مقدمة:
من المعلوم أن الإثبات في اللغة يدل على الحجة أو الدليل، ويدل أيضا على البرهان أو البينة،وهو يعني إقامة الدليل أو البرهان عن أمر من الأمور ، وتقديم الحجة على حصوله أو عدم حصوله.
وفي وقوع الجريمة أو نفيها، وعلى الاصطلاح القانوني عرفه الفقه[1] بأن الإثبات في المادة الجنائية،هوإقامة الدليل أو البرهان على إسنادها إلى المتهم أو براءته منها.
ويعني الإثبات في معنى ثاني،النتيجة المحصل عليها باستعمال وسائل الإثبات المختلفة،أي إنتاج الدليل، و يتم هذا الإنتاج عن طريق جمع الأدلة في مرحلة أولى، و تقديمها لقضاء التحقيق أو للنيابة العامة قصد تمحيصها،فإذا نتج عن هذا التمحيص أدلة تثبت الإدانة،أحيلت على مرحلة المحاكمة، حيث يتم تقدير قيمة الحجج و الأخذ منها بتلك التي تولد الجزم و اليقين في دائرة اقتناع القاضي،بحيث إذا تحقق هذا الجزم،وجب تبرئة ساحة المتهم[2].
https://www.droitetentreprise.com/%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ab%d8%a8%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d9%8a-%d8%b9%d9%84%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ac%d8%b1%d8%a7%d9%85/
وكما هو معلوم أيضا أن نظرية الإثبات من أهم النظريات القانونية و أكثرها تطبيقا في الحياة العملية، بل هي النظرية التي لا تنقطع المحاكم عن تطبيقها كل يوم، فيما يعرض لها من أقضية[3].أهمية جعلت مجموعة من التشريعات بمختلف مشاربها إحلال وإكساب الإثبات مكانة رفيعة،وخصته بقوانين خاصة و مستقلة حسب طبيعة الموضوع المطروح أمام العدالة[4].و رغم أهمية موضوع الإثبات،فان مجموعة من موضوعاته لا زالت غامضة من حيث تفسير و توضيح أحكامها،نظرا لافتقارها إلى البحث والتحليل،خاصة المواضيع المتصلة بعبء الإثبات في المادة الجنائية، و شروط قبول الأدلة، و كيفية تقدير قيمتها، و قوتها الإثباتية.
و الإثبات في الميدان الجنائي،يعني محاولة لإعادة صياغة و بناء الوقائع و الأحداث في عملية تركيبية، يقصد منها التعرف على الحقيقة، و من ثم فان الإثبات يتسم بالصعوبة و التعقيد، نظرا لكونه يتوجه نحو إعادة إنتاج الواقع الذي انقضى في الزمن الماضي.
وحينما نتحدث عن الإثبات في المادة الجنائية،يقتضي أن يكون الحكم الفاصل في موضوع الدعوى العمومية مطابقا للحقيقة الواقعية وليس للحقيقة القانونية أو(الشكلية) فقط التي يقوم عليها نظام الإثبات في المادة المدنية، ومنه نجد أن مجموعة من قوانين البلدان المختلفة أوجدت مرجعية قانونية متميزة يقوم عليها موضوع الإثبات في المادة السابقة و هذا ما سيتمظهر لنا من خلال دراسة فحوى هذا الموضوع على مستوى (العرض)،مرجعية تقوم على أساس الاقتراب من الحقيقة الواقعية ولو نسبيا ما دامت الحقيقة المطلقة تعز في التحصيل عن البشر. و يمكن التمييز في هذه المرجعية القانونية،بين قواعد و أحكام عامة تسري على نظام الإثبات الجنائي عموما . و قواعد و أحكام خاصة تحكم كل وسيلة من وسائل الإثبات على حدة .وهذا ما يؤكد أن المشرع المغربي في المادة الجنائية أخد بالنظام المختلط في الإثبات.فرغم اعتماده المبدأ العام في حرية الإثبات بكافة الوسائل وبالتالي السلطة التقديرية في الاقتناع،فانه تارة أخرى يقيد الإثبات على مستوى هذا الشق على وسائل محددة في الإثبات، و ذلك راجع لما تفرضه خصوصيات بعض القضايا الجنائية،لما في ذلك من احترام لضمانات حقوق الأفراد بشكل أساسي.
https://www.droitetentreprise.com/%d8%ad%d8%ac%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%84%d9%83%d8%aa%d8%b1%d9%88%d9%86%d9%8a-%d9%88-%d9%85%d8%b4%d8%b1%d9%88%d8%b9%d9%8a%d8%aa%d9%87-%d8%a3%d9%85%d8%a7/
وعموما فاننا سنتناول هذا الموضوع وفقا للتقسيم التــالــــي:
مقدمة:
المبحث الأول: القـــــواعــــد العــامــة للإثبـــات في الميــدان الــزجــري.
المبحث الثاني : القواعد الخاصة بكل وسيلة من وسائل الإثبات المختلفة.
الخاتمة.
المبحث الأول: القواعد العامة للإثبات في الميدان الزجري.
حرية الإثبات إحدى خصائص نظرية الإثبات في المسائل الجنائية، وذلك على عكس الحال في المسائل المدنية حيث يحدد القانون وسائل الإثبات وقواعد قبولها وقوتها، ومرجع الاختلاف أن الإثبات المدني ينصب في الغالب على أعمال قانونية، بينما يتجلى الإثبات الجنائي بوقائع مادية
ونفسية مما جعل المشرع في أغلب التشريعات المبدأ العام في الإثبات في الشق الجنائي هو الحرية،و مع ذلك نجد أنه هناك استثناء على مبدأ حرية الإثبات و الذي نؤكد على محدوديته (المطلب الأول). كما أنه حينما نقرر هذا المبدأ تقررت معه مجموعة من المبادئ الجوهرية على مستوى هذا الموضوع والأمر يتعلق “بقرينة البراءة”، مما يحيلنا على موضوع الإثبات والجهة الملقى على عاتقها و خصوصيات هذا العبء (المطلب الثاني).
المطلب الأول: نطاق الحق في اللجوء لوسائل الإثبات المختلفة.
سنتطرق خلال هذا المطلب إلى الحديث عن تحديد مفهوم حرية الإثبات في الميدان الزجري في مفهوم قانون المسطرة الجنائية (الفقرة الأولى)، على أساس التطرق إلى مستثنيات هذه القاعدة والمبدأ (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى:نطاق الحق في اللجوء لوسائل الإثبات المختلفة في المادة الجنائية:
ينص الفصل 286 من قانون المسطرة الجنائية على أنه:”يمكن إثبات كافة الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ما عدا الأحوال التي يقضي القانون فيما بخلاف ذلك…” فالمبدأ إذا بحسب مضمون النص القانوني أن الإثبات في الميدان الجزري-خلاف المدني- حر بمعنى أن كل وسائل الإثبات التي يقرها القانون يمكن الاستدلال بها أمام القضاء الزجري الذي لا يجوز له أن يرفض-ما لم ينص القانون بذلك- لأحد الأطراف أي دليل يراه منتجا في إقناع المحكمة بوجهة نظره[5]. و يتأسس المبدأ الذي نحن بصدد دراسته على كون الإثبات في الشق الجنائي يرتكز على وقائع إجرامية مادية و ليس على تصرفات قانونية تستلزم نوعا معينا من الأدلة، لذلك وجب السماح بإثباتها أي الوقائع الإجرامية بجميع وسائل الإثبات المعروفة من:”شهادة وخبرة و قرائن ومحررات و اعترافات…”
لكن بالرجوع إلى الفقرة الثانية من ذات الفصل نجدها تقرر مبدأ آخر و الأمر يتعلق”بحرية الاقتناع” بما يطرح على قاضي الحكم من وسائل مختلفة بشأن قضية معينة،و ذلك بقوله: ”
ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ” . ” فإذا كان الإثبات غير قائم قرر عدم إدانة الشخص و حكم ببراءته ” فقرة ثانية.
فالقاضي يحكم بما اقتنع ضميره على أساس أن يبرر اقتناعه و هذا ما أكدته المادة 286 من ق.م.ج بقوله:” و يحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم، و يجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا للبند 8 من المادة 365 “. و إن تقييد القاضي بوجوب تبرير اقتناعه، هو أمر استحدثه قانون المسطرة الجنائية النافذ في فاتح أكتوبر لسنة 2003،و الاحالة على البند8 من المادة 365 تتعلق بوجوب اشتمال الحكم على الأسباب الواقعية و القانونية التي ينبني عليها الحكم أو القرار أو الأمر، ولو في حالة البراءة.و في هذا الصدد جاء في قرار للمجلس الأعلى ما يلي:” يجب أن يكون كل حكم معلل من الناحيتين الواقعية و القانونية،و إلا كان باطلا،وأنه إذا كان من حق القضاة أن يكونوا اقتناعهم في جميع الأدلة المعروضة عليهم، فيجب أن تؤدي تلك الأدلة منطقيا و عقلا إلى النتيجة التي انتهوا إليها” [6].
https://www.droitetentreprise.com/%d8%a3%d9%88%d8%ac%d9%87-%d9%82%d8%b5%d9%88%d8%b1-%d9%85%d9%86%d8%b8%d9%88%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%a7%d9%86%d9%88%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%86%d8%a7%d8%a6%d9%8a/
وبالتالي فالأصل هو حرية الإثبات والذي يقابله الحرية في الاقتناع الذي يجب أن يكون مبررا وهي مجموعة من المبادئ التي تطبق في المادة الجنائية.على أنه يبقى لكل قاعدة استثناء،
والاستثناء حاضر وواضح في نص الفصل 286 الذي أكد بقوله “…. ما لم يقضي القانون فيها بخلاف ذلك” مما يعني أن المبدأ السابق له مستثنيات عمل المشرع الجنائي الإجرائي من خلالها على تلطيف القوة الاطلاقية لمبدأ الحرية في الإثبات.فما مضمون هذه المستثنيات؟
الفقرة الثانية: التلطيف من عمومية مبدأ الحرية في الإثبات في المادة الجنائية:
الاستثناء على المبدأ السابق مفاده أن صلاحية وسائل الإثبات للاستدلال بها أمام المحاكم الزجرية قد تتعطل بإرادة المشرع في بعض الحالات المحدودة جدا،الذي فرض هذا الأخير(أي المشرع) الإثبات فيها بوسائل محددة فقط،أو يمنع أصلا الاستدلال بوسيلة معينة[7].و من أمثلة الاستثناءات نذكر ما يلي: الفصل 288 من قانون المسطرة الجنائية الذي يقرر بأنه:” إذا كان إثبات الجريمة متوقفة على حجج جارية عليها أحكام القانون المدني فيراعى عن القاضي في ذلك قواعد القانون المذكور”.
والمثال التقليدي المعطى لتوضيح هذه الحالة الاستثنائية التي تقام فيها الدعوى العمومية على شخص باعتباره خائنا للأمانة،حيث لا يجوز و الحالة هذه إثبات هذه الجريمة إلا بمقتضى قواعد القانون المدني التي تستلزم التأكد من قيام عقد من عقود الأمانة (الوديعة أو الوكالة أو الحراسة).
بحسب قواعد القانون المدني التي غالبا ما توجب أن يكون مكتوبا،حيث لا يكفي و الحالة هذه الشهادة في إثبات قيامه[8]،و في هذا الصدد جاء قرار للمجلس الأعلى بأن: “المحكمة لما اعتبرت شهادة الشهود لإثبات تسلم المتهم لمبلغ140.000 درهم و هو ما لا يجوز إثباته بغير الكتابة الذي نازع فيه هذا الأخير(أي المتهم الطاعن) لم تراع قواعد الإثبات المدنية و عرضت بذلك قرارها للنقض”[9].
– ومن الأمثلة أيضا الفصل493 من مجموعة القانون الجنائي الذي يوجب في معرض إثبات الجرائم المنصوص عليها في الفصلين490 و491،و الأمر هنا يتعلق بكل من جريمتي الخيانة الزوجية، و الفساد. أن يتم إثباتها بإحدى الفرضيات التالية كوسائل لإثبات تقيد حرية اقتناع القاضي و مبدأ الحرية في الإثبات،إما بمحضر رسمي يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس أو بناء على اعتراف تضمنته مكاتب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي.
– كذلك الفصل294 من قانون المسطرة الجنائية الذي يقرر:”بأن الحجة الكتابية لا تنجم عن المراسلة المتبادلة بين المتهم و وكيله”.و غيرها من الاستثناءات الواردة على سبيل الحصر كما أكدنا في المادتين 294 و325 و193. والحكمة من هذه الاستثناءات هي تحقيق بعض الضمانات الهادفة إلى إظهار الحقيقة، أو حماية حقوق الدفاع،أو الحفاظ على بعض الاعتبارات الاجتماعية أو الأسرية[10].
يبقى السؤال المطروح ما هي الجهة التي يقع عليها الإثبات هل تكون دائما قضائية،أم غير قضائية سواء في شخص المدعي بتعرضه لفعل مجرم في القانون الجنائي أم المشتبه فيه ؟ وهل نفسر الحرية فــــي الاقتناع من قبل القاضي الجنائي أن التشريع الجنائي يأخذ بمرجعية محددة بخصوص القيمة الإقناعـيـة لوسائل الإثبات المثارة أمامه؟
كلها تساؤلات سنحاول الاجابة عليها في المطلب الثاني .
المطلب الثاني: عبء الإثبات في المادة الجنائية و القيمة الإقناعية لمختلف أدلة الإثبات
يترتب على قرينة البراءة القائمة على مبدأ”المتهم بريء حتى تثبت إدانته”أثار بالنسبة لعبء الإثبات (الفقرة الأولى)،و كذلك على مستوى دور القاضي في الاقتناع بما قدم أمامه من وسائل في إطار سلطة التقديرية،وحدود هذه السلطة التقديرية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: دور النيابة العامة و حدوده في إثبات الجرائم:
نزولا على المبدأ المشهور الذي يقضي بأن الأصل هو براءة المتهم[11]، فإن عبء الإثبات يتحمله من يدعي خلاف هذا الأصل، لأنه لا معنى لأن يكلف الشخص المراد مساءلته جنائيا بإثبات أنه بريء وهو كذلك بحسب الأصل،وبالتالي فإن أهم ما يترتب على قرينة البراءة،أن المتهم لا يتحمل عبء إثبات براءته، لأنها مفترضة[12]، ويترتب أيضا عن هذه القاعدة أنه في حالة العجز عن إثبات ما وقع الإدعاء به بالدليل القاطع فما على القاضي الجنائي إلا إعلان براءة المتهم المفترضة أصلا.بل له أكثر من ذلك، أن يعلن البراءة حتى لو قدم دليل في القضية لم يتمكن معه القاضي من تكوين قناعته التامة في الجريمة المنسوبة إلى المتهم بسبب الشك الذي بقي مساورا لعقيدته بصددها لأن الشك كما هو معلوم يفسر لصالح المتهم.
وبما أن النيابة العامة تعتبر في القانون مبدئيا الطرف المدعي في الدعوى العمومية فإن عبء الإثبات يقع على عاتقها مستعينة بطبيعة الحال بالحجج التي يتقدم بها المطالب بالحق المدني إن وجد،لذلك مبدئيا يجب أن تقدم الدليل على توافر كل عناصر الجريمة المادية وظروف تشديدها إن وجدت،وإسنادها إلى المتهم باعتباره إما فاعلا أصليا أو مساهما أو مشاركا فيها كما يقضي بذلك النص الموضوعي، ويمكنها أن تستعين في إثبات وقوع فعل مجرم و نسبته إلى المتهم أو العمل على تبرئة ساحته إذا ما اقتنعت ببراءته بكل الوسائل الإثباتية المعروفة من اعتراف أو شهادة شهود أو قرائن قوية و منطبقة…،أما إن هي عجزت عن ذلك لا يجوز لها أن تنقل عبء الإثبات إلى المتهم، و يكلف بإثبات أنه بريء ما دام هو المستفيد من قرينة البراءة و بالتالي قد يكتفي بإنكار التهمة الموجهة إليه أو أن يلوذ بالصمت فقط حيث لا يلزمه ذلك بشيء، اللهم إذا أراد تقديم الدليل على براءته بمبادرة إرادية منه فله ذلك[13].
إلا أنه وعلى سبيل الاستثناء قد يحدث بأن تقوم النيابة بممارسة اختصاصها بالإثبات في القضايا الزجرية إما باثبات الإدانة أو عدم وقوع الفعل المجرم المتابع به والمنسوبة إليه. ونأخذ في مثالنا الحالة الأولى،حالة العمل على إثبات إدانة المتهم بجريمة معينة،كجريمة القتل العمد ويتدخل المتهم بشكل إرادي كما أسلفنا الذكر ليزيل ويحيد عنه هذه التهمة و في معرض ذلك يدلـــي بدفع يريد من ورائه التحلل عمليا من المساءلة الجنائية و بالتالي العقاب و يتمسك بوجه من أوجه الدفاع، كتوفر مانع من موانع المسؤولية(عذر مخفف أو معفي من العقاب، سبب تبرير،واقعة تقادم..) فهل في هذه الفرضية المطروحة يكلف بإثبات الوقائع التي دفع بها بقصد الإعفاء أو التخفيف، أم إن إثبات العكس يكون على عاتق النيابة العامة؟
الإجابة عن هذا السؤال اتخذ وجهتين، الأولى وهي للفقيه كارو، فيها يرى على أن النيابة العامة بالإضافة إلى تحملها لعبء إثبات أركان الجريمة وأدلى المتهم بدفع يدلي فيه بسبب تبرير لقيامه بها، أن تقوم بإتمام اختصاص عبء الإثبات و ذلك بإثبات عدم صحة دفع المتهم، بعد أن تثبت أركان الجريمة بعنصريها كما هي محددة في النص الموضوعي.ورأيه هذا مؤسس على كون إثارة مثل هذه الدفــوع، تثير حالة من حالات الشك والتي ينبغي تفسيرها لمصلحة المتهم،و على النيابة العامة إزالة هذا الشك ويكون ذلك بإثبات نقيض المدفوع به. وبالتالي فالموقف يستند على قاعدة متأصلة مفادها”الشك يفسر لمصلحة المتهم”.
الوجهة الثانية،هي لموقف الفقيهين دونديو، دي فابر[14]. ومقتضاها أن على المتهم الذي أثـبتت جهـــة الإدعاء النيابة العامة نسبة الجريمة إليه أن يقوم بإثبات صحة دفعه المتعلق إما بوجود سبب تبرير أو عذر مخفف أو معفي..، وإلا وجب عقابه إن هو عجز عن ذلك، وتأسيس موقفهم هذا ينبني على أساس المتهم المدلي بالدفع يصبح في الحالة هذه مدعيا بما ادعى به وما عليه إلا أن يقوم بإثباته لأن البينة على من ادعى. ومنه نستنتج بأن الموقف الثاني يذهب إلى التلطيف من ثقل عبء الإثبات الملقى على جهــة الاتهام ليلقي على الأقـل بجزء منه على ساحة المتهم في حالة إثـارته لدفع يفيد به عدم تحقـق أركـان الجريمة، ويطعن في ملابسات ظروفها كما أثبتتها النيابة العامة .
الفقرة الثانية :نظام الإقناع في المادة الجنائية محدداته و شروطه:
تتحدد القيمة الإقناعية لوسائل الإثبات المختلفة المقدمة أمام القضاء الجنائي بحسب طرق أو نضم الإثبات التي يلتزم هذا الأخير بإتباعها لتكوين قناعته في القضية الجنائية، وعندما نتحدث عن النظم في هـــــــذا المقام نتحدث عن نظامين، نظام الإثبات القانوني و نظام الإثبات القضائي أو الوجداني، فما مدى تقـيـد القاضي الجنائي بأحد هذين النظامين، وما هي حدود تقيده بأحدهما دون الأخر، وما هي الشروط التــي ينبغي التقيد بها في إطار النظام المعمول به؟
1- نـظـام الإثـبـات القـانـونـي :
الإثبات القانوني نظام وطريق لإثبات يقوم على تحديد المشرع مسبقا لنوع الدليل وقيمته الإقناعية بحيث لا يكون القاضي وهو بصدد إصدار الحكم في القضية المعروضة أمامه قبول الاستدلال بغير الطرق التي حددها المشرع سلفا ولا أن يجيد عما رصده من قيمة إثباتية للدليل الذي أوجب الاستدلال به في الخصومة الجنائية و من الأمثلة على أخد المشرع عندنا بنظام الإثبات القانوني نشير في هذا الصدد إلى الفصل 493 من القانون الجنائي الخاص الذي أوجب إثبات الجرائم المنصوص عليها في الفصلين 490 (الفساد)،و 491 (الخيانة الزوجية)
إما بمحضر يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس أو بناء على اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي. وفي هذا الصدد جاءت مجموعة من قرارات المجلس الأعلى منبهة قضاة الحكم بنظام الإثبات الواجب الأخذ به بناء على ما نصت عليه القوانين الخاصة أو القانون الجنائي أو الإجرائي و منها قرار صرح بأنه “… حيث أنه إذا كان إثبات الجريمة متوقفا على حجة جارية عليها أحكام القانون المدني فيراعي القاضي في ذلك أحكام القانون المذكور،و أن المحكمة لما اعتبرت شهادة الإثبات تسلم المتهم مبلغ 140.000 درهما الذي نازع فيه هذا الأجير لم تراع قواعد الإثبات المدنية وعرضت بذلك قضاءها للنقض”.
ذلك أن إثبات كل تصرف تجاوزت قيمته 250 درهم لابد أن يجرى بالدليل الكتابي، كما هو الشأن بالنسبة لبيع أو رهن أصل تجاري الذي يجب أن يجرى كتابتا وفي محرر تابت التاريخ. وقيمته الإثباتية فيما إذا كان محررا بالطرق الرسمية المنصوص عليها في المواد 418 إلى 424 من قانون الالتزامات والعقود[15]. وكذلك قرار أخر صادر عن نفس المجلس حينما قرر”لئن كانت المحكمة قد استمعت إلى شهادة الشهود بإثبات أن الطاعن تسلم من الضحية مبلغا يفوق 250درهما” فإن ذلك لم يكن من أجل إثبات دين أو إنما لتعزيز اعتراف الطاعن بجريمة النصب[16]،
و كذلك في قرار آخر:”لما كان الأمر يتعلق بواقعة يتوقف حجة جارية عليها أحكام القانون المدني فقد كان على المحكمة أن تسلك المسطرة التي يقررها الفصل 290 من المسطرة الجنائية حيث تتأكد من ثبوت حيازة المشتكين للملك مما سيسفر عنه البحث و بالتالي التحقق من توفر عناصر الفصل 570 من القانون الجنائي المطبقة على النازلة[17]. ونفس النظام سارت عليه معظم التشريعات المقارنة منها العربية،حيث تنص المادة 225 من قانون المرافعات الجنائية المصري على أن:”تتبع المحكمة الجنائية في المسائل غير الجنائية التي تفصل فيها تبعا للدعوى الجنائية طرق الإثبات المقررة في القانون الخاص تلك المسائل”[18].
2- نظـام الإثـبـات القضـائـي أو الـوجدانـي[19]:
هو نظام الإثبات يتحرر بمقتضاه القاضي الجنائي من التقيد سلفا بوسيلة محددة في إثبات الوقائع المنظورة أمامه،كما يترك له كامل الحرية في تقدير الدليل بحيث لا رقيب عليه في ذلك عند تكوين اقتناعه بالحجج سوى ضميره[20].فنص الفصل 286 من قانون المسطرة الجنائية السابق ذكره واضح على أنه”…يحكم القاضي بحسب اقتناعه الصميم”،فقاضي الحكم يأخذ بنظام الإثبات القضائي الوجداني،و نفس الشيء بالنسبة لكل من قاضي التحقيق عندما يقوم بوزن الحجج أثناء بحثه، و على قاضي النيابة العامة عند إعماله لسلطة الملائمة،إلا وفق ما اقتنع به من أدلة سواء كانت في مصلحة المتهم أو ضده،بحيث يكون له أن يأخذ بالقرائن عوض الشهود فيما يتعلق بشهادتهم،
بل له أن يترك شهادة شهود أدوا اليمين القانونية و يأخذ بشهادة أناس لم يؤدوها،و يؤيد هذه المعلومات الاجتهاد القضائي الصادر عن المجلس الأعلى إذ جاء في حيثيات قراراته ما يلي : “تكون محكمة الموضوع قد بنت قناعتها على أساس صحيح من المرافع والقانون عندما اعتمدت فحوى محضر الضابطة القضائية المتضمن لاعتراف المتهم و أهملت المحضر الثاني المتضمن لإنكاره في مادة لم يحدد القانون صراحة اعتماد وسائل إثبات معينة فيها،خاصة و أن المحكمة عززت ذلك باستخلاص عناصر الإدانة من مختلف الوسائل الأخرى التي نوقشت أمامها.”[21] لكن على القاضي وهو في سبيل تكوين اقتناعه عملا بالنظام الوجداني مراعاة بعض الضوابط و سنبرزها كما يلي:
1 ـ لابد من طرح الدليل في الجلسة لمناقشة شفاهيا وبحضور الأطراف حتى يدلـي كل واحد برأي فيه،و بالتالي لا يجوز للقاضي الفصل في الدعوى اعتمادا على دليل وصل إلى علمه الشخصي مـن غير أن يطرح المناقشة في جلسة المحاكمة.
2 ـ لابد من بناء الحكم الجنائي على الجزم و اليقين لا على مجرد الترجيح و التخمين، و الذي تعتـبـر في منزلة الشك و الذي يفسر لجهة مصلحة المتهم وفقا للقاعدة المأثورة،و إلا وقع نقض الحكم المشوب بعيب الشك و التخمين،و في هذا الصدد صدر قرار للمجلس الأعلى بتاريخ 19/11/70،رقم 49 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 20م40.
أكد فيه ما يلي: ” فإذا كانت المحكمة قد صرحت بأنها لم يوضع تحت يديها دليل مادي قاطع يثبت الجريمة، ورغم ذلك فقد قررت إدانة المتهمة فهذا يكفي لنقض حكمها إذ الأحكام يجب أن تبنى على الجزم و اليقين لا على الشك و التخمين”.
3 ـ لابد أن يكون اقتناع القاضي مبني على وسيلة إثبات مشروعة و صحيحة.
والمشروعية في البحث عن الأدلة الجنائية، يشمل مطابقة العمل للقانون ومطابقة للضمير والاستقامة و النزاهة،من لدن المكلف بجمع الأدلة، و خرق المشروعية في مجال الأدلة قد يتخذ شكل دليل محصل عليه بارتكاب جــريمـة كالخبرة المقامة بعد تقديم رشوة،أو الاعتراف المنتزع بعنف و إكراه…[22].
4 ـ لابد أن تكون الأدلة المعتمد عليها في تأسيس الحكم واقعية وقانونية مؤدية إلى النتيجة التي أعلنها الحكم ومعللا بذلك تعليلا واقعيا وماديا. وجاء في هذا الصدد قرار المجلس الأعلى[23] مفاده: ” يجــوز إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات، إلا في الأحوال التي يستوجب القانون فيها أو يحضر وسيلة معينة من هذه الوسائل. ويحكم، ويتعين أن يتضمن المقرر الأسباب الواقعية والقانونية التي تبرر اقتناع القاضي ولو في حالة البراءة.
المبحث الثاني: القواعد الخاصة بكل وسيلة من وسائل الإثبات المختلفة:
سنتطرق في هذا المبحث للقواعد الخاصة بكل وسيلة من وسائل الإثبات ، ونظرا لتعدد وكثرة تلك الوسائل ارتئينا أن نقوم بتقسيم لها وذالك بحسب الطبيعة التي تميز بعضها عن الآخر،وعليه فإننا قسمنا هذه الوسائل إلى قسمين قسم خاص بوسائل الإثبات التقليدية (المطلب الأول) ويتعلق الأمر هنا بالشهادة،والخبرة، والاعتراف، والأوراق أو المحررات،ثم القرائن .وقسم آخر متعلق بوسائل الإثبات الحديثة أو العلمية (المطلب الثاني).
المطلب الأول : وسائل الإثـبــات التقـليديـــة:
الفرع الأول: الدليل الكتابي والقرائن:
يعتبر الدليل الكتابي من أهم وسائل الإثبات التي نظم المشرع أحكامها. ويتمثل الدليل الكتابي في الأوراق والمحررات والتي يمكن تقسيمها إلى قسمين: قسم يمثل جسم الجريمة أي أنه يدل على وقوع الجريمة أو بمعنى أدق هو الجريمة نفسها. مثل الورقة المزورة والعقد المزور أو رسائل التهديد الموجهة إلى شخص مافهذه الأوراق تدل على وقوع الجريمة، وبانتفائها تنتفي الجريمة نفسها. وقسم آخر يكون المحرر أو الورقة مجرد دليل على وقوع الجريمة. أي أنه دليل من بين أدلة الدعوى يستدل به على واقعة تثبت وقوع الجريمة. وهذا القسم ينقسم بدوره إلى قسمين أوراق ومحررات خاصة ثم المحاضر الرسمية.
الفلقرة الأولى: الأوراق والمحررات الخاصة:
ويقصد بها تلك التي تصدر عن المتهم نفسه أو عن الغير.
1 /- المتهـم نفـسـه:
تدخل في زمرة الأدلة الكتابية التي يستعان بها لإثبات الفعل الإجرامي تلك الأوراق الصادرة عن المتهم. والتي يكتبها على شكل رسائل مثلا. من أجل التهديد أو القذف أو رسائل موجهة إلى شخص ما تتضمن الإخبار بارتكاب جريمة من طرف المرسل أو من طرف أشخاص يعملون تحت إمرته أو متواطئين معه مساهمين أو مشاركين. وكذلك المذكرات التي يكتبها الشخص لنفسه دون نية إرسالها للغير، وتتضمن ارتكاب جريمة معينة أو التهيئ لها شرط أن تكون هذه الأخيرة ضد سلامة الدولة واقترنت ببعضها
الأعمال الإعدادية كجمع السلاح أو الأدوات التي ستعمل في الجريمة ولو قبل الشروع فيها.[24] لكن وإن كانت الرسائل التي يرسلها المتهم تعتبر قابلة للاعتماد كوسيلة إثبات فإن هذا الأصل يرد عليه استثناء و هو متعلق بالرسائل المتبادلة بين المتهم و محاميه، حيث لا يمكن أن تنجم على هذا النوع من الرسائل أي حجة كتابية (مادة 294 ق . م. ج)[25]
فإذا كتب المعتقل بالسجن مثلا رسالة إلى محاميه يعترف فيها بارتكابه الجريمة. وتم التقاط هذه الرسالة وإضافتها إلى الملف. غير أن المتهم أنكر التهمة المنسوبة إليه في جميع أطوار البحث والتحقيق. ولم تستطع النيابة العامة والضحية إثبات عكس ذلك، فإن المحكمة لا يمكنها الاعتماد على المراسلة بين المتهم والمحامي لإصدار حكم بالإدانة. والسند في هذا هو أن المراسلة بين المتهم ومحاميه تدخل ليس فقط في إطار سرية المراسلات. بل كذلك في إطار السر المهني للمحامي. وأن التقاط هذه الرسالة يعتبر عملا غير مشروع لا يمكن اعتبارها والاعتماد عليه كوسيلة إثبات.
وعموما وفي إطار الشرعية الواجبة في وسائل الإثبات فإن كافة الأوراق الصادرة عن المتهم لا يمكن اعتبارها دليلا في عملية الإثبات إلا إذا تم الحصول عليها بطريق مشروع كأن يتم الإدلاء بها ممن يحوزها طواعية سواء كان المتهم أو غيره. أو يتم حجزها عن طريق تفتيش المنزل مع مراعاة الشكليات التي يفرضها القانون في تفتيش المنازل أما إن هي وقع الحصول عليها بطريق غير مشروع كالسرقة أو الحجز أثناء تفتيش باطل لمنزل فالمحكمة لا تعتد بها وينبغي استبعادها لها.
2/-الــغــيـــر:
كما تعتبر الأوراق الصادرة عن غير المتهم، وسيلة من وسائل الإثبات الكتابية. بحيث يشترط فيها أن تكون منتجة في إثبات الوقائع التي تتضمنها.
والغير يمكن أن يكون إما شخصا عاديا – أي بدون صفة – ولو لم تكن له صلاحية جمع الأدلة عن الجريمة. ولكن المحرر الذي يصدر عنه تكون له علاقة بالجريمة[26]
كما يمكن أن يكون هذا الغير موظفا عموميا له صفة معينة لكنه لم يعهد له بالتثبت من الجريمة ولكنه حرر بمناسبة وظيفة وثيقة لها علاقة بالجريمة.
كأن يكون مثلا موظفا مكلف بتصحيح الإمضاءات بأحد الجماعات الحضرية فيتبين له أن نسخة بطاقة التعريف الوطنية موضوع المصادقة على صحة ومطابقة ما جاء فيها، مزورة وبالتالي فتكون هذه النسخة دليلا كتابيا على ارتكاب صاحب البطاقة أو غيره جريمة التزوير…
3/-القيمة الاثبـاتية لهذا النـوع من الأوراق والمقـررات :
إن القيمة الاثباتية للأوراق الصادرة عن المتهم أو عن الغير ، مهما اختلفت صفته فإنها تخضع لقاعدة الاقتناع الوجداني الذي يسير عليه القضاء الجنائي عند استخلاص قناعته من الدليل أي كان. ويصح هذا القول خصوصا بالنسبة للمحررات التي لا يجادل المتهم في صدورها منه فتعتبر حينئذ اعترافات منه تقدرها المحكمة بمطلق الحرية.
وعموما فان القيمة الاثباتية للمحررات الصادرة عن المتهم أو الغير سواء كانت عرفية ( أي التي صدرت من أفراد الناس ) أو رسمية ( أي التي صدرت من موظف مختص بتحريرها ولكن لم يعهد له القانون التثبت من الجرائم)(1) فإنها كغيرها من الأدلة ليست لها حجية خاصة وإنما للخصوم مناقشتها ودحض ما ورد فيها بشتى الطرق كما يجوز للمحكمة أن تأخذ بها أو أن تطرحها ولو كانت أوراق رسمية ، مادام يصح في الفعل أن يكون الدليل الذي تحمله غير ملتئم مع الحقيقة التي اطمأنت إليها من باقي الأدلة.
الفقرة الثانية: المحــاضـــر :
المحاضر هي الصكوك التي يحررها الموظفون المختصون بالتثبت من الجرائم، والمحضر حسب منطوق المادة 24 من ق.م.ج هو” الوثيقة المكتوبة التي يحررها ضابط الشرطة القضائية أثناء ممارسة مهامه ويضمنها ما عاينه وما تلقاه من تصريحات أو ما قام به من عمليات ترجع لاختصاصه دون الإخلال بالبيانات المشار إليها في مواد أخرى من هذا القانون أو في نصوص خاصة…”
وبالتالي فان هذه المحاضر تتميز عن المحررات التي يصدرها الموظف العمومي الذي لم يعهد له بالتثبت من الجرائم من حيث القيمة الاثباتية،حيث انه إذا كان النوع الأول من المحررات يخضع لقاعدة الاقتناع الوجداني للقضاء الجنائي،فإننا نجد المشرع قد خرج عن القاعدة السابقة فيما يتعلق ببعض المحاضر والتقارير الصادرة عن الموظف المكلف بالتثبت من الجرائم. وذلك من خلال إعطائها قيمة خاصة في الإثبات فتكون هذه المحاضر والتقارير إما لا يجوز مخالفتها إلا بادعاء الزور في المحرر الذي يتضمنها أو يصدق ما جاء في بعضها إلى أن يتبث ما يخالف ما تضمنته وإما لكونه يعتبر ما جاء في بعضها مجرد بيانات لا غير.
1 – المحـاضر التي يوثـق بمضمونها إلى أن يثبت تـزويرهــا:
نصت المادة 292 من ق.م.ج على انه “ إذا نص قانون خاص على انه لا يمكن الطعن في مضمون بعض المحاضر أو التقارير إلا بالزور فلا يمكن- تحت طائلة البطلان – إثبات عكسها بغير هذه الوسيلة “.
وتعتبر هذه المادة الأساس الذي يقوم عليه هذا النوع من المحاضر والتي يستمد منها قوته الإثباتية ، حيث يعتبر هذا النوع من المحاضر أقوى أنواع المحاضر من حيث الإثبات وهو ملزم للمحكمة مادام صحيحا في شكله، فنص المادة كما يبدو لا يقبل أي تأويل عند إعماله بحيث يتعين وفقه امتناع إثبات ما يخالف ما تضمنه محرر معين ( محضر أو تقرير) بغير وسيلة الطعن فيه بالزور(الأصلي) في كل حالة يقرر فيها القانون صراحة عدم إمكانية معارضته بغير ادعاء الزور(الأصلي) فيه.[27]
و بالتالي فإنه من الواضح أن هذه المادة قد قيدت من حرية الاستدلال الثابتة مبدئيا للأفراد، وكذالك فإنها قد حدت من السلطة التقديرية التي تملكها المحكمة في تقدير الدليل وتكوين قناعتها، ولكن برجوعنا إلى النصوص الخاصة المقصودة بمنطوق الماد 292 ق.م.ج نجد أنها قليلة ومحصورة جدا نذكر منها:
* الفصل 71 من قانون الدرك الملكي (14يناير 1958) والذي ينص على ما يلي ” تكون المحاضر موضوع ثقة لدى المحاكم القضائية إن لم يثبت خلاف ما تضمنته من مخالفات أو بعض الجنح يعهد صريحا للدرك مشاهدتها إن لم يدعي الزور فيما يتعلق بالجمرك والصيد البحري”
* الفصل 65 من ظهير 10 أكتوبر 1917 المتعلق بالمحافظة على الغابات واستغلالها ، حيث ينص على أن “التقارير التي يكتبها الموظفون بإدارة المياه والغابات على اختلاف طبقاتهم وعليها إمضاءاتهم تعتبر حجة صحيحة في ثبوت المخالفات المتقررة فيها كيفما كانت العقوبة الناتجة عنها بشرط أن تكون التقارير وقعت من طرف موظفين اثنين ويعتبر ما تضمنته التقارير من مخالفات صحيحا كيفما كانت معاقبته ما لم يدعى التزوير فيها…”
* الفصل 28 من ظهير 11/4/1922 المتعلق بالصيد في الأنهر والمياه الداخلية
والذي جاء فيه:“إن التقارير التي يحررها ويوقع عليها عونان من إدارة المياه و الغابات تعتبر حجة قانوني إلى أن يدعى بتزوير الحوادث المتعلقة بالمخالفات التي أثبتها ذالك العونان…”
* الفصل 242 من مدونة الجمارك والذي ينص على أن :” المحاضر المحررة بشأن المخالفة لمقتضيات هذه المدونة من طرف عونين للإدارة أو أكثر يعتمد عليها في الإثباتات المادية المضمن في المحاضر إلى أن يطعن في صحتها”
وعليه يتضح على أن المشرع وإن قيد من حرية الاستدلال عند الأفراد وكذا ما للمحكمة من سلطة تقديرية فإن ذالك جاء في حدود ضيقة جدا، بحيث لم يظهر من خلال الممارسة أي أثر سلبي على القاعدتين السابق ذكرهما.
ويرجع السبب في إعطاء المشرع لهذا النوع من المحاضر والتقارير قوة إثباتية خاصة في كون أن هذه المحاضر تصدر بخصوص جرائم لا تثير الانتباه العام و لا يشعر بها الناس في الغالب، و لأنها تهم أشخاص قليلين، فيحررها في الغالب موظفون من صغار ضباط الشرط القضائية وأعوانها .
والقيمة الإثباتية المطلقة التي أعطاها المشرع لهذا النوع من المحاضر والتقارير لا تكون إلا للوقائع المادية التي احتوتها هذه المحررات، أي أنها لا تنسحب إلا لما شاهده محرر المحضر، بعينه أو سمعه من دوي الشأن بأذنه وكان يدخل تحت اختصاصه، ولا يشمل رأيه الوارد في المحضر، أو تكييفه للوقائع تكييفا جنائيا لأن هذه الأمور ترجع لسلطة المحكمة و ليس لمحرري الورقة وقد استقر المجلس الأعلى على هذا الرأي، وأصدر عدة قرارات في هذا الاتجاه نذكر منها القرار الجنائي عدد 650 صادر بتاريخ 7 يوليوز 1962 في الملف عدد 8705، و الذي جاء فيه
: “إن قوة الإثبات التي للمحاضر المقامة في شأن الجنح و المخالفات من لدن ضابط الشرطة القضائية و جنود الدرك و الموظفون الموكل لهم ذالك قانونا لا تنسحب إلا على ما شاهده أو سمعه أو قام به محررو المحاضر بأنفسهم وليس على ما تضمنته تصريحات تلقوها من غيرهم شأنها أن تحمل الصدق و الكذب…”
ويمكن القول ، أنه لكي تثبت القيمة الإقناعية المطلقة للمحضر أو التقريريجب أن يكون مستوفيا لكافة الشروط التي حددها القانون ، حيث أن المادة 289جاءت صريحة في هذا الشأن إذ أنها نصت على أن “لا يعتد بالمحاضر و التقارير التي يحررها ضباط و أعوان الشرطة القضائية إلا إذا كانت صحيحة في الشكل والمضمون و ضمن فيها محرره وهو يمارس مهامه وظيفته ما عاينه أو تلقاه شخصيا في مجال اختصاصه.”
كما تنص المادة 751 على أن ” كل إجراء يأمر به هذا القانون ولم يثبت إنجازه على الوجه القانوني يعد كأنه لم ينجز وذالك مع مراعاة مقتضيات الفقرة الثالثة من المادة 442 المتعلقة بجلسات غرفة الجنايات”.
ويستثنى مما سبق المحاضر التي ينجزها رجال الدرك حيث ينص الفصل 71 من قانون الدرك الملكي على أن ” المحاضر التي ينجزها رجال الدرك لا يمكن أن تبطل بدعوى عيب في صياغتها.”
وكما تدخل في زمرة المحاضر التي لا تقبل الطعن بما جاء فيها إلا بإثبات الزور، محاضر الجلسات و الأحكام. حيث أن كل ما ورد فيها يعد صادرا من صاحبه (المتهم) و مطابقا للواقع.
وهو نفس ما ذهب إليه المجلس الأعلى حيث جاء في قراره عدد 328 الصادر بتاريخ 14/01/1986 ملف عدد 11472/85 ما يلي “تعتبر تنصيصات الأحكام موثوق بها ما لم يثبت زوريتها كما أن محاضر الجلسات الصحيحة شكلا تعتبر مكملة للأحكام فيما عسى أن يكون قد أغفل عنه إلا أنها لا تناقضها.”
ويجد التقرير السابق أساسه في كون هذه المحاضر أوراق رسمي لا يجوز تكذيبها بغير إدعاء الزور فيها، عملا بالفصل 419 من قانون الالتزامات والعقود.
2– المحاضـر التي يوثـق بمضمونهـا إلى أن يثبت ما يخـالـفـها:
تنص المادة 290 من ق.م.ج على أن “المحاضر و التقارير التي يحررها ضابط الشرط القضائية في شأن التثبت من الجنح و المخالفات يوثق بمضمنها إلى أن بثبت العكس بأي وسيلة من وسائل الإثبات “
يستنتج من خلال هذه المادة أن المحاضر التي يوثق بمضمونها إلى أن يثبت ما يخالفه هي تلك التي يحررها ضابط الشرط القضائية و رجال الدرك في شأن التثبت من الجنح والمخلفات فقط ، وتدخل في نفس الإطار المحاضر التي ينجزها المحتسب في مخالفات زجر الغش و الأثمان.
ويتبين كذالك من خلال المادة السابقة، أن القوة الإثباتية لهذه المحاضر ليست مطلقة وإنما هي ذات حجية نسبية ،يمكن إثبات عكسها بأي وسيلة من وسائل الإثبات.
وهذه الاستنتاجات يؤكدها لنا قرار المجلس الأعلى عدد 1581 الصادر بتاريخ 3 مارس 1964 و الذي جاء فيه “تطبيقا للفصلين 291 و 292 من ق.م.ج (الملغاة) كل من محضر حرره بصفة قانونية أحد ضباط الشرطة القضائية يوثق بها ، ما لم يثبت ما يخالف ذالك ، بما ضمن فيه واضعه وهو يزاول مهام وظيفته أنه عاينه أو تلقاه شخصيا في شان الأمور الراجعة إلى اختصاصه” وإثبات ما يخالف هذا النوع من المحاضر ودحض حجيتها لا يتحقق إلا من خلال وجود الدليل القاطع وبواسطة حجة تماثلها في القوة الإثباتية كالخبرة والقرائن وشهادة الشهود.
وفي حالة عدم القدرة على الإتيان بالحجة التي تدحض ما جاء في هذا النوع من المحاضر، فإنه رغم ذلك يمكن للمحكمة في إطار سلطتها التقديرية أن تستبعدها إذا ارتابت في صحة ما احتواه المحضر، ولكن في المقابل تكون مطالبة بتبيان أسباب هذا الارتياب بوقائع محددة تكون علة في استبعاد ما احتواه المحضر في هذه الحالة قصد أن يكون حكمها معللا كما تقضي بذالك الأصول الواجب مراعاتها في بناء الأحكام.
وهذا ما يؤيده العمل والاجتهاد القضائيين حيث جاء في القرار عدد 59/793 (س23) الصادر بتاريخ 10 يوليوز 1980 ملف جنحي 48242 مكرر 22 ما يلي :“لما كانت المحكمة قد اعتبرت أن محاضر الدرك فقدت صفتها التدليلية لتناقض بعضها فلم تطمئن إليها و أبعدتها تكون قد استعملت ما لها من سلطة التقدير في هذا الشأن …”
وجاء في قرار آخر “فحوى محاضر الضابطة القضائي تخضع لتقدير قضاة الموضوع”
وسواء اقتنعت المحكمة بما جاء في محضر الجنحة أو المخالفة المنجز من طرف ضباط الشرطة القضائية أو لم تقتنع فإنها تكون مطالبة بتعليل حكمها في كلتا الحالتين (المادة 365 ) و(الفقرة الثالثة من المادة 370) ق.م.ج.
وهذا ما يؤكده القرار عدد 155 صادر بتاريخ 5/2/1976 في الملف الجنائي عدد 52592 حيث جاء فيه: “لا يكفي لصحة الحكم أن تصرح المحكمة باقتناعها بما جاء في محضر الشرطة من اعترافات بل لابد من تعليل وجه ذلك الاقتناع”
أما في حالة ما تم إثبات عكس ما جاء في هذا النوع من المحاضر ودحض حجيته فإن الإشكال المطروح هنا، يتعلق بما مدى إمكانية اعتماده من طرف المحكمة وفي أي موقع قانوني يندرج والحالة هذه.
وفي هذا الصدد نجد أن العمل القضائي اتخذ موقف واضح في هذه المسألة حيث جاء في قرار للغرفة الأولى القسم الجنائي عدد 445 الصادر بتاريخ 22/05/1963 ما يلي “… وإذا فقد المحضر قوته الثبوتية فلا يمكن الاعتماد عليه في الإثبات ، ويبقى للمحكمة إثبات الجريمة بأي وسيلة من وسائل الإثبات الأخرى…” وهو نفس الطرح الذي درج عليه الفقه.
أما في حالة صدور هذه المحاضر بشكل لا يحترم الشروط الشكلية لهذا النوع من المحاضر، فيترتب عنه نفس ما ذكر بخصوص المحاضر التي لا تقبل الطعن فيها إلا بالزور الأصلي، حيث يترتب عنه، البطلان النسبي المفضي إلى لفقدان القوة الإثباتية (المادة289) ق.م.ج.
3- المحاضر التـي تعــد مجــرد بيـانـات لا غــيــر:
ورد في المادة 291 من ق.م.ج ما يلي ” لا يعتبر ما عدا ذلك من المحاضر أو التقارير إلا مجرد معلومات” يتضح من خلال المادة السابقة أن هذا النوع من المحاضر لا يتمتع بأي قوة إثبات سواء مطلقة أو نسبية، حيث لا يعد هذا النوع سوى بيانات أو معلومات، الشيء الذي يجعلها تخضع للسلطة التقديرية للمحكمة فيكون لهذه الأخير السلطة الكاملة في استبعادها تلقائيا ودون أي تعليل. وهو ما يؤكده قرار المجلس الأعلى عدد 661 الصادر بتاريخ 2/6/1966 والذي جاء فيه ” إنه بمقتضى الفصلين 291_293 (289_ 291 حاليا) من قانون المسطرة الجنائية فان المحاضر و التقارير في الجنايات لا تعتبر إلا بمجرد بيانات لقضاة الموضوع يمكن أن يبعدوها أو يعتمدوها حسب اقتناعهم الصميم.” كما لها نفس السلطة في الأخذ بما تضمنته من وقائع ومعطيات ، لكن في هذه الحالة فإنها تكون مطالبة بتعزيزها بأدلة أخرى لبناء حكم الإدانة.
و بالرجوع إلى منطوق المادة 289 من ق.م.ج ومقارنتها بما تضمنته المادة 291 فإنه يبدو جليا أن المحاضر المقصودة هي محاضر البحث التمهيدي في الجنايات، وهو ما يؤكده القرار عدد 935- الصادر بتاريخ 31 يناير 1985 والذي جاء فيه “إن المحاضر التي تعتبر إلا مجرد بيانات فيما يخص الجنايات هي محاضر ضابطة الشرطة القضائية وجنود الدرك أمت الاستنطاقات أمام النيابة العامة فليست كذالك”[28] وهو ما يؤكدها القرار الآنف ذكره.
لكن يرى بعض الفقه أنه يدخل كذلك في زمرة هذه المحاضر ، تلك المحاضر التي يحررها شخص واحد في حين أن القانون يفرض شخصين، وكذالك المحاضر التي يحررها أشخاص ليست لهم الصلاحية في ذلك، وأيضا محاضر الاستنطاق التي مكث فيها المتهم المستنطق في الحراسة النظرية أكثر من الوقت القانوني ودون اذن كتابي من وكيل الملك بتمديد فترة الوضع تحت الحراسة النظرية (المواد 66_67_68 من ق.م.ج)،وتدخل في نفس الإطار محاضر التفتيش التي أنجزت خارج الأوقات المسموح بها (المادة 62 من ق.م.ج).
الفقرة الثالثة: القـــــــرائـــــــــن :
لم يعرف القانون الجنائي القرائن,و يمكن أن نعتمد في تعريفها على قانون العقود
والالتزامات الذي عرفها في الفصل 449 منه بأنها “دلائل يستخلص منها القانون أو القاضي وجود وقائع مجهولة “.من هذا التعريف يتبين أن القرائن هي استنتاج واقعة مجهولة من واقعة معلومة، و هي نوعان قرائن قانونية وقرائن قضائية. .
1- القرائن القانونية:
هي التي نص عليها القانون وألزم بهذا القاضي،و هي نوعان قرائن قانونية قاطعة وقرائن قانونية بسيطة.القرائن القانونية القاطعة هي التي لا تقبل إثبات العكس مثل ما نص عليه الفصل138 من القانون الجنائي المغربي من أن الصغير الذي لم يبلغ اثني عشر سنة يعتبر غير مسؤول جنائيا لانعدام تمييزه وهذه قرينة قاطعة على عدم مساءلته جنائيا ولا يستطيع المتضرر و لا النيابة العامة إثبات العكس فلو اثبت المتضرر مثلا أن هذا الطفل الذي يبلغ 11 سنة كاملة ذكي جدا و أنه الأول في فصله الدراسي و يتمتع بقوة إدراك خارقة للعادة في مستوى البالغين الممتازين،لما استمع إلى ادعائه لأن عدم بلوغ الطفل 12 سنة كاملة قرينة قانونية قاطعة على عدم تمييزه، وكذلك نشر قانون في الجريدة الرسمية يفترض أن جميع الناس علموا به. فهكذا لو أن قانونا جديدا صدر يجرم فعلا كان مباحا،
وصادف أن قام شخص بارتكاب هذا الفعل الذي أصبح جريمة فانه،لا يمكن أن يثبت أنه لم يطلع على هذا القانون كأن يكون خارج المغرب، أو كان معتقلا،لأنه لا يعذر أحد بجهله للقانون الفصل 2 من القانون الجنائي ,و أن نشر القانون بالجريدة الرسمية يعد قرينة قانونية قاطعة على علم الكافة به.و قد اعتبر القضاء المصري الزيادة غير المبررة في مال الموظف،و كون نوع وظيفته تتيح له فرصة ذلك الاستغلال حتى يصبح اعتبار عجزه عن إثبات مصدر الزيادة في ماله قرينة قانونية عامة على أن هذه الزيادة تمثل كسبا غير مشروع[29].
وكذلك عدم بلوغ القاصر 15 سنة يعد عديم الرضى ولذلك يعاقب الفصل 484 من القانون الجنائي المغربي من يهتك عرضه و لو كان ذلك برضاه لأن عدم بلوغ القاصر15 سنة قرينة قانونية قاطعة على عدم رضاه و كذلك من يقدم مسكنا للمجرمين أو سلاحا أو مساعدة لمعاونتهم لارتكاب الجريمة و هو يعلم ذلك تعد قرينة قانونية قاطعة على جريمته الفصل129 من القانون الجنائي.والقرائن البسيطة: هي التي يقررها القانون،إلا أنه أباح للمتضرر منها أن يثبت عكسها لينجو من العقاب فالفصل 543 من القانون الجنائي المغربي ينص في فقرته الأولى على أنه“يعد مصدرا لشيك بدون رصيد من يرتكب بسوء نية أحد الأفعال الآتية: إصدار شيك ليس له رصيد قائم قابل للتصرف أو له رصيد يقل عن قيمته و كذلك سحب الرصيد كله أو جزء منه بعد إصدار الشيك،أو إصدار أمر للمسحوب عليه بعدم الدفع.” وهكذا يستطيع المتابع أن يثبت حسن نيته وقت إصدار الشيك بأنه كان يتوفر على المبلغ الكافي و لكن البنك سحب مبلغا كالضريبة السنوية مثلا،أو استطاع أن يثبت الغلط الحسابي الذي وقع فيه.أو استطاع أن يثبت بأن متسلم الشيك لم يدفعه في الوقت الذي تسلمه،بل أمسكه مدة طويلة الشيء الذي جعل المصدر يعتقد أن المبلغ سحب.
2- الـقـرائـن القضـائـيـة:
هي القرائن التي يترك أمر تقديرها واستنتاجها إلى القاضي بطريقة اللزوم العقلي[30]،و يعتمد في ذلك على عملية ذهنية يربط فيها بحكم الضرورة المنطقية بين واقعة معينة و الواقعة المراد إثباتها،فضبط شخص حامل سكينا ملطخا بالدم قرب جثة قرينة على أنه هو القاتل، و الشخص الذي يضبط في حالة رعب حاملا مواد ملتهبة و هو فار قرب مكان أضرمت فيه النار يعتبر هو مضرمها، وكذلك الضرب الذي يرتكبه الجاني ضد المجني عليه بسكين في مقتل،كأن يسدد ضربته نحو قلب الضحية أو عنقه أو بطنه، فإنها تعد قرينة قضائية على أنه أراد القتل،وأنه فعلا ارتكب جناية القتل العمد لا الضرب و الجرح العمديين المؤديين إلى الموت دون نية إحداثه،وإذا لم يمت الضحية من جراء الضرب لسبب خارج عن إرادة الجاني فإن هذا الأخير يعد مرتكبا لجريمة محاولة القتل العمد كما نص عليها الفصل 114 من القانون الجنائي لا جنحة الضرب والجرح العمديين، وذلك لأن في طعن المتهم بسكين حاد قاتل في العادة في مقتل للضحية تعد قرينة على أنه أراد القتل.
وأن وجود بصمة المتهم أو أثر قدميه في مكان الجريمة قرينة على وجوده فيها. والقرائن القضائية يجب أن تؤخذ بحزم وأن يتعمق القاضي في دراستها ومقارنتها ومدى مطابقتها للواقع وأن تكون المقدمات التي انطلقت منها سليمة وصحيحة لأن أغلب الأخطاء التي يقع فيها القضاء تكون بسبب القرائن القضائية.
أما من حيث القيمة الثبوتية للقرائن فقلنا إن القرائن القانونية القاطعة ملزمة للقاضي
وبالتالي فإن لها قوة إثبات كاملة أما القرائن القانونية البسيطة والقرائن القضائية فإنه ليست لها نفس القوة الإثباتية، وللمتضرر أن يثبت عكسها إلا أن إثبات هذا العكس يجب أن يكون منطقيا
ومعقولا،فإذا ما أثبت المتهم المتابع بارتكاب جريمة محاولة القتل باستعمال السلاح،و بين للمحكمة أن السكين المستعمل في الطعن والمحجوز من طرف الشرطة، لا يصلح للقتل ولا يمكن أن يقتل كأن يكون قصيرا، أو غير حاد تماما،فإن قرينة محاولة القتل العمد،تسقط وتصبح الجريمة على أنها ضرب عمدي بسلاح.
الفرع الثاني: الاعــتـراف و الشـهـادة.
في هذا الفرع سنتطرق بادئ البدء في نقطة أولى منه لمفهوم الاعتراف والشروط المتطلبة لصحته وقيمته الإثباتية (أ)، ثم سنتحدث في نقطة ثانية لماهية الشهادة والشروط المتطلبة في الشهادة، وأثر و جزاء تخلف هذه الشروط و الإخلال بها، ثم القيمة الإقناعية لهذا الدليل(ب).
أولا- الاعــــــتـــــــراف:
الاعتراف هو شهادة المتهم على نفسه، يعترف بواسطته بالتهمة أو بارتكابه الجريمة إما بصفته فاعلا أصليا لها أو مساهما بالتهمة أو مشاركا فيها[31]،فهو بهذا التحديد (أي الاعتراف)، عبارة عن شهادة المتهم على نفسه بأنه مرتكب الوقائع الجنائية المنسوبة إليه،إذ يتخذ شكل تصريح يدلي به المتهم أمام الجهات المختصة،و ينسب بمقتضاه غلى نفسه مسؤولية ارتكاب الجريمة كليا أو جزئيا[32]. وقد اعتبر الاعتراف في ظل الإثبات المقيد سيد الأدلة،و كان يكفي وحده لتوليد الاقتناع. وفي العصر الراهن لم يبق للاعتراف من الوجهة النظرية تلك الحجية المطلقة،فهو يخضع كغيره من وسائل الإثبات للسلطة التقديرية للقضاة،ذلك أنه في ظل قانون المسطرة الجنائية الصادر سنة 1959و الملغى بمقتضى قانون المسطرة الجنائية الجديد النافذ في فاتح أكتوبر 2003،لم يكن يخصص للاعتراف أي نص قانوني خاص،و هو ما تداركه القانون الجديد السابق الذكر في مادته293 التي تنص على خضوع الاعتراف للسلطة التقديرية للقضاة تكريسا بذلك للاجتهاد القضائي الذي كان يؤكد قبل صدور قانون المسطرة الجنائية الجديدة على الحكم الذي قننه في الفصل 293[33] .
والاعتراف قد يصدر من المتهم في جلسة المحاكمة،أو أمام قاضي التحقيق و يسمى بذلك اعترافا قضائيا، و قد يصدر الاعتراف عن المتهم في غير جلسة المحكمة،و مع ذلك يصل هذا الاعتراف إلى القضاء بطريقة غير مباشرة بفرضية سرد الشاهد الاعتراف الذي أمر به المتهم إليه.و قد يصدر الاعتراف في محضر البحث التمهيدي أمام الضابطة القضائية،أو في ورقة صادرة عن المتهم،و في هاتين الحالتين يسمى بالاعتراف غير القضائي وعموما فإن الاعتراف المعنون بسيد الأدلة في الإثبات هو الاعتراف القضائي[34] من الناحية العملية،
يحسم في غالبية الأمور من الحالات في موضوع الدعوى العمومية.و لكنه لكي يعتد بالاعتراف كدليل من أدلة الإثبات يجب أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط لصحته،فإذا توفرت اعتبر الاعتراف وسيلة تخضع لتقدير القاضي،فله أن يأخذ به أو أن يطرحه بعد أن يعلل موقفه في كلتا الحالتين. و بالتالي لابد أن يكون الاعتراف دالا على الحقيقة و صادرا من المتهم شخصيا،ذلك أنه إذا صدر عن غيره اعتبر من قبيل الشهادة، وسواء كان هذا الغير متهم معه في نفس الجريمة،كما أنه لابد أن ينصب على محل الإثبات، أي الوقائع المكونة للركن المادي للجريمة.كما أن وضوح الاعتراف مسألة مهمة في تقدير اقتناع القاضي بحيث يجب أن يبتعد عن الغموض و اللبس،
و بالتالي لابد أن يكون مفصلا ما أمكن حتى لا يحتمل تأويلات و تفسيرات عدة،إذ لا يكفي القول الصادر عن المتهم شخصيا بأنه كان على علاقة غير جيدة و سيئة مع المقتول في الجريمة،أو فعلا كان موجودا في مسرح وقوع الجريمة، أو لاعتباره مدينا له بمبلغ مالي خيالي يصعب رده له ليستفاد من اعترافه بأنه هو فعلا من ارتكب ما هو منسوب إليه،نعم يمكن اعتبارها بمثابة قرائن حال،لابد من إسنادها بوسائل و أدلة أخرى كشهادة الشهود للقول فعلا بارتكاب الجرم المنسوب له، و عليه فالاعتراف الضمني يبقى مثيرا للشك الذي لا يزال إلا بإسناده بأدلة أخرى،و بالتالي يعتد بالاعتراف الصحيح،و أخيرا أن يكون الاعتراف صادرا من المتهم بطواعية و اختيار،وأن يكون سليم العقل تام الإدراك وقت هذا الاعتراف بحيث لا يجب أن ينتزع منه بالقوة و الإكراه و التعذيب تحت طائلة العقوبات الوارد بالتنصيص عليها في الفصول 225و 231 من القانون الجنائي المغربي[35].
ومن المعروف أن الإقرار في النطاق المدني لا يقبل التجزئة و من ثم يمنع على القاضي المدني تجزئته و بالتالي إما أنه يأخذ به كله أو يطرحه و لا يأخذ به كله و ذلك بتصريح نص الفصل 414 من ظهير قانون الالتزامات و العقود: “لا يجوز تجزئة الإقرار ضد صاحبه…”لكن للقاضي الجنائي أن يجزى اعتراف المتهم،فيأخذ الجزء الذي يطمئن إليه،و يطرح الباقي و يتحقق ذلك في الاعتراف المركب،و مثاله اعتراف متهم بارتكابه لجريمة و يدعي أنه كان في حالة دفاع شرعي،فيمكن للمحكمة أن تأخذ الاعتراف المنصب على ارتكاب الجريمة،دون أن يقتنع القاضي في حالة الدفاع الشرعي التي لم تثبت لديه لكن لابد من تعليل حكمه[36].
وأخيرا ما دام الاعتراف دليلا من أدلة الإثبات يخضع في تقدير قيمته الإثباتية لتقدير القاضي الزجري فإن الرجوع عن الاعتراف من قبل المتهم يخضع كذلك لسلطة القاضي التقديرية في الأخذ بالاعتراف رغم عدول المعترف عنه،أو عدم الأخذ به و في كلتا الحالتين لابد من تعليل موقفه كما تقضي بذلك القواعد العامة في تعليل الأحكام.
ثانيا- الشــــــهــــــادة:
الشهادة إخبار أو رواية يرويها شخص عما أدركه مباشرة بحواسه عن واقعة معينة،و تأخذ شكل تصريح يدلي به صاحبه،و يدون بمحضر،و يعتمد عليه في الإثبات بعد أداء اليمين،و توفر الشروط القانونية. و من حيث أنواع الشهادة،فهي قد تكون إما مباشرة،و هي التي يتم فيها اتصال الشاهد مباشرة بالمرافعة محل الإثبات،بحيث يشهد بما عاينه و أدركه مباشرة،و إما شهادة غير مباشرة تتم عن طريق التواتر،كان يروي الشاهد بأن غيره قد رأى الواقعة محل الإثبات،و تسمى بذلك شهادة التواتر و النقل أو السماع.و هذه الأخيرة لا تعدو وسيلة إثبات و إنما هي طريق الاستدلال يمكن الاستئناس بها. و مع ذلك فإن الشهادة لا تؤدي دورها إلا إذا كانت خالية من الموانع إذ أوجب القانون على الشاهد،أداء اليمين القانونية طبقا للمواد123 و331 من قانون المسطرة الجنائية، وذلك بالصيغة التالية:
“أقسم بالله العظيم على أن اشهد بدون حقد و لا خوف،و أن أقول الحق كل الحق،وأن لا أشهد إلا بالحق” إذ يترتب على عدم أداء اليمين القانونية بطلان الشهادة،و ذلك بصريح نص المادة 331 السابقة الإثارة التي تنص على أنه”يعتبر أداء اليمين القانونية أمام القضاء من طرق الشاهد،شرطا جوهريا،يترتب البطلان عند الإخلال به”إذ جاء في قرار عدد 6294 ملف جنحي عدد18568 /92 بتاريخ7 يوليوز1994 صادر عن المجلس الأعلى(وارد في مجلة القضاء
و القانون عدد 50-49 م 243)ما يلي: “إن اكتفاء المحكمة بتصريحات الشهود أمام الضابطة القضائية،و دون حضورهم أمامها،و أدائهم اليمين القانونية ، يعد خرق للفصل 323 من قانون المسطرة الجنائية ،مما يجعل القرار المطعون فيه بالنقض،ناقص التعليل،و يستوجب النقض”[37].
و يتعين على الشاهد المستدعى لأدائها أن يحضر،و يدلي بها،بعد أداء القسم،على أساس أن المشرع رتب على عدم القيام بهذه الواجبات جزاءات جنائية كالغرامة في حق هذا الشاهد المتخلف عن الحضور، أو إلزامه وإجباره على ذلك أو متابعته بدعوى الزور. ومنه نجد المشرع قد عالج كيفية استدعاء الشهود،
وكذا إجراءات الاستماع إليهم أمام قاضي التحقيق و كذا أمام قاضي الحكم هذه الكيفيات والإجراءات تبتدئ من المواد 117 وما يليها و المادة 325 وما يليها.كما أنه تجدر الإشارة إلى أن المشرع لم يتعرض إلى كيفية اخذ أقوال الشهود في مرحلة البحث التمهيدي،و يكفي إظهارا لذلك امتناع تحليف الشاهد اليمين في هذه المرحلة.و بالتالي فالأسئلة التي تبقى مطروحة بخصوص الأحكام المتعلقة بأداء الشهادة خلال مرحلة التحقيق الإعدادي أو أمام قاضي الحكم هي: ما هي كيفيات استدعاء الشهود و ما يترتب من جزاء عن تخلف الشاهد بحضوره لأدائها أو تغييره الحقيقة فيها عمدا؟ وكيف يتم أداءها و قيمتها الإثباتية؟
يتم استدعاء الشهود إما من قبل المحكمة تلقائيا أو بناء على طلب من النيابة العامة أو المتهم أو المطالب بالحق المدني أو المسؤول عن الحقوق المدنية، و بالتالي فالملاحظ أن الأطراف المعينة أساسا (المادة 325 من ق.م،ج) بتعزيز مواقفها إما في الدفاع و إما في الاتهام في مرحلة المحاكمة،أما بخصوص طريقة الاستدعاء للشهود فتكون بإحدى الفرضيات التالية: إما برسالة مضمونة مع إشهاد بالتوصل أو إشهاد بريدي بتسلمها، أو بواسطة استدعاء يبلغه عون مكتب التبليغات أو عون قضائي أو بالطريق الإداري و هذا ما يوحي به نص الفقرة 2 من المادة 325 من قانون المسطرة الجنائية[38].
لكن الملاحظ من خلال هذه النصوص القانونية أنها تخلو من أية إشارة للمدة التي ينبغي أن تفصل بين توجيه الاستدعاء للشاهد و تاريخ انعقاد الجلسة، وهو ما يبدوا منتقدا عند كثير من الفقه،بسبب إهمال المشرع لمصالح الشاهد الذي قد تتضر بسبب مفاجأته أحيانا باستدعاء للإدلاء بالشهادة أمام المحكمة في وقت قد يكون رتب فيها أمره بكيفية قد لا تسمح له إطلاقا بتلبيته لهذا الواجب الذي فرض عليه من قبل المحكمة فرضا ليصبح هكذا في موقف صعب جدا يحتم عليه إما التضحية بمصالحه أو التعرض لعقوبة عدم الحضور، في حين أن هذا المشكل ما كان ليتصور في حالة تحديد فسحة زمنية من قبل المشـــرع تفصل بين تاريخ الاستدعاء والحضور أمام المحكمة.
وإذا كان الأصل أن للمحكمة تلقائيا و للنيابة العامة و المتهم و المطالب بالحق المدني
والمسؤول عـن الحقوق المدنية الحق في استدعاء الشهود اللذين يرغبون في السماع لإفادتهم أمام المحكمة فـإن الأصـل تدخل عليه بعض الاستثناءات.
أولهما: ما أوردته المادة 326 من ق.م.ج و الذي بمقتضاه يمتنع استدعاء أعضاء الحكومة و كتاب الدولة و نواب الدولة بصفة شهود إلا بإذن من المجلس الوزاري على إثر تقرير يقدمه وزير العدل،فإن هو منح الإذن تلقيت الشهادة بالكيفية العادية أما إن هو لم يمنح فتتلقى كتابة بمنزل الشاهد بالشكليات المنصوص عليها في الفقرات 2و4و5من المادة 326 من ق.م.ج.
ثانيهما: أوردته المادة 327 من ق.م.ج بمقتضاه يمتنع استدعاء ممثلي الدول الأجنبية المعتمدون بالمغرب لأداء الشهادة أمام المحكمة و إنما تؤدى كتابة و بطلب من وزير الشؤون الخارجية طبق للشكليات المنصوص عليها في الفقرتين 2و3 من المادة السابقة الذكر.
ثالثهما : و يتحقق خاصة في الحالة التي ترفض فيها المحكمة طلب احد الأطراف استدعاء أحد الشهود الاستماع إليه في القضية،و قد يبدوا من هذا الاستثناء انه يتعارض مع المبدأ القاضي بالحق في الدفاع، والذي يقتضي من جملة ما يقتضيه تقديم كل طرف في الدعوى ما لديه من أدلة إثبات باعتبارها وسائل الدفاع أمام القانون و الذي لا يمنعه صراحة من ذلك،و لكن المبدأ السابق لا يمكنه أن يقف حجرة عثرة أمام مبدأ آخر و هو وجوب سهر المحكمة على حسن سير العدالة الذي يخول لها،و خلافا للمبدأ السابق برفض كل طلب باستدعاء شاهد تبين للمحكمة انه غير منتج في القضية التي تنظرها أو غير مجدي و لا يقصد منه سوى إضاعة وقت المحكمة و من ذلك تقديم المتهم طلبا باستدعاء الشهود للاستماع إليهم من أجل معارضة واقعة منسوبة إليه في محضر لا يقبل إثبات العكس بغير إدعاء الزور.
ولكن حق المحكمة في رفض مثل هذه الطلبات المخلة بحسن سير العدالة مشروط بتعليلها لموقفها بالرفض بتعيين الأسباب الداعية و الموجبة للرفض لأنها مراقبة [39]في هذه المسالة طبقا للفقرة 3 من المادة 370من ق.م.ج التي تشترط أن تكون الأحكام و القرارات و الأوامر معللة من الناحيتين الواقعية و القانونية،و خالية من أي تناقض فيها.
الاستثناء الرابع : و تنص عليه المادة 334 من قانون المسطرة الجنائية و من خلاله لا يمكن لشهادة محامي المتهم حول ما علمه بهذه الصفة مما يترتب عنه أن المحكمة إذا هي استمعت إليه بصفته شاهدا،فإن هذا الإجراء سيعد باطلا،و البطلان هنا متعلق بالنظام العام يمكن إثارته في أي مرحلة من مراحل الدعوى.
و فيما يخص أثر التخلف عن الحضور لأداء الشهادة أو تغيير الحقيقة فيها عمدا،جاء في المادة 325 من ق.م.ج في الجزء الثالث من الكتاب الثاني المتعلق بشأن عقد الجلسات و صدور الأحكام ما يأتي: “يتعين على كل شخص استدعي بصفته شاهدا أن يحضر و يؤدي اليمين عند الاقتضاء ثم يؤدي شهادته. يستدعي الشاهد تلقائيا من طرف المحكمة أو بناء على طلب النيابة العامة أو الطرف المدني أو المتهم، أو المسؤول عن الحقوق المدنية،إما برسالة مضمونة مع إشعار بالاستلام و إما باستدعاء يبلغه عون التبليغ،أو عون قضائي،و إما بالطريقة الإدارية .
ينص في الاستدعاء على أن القانون يعاقب على عدم الحضور كما يعاقب على شهادة الزور”. فبالنسبة لمسألة الجزاء كما قلنا سابقا و المترتب عن عدم أداء الشهادة أمام المحكمة،أو يحضر و لكنه يرفض إما أداء اليمين المتطلبة أو الإدلاء بتصريحاته،فإن المادة 339 من قانون المسطرة المدنية تحيل بشأنه إلى ما تعاقب به المادة 128 من قانون المسطرة الجنائية،التي تنص على أنه” إذا لم يحضر الشاهد ثم وجه إليه استدعاء ثان إما برسالة مضمونة أو…،جاز لقاضي التحقيق بناء على ملتمسات النيابة العامة،
أن يجبره على الحضور بواسطة القوة العمومية و أن يصدر في حقه أمرا بأداء غرامة مالية تتراوح بين 1200و12000 درهم.” فالمشرع اعتبر هذا الفعل بمثابة جنحة ضبطية خلافا للقانون الملغى الذي أعتبرها في كلتا الفرضيات السابقة الذكر مخالفة، على أنه يمكن أن يتعرض المستدعى للشهادة و المعذور بعذر حضورها أن يتعرض على قرار القاضي بتغريمه في أجل أقصاه 5 أيام من تبليغه إليه شخصيا أو في موطنه،و هو تعرض تنظر فيه نفس المحكمة التي أصدرت الحكم بالغرامة (المادة 339/4 ق.م.ج).
أما بخصوص أداء الشهادة،فبعد أن يتحقق رئيس الجلسة من هوية المتهم و يخبره بالتهمة الموجهة إليه يقع النداء على الشهود وبعد ذلك يدعوهم للانسحاب من القاعة المعدة لهم ولا يغادرونها إلا للإدلاء بشهاداتهم، ويتخذ الرئيس لذلك كل تدبير ملائم لمنع الشهود من التحدث فيما بينهم أو بينهم و بين المتهم،و بعد ذلك يستنطق الرئيس مباشرة المتهم ثم يقع النداء على الشهود فرادى لكي يستمع إليهم بعد أن يستفسر الرئيس كل شاهد عن اسمه العائلي والشخصي وسنه
وحالته ومهنته ومحل إقامته و إن اقتضى الحال عن قبيلته وعن فخدته الأصلية،
وهل له قرابة أو مصاهرة بالمتهم أو المطالب بالحق المدني عن درجة هذه العلاقة وهل كانت تربط بينهما علاقة تتميز بالعداوة أو الخصومة،كما يسأله عن ما إذا كان محروما من أهلية أداء الشهادة[40] وقبل الإدلاء بالشهادة يتعين أداء اليمين المقررة وفق الصيغة السابقة الذكر وإلا كانت باطلة،اللهم إذا كان المشرع أعفى من أداء اليمين في الحالات السابقة التنصيص طبقا للمادتين(123/3/و332) من ق.م.ج ويجب أن تؤدى الشهادة بصورة شفاهية مما يمتنع مع على الشاهد الاستعانة بمذكرات إلا بكيفية استثنائية و بإذن الرئيس،و بعد الانتهاء من الأداء يقوم الرئيس باستفسار المتهم فيما إذا كانت لديه ردود بشأن ماتمت مناقشته ثم يسأل النيابة العامة والمطالب بالحق المدني مما إذا كان لديه أسئلة يلقيانها .وهذا نص المادة 337 من ق.م.ج[41].
وبمقتضى المادة 338 من ق.م.ج فإن كاتب الضبط ملزم بالإشارة في محضر تلقي الشهادة إلى هوية الشاهد و إلى اليمين التي ثم أداؤها،و ملخص بأهم ما جاء في شهادته،و إغفال القيام بهذه الشكليات يؤدي إلى بطلان قرار الحكم المبني على تلك الشهادة طبقا للفقرة 1 من المادة 338 من ق.م.ج. تبقى الإشارة إلى أن الشهادة المدلى بها أمام القضاء الجزري تضع من حيث قيمتها الإثباتية للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع التي لها أن تأخذ بها في حدود ما اقتنعت بها أو تستبعدها كليا أو جزئيا إن هي ارتابت في صدقها و دلالتها على الحقيقة [42].
الفــــــرع الثالث: الخــــــبــــــــرة
أولا: القيــمـة الإثـبـاتـيـة للـخـبرة
يمكن تعريف الخبرة بأنها ذلك الإجراء الذي يرمي إلى استخدام أحد ذوي الاختصاص في مسألة فنية لا يأنس القاضي من نفسه الكفاية العلمية أو الفنية لتكوين قناعته في النزاع المعروض أمامه ، ويلجأ القاضي إلى الاستعانة بخبير أو أكثر في كل مسألة فنية أو علمية ، لا يساعده تكوينه في التثبت منها ولا يتسع وقته لدراستها(2) فمثلا القاضي لا يستطيع معرفة نسبة العاهة المستديمة التي حصلت للضحية بسبب الضرب الذي تعرض له ، كما لا يمكنه أن يتعرف على السلع المغشوشة ولا نسبة الغش فيها كما لا يستطيع القاضي معرفة و تحديد سبب الوفاة والذي يكون من اختصاص الطبيب الشرعي .
وعليه فإذا كان القاضي لا يتوفر على البيانات التقنية التي تخرج عن إطار تكوينه وثقافته ، فإنه يرى نفسه مضطرا ، سواء تعلق الأمر بنقطة أساسية أوبمعطى ثانوي، أن يسند إلى أخصائي مهم إجراء خبرة التي قال عنها احد رجال القانون البارزين أنه “مسطرة تستهدف استعمال معارف أخصائي لتسليط الضوء على مسألة يتوقف حلها على تقنية لا يتوفر عليها القاضي.”
ومن خلال ما سبق يتضح أن للخبرة أهمية بالغة في مسألة الإثبات ولهذا نجد أن المشرع المغربي قد اهتم بالخبرة كوسيلة إثبات و خاصة في المادة الجنائية حيث خصص لها الباب الحادي عشر من القسم الثالث من الكتاب الأول من ق.م.ج (المواد من 194إلى 209) وكذالك مواد الفرع الرابع من الباب الأول من القسم الثالث من الكتاب الثاني المتعلقة بالاستماع إلى الشهود و الخبراء ( المواد 325_ 347) ق.م.ج.
ومن خلال هذه المواد سنحاول أن نفصل في النظام الذي تقوم عليه الخبرة باعتبارها وسيلة من وسائل الإثبات، وعليه فإننا سنبحث في سبل اللجوء إلى الخبرة وتعيين الخبراء وكذا حجية الخبرة في الإثبات، مستدلين في ذالك على الآراء و التوجهات الفقهية مع دعمه بمواقف العمل والاجتهاد القضائيين.
ثانيا: طرق اللجوء إلى الخبرة:
بالرجوع إلى الفقرة الأولى من المادة 194 ق.م.ج نجد أنها تنص على أن “يمكن لكل هيئة من هيأت التحقيق أو الحكم كلما عرضت مسألة تقنية أن تأمر بإجراء خبرة إما تلقائيا و إما بطلب من النيابة العامة أو الأطراف”.
ويتضح من خلال هذه الفقرة أن مسألة إجراء الخبرة خاضعة بالأساس للسلطة التقديرية للمحكمة، حيث يمكن أن تثيرها من تلقاء نفسها أو بناءا على طلب من النيابة العامة أو الأطراف ويكون للمحكمة إما أن توافق عليه أو أن ترفضه .
ومما يثار في مسألة الموافقة أو الرفض هذه، أنه إذا كانت الموافقة لا تثير أي إشكال فإن رفض الطلب يطرح التساؤل حول هل تكون المحكمة مطالبة بتعليل ذالك الرفض أم لا ؟
و مع سكوت المشرع في الحكم عن هذه المسألة، جاوب الفقه[43] على هذا التساؤل وذالك من خلال المادة 194 من ق.م.ج وخاصة الفقرة الثالثة منه والمتعلقة بوجوب تعليل قاضي التحقيق أمره برفض طلب الخبرة، حيث يري أصحاب هذا الطرح جواز تطبيق هذه الفقرة من المادة السابقة حتى بنسبة لقضاء الموضوع ويعلل دعاة هذا التوجه الفقهي قولهم بأن في تعليل رفض الطلب إمكانية فتح المجال أمام المجلس الأعلى لمراقبة محكم الموضوع في مدى احترامها لحقوق الدفاع .
والغريب في الأمر أن المجلس الأعلى نفسه لا يشاطر الرأي الفقهي السابق في توجهه ،حيث اتخذ موقفا مخالفا تماما لرأي السابق . وذلك من خلال قراره عدد 4463 الصادر بتاريخ 29 مايو 1984 ملف جنائي 9381/84 الذي جاء فيه ” الخبرة وسيلة إثبات تملك معها المحكمة سلط تقديرية لا تخضع فيها لرقابة المجلس وإن عدم الاستجابة لطلب إجراء الخبرة لا يؤثر في قرار المحكمة وأن السكوت عنه يعد جوابا ضمنيا برفضه”[44]
ويبقى التذكير بأن السلطة التقديرية للمحكمة في إجراء الخبرة يرد عليها بعض القيود نذكر منه ما يلي :
– تعيين الخبراء من القائمة التي تهيئها اللجنة المحددة بقرار وزير العدل الصادر في 9 يوليوز 1975 .
– إذا تم في حالة الضرورة تعيين خبير غير مدرج في اللائحة السابقة الذكر، وجب عليه تأدية اليمين أمام المحكمة وفق المادة الأولى من المادة 345 ق.م.ج من خلال الصيغة الأتية <<أقسم بالله العظيم على أن أقدم مساعدتي للعدالة وفق ما يقتضيه الشرف والضمير>>
– وجوب تضمين مقرر تعيين الخبير المأمورية التي تكون المحكمة قد أناطتها به .
– تحديد المحكمة موعدا محددا للخبير من أجل إنجاز المهمة مع إمكانية تمديدها .
أ- القيمة الإثباتية للخبرة:
الخبرة كأي وسيلة من وسائل الإثبات تخضع لسلطة القاضي التقديرية ، فتكون له السلطة والحرية في الأخذ بالنتائج التي توصل إليها الخبير أو عدم الأخذ بها لكنه يكون والحالة هذه مطالبا أن يعلل حكمه تعليلا كافيا مبينا الأسباب التي جعلته لا يطمئن إلى هذه الخبرة ، حيث يلزم في الرفض أن يكون مبنيا على أساس منطقي وفق معطيات فنية دقيقة وصحيحة عملا بالقاعدة القائلة “الشيء الفني لا ينقض إلا بشيء فني” (1)
والقاضي إذا كان غير ملزم برأي الخبير فإنه ملزم في الحالات التي تحتاج إلى خبرة فنية بالأخذ برأي الخبير ، ولا يتم إلغاء الخبرة الأولى إلا بالاعتماد على خبرة أخرى ، ففي هذه الحالة يكون رجح خبرة على أخرى ، حيث أن هذه الأخير هي التي ستساعده في تفنيد ودحض ما خلصت إليه الخبرة الأولى ،و يترتب عن عدم التقيد بذلك تعريض حكمه للنقض والإلغاء. وهذا بالضبط ما جاء به قرار المجلس الأعلى عدد 1885/1 المؤرخ في 10/9/ 01 الملف الجنحي عدد 9440/03 والذي ورد فيه أن ” المحكمة حينما انبرت بنفسها إلى تفنيد واستبعاد ما خلصت إليه خبرة قضائية طبية في أمر يدخل في مسائل تقنية ورتبت عنها نتائج قانونية، دون ان تسترشد في ذالك بخبرة أخرى لذوي الاختصاص تأمر بها لتوضيح أمر لا تقوم قيه مقام الخبير، تكون قد بنت قضاءها على تعليل ناقص يوازي انعدامه، ويعرض قرارها للنقض والإبطال.”
المطلب الثاني: وسائل الإثبات العلمية المعاصرة والحديثة.
لاشك أن الإثبات الجنائي كفرع من فروع قانون الإثبات قد طرأت عليه تطورات شاسعة بفضل الطفرة العلمية الهائلة في وسائل الإثبات والتي لم تكن معروفة من قبل. فهي طفرة قامت على نظريات وأصول علمية دقيقة واستطاعت أن تزود القاضي الجنائي بأدلة قاطعة وحاسمة تربط أو تنفي العلاقة بين المتهم والجريمة، وأصبح القضاء بالتالي يعول عليها كأدلة فنية يؤسس عليها الأحكام بالإدانة أو البراءة.
وعليه في هذه الدراسة سنخصص الفرع الأول لدراسة وسائل الإثبات العلمية، وجعل الفرع الثاني لاستقراء الوسيلة المعلوماتية في الإثبات -عمليا- النموذج ملف Zotop.
الفرع الأول: وسائل الإثبات العلمية:
يقصد به الاستعانة بالأساليب العلمية والفنية التي كشف عنها العلم الحديث في مجال إثبات الجريمة ونسبتها إلى مرتكبها أو تبرئته من التهمة المنسوبة إليه[45]، واستنادا إليه يمارس الخبير دورا رئيسيا، وأمام اقتحام وسائل التقنية العلمية لإجراءات الدعوى الجنائية، وما قد يحمله استخدامها في هذا المجال من انتهاكات للحقوق الفردية، والكرامة الإنسانية اهتمت البحوث، والدراسات والمؤتمرات الخاصة بحقوق الإنسان بدراسة، وبحث مدى جواز الاستفادة من كل تقدم علمي في مجال الإثبات الجنائي، فقد أثارت وسائل التقنية الحديثة النقاش والخلاف بين المتخصصين وأيضا بين رجال القانون حول مدى مشروعية الاستعانة يمثل هذه الوسائل العلمية الحديثة في المسطرة الجنائية،
وهل يكون مقياس المشروعية في هذه المسألة النتيجة التي تؤدي إليها الوسيلة العلمية أم العبرة بطبيعة الوسيلة العلمية ومدى احترامها للحقوق الفردية، والكرامة الإنسانية فإذا كان من غير المنطق حرمان العدالة من إمكانات العلوم الحديثة، وسلبها ما تسفر عليه من وسائل قادرة على إيجاد نوع من التوازن بين ما يتسلح به الإجرام الحديث من وسائل، وما تستخدمه العدالة من أساليب لتحقيق أهدافها فإنه يلزم ضرورة الاجتهاد، ولبيان مدى قبول استخدام أية وسيلة حديثة دون الاقتصار على تقدير قبول وسيلة دون أخرى ما دام أن التطور العلمي متجدد، ويستحيل إدراك جدوده، لهذا سوف نقسم هذا الفرع إلى فقرتين الأولى تشمل الأدلة المستقاة من الوسائل التقنية التي تباشر خفية. والفقرة الثانية الأدلة المستقاة من الوسائل التقنية التي تباشر بصورة ظاهرة.
الفقرة الأولى : الأدلة المستقاة من الوسائل التقنية التي تباشر خفية :
والمقصود بها الأدلة المستقاة من الإجراءات التي تباشر بصورة خفية، والمستترة، والتي يمكن عن طريقها كشف الحقيقة. ومن هذه الوسائل:
أولا – التقاط على المكالمات الهاتفية:
إن التنصت السري[46]. يعني أن المحادثات الصادرة من هاتف معين أو إليه أو أي عنوان هاتفي آخر يتصنت إليها بشكل سري أو يلتقط باستخدام وسائل تقنية مساعدة من أجل الحصول على محتويات تلك المكالمات موضوع المراقبة.
وتعد مراقبة المكالمات الهاتفية من أخطر الوسائل التي تقررت استثناءا على حق الإنسان في الخصوصية، كتفتيش المنازل، او ضبط المراسلات والإطلاع عليها، لأن المراقبة تتم دون علم الإنسان، وتتيح سماع وتسجيل أدق أسرار حياته على نحو لا يستطيع التفتيش أو الإطلاع على الرسائل أن يصل إليها لذلك قيدت المسطرة الجنائية هذه الوسيلة ضمن الحدود القانونية للكشف عن بعض الجرائم خاصة المنظمة منها،والتي تمس أمن الدولة أو جريمة إرهابية[47]...
وهنا نعتقد أن الأمر يختلف بين حالتين اثنين : الأولى هو التنصت على هاتف المشكوك فيه، والثانية على هاتف الضحية. فنرى أنه في الحالة الأولى يجب على مؤسسة التحقيق أن تحصل على إذن من الجهة المنصوص عليها في المادة 108 من م . ج التي يوجد تحت يدها ملف النازلة، أما في الحالة الثانية فغالبا ما يطلب الضحية نفسه وضع هاتفه تحت المراقبة ويكون ذلك في حالة التهديد أو حالة طلب الفدية.
ثانيا: وسائل حديثة سمعية بصرية:
إن التقدم العلمي قد أتى بوسائل علمية متطورة، تنقل الصوت والصورة، ولكنها مهما تقدمت فانها لا ترقى إلى درجة الصورة التي تنقلها عين الإنسان، إلى درجة الصوت الذي تسمعه الأذن المجردة، فهذه الوسائل سمعية أو بصرية[48] وتتمثل في التسجيل الصوتي سواء عن طريق وضع رقابة على الهواتف أو تركيب ميكروفونات حساسة تستطيع التقاط الأصوات، وتسجيلها، وتعتبر أكثر دقة في التقاط الأصوات والذبذبات، ولكن يد الإنسان تعبث بها وتتدخل في إفسادها فإذا سجلت وعرضت المادة التي تم تسجيلها على القاضي أو الخبير، بحث واجتهد للتدقيق في نقائها وبعدها عن العبث حتى تكون هذه المادة المسجلة قرنية قوية وذات قوة في اقناعيه في بيان الحقيقة.
أما فيما يخص الوسيلة البصرية تتمثل في آلة التصوير حيث أن الشهادة تعتمد على العين الباصرة التي ترى الواقعة ثم تنقلها الشاهد إلى القاضي وإن آلة التصوير وخاصة في العصور الحديثة تعتبر أكثر دقة في التقاط الصور التي تبين وتوضح الواقعة أو الشخص أو التصرف أو العملية التي تطرح[49] أمام القاضي بدقة متناهية فتعتبر قرنية في الإثبات ولولا التدخل البشــري في التصوير والاحتمال الوارد والتلاعب لكانت الصورة قرينـــة قوية قاطعة تفيد اليقين في إثبات ما ورد فيها، ولكنها تخضع للفحص والتدقيق من القاضي والمختصين للتأكد منها.
وهذه الوسائل السمعيــة البصريـة الحديثة وإن كانت متقدمة وتساعد القاضـي في الكشف عن الحقيقة، فإنها بقدر ماهي مفيدة بقدر ماهي ضارة لأنها تشكل تضليل للعدالة ولأنها يمكن أن تكون عرضة للخدعة {Trucage} ولهذا يجب على القاضي أن يكون حذراً حذَراً شديداً عند استعمالها[50].
الفقرة الثانية: الأدلة المستقاة من الوسائل التقنية التي تباشر بصـــورة ظاهــرة
ويقصد بها الأدلة المستقاة عن طريق إجراءات معملية وعملية وبصورة ظاهرة والتي يمكن من خلالها كشف الواقعة الحقيقية، ومن هذه الوسائل:
أولاً: الكلاب البوليسية.
أثبتت التجارب العلمية أن الكلب البوليسي يمكنه التعرف على الجاني بما لديه من حاسة الشم القوية التي يمتاز بها، والتي تفوق حاسة الشم عند الإنسان بأضعاف مضاعفة مع جانب الذكاء، والفطنــة عند هذا النوع من الكلاب، التي وهبها الله صفات مميــــــزة وفريدة، لدى استخدمها الإنسان قديما وحديثاً، وتستخــــدم من قبل جهاز الشرطة للكشف عــن الجرائــم وخاصة جرائم القتل والسرقات والكشف عن المخدرات والأسلحة في الجمارك، فضلاً عن الاستخدامات المدنية[51].
وقد يثار التساؤل حول عملية الاستخدام بواسطة الكلاب البوليسية من حيث أنها شهادة أم أنها مجرد قرينة، على الرغم من أن البعض يشير إلى الاستعراض أهميتها خاصة من حيث التعرف على المتهــــم والاستهلال، لأنه أقوى بكثيـــر من شهادة الشاهـــد من حيث قوتـــه الاستدلالية.
استقرار الرأي على أن تعرف الكلب البوليسي على المتهم ليس من إجراءات التحقيق التي يوجب القانون فيها شكلاً خاصاً [52] ، ولذلك فلا يعد استعراف الكلب البوليســي على المتهم من قبيل الشهادة، لأن الكلب حيوان، والشهادة لا يتصــور صدورها إلا من إنسان قادر على التمييز، كما أن القانون يوجب على الشاهد أن يحلف يميناً قبل الإدلاء بالشهادة[53]، وهو غير متصور لغير الإنسان، إلا أنه يمكـــن الاستناد النهائي تعزيــز الأدلة القائمة في الدعوى دون أن يؤخذ بها كدليل أساسي على ثبوت التهمة على المتهم.
ثانيا: التنويم المغناطيسي
بدأت ظاهـــرة التنويم المغناطيســي منذ زمن بعيد، ففي مصر الفرعونية كان هناك ما يعرف بمعابــد النوم، وفي اليونان القديمــة كان هناك معابد في مدينة أبيدوس يقصدها الناس، ويعتبرونها آلهة الطب، ولهذا يمكن للتنويم المغناطيسي تعداده وسيلة من وسائل الإثبات إلا أنه جل التشريعات المقارنــة استقر القضاء عليها بأنها اعتــــداء سافر على حقوق الإنسان وهذا ماتبنته فرنسا، كما يستبعد القضاء في الولايات المتحدة الأمريكيـة الاعتراف الناتج عن استخدام التنويم فقد قضت المحكمة العليا بعدم الاعتراف بهذا النوع من الوسائل، لكون الاعتراف الصادر نتيجة استخدامــه اعترافاً لا إرادياً، وأنه يحــرم المتهم من حقوقه الدستوريــة كما تعد وسيلة التنويـــم من الوسائل غير السلميــة ولذلك لايجوز التعويل على النتائج التي تسفر عنها في الإثبات.
ثالثاً: التحليلات المخبرية {Analyses }
وهي إخضاع ما قد يعثر عليه من مواد قد تكون لها صلة بالجريمة، أثناء البحث التمهيدي في موقع الجريمة أو على جسم الضحية، أو أحد الحاضرين في مكان الجريمة، أو المشكوك فيه بارتكاب الجريمــة، إلى تحليل في مختبــر خاص وذلك مثل الدم، اللعــاب، العــرق، أثر البصمات أو عجل السيارات….؛ أو الوسائل التي استعملت في ارتكاب الجريمة كالسكين أو المسدس أو العصا وغيرها وتسمى أدوات الاقتناع {Pièces â conviction} فإنها تكون قرينة موضوعية لإضاءة الطريق أمام المحققين، ويكاد ينعقد إجماع الفقه والقضاء على مشروعيتها[54].
لأنها إمارات والدلالات لا تشكل إلا قرائن تفيد وجود وقائع معلومة أو تستعمل من أجل الوصول إلى وقائع مجهولة، وهذه أيضاً في غالب الأحيان لا يقوم قاضي الحكم بجمعها هو شخصياً فهي من عمل رجال الضابطــة القضائيــة، أو قضاة النيابة العامــة أو قضاة التحقيق في حالة ما إذا كان هؤلاء قاموا شخصياً وبأنفسهم بإجراءات البحث التمهيــدي،
وأما قضاة الحكم فتصلهم هذه الدلالات على شكل تقارير مصحوبة بمحاضر الضابطــة القضائية وعلى شكل محجوزات معنوية ومرقمة ومشمعــة، ولهم حريــة الإطلاع عليها أو الاكتفاء فقط بما جاء في المحاضـــر[55]، وأن مهمة القاضي الجنائي لا يقتصــر على الحجج والوثائق المبررة أمامه بل تفرض عليه أن يكمل نواقصها، ويسعى إلى الحصول على أدلة جديدة ليتفادى الوقوع في أخطاء قضائيـة فادحة، ولكن هذا واجب أخلاقـي، إذ لم يقيم به فإن ذلك يكون سبباً لنقض الحكم[56] ، فالقاضي الزجري يتصرف في وسائل الإثبات هذه أو وسائل الاقتناع ويستعملها حسب بداهته الفكرية، واستنباطه العقلي، واستخراجه منها نتائج يراها معقولة ومنطقية وسلمية[57]، وهذه الإمكانية خولها إياه القانون نفسه، وبإمزاج الوسيلة القانونية مع أعمال فكر القاضي تنشأ السلطة التقديرية.
خــاتــمــــــــــة:
يعتبر “الإثبات في المادة الجنائية” من أهم الركائز التي يقوم عليها نظام العدالة الجنائية و هو من المواضيع الشائكة التي يصعب التحكم فيها خصوصا وأنه يطرح مجموعة من الإشكاليات سواء على المستوى النظري أو العملي، والتي تتضارب في شأنها الآراء الفقهية وتختلف الاتجاهات والمواقف القضائية حولها.
وهذا ما تأكد لنا من خلال هذا البحث الذي لا يعدو أن يكون سوى محاولة بسيطة لدراسة الموضوع والوقوف على أهم ما يطرح من إشكاليات مع رصد الآراء الفقهية والقضائية التي عالجتها.
فإذا كان المشرع كما سبق الذكر عند تطرقنا للقواعد العامة للإثبات قد سلك أو نهج نظام الإثبات المختلط: القضائي و القانوني (المرن والجامد) قد أعطى للأفراد الحق في حرية اللجوء إلى كافة وسائل الإثبات ، فإنه في نفس الوقت أعطى للقضاء سلطة تقديرية شبه مطلقة في الحكم بناء على اقتناعه الوجداني ، وعندما نقول شبه مطلقة فالقصد أنه هناك حالات قيدت فيها تلك السلطة ، وفي إطار هذا الشد والجذب بين الإطلاق والتقييد فإننا نطرح مجموعة من التساؤلات ،يبقى أهمها هو ما مدى فعالية مبدأ حري الأفراد في الإثبات و ما مدى رغبة المشرع في إطلاق العنان للسلطة التقديرية لجهاز القضاء الجنائي ، الشيء الذي يحيلنا على إشكاليات أهم وأعمق متعلقة باستقلال القضاء، وحرية الأفراد، وحقوق الإنسان…
المراجع المعتمدة
– المراجع باللغة العربية :
1. محمود مصطفى:”الإثبات في المواد الجنائية في القانون المقارن”
2. الحبيب بيهي:”شرح قانون المسطرة المدنية الجديد”الجزء الأول
3. عبد الرزاق السنهوري:” الوسيط في شرح القانون المدني” الجزء الثاني
4. العلمي عبد الواحد:”شرح قانون المسطرة الجنائية”.الجزء الثاني
5. للدكتور عمر بوحموش” القاضي في العمل القضائي المدني”
6. مصطفى مجدى هرجه/ الإثبات في المواد الجنائية
7. الحسن البوعيسى/ عمل الضبطة القضائية بالمغرب
8. د/ عبد الوهاب حومد / أصول الإجراءات الجنائية
9. رضا عبد الحليم عبد المجيد – الحماية القانونية للجين البشري – الإستنساخ و تدعياته
10. عزايزة عدنان حسن ، حجية القرائن في الشريعة الإسلامية
11. ادريس لكريني ، السلطة التقديرية للقاضي الزجري
12. هيلال عبد الإلاه أحمد: الحقيقة بين الفلسفة العامة والإسلامية وفلسفة الإثبات الجنائي
13. عبد الوهاب حومد: دراسات معمقة في الفقه الجنائي المقارن
المقالات و الندوات و المجلات القانونية:
1. مجلة مجموعة قرارات المجلس الأعلى في المادة الجنائية 66 – 86
2. المشهداني أكرم عبد الرزاق ، علم مضاهاة الصوت ( البصمة الصوتية ) دراسة مقدمة الى ندوة البحث الجنائي المعاصر المنعقد في الفترة من 23 و 24 نوفمبر 1992.
3. عبد العزيز توفيق / نظري الإثبات في التشريع الجنائي المغربي الحلقة الثانية – مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 12 ( الإصدار الرقمي للمجلة الأعداد من1 إلى 90
4. مجلة قضاء المجلس الأعلى الأعدد 35- 36- 43- 44 – 61
5. مجلة المحاكم المغربية (الإصدار الرقمي الأعداد من 1 إلى 90)
6. مجلة القضاء والقانون الأعداد 52 – 53
– المراجع باللغة الفرنسة :
1- merle elvitu : traité de droit criminel Rome procédure pénal paris 1979.p 154 n° 342
2- denizart ;la charge de la preuve en matière pénal ;thèse. Lille. 1958
3- Droit pénal T2p. 267/droit pénal et législation، compiré
Bjorn wiberg : Tjanstehumdar i det svenka samhallet Stokholm 1999-2000 –
المبحث الأول: القواعد العامة للإثبات في الميدان الزجري.
المطلب الأول: نطاق الحق في اللجوء لوسائل الإثبات المختلفة
الفقرة أولى:مبدأ حرية الإثبات و الاقتناع في الميدان الجنائي.
الفقرة الثانية: التلطيف من عمومية قاعدة الحرية في الإثبات في المادة الجنائية .
المطلب الثاني : عبء الإثبات في المادة الجنائية والقيمة الاقناعية لمختلف أدلة الإثبات.
الفقرة الأولى: -دور النيابة العامة في إثبات الجرائم و حدوده:
الفقرة الثانية:نظام الإقناع في المادة الجنائية محدداته و شروطه:
المبحث الثاني : القواعد الخاصة بكل وسيلة من وسائل الإثبات المختلفة. المطلب الأول : وســـائل الإثــبــات التقـلـيـــديـة.
الفرع الأول : الدليل الكتابي و القرائن
الفقرة الأولى: المحررات و الأوراق.
1/-المتهم. 2/-الغير.
3/-القيمة الاثباتيةلهذا النوع من الأوراق والمقررات.
الفقرة الثانية: المــحـــاضــر.
1/- المحاضر التي يوثق بمضمونها الى أن يثبت تزويرها.
2/- المحاضر التي يوثق بمضمونها الى أن يثبت مايخالفها.
3/- المحاضر التي تعد مجرد بيانات.
الفقرة الثانية : القـــــرائـــن.
1/- القرائن القانونية.
2/- القرائن القضائية.
الفرع الثاني : الشهادة و الاعتراف
أولا: الشــهـــادة .
ثانيا: الاعـتـــراف.
الفرع الثالث : الخبرة
أولا: القيمة الاثباتية للخبرة.
ثانيا: طرق اللجوء للخبرة.
المطلب الثاني : وسـائــل الإثبـات العلمية المعـاصرة والحديـثة.
الفرع الأول: وسائل الإثبات العلمية:
الفقرة الأولى: الأدلة المستقاة من الوسائل التقنية التي تباشر خفية :
أولا: التقاط على المكالمات الهاتفية // ثانيا: وسائل حديثة سمعية بصرية
الفقرة الثانية: الأدلة المستقاة من الوسائل التقنية التي تباشر بصـــورة ظاهــرة
أولاً: الكلاب البوليسية. / ثانيا:التنويم المغناطيسي. / ثالثاً:التحليلات المخبرية {Analyses }
4-
[1] راجع بهذا الخصوص محمود مصطفى:”الإثبات في المواد الجنائية في القانون المقارن”,الجزء الأول,النظرية العامة,طبيعة أولى,القاهرة, بند 1 م1.
[2] الحبيب بيهي:”شرح قانون المسطرة المدنية الجديد”الجزء الأول,سلسلة أعمال جامعية من منشورات المجلة المغربية الإدارة المحلية و التنمية.ط 1 سنة 2006 .م275
– العلمي عبد الواحد:”شرح قانون المسطرة الجنائية”.الجزء الثاني في “التحقيق الإعدادي و المحاكمة” ط أولى 2000,م 246.[5]
-قرار عدد8178 ملف جنحي رقم 12879 و تاريخ 12 /12 /1983,ق.م.أ,عدد 35و36,م 255[6]
2و من مقررات المجلس الأعلى في ذلك ما جاء في أحد حيثيات قرارها الصادر بتاريخ12/ 5/ 1980,قرار رقم405.مجلة المحاكم المغربية عدد26م86:”يكون ناقص التعليل و معرضا للنقض الحكم الجنحي القاضي بالمؤاخذة,و الحال إن إثبات الجنحة متوقف على حجة جارية عليها أحكام القانون المدني,دون أن يراعي في ّلك قواعد القانون المذكور”.
الدكتور عبد الواحد العلمي شرح قانون المسطرة الجنائية مرجع سابق م 246 [8]
قرار رقم 248 في 3/ 6/ 1982,قضاء المجلس الأعلى عدد31 م172 [9]
[10]ما أنه لابد من التأكيد على ضرورة التقييد بوسائل إثبات محددة بمقتضى نصوص خاصة.في هذا الصدد قرار جزري رقم ملفه9128 عدد 27457/ 91 صدر عنه بتاريخ 27/ 9/ 24 مأخوذ من كتاب:”دليل القاضي في العمل القضائي المدني للدكتور عمر بوحموش ط 2001 و جاء فيه على المصاب في حادث سير على ذوي حقوقه أن يدلوا للمحكمة بما يثبت الأجر أو الكسب المهني.و في حالة عدم إثبات الأجر أو الكسب المهني يفترض من المصاب أجر يوازي الحد الأدنى الوارد بالجدول المرفق بالظهير المذكور,فقواعد هذا الظهير(2 /10/ 84 )تعتبر أمرة لا مجال لاستعمال السلطة التقديرية معها.
[11] هذا الأصل لم يكن منصوصا عليه في قانون المسطرة الجنائية لسنة1958 و لكن العمل به كان جاريا( و قد أوصى المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بتقرير هذا المبدأ بنص صريح في قانون المسطرة الجنائية النافد بتاريخ فاتح اكتوبر2003 فيما نوهت به في ديباجة القانون).
[12]راجح بشأن عبء الإثبات في الميدان الجنائي 1956 denizart ;la charge de la preuve en matière pénal ;thèse. Lille.
عبد الواحد العلمي شرح قانون المسطرة الجنائية,مرجع سابق,م.244,بتصرف [13]
Droit pénal T2p. 267/droit pénal et législation, compiré . p 632 و هي كتب الفقيهين [14]
[15] قرار رقم5977 في 28/6/1990 مجلة القضاء المجلس الأعلى عدد 46 م 289.
قرار رقم178 في 5/1/1984 مجلة قرارات المجلس الأعلى لسنوات 1981-1995. [16]
[17]قرار رقم 428 في 3/6/1982 مجلة القضاء المجلس الأعلى عدد 31 م 172 م 9.
المادة 225 من قانون الإجراءات الجنائية المصري. [18]
[19]وقد ثم الأخذ به تشريعيا بعد الثورة الفرنسية ليحل محل الإثبات القانون على الشكل الحالي(النظام المختلط مع هيمنة النظام الوجداني على مستوى المادة الجنائية).
[20] لما كان القانون(286) من قانون المسطرة الجنائية قد أعطى لقضاة الموضوع كامل الصلاحية لتبيين قناعتهم.. و لم يقيدهم بوسائل إثبات معينة إلا في حالات استثنائية محددة على سبيل الحصر, فإن المحكمة تكون قد استعملت سلطتها التقديرية التي لا رقابة عليها من قبل المجلس الأعلى في ذلك.. قرار رقم 7931 في 5/12/1983 مجلة القضاء و المجلس الأعلى عدد 35 و36 م 219
قرار رقم 6213/4 في 26/11/1997 مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 53 و 54 م 406 [21]
الحبيب بيهي:”المشروعية في البحث عن الأدلة الجنائية,مقال بمجلة الإشعاع,الصادرة عن نقابة المحامين بالقنيطرة [22]
قرار رقم 5977في 28/6/1990 مجلة القضاء و 289 [23]
[24] – عبد الواحد العلمي / شرح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية- الجزء الثاني- الطبعة الأولى 1430- 2009 ص 403.
[25] – عبد الواحد العلمي المرجع السابق ص 404
[26] – أحمد الخمليشي شرح قانون المسطرة الجنائية ج 2 ص 125
[27]– وهو نفس ماذهب إليه المجلس الأعلى في القرار عدد 8 س 15 بتاريخ 11 /11/ 1971 ( مجلة قضاء المجلس الأعلى ، العدد 23 السنة 4 ص: 67 ) جاء فيه المحاضر التي تحرر من طرف شخصين على الأقل من رجال الجمارك في المسائل المالية يوثق إلى أن يدعي الزور فيها ولهذا يتعرض للنقد الحكم الذي اعتبر محضرا من هذا النوع باطلا استنادا إلى إثبات ما يخالفه عن طريق شهادة الشهود وعن طريق القرائن.
[28] – قرار منشور بمجوعة قرارات المجلس الأعلى (1966-1995)
نقض 27 دجنبر 1965 مجموعة الأحكام من 16 رقم 183 ص957 [29]
السنهوري,الوسيط 2: 91 [30]
الحبيب بيهي-شرح قانون المسطرة الجنائية-الجزء الأول-مرجع سابقص303 [31]
عبد الواحد العلمي-شرح قانون المسطرة الجنائية-الجزء الثاني-مرجع سابقص252 [32]
[33] جاء في هذا الصدد تأكيدا على الفكرة السابقة قرار للمجلس الأعلى:”إن تقدير أدلة الإثبات هو من اختصاص محكمة الموضوع في المسائل الجزائية.و لا يمكن تقييدها بمبدأ عدم تجزئة الإعتراف,لأنه متعلق بالإثبات في المسائل المدنية,و لا يقيد القاضي الجزائي في إقتناعه,و عليه إذا اعترف المتهم بالمضاربة مع المشتكي و تمسك بأنه كان في حالة دفاع شرعي,جاز لمحكمة الموضوع تجزئة الإعتراف” قرار عدد 76 و تاريخ 23 أكتوبر 1961,مجلة قضاء المجلس الأعلى,عدد43-44,م.33
[34]و طبيعي أن يكون الإعتراف القضائي أهمية كوسيلة مستقلة الإثبات من لأهمية بما كان أكثر من الإعتراف القضائي الذي لا يعمل إلا على فتح الباب للمشرع للاستدلال بوسائل أخرى في الإثبات غير الإعتراف كالشهادة,و الأوراق….
[35] و سواء أكان هذا الإكراه مادي أو معنوي,و يعارض الفقه في هذا المقام استعمال وسائل فيها انتهاك كرمات الإنسان,و معاملته كحيوان للحصول على إعتراف كجهاز كشف الكذب(( p.4/grapheأو مصل الحقيقة(sérum de la vérité (أو التنويم المغناطيس((h y pnose أو جراحة الدماغ(LA botomie).و قد عبرت اللجنة الأممية لمناهضة التعذيب عن توصياتها بمناسبة مناقشة شهر نونبر 2003,للتقرير الدوري للمغرب المتعلق بأعمال اتفاقية مناهضة التعذيب و كل أشكال المعاملة القاسية و المهينة,تلك التوصيات التي ترتكز على ضرورة العمل على:إدراج تعريف واضح للتعذيب,ضمن مقتضيات القانون لجنائي,مع تجريم كل الأفعال القابلة لأن تكيف بأنها تعذيب وفق ما تنص عليه المادة 1 من الاتفاقية:
الحرص على إخضاع الحالات المتعرضة للإكراه و التعذيب لبحث نزيه و دقيق.-مواصلة تعزيز برامج التربية على حقوق الإنسان في مؤسسات و مراكز التكوين القضاة,و رجال السلطة و قوات الأمن و الدرك.
[36] “إذا كان مبدأ عدم تجزئة إقرار المتهم يصح في القضايا المدنية,فغنه لا يصح في الأمور الجزائية حيث يتمتع قاضي الأساس بصلاحية التقدير المطلقة,إذ له أن يأخذ من الإقرارات و الإفادات و الشهادات ما يتفق و قناعته و ينبذ القسم الذي لا يرتاح إليه وجدانه”محكمة التمييز السورية قرار وارد في مرجع ذ عبد الواحد العلمي السابق ذكره في هامش الصفحة256
[37] – و يمنع بعض الأشخاص من أداء الشهادة و هم : 2-
المقيدون بالسر المهني(الماد334/2 من ق.م.ج) 3- الترجمان الذي يترجم في قضية معينة,أو الذي يقل عمره عن 18 سنة(المادة120من ق.م.ج) 4- القضاة الذين يحكمون في القضية.أو أعضاء النيابة العامة الذين باشروا المتابعة 5- المطالب بالحق المدني الذي أقام نفسه مدعيا بالتعريف,و هو غير المشتكي الذي لم ينصب نفسه,و الذي يجوز الإستماع إليه كشاهد.و هناك أشخاص يتم الإستماع إليهم دون أداء اليمين و هم :أ الأحداث الذي يقل عمرهم عن 18 سنة(المادة 332/1) ب أصول المتهم و فروعه و زوجه(المادة 123/4و232/2) ج المحكوم عليه بعقوبة جنائية(المادة 332) و غير أن أداء اليمين من قبل الأشخاص المعفون منها لا يؤدي إلى بطلان الشهادة
راجح الفصول المشار إليها أعلاه. [38]
راجع بهذا الخصوص المواد 319-320-330من قانون المسطرة الجنائية [40]
[41] الشهود يؤدون شهادتهم حسب الترتيب المقرر من طرف الفريق التي طلب الشهادة إن يستمع أولا لشهود الإثبات المطلوبين من قبل طالبي المتابعة,ثم لشهود النفي هم شهود الدفاع ما لم يقرر رئيس الجلسة ذلك.
[42] إن ما تتضمنه تصريحات الشهود موكول لقضاة الموضوع وغير خاضع لرقابة النقض”و هو قرار رقم 400 في 17/4/63 مجلة القضاء و القانون عدد 65م 269.نقلا عن ما ورده في مرجع سابق للدكتور عبد الواحد العلمي م 417 هامش 40
2 عبد العزيز توفيق / نظري الإثبات في التشريع الجنائي المغربي الحلقة الثانية – مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 12 ص 19 ( الإصدار الرقمي للمجلة الأعداد من1 إلى 90).
[43] – راجع عبد الواحد العلمي، مرجع سابق ص 420.
[44] – قرار منشور بمجوعة قرارات المجلس الأعلى (1966-1995)
د.رضا عبد الحليم عبد المجيد – الحماية القانونية للجين البشري – الإستنساخ و تدعياته . دار النهضة العربية 1998 – ص42.[45]
[46] المادة 108 من المسطرة الجنائية ” يمنع التقاط المكالمات الهاتفية أو الاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد وتسجيلها أو أخذ نسخ منها أو حجزها “.
راجع المادة 108 الفقرة الثالثة.[47]
[48] المشهداني أكرم عبد الرزاق ، علم مضاهاة الصوت ( البصمة الصوتية ) دراسة مقدمة الى ندوة البحث الجنائي المعاصر المنعقد في الفترة من 23 و 24 نوفمبر 1992.
[49]عزايزة عدنان حسن ، حجية القرائن في الشريعة الإسلامية ص 208 دار عمار للنشر و التوزيع، عمان الأردن الطبعة 1 1990،
ادريس لكريني ، السلطة التقديرية للقاضي الزجري . الطبعة الأولى السنة 2004 ص/143 . [50]
Bjorn wiberg : Tjanstehumdar i det svenka samhallet Stokholm 1999-2000 – P.1 [51]
[52] وهذا ما قضت به محكمة النقض المصرية في حكم لها بأن ” تعرف كلب الشرطة على المتهم ليس من إجراءات التحقيق التي يوجب القانون فيها شكلاً خاصاً “. أحمد سمير أبو شادي – مجموعة المبادئ القانونية الجزء الأول – ص: 166 – دار الكاتب العربي للطباعة والنشر.
المادة 118 من المسطرة الجنائية” يتعين على كل شخص استدعي لسماعه بصفته شاهداً أن يحضر ويؤدي اليمين القانونية عند الإقتضاء….”. [53]
[54] د. هيلال عبد الإلاه أحمد: الحقيقة بين الفلسفة العامة والإسلامية وفلسفة الإثبات الجنائي، هامش 843 ص: 551 طبعة الأولى – 1987.
[55] قرار الحكم الجنائي عدد 95 ص: 14 – الصادر بتاريخ 3 دجنبر 1970 مجموعة قرارات المجلس الأعلى في المادة الجنائية 66 – 1986 – ص: 485.
[56] د. عبد الوهاب حومد: دراسات معمقة في الفقه الجنائي المقارن ص: 337 الطبعة 2 / 1987.
[57] أشهر قضية اعتمدت على التحليلات المخبرية: قضية عمر الرداد العامل المغربي بفرنسا، الذي قضى 8 سنوات في السجن ليخرج بعد عفو الرئيس شيراك، ويبحث مع محامي نفرجس عن براءته بخضوع الدم الذي كتب إسمه على الحائط { Omar m’a tuée} ليتبين أنه للغير ممزوج بدم الضحية – فبراير 2001.