإلغاء، إلا أن هذه القابلية مشروطة بعدم وجود دعوى موازية، كما نص على ذلك القانون المحدث للمحاكم الإدارية”[14]. وقد سارت المحاكم الإدارية في نفس الاتجاه، ففي قضية العلمي عبد الوافي ضد وزير الطاقة والمعادن أكدت المحكمة الإدارية بمراكش [15] أن: “من شروط دعوى الإلغاء عدم وجود طعن مواز، و أنه بإمكان المعنى بالأمر المطالبة بحقوقه أمام القضاء الشامل”.

الفقرة الثانية:تقديم الدعوى الموازية لنفس مزايا دعوى الإلغاء

 

دلالة هذا الشرط واضحة، ويعني أن الدعوى الموازية يجب أن تؤدي إلى حصول المدعي على مركز معادل للمركز الذي يمكنه الحصول عليه بواسطة دعوى الإلغاء، فدعوى الإلغاء تعد غير مقبولة إذا كان الطاعن يتوفر على دعوى قضائية أخرى تخضع لاختصاص محكمة أخرى عادية أو إدارية غير تلك المختصة للنظر في دعوى الإلغاء، وتقدم له نفس نتائج دعوى الإلغاء، ولا يكفي في هذا الصدد أن تكون الدعوى الموازية مؤدية إلى مجرد الحكم بالتعويض عن النتائج الضارة المترتبة على القرار الإداري غير المشروع، بل يجب أن يترتب عليها إزالة أو محو نتائج هذا القرار، فدعوى التعويض إذن لا تعد دعوى موازية من شأنها أن تمنع صاحب الشأن من رفع دعوى الإلغاء. إذ أن الحكم بالتعويض عن الإضرار المترتبة عن القرار الإداري غير المشروع لا يعني إلغاء هذا القرار[16].

 

فحتى لا يتم قبول دعوى الإلغاء يجب أن تكون الدعوى الموازية محققة لنفس المزايا التي تحققها دعوى الإلغاء و هو ما عبرته عنه المادة 23 موضوع التعليق بقولها: “… أن يطالبوا بما يدلونه من الحقوق…”

 

فدعوى الإلغاء تعد غير مقبولة إذا كان الطاعن يتوفر على دعوى قضائية أخرى عادية أو إدارية غير تلك المتمثلة في دعوى الإلغاء، تقدم له نفس نتائج دعوى الإلغاء، وبعبارة أخرى يجب أن تؤدي الدعوى الموازية إلى حصول المدعي عن مركز معادل للمركز الذي يمكنه الحصول عليه بواسطة دعوى الإلغاء، ويستفاد من ذلك أن الدفع بعدم القبول المستمد من هذا الشرط لا يقوم على أساس سليم إلا إذا توفر الطاعن على مسعى قانوني وقضائي من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة عملية تعادل على الأقل النتيجة التي يوفرها الطعن بالإلغاء، فلا يكفي في هذا الصدد أن تكون الدعوى الموازية مؤدية إلى مجرد الحكم بالتعويض عن النتائج الضارة المترتبة عن القرار الإداري غير المشروع، بل يجب أن يترتب عليها إزالة أو محو القرار. فدعوى التعويض عن الأضرار الناجمة عن قرار إداري غير مشروع لا تعتبر دعوى موازية تمنع من قبول دعوى إلغاء هذا القرار.

 

ولكن إذا كان هذا الطعن الأخير يمنح له نتائج لا يمكن أن يمنحها له الطعن الموازي، فإن عدم القبول يجب رفضه نظرا لدعم توفر شرط تعادل النتائج.

 

وهو ما أكد عليه المجلس الأعلى  غير ما مرة[17] معتبرا أن: ” المقررات الصادرة عن الجهات الإدارية هي مقررات إدارية قابلة للطعن فيها عن طريق دعوى الإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة إلا أن قابلية هذا الطعن مشروط بعدم وجود دعوى موازية، وأنه في إمكان الطرف الطاعن المطالبة بحقوقه أمام المحاكم العادية ويحصل على نفس النتيجة التي يتوخاها من دعوى الإلغاء أي الرجوع إلى عمله إن اقتضى الحال ذلك، الأمر الذي يجعل الطعن غير مقبول لوجود دعوى موازية.

 

وفي نفس الاتجاه أكدت المحكمة الإدارية بالرباط[18] بمنسابة نزاع ناشئ عن عدم تنفيذ المكتب الوطني للكهرباء شروط الاتفاق الذي ربطه شركة مقاولة الأشغال العمومية والعقارية بخصوص أشغال إعداد حوض جديد لرماد المولد الحراري للطاقة الكهربائية بجرادة وقيامه بنشر إعلان بجريدة le soir du maroc بتاريخ 26/ 04/1995 يتعلق بنفس الصفقة والعملية التي تم التعاقد من أجلها إذ اعتبرت المحكمة أن: “طلب إلغاء الصفقة الذي تقدمت به الشركة المذكورة يدخل في إطار المنازعة حول تنفيذ عقد إداري الذي يختص بالنظر فيه القضاء الشامل، والقرار المطعون فيه يعد قرار متصلا بالعقد الإداري موضوع النزاع لا منفصلا عنه، لذا فالدعوى الموازية متوفرة في هذه النازلة وكان بإمكان الطاعنة أن تحصل على نفس النتائج بتقديم دعواها أمام القضاء الشامل وهو ما لم تفعله مما يتعين معه الحكم بعد القبول”.

 

 

 

الفرع الثاني :حدود الدعوى الموازية

 

يمكن القول أن نظرية الدعوى الموازية قد ولدت وهي تحمل في ثناياها عناصر هدمها، وذلك بسبب انعدام التوازي بين دعوى الإلغاء ودعوى القضاء الشامل وبسبب استحالة تعادل النتائج بين الدعويين.

الفقرة الأولى:مشكل وجود الموازية

 

يستدعي تطبيق الدعوى الموازية وجود دعويين: دعوى الإلغاء ودعوى القضاء الشامل، لذلك فإن إعمال فكرة الدعوى الموازية يفترض حتما انعقاد اختصاص المحكمة الإدارية في الوقت الذي يوجد فيه دعوى موازية أمام المحكمة الإدارية أو محكمة عادية وتكون هذه الأخيرة سببا لعدم قبول الدعوى الأولى، لكن من الناحية العملية لا يتصور تحقق هذا الشرط ما دام أن القانون المحدث للمحاكم الإدارية قد عمل على تحديد وتوزيع الاختصاص بين الجهازين القضائيين الإداري والعادي، إذ أن النص القانوني المحدد لهذا الاختصاص لا يترك أية إمكانية لتقدير التوازي بين طرق الطعن، فإذا كان يمكن استعمال دعوى أخرى بدل دعوى الإلغاء فذلك يعني أن المشرع يهدف إلى تعويض هذه الأخيرة، فليس هناك تواز بين الطعنين ولكن حلول طعن خاص محل طعن عام[19].

 

إن الطابع غير الفعال للدعوى الموازية ظهر بقوة منذ قانون 90-41 المحدث للمحاكم الإدارية بالمغرب مادام أنه غالبا ما يكون نفس القاضي هو المختص في قضاء الإلغاء والقضاء الشامل، فلم تعد المسألة مسألة قاض “جد متخصص” أو قاضي موازي”، فلماذا تتفنن المحاكم الإدارية في إحالة القضايا التي تخضع لاختصاصها إلى نفسها؟

 

إن “تكفل القانون المحدث للمحاكم الإدارية بتحديد المواضيع المختصة المحكمة الإدارية بالنظر فيها حمل في طياته معالم الاستغناء عن قاعدة الدعوى الموازية، لذلك فإن إشارته إليها مسألة زائدة، لذلك فإن الدعوى الموازية دعوى غير صالحة للتطبيق، ويجب الاكتفاء بالشروط الأخرى المقررة لقبول دعوى الإلغاء للتجاوز في استعمال السلطة التي هي دعوى موجودة بقوة القانون”[20].

 

فليس هناك أي نزاع ينتمي في آن واحد إلى القضاء الشامل وإلى قضاء الإلغاء، فحيث تتحقق دعوى الإلغاء للتجاوز في استعمال السلطة تستبعد عمليا دعوى القضاء الشامل، ففي الحالة التي تثير فيها دعوى الإلغاء المعروضة ولاية القاضي الشامل لنفس المحكمة الإدارية ، فإن إنفراد القاضي الإداري بالبث في المادة الإدارية بجميع صورها يجعل من الصعب فهم الجدوى من التنصيص على هذه القاعدة ومدى قابليتها للتطبيق؟ فبمجرد ما أصبح في الوقت الراهن نفس القاضي مختصا في أغلب الأحوال بالبث في دعاوى الإلغاء ودعاوى القضاء الشامل، فإن شرط الدعوى الموازية لم يعد يخص سوى التمييز بين صنفي المنازعات، أي تمييز غير ذي أثر يذكر مادام نفس القاضي مختصا إزاء الصنفين معا[21].

 

وفي حالة وجود الدعوى الموازية أمام محكمة عادية، فإن الدور المسطري لشرط انتفاء الدعوى الموازية يصبح مرتبطا بضرورة الحفاظ على النظام القانوني المتعلق بتوزيع الاختصاص بين القضاء الإداري والقضاء العادي، لكن لما كان تنظيم توزيع الاختصاص من النظام العام، فقد حرص المشرع على تحديد قواعده وضوابطه، لذلك فإن قاضي الإلغاء يكون في هذه الحالة مقيدا بقواعد الاختصاص أكثر مما يكون مقيدا بشرط انتفاء الدعوى الموازية، بل إن إعمال هذا الشرط يكون في غالب الأحيان من قبيل تحصيل الحاصل[22]، وبذلك فإننا نصل إلى عدم إمكانية تطبيق الدعوى الموازية، في الوضع الحالي الذي صارت فيه المادة الإدارية بفرعيها من اختصاص جهة قضائية واحدة.

 

في كل الحالات، فإنه يتم إبعاد هذا المفهوم الذي يستند على فكرة التوازي في الاختصاصات، لأنه لا يتطابق إطلاقا مع مبادئ توزيع الاختصاصات المحددة من طرف القانون، فقبول الاختصاص المتآني أو المتوازي لمحكمتين طبقا لنظرية الدعوى الموازية يسري على عكس إرادة القانون ويؤدي إلى نتيجة لا يمكن الدفاع عنها، إن استثناء الدعوى الموازية ليس إلا استثناء لعدم الاختصاص الذي يجب أن يطبقه قاضي الإلغاء لأنه يتم اللجوء إليه عن خطأ.

 

لذلك نشاطر الأستاذ محمد صقلي حسيني الرأي حينما أكد على:”انتفاء الأسباب الداعية إلى التنصيص على الدعوى الموازية في النصوص المتعلقة بالمجلس الأعلى، باعتبار أن العوامل التاريخية التي أدت إلى ابتكار الدعوى الموازية لا وجود لها في المغرب بل إن تميز التنظيم القضائي في المغرب وخاصة في الجوانب المرتبطة منه بقواعد اختصاص كل من المجلس الأعلى والمحاكم العادية كان يكفي لتمييز طبيعة الدعوى المعروضة على المجلس الأعلى وما إذا كانت تصنف ضمن دعاوى الإلغاء المنعقد اختصاصه للبث فيها، أم تندرج ضمن القضاء الشامل للمحاكم الابتدائية … “[23].

 

بالفعل فمن الصعب أن يغيب عن نظرنا بأن استثناء الدعوى الموازية كان في فرنسا تقنية مستعملة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لحصر تدفق دعاوى الإلغاء كما أشرنا إلى ذلك سابقا، “ففي المغرب وفي مجال يبقى فيه التمييز بين أنواع القضاء موضوعا حديثا ومحل جدل واسع فإن “انسكاب” القضاء الشامل في قضاء الإلغاء عبر قناة الحالة الرابعة من حالات قبول دعوى الإلغاء (خرق القانون) كان أفقا محتملا ومرعبا”[24]، لأن قضاء التعويض يعتبر مميزا بصفة جد واضحة عن قضاء الإلغاء وهذا منذ أكثر من أربعين سنة بسبب وحيد هو أن أحدهما كان مسموحا به والآخر ممنوعا[25] ،فإن أفقا كهذا كان لا يجب التطلع إليه. على العكس فإن ما كان “يثير الخوف هو أن دعوى الإلغاء قد انطلقت ببطء لأسباب ترجع إلى حداثتها وإلى الإطار السياسي والاجتماعي الذي أسست فيه. وإذا أضفنا إلى ذلك بأن استثناء الدعوى الموازية قد بني في فترة مرسوم 1864 في فرنسا على الإعفاء من مؤازرة المحامي الذي يعتبر غير موجود في المغرب، فإنه لا يمكننا إلا أن نلاحظ الاختلاف الكبير بين الوضعيتين”[26].

 

لذلك يجب تصحيح هذا الانطباع لأن الصفحات المخصصة من طرف الفقه المعاصر للدعوى الموازية لا تعدو أن تكون مجرد رثاء، ويتفق الفقه على أن نظرية الدعوى الموازية لا تحتفظ إلا بقيمة ثانوية إن لم نقل منعدمة كليا. إذ لا يتم الاحتفاظ بالدعوى الموازية إلا من أجل احترام تقليد يرجع إلى تاريخ طويل ولكن هذا الاحترام للتقليد لا يبدو أنه مفروض بصرامة في النصوص المغربية على حد تعبير الأستاذOlivier Renard –Payen[27].

 

ويمكن أن نتساءل إذن عن ماهية التجسيد التشريعي لقاعدة قضائية في منتهى الضعف؟.

 

هكذا نستنتج أن إدراج عدم القبول المستخلص من وجود الدعوى الموازية في الظهير المؤسس للمجلس الأعلى سنة 1957 وقانون 90-41 المحدث للمحاكم الإدارية مستوحى من الانشغال بالترجمة الحرفية للقواعد القضائية الفرنسية أكثر مما هو مستوحى من الرغبة في ملاءمتها مع الوضعية القائمة في المغرب.

ولعل هذه الاعتبارات هي التي جعلت جل المهتمين بالقانون الإداري المغربي يجمعون على أن شرط الدعوى الموازية قد فقد أهميته بعد إحداث المحاكم الإدارية، لأنه لم يعد هناك داع لحماية توزيع الاختصاص عن طريق هذه المؤسسة، لوجود قواعد دقيقة تحدد مجال اختصاص كل قضاء على حدى[28].

 

“فليس هناك حل مرض إلا في التخلي النهائي عن نظرية الدعوى الموازية وتوابعها … “[29]، ذلك أن “الدعوى الموازية تشكل جزءا من المفاهيم الوظيفية وليست المفاهيمية التي لا تفسر أي شيء لوحدها … فهي ليس لها إلا قيمة وظيفية”[30].

الفقرة الثانية :مشكل التعادل العملي لنتائج الدعوى الموازية

 

يرفض أغلبية الفقهاء[31] اليوم مفهوم الدعوى الموازية وينكرون أية قيمة لها مستندين في ذلك على استحالة توفر تعادل النتائج التي يمكن الحصول عليها عن طريق دعوى الإلغاء والطعن الذي يقال أنه موازي له.

 

فدعوى الإلغاء يمكن أن تؤدي إلى إلغاء القرار الإداري المطعون فيه في مواجهة الكافة أي زواله بأثر رجعي من النظام القانوني، بالإضافة إلى تمتعه بقوة الشيء المقضي به، بالإضافة إلى ما لدعوى الإلغاء من مزايا خاصة تتمثل في سهولة الإجراءات وقلة النفقات، في حين أن دعوى القاضي الشامل التي تطعن غالبا بصفة غير مباشرة أو عن طريق الاستثناء في شرعية مثل هذا القرار لا يمكن أن تؤدي إلا إلى إلغاء بين الأطراف للقرار أي زوال مؤقت وقت نزاع القضاء الشامل ومحدود بين أطراف النزاع.

وإذا كان هناك نوع من القرارات لا يتوفر بشأنها شرط تعادل النتائج الذي يبرر قبول دعوى الإلغاء فإنه مبدئيا هو القرار التنظيمي المدمج في عملية خاضعة للقضاء الشامل (كالعملية التعاقدية مثلا) لأن هذا القرار يمكن أن يتدخل لفترة طويلة قبل تجسيد ما يمكن تسميته بجوهر العمليات المركبة الخاضعة للقضاء الشامل، ومن ثم فإن هذا القرار وبالنظر إلى لحظة إصداره، فإنه يحدد مقدما على العموم شروط هذا التجسيد، وعليه فإن كان غير مشروع فإن هناك خطر أن يشوب كل العملية بعدم الشرعية التي يدمج فيها.

 

بالإضافة إلى أنه يمكن أن يطول لمدة أكثر ويصبح له طابعا دائما، وبالتالي يحدد مسبقا شروط سريان وتحقيق ليس عملية واحدة فقط ولكن العديد من العمليات، ولذلك فإن عدم الشرعية يمكن أن تعيب شرعية عمليات متعددة، وهنا يطرح المشكل على اعتبار أن دعوى القضاء الشامل بسبب عدم شرعية قرار تنظيمي ممهد لها لا يسمح لقاضيها بإبعاد هذا القرار إلا بالنسبة لهذا النزاع، في حين أن ممارسة دعوى الإلغاء ضد مثل هذه القرارات تسمح بزواله بأثر رجعي وفي مواجهة الكافة حتى بالنسبة لكل العمليات المعنية بواسطة هذا القرار سواء الماضية أو المستقبلية[32].

 

خاتمة :

إن شرط الدعوى الموازية قد فقد أهميته بعد إحداث المحاكم الإدارية لأنه لم يعد هناك داع لحماية توزيع الاختصاص عن طريق هذه المؤسسة لوجود قواعد دقيقة تحدد مجال اختصاص كل قضاء على حدة، كما أن قبول الاختصاص المتوازي لمحكمتين طبقا لنظرية الدعوى الموازية يسري عكس إرادة القانون ويؤدي إلى نتيجة لا يمكن الدفاع عنها، لهذا نفضل استبعاد فكرة الدعوى الموازية من بين شروط قبول الدعوى الإلغاء[33] والاكتفاء بالشروط الأخرى المحدد لقبول دعوى الإلغاء. باختصار فالدعوى الموازية لم يعد لها أي مستقبل.

 

 

[1]– ثورية لعيوني، القضاء الإداري، قضاء الإلغاء، دار النشر الجسور، وجدة، 2003، ص. 132.

Rousset (M.) et Garagnon (J.), Droit administratif marocain, 6ème édition, édition La porte, 2003, p.724.

 

[2] – إدريس الحلابي الكتاني، الدعوى الموازية في إطار إحداث المحاكم الإدارية، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 28 يونيو– شتنبر، 1999، ص.63.

 

 

-[3]-Charles (H.), Actes       rattachables et actes détachables en droit administratif français, thèse, Paris,L.G.D.J., 1968, P.162.

 

L afferrière (E.), Traité de la juridiction administratif… op.cit., p.518. -[4]

 

[5] – محمد صقلي حسيني، الدعوى الموازية بين القانون والممارسة، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 28، يونيو- شتنبر 1999، ص.48.

[6] – قانون رقم 90/41 المحدث للمحاكم الإدارية، صادر الأمر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 225/91/1 صادر في 22 ربيع الأول 1414 (10 شتنبر 1993، ج.ر، عدد 4227 بتاريخ 18 جمادى الأولى 1414 3 نونبر 1993 م ص 2169 ).

 

[7]– ظهير شريف رقم 323/57/1 مؤرخ في 02 ربيع الأول 1377 شتنبر 1957 ) يتعلق بإحداث المجلس الأعلى والقواعد العامة للمرافعة لديه، ج.ر، عدد 2347، بتاريخ 18 أكتوبر 1957، ص: 1345.

 

 

[8]– Payen (O.R.), l’expérience marocaine de l’unité de juridiction, L.G.D.J., Paris, 1964, p.232.

[9]– الجيلالي أمزيد، شرط انتفاء الدعوى الموازية في المنازعات الإدارية، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، العدد 6، 1996، ص.1.

[10]– محمد صقلي حسيني، الدعوى الموازية بين القانون والممارسة… المرجع السابق، ص.46.

[11] – محمود محمد حافظ، القرار الإداري، دراسة مقارنة، دارالنهضة العربية، القاهرة، 1993، ص.114، سليمان محمد الطماوي، القضاء الإداري، قضاء الإلغاء، دار الفكر العربي 1976، ص.662.

 

[12] – محمود محمد حافظ، المرجع نفسه.

[13]– قرار المجلس الأعلى بتاريخ 09 نونبر 1995، علال شعالي، قرارات المجلس الأعلى 1958/1997، منشورات المجلس الأعلى في ذاكرة الأربعين، مطبعة المعارف الجديدة، ص. 339.

[14]قرار عدد 223 بالتاريخ 28 دجنبر 1986 مجلة القضاء والقانون عدد 139، دجنبر 1988، ص: 129.

[15]–  حكم المحكمة الإدارية بمراكش عدد 35 بالتاريخ 30/06/1995 في الملف 38 غ /94 أشار إليه صقلي حسيني، مرجع سابق، ص 55.

 

[16]– وكثيرا ما استعمل القضاء الفرنسي هذه الصيغة:

« Il ne suffit pas d’obtenir réparation des effets de l’acte, il faut encore pouvoir détourner ces mêmes effets ».

الملاحظ أن القضاء المغربي يعطي للدعوى الموازية تعريفا غير صحيح باعتبارها مساوية لدعوى التعويض، كما أنه يعتبر التعويض الذي يمكن أن يحصل عليه المعني بالأمر موازيا للإلغاء.

[17]– نذكر من ذلك مثلا: قرار المجلس الأعلى عدد 54 الصادر بتاريخ 09ـ12ـ1966 رقيب المعطى ضد وزير التربية الوطنية، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 2، السنة 1، نونبر 1968/ قرار المجلس الأعلى بتاريخ 08/03/1990، عدد 89 نجيب المعتر ضد مدير الوكالة المستقلة للنقل الحضري بالرباط, منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 44، ص133 قرار المجلس الأعلى بتاريخ 08/12/1990، عدد 231 بنجيكو المحجوب، ضد المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 40.

[18]– حكم المحكمة الإدارية بالرباط، عدد 67 بتاريخ 11-04-1996، شركة مقاولة الأشغال العمومية والعقارية ضد المكتب الوطني للكهرباء، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 19، أبريل–يونيو 1997، ص.150.

Charles (H.), op.cit., P.152. -[19]

 

[20]– وهذا ما يؤكد من خلال بعض أحكام المحاكم الإدارية حيث جاءت تارة مؤكدة على قاعدة الدعوى الموازية ومرتبة لآثارها، وتارة أخرى مستغنية عنها بالمرة ومطبقة محلها قواعد توزيع الاختصاص (بخصوص هذه الأحكام أنظر محمد صقلي حسيني، مرجع سابق، ص.60).

[21]– ميشال روسي، المنازعات الإدارية بالمغرب، ترجمة محمد هيري، الجيلالي أمزيد، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1996، ص.151.

[22]– الجيلالي أمزيد، شرط انتفاء الدعوى الموازية في المنازعات الإدارية…، مرجع سابق، ص.8.

[23]– محمد صقلي حسيني، الدعوى الموازية بين القانون والممارسة… المرجع السابق، ص.48.

[24]– Payen, (O.R.), L’expérience marocaine de l’unité de juridiction… op.cit., p.234.

[25]– “كان الفصل الثامن من ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتنظيم القضائي للمغرب يمنع على المحاكم أن تعرقل بأية صفة من الصفات أعمال الإدارة، وعلى هذا الأساس كانت تنعدم دعوى الإلغاء من أجل الشطط في استعمال السلطة”، للمزيد من التفاصيل أنظر: عبد القادر باينة، تطبيقات القضاء الإداري بالمغرب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1988، ص.13-14.

[26]– Payen, (O.R.), L’expérience marocaine de l’unité de juridiction… op.cit., p.234.

[27]– Payen, (O.R.), Ibidem.

[28]– أنظر في هذا الصدد مؤلف ميشال روسي، المنازعات الإدارية بالمغرب… سبقت الإشارة إليه، ص.51، عبد الله حداد، القضاء الإداري المغربي على ضوء القانون المحدث للمحاكم الإدارية، منشورات عكاظ، 1994، ط 1، ص.108، الجيلالي أمزيد، شرط انتفاء الدعوى الموازية… مرجع سابق، ص.8.

[29]– Folliot (L.) Pouvoirs des juges administratifs et distinction des contentieux en matière contractuelle, thèse, Paris II, 1994, p.384.

[30]– Ternicet (J.), le retour de l’exception de recours parallèle, R.F.D.A., 1993, p.720.

[31] -. سليمان الطماوي، القضاء الإداري ورقابته لأعمال الإدارة، دار النهضة العربية ، الطبعة الثانية، 1958، ص.30.

[32]-Charles (H.), op.cit., P.39-50

 

 

 

 

[33]– م. بوطريكي، القرارات الإدارية المنفصلة:دراسة مقارنة في القانون الإداري المغربي و الفرنسي و المصري، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق ، تخصص الإدارة العامة، كلية الحقوق بوجدة 2005،ص.122.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى