إشكالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والبدائل المقترحة : رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص
إعداد الطالب الباحث:
الحسـيـن زين الإسـم
مقدمة:
التعريف بالموضوع وأهميته
إن ظاهرة العقوبة كرد فعل اجتماعي ضد الجريمة ليست حديثة النشأة، بل قديمة قدم الإنسانية، حيث عرفتها سائر المجتمعات وصاحبتها في تطورها ورقيها.
ويكشف لنا التاريخ الإنساني أن العقوبات البدنية هي النوع الأكثر شيوعا في النظم العقابية القديمة([1])، وهي عقوبات اتسم تنفيذها بالقسوة وعدم العدالة لأن الهدف من إيقاعها لم يكن يتعدى الإنتقام من الجاني والتنكيل به وجعله عبرة لغيره([2])، فكانت هذه القسوة مدعاة لقيام المرحلة الفلسفية لتصحيح أوضاع القسوة والوحشية التي عاشتها الأنظمة العقابية([3])، وتميزت هذه المرحلة بثورتها ضد هذه العقوبات والمناداة بإقرار اتجاهات جديدة تقيم العقوبة على أساس مبدأ الشرعية الجنائية كخير ضمان لمرتكبي الجريمة من أن تصيبه عقوبة غير منصوص عليها في القانون، وانسجاما مع هذه الأفكار الحديثة ظهر ما يسمى بتفريد العقوبة كمؤسسة قانونية تغيرت معها النظرة إلى وظيفة العقوبة، لتنتقل من الانتقام والتنكيل إلى الإصلاح والتأهيل.
وفي ظل هذا التطور اهتدى الفكر الجنائي إلى العقوبات السالبة للحرية كأنسب عقاب يمكن إحلاله محل العقوبات البدنية التي دعا إلى إلغائها، ومنذ ذلك الوقت انشغل بضرورة إعادة النظر في المعاملة العقابية للمحكوم عليه ومراعاة قواعد الإنسانية في التنفيذ العقابي حتى يحقق العقاب الفائدة المرجوة منه بإعادة تأهيل المحكوم عليه للعودة إلى الحياة الاجتماعية عضوا صالحا في الجماعة([4]).
وهدف التأهيل يجب أن يبنى على أسس علمية دقيقة ومحكمة في إطار برنامج تهذيبي كامل يزود المحكوم عليه بما يحتاج إليه من تربية مدنية وأخلاقية ومهنية وصحية تساعد على إعادة التوازن الذي أخلت به الجريمة المرتكبة وتساعد المحكوم عليه على تقويم اعوجاجه وتنشئة شخصيته على أسس علمية.
ومن العروف أن نجاح هذا البرنامج يقتضي وقتا كافيا لتطبيقه وتنفيذه داخل السجن وتجنيبه أي ظرف يمكن أن يفسد الغرض منه وهو الإصلاح والتأهيل كشعار للسياسة العقابية الحديثة التي أصبحت ترى في السجن مؤسسة اجتماعية([5]) تربوية لا مؤسسة للتحفظ على الجاني و إهماله.
لكن سرعان ما أثبتت التجربة للعيان أن تحقيق هدف الإصلاح والتأهيل من خلال العقوبات السالبة للحرية ليست بالسهولة التي كان يعتقدها دعاة الإصلاح، فقد كشفت العقوبات الحبسية وخاصة القصيرة منها عن مساوئها التي تبين أنها تتعارض مع الهدف المذكور، وأنها تفسد المحكوم عليه بدلا من إصلاحه، فهي بالنظر إلى قصرها غير كافية لتطبيق برنامج إصلاحي يستفيد منه المحكوم عليه الذي يكون عادة من المجرمين قليلي الخطورة الإجرامية، فيكون لدخوله السجن آثار سيئة تمس مختلف نواحي حياته الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، وتمتد هذه الآثار لتطول أفراد أسرته وعائلته بل والمجتمع ككل الذي يتحمل تبعة فشل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، التي تعد سببا للعود الجنائي([6]) مع ما يترتب عليه من ارتفاع عدد الوافدين مرة ثانية على المؤسسات السجنية التي يطبعها الاكتظاظ كمعرقل أساسي لنجاح المعاملة العقابية. فضلا عن ارتفاع النفقات المخصصة لتنفيذها والتي تثقل كاهل الدولة من جهة، وأسرة المحكوم عليهم من جهة ثانية، ناهيك عن بعض المشكلات الهامة التي تثار دائما بالنسبة لهذه العقوبات، ومن ذلك مثلا غياب الموارد البشرية المؤهلة للتعامل مع نوعية المحكوم عليهم بالعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.
ومن هذا المنطلق بدأ التفكير في استخدام وسائل جديدة للحد من الحالات التي يسمح فيها للمشرع توقيع العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، فاتجه البحث نحو اقتراح ودراسة بدائل لهذه العقوبات كاستراتيجية جديدة لمواجهة الظاهرة الإجرامية بأقل خسارة ممكنة، ذلك أن هذه البدائل توفر للمحكوم عليه معاملة عقابية خارج أسوار السجن من شأنها تسهيل عملية إدماجه داخل النسيج الاجتماعي مع توفير مقومات هذا الإدماج ليحتفظ المحكوم عليه بكل أوضاعه الإجتماعية والإقتصادية ومكتسباته وروابطه الأسرية والإجتماعية.
وتتضمن السياسة الجنائية الحديثة جملة من هذه البدائل : فمنها ما هو مقيد للحرية كالإختبار القضائي والشغل من أجل المنفعة العامة والمراقبة الإلكترونية، ومنها ما هو ذو طبيعة مالية كالغرامة والغرامة اليومية والمصادرة، ومنها أيضا ما هو مقيد للحقوق والمزايا، أكثر من ذلك يمكن البحث عن بدئل أخرى تستمد من قوانين غير جنائية كالقانون الجنائي الإداري والقانون المدني، بل ويمكن أيضا الإستعانة بما يعرف بالبدائل المجتمعية كالصلح والوساطة.
وتعدد هذه البدائل تساعد القاضي الجنائي المتخصص على اختيار البديل الملائم لمصلحة المحكوم عليه ولمصلحة الضحية أيضا بما يحقق التوازن المطلوب بين طرفي الجريمة عوض الإخلال به عند الحكم بالعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.
ومما لاشك فيه أن دراسة إشكالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والبدائل المقترحة تمثل واحدة من أهم الإشكاليات الحيوية والهامة التي ما زالت تثير الكثير من المناقشات والجدل على مستويات كافة. لذلك فإن اختيار هذا الموضوع ودراسته في ضوء الهدف الأساسي للسياسة العقابية الحديثة المتمثل في إصلاح الجاني وإعادة إدماجه في النسيج الاجتماعي له أهمية كبرى باعتباره من أدق مواضيع علم العقاب الحديث الذي يشهد ثورة في مضمونه تتماشى والتيارات الحديثة للسياسة الجنائية المعاصرة والتي يأتي في طليعتها تيار الحد من العقاب. كما أن الوقوف على العديد من المشكلات التي يمكن أن يثيرها هذا البحث على المستوى العملي له أيضا أهمية خاصة تميزه للوصول إلى تقييم علمي موضوعي لإشكالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والبدائل المقترحة، والتي تعد من الدراسات القليلة التي اهتمت بموضوع البدائل وخاصة في الدراسات القانونية المغربية التي تعاني أصلا من نقص كبير في الموضوعات التي تشكل صلب علم العقاب الحديث.
إشـكالية البحــث
أثار موضوع العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والبدائل المقترحة عددا من التساؤلات التي تطلبت الإجابة عليها دراسة وبحث متعمقين لإيضاح أبعادها والوصول إلى أغوارها، وتصب هذه التساؤلات أساسا في إشكالية هامة وهي مدى جدوى وفعالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة في تحقيق أهداف الإصلاح والتأهيل؟ وهل من الممكن الاستغناء عنها وإبدالها بعقوبات أخرى؟ وإلى أي حد يمكن لهذه العقوبات الأخرى أن تحل مشكلة العقوبات القصيرة المدة؟ وهل مناخ السياسة الجنائية المغربية كفيل باحتضان هذه البدائل؟
مـنهــج البــحـث
هذه الأسئلة هي التي حاولنا الإجابة عنها في هذه الدراسة معتمدين في ذلك على منهج وصفي وتحليلي مقارن بغية التوصل إلى تصور واضح عن موضوع الدراسة وأهدافه واستخلاص نتائجه: ذلك أن منهج الوصف والتحليل يساعد في الوقوف على الآراء المختلفة في الموضوع ومناقشتها، كما أن المنهج المقارن يفيد في معرفة التوجهات الحديثة والمعاصرة للسياسة الجنائية المقارنة ومدى تطور سبلها في مواجهة الظاهرة الإجرامية لنكون على ضوئها تصورا عاما يمكن من خلاله بناء معالم جديدة لنظرية العقوبات البديلة.
خطــة البـحـث:
لقد اقتضت طبيعة هذا البحث تقسيمه إلى بابين رئيسيين:
الباب الأول: خصص للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة بين متطلبات الردع والتأهيل ارتأينا في فصله الأول ضرورة الوقوف على ماهية هذه العقوبة من خلال التطرق إلى معايير تحديدها وخصائصها، وفي الفصل الثاني تناولنا موقع العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة مبرزا هيمنتها على الجزاء الجنائي وأسباب هذه الهيمنة ثم الآثار السلبية المترتبة عليها متسائلين عن ضرورة إيجاد بدائل لهذه العقوبات تضفي على العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة وجها جديدا .
الباب الثاني: الوجه الجديد للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، قسم بدوره إلى فصلين: خصص الفصل الأول للحديث عن البدائل في نطاق النظام الجنائي والتي تم تقسيمها إلى بدائل مقيدة للحرية وبدائل مالية وبدائل سالبة أو مقيدة للحقوق أو المزايا، بينما تناولنا في الفصل الثاني البدائل المستمدة من خارج النظام الجنائي وقفنا من خلاله على البدائل القانونية غير الجنائية وكذا البدائل المجتمعية.
وأخيرا الانتهاء من البحث بخاتمة كانت عبارة عن استخلاص نتائج هذه الدراسة وبعض الاقتراحات بخصوص مستقبل العقوبات البديلة في سياستنا الجنائية.
الباب الأول : العـقوبة السالـبة للحـرية قـصيرة المدة بين متطلبات الردع والتأهيل
تتمحور العقوبة السالبة للحرية في الفكر العقابي الحديث حول تأهيل المحكوم عليه وإعادة إندماجه في المجتمع من جديد، وفي نفس الوقت حماية المجتمع عن طريق تقويمه وإعادته مواطنا صالحا([7]) ، فهذه العقوبة – وخاصة بعد تراجع العقوبات البدنية- لم تعد غاية في حد ذاتها، بل أصبحت وسيلة لإصلاح المجرمين وتقويم اعوجاجهم والعمل على تحسين مستواهم الخلقي والمعنوي، تمهيدا لإعادتهم مواطنين مفيدين نافعين.
ولا تقتصر العقوبة السالبة للحرية على تحقيق هذا الهدف، وإنما تتوخى أيضا تحقيق الردع كسلاح أساسي في يد السياسة الجنائية لمواجهة الظاهرة الإجرامية، فليس أكثر ردعا للجاني من سلب حريته لمدة تطول أو تقصر([8]) ، فالحرية تبقى دائما أرقى سلم القيم الإنسانية.
والأكيد أن متطلبات الردع والتأهيل لا يمكن تحقيقها ما لم تستغل مدة الحرمان من الحرية في اتجاه التوفيق بينها، ليكون المحكوم عليه عند إطلاق سراحه ليس راغبا فقط في احترام القانون، بل ومؤهلا أيضا للعيش في ظله والتكيف مع مجتمعه.
ولما كانت العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة تحتل مكانة الصدارة بين الجزاءات الأخرى، فإن تحقيق التوازن بين متطلبات الردع والتأهيل ليس بالأمر السهل، ولاسيما أن التجربة أثبتت عدم قدرة هذه العقوبة على مسايرة الهدف الأسمى لأية سياسة جنائية وهو إعادة المحكوم عليه إلى حظيرة الحياة الاجتماعية وجعله عضوا نافعا فيها([9])
|
لكن ماذا نقصد بالعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة ؟ وما هي حدودها؟ (الفصل الأول) وإلى أي حد يمكن لموقع العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة أن يؤثرعلى أهداف السياسة العقابية الحديثة؟ (الفصل الثاني).
الفصـــل الأول: مـاهيـة العقـوبـة السالبـة للحـرية قـصيـرة المـدة
تثير دراسة ماهيـة العقوبـة السالبة للحرية قصيرة المدة صعوبات عديدة بسبب تعدد العناصر التي تسهم في تحديد ملامحها، الأمر الذي انعكس من جهة، على تعدد الآراء وتباين الاتجاهات حول معايير تحديد هذه العقوبة (المبحث الأول) كما انعكس من جهة أخرى، على تحديد مميزاتها الأساسية التي تبقى متأرجحة بين الأخذ والـرد (المبحث الثاني).
المبحــث الأول: معـاييـر تـحديـد العقوبـة السالبة
للحريـة قصيـرة المـدة
يكتسي التحديد القانوني للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة أهمية قصوى، سواء من الناحية النظرية أو العملية:([10]) فعلى المستوى النظري يمنح هذا التحديد شرعية الاعتداء على الحق في الحرية في الحدود المسموح به قانونا، أما على المستوى العملي فهو يوجه ويمنع القضاء وكذا إدارة السجون من كل تحكم قد يسيء إلى مركز المحكوم عليه بهذه العقوبة، وعلاوة على ذلك قد يكون لهذا التحديد أهمية في ترسيخ نظرية العقوبات البديلة التي أصبحت تفرض نفسها ضمن السياسية العقابية الحديثة.([11])
ولكن، وعلى الرغم من هذه الأهمية، نجد أن المشرع المغربي- وكغيره من المشرعين- قد أحجم عن تعريف العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة([12])، مما ترك المجال مفتوحا أمام تضارب الآراء، وتعدد الاتجاهات الفقهية حول تحديد معايير العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة([13]): فهناك من اعتبر نوع الجريمة أساسا لتحديدها ( المطلب الأول) وهناك من اتخذ نمط المؤسسة العقابية معيارا لها ( المطلب الثاني) وهناك من ربطها بمدة العقوبة ( المطلب الثالث).
وتعدد هذه المعايير يدفعنا إلى التساؤل عن مدى صلاحيتها وكفايتها في تحديد المقصود بالعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة (المطلب الرابع).
المطـلب الأول: التحـديـد عـلـى أسـاس نـوع الجـريمـة
يستند هذا الاتجاه في تحديده للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة على أساس التقسيم التشريعي للجرائم،([14]) والذي يختلف من تشريع لآخر، فقد يكون هذا التقسيم ثنائيا كالتشريع العقابي الإيطالي الذي يقسم الجرائم إلى جرائم خطيرة وجرائم قليلة الخطورة، وقد يكون هذا التقسيم ثلاثيا كالتشريع العقابي الفرنسي الذي عمد إلى تقسيم الجرائم إلى جنايات وجنح ومخالفات، وهو نفس التقسيم الذي اعتمده المشرع المغربي في الفصل 111 من القانون الجنائي حيث نص على أن:
« الجرائم إما جنايات أو جنح تأديبية أو جنح ضبطية أو مخالفات على التفصيل الآتي:
– الجريمة التـي تـدخل عقوبتها ضمـن العقوبات المنصوص عليها في الفصل 16 تعـد جناية.
– الجريمة التـي يعاقب عليها القانون بالحبس الذي يزيد حده الأقصى عن سنتين تعد جنحة تأديبية.
– الجريمة التي يعاقب عليها القانون بحبس حده الأقصى سنتان أو أقل أو بغرامة تزيد عن مائة وعشرين درهما تعد جنحة ضبطية.
– الجريمة التـي يعاقـب عليها بإحدى العقوبـات المنصوص علـيها في الفصل 18 تعـد مخالفة».
وحسب منظور هذا الاتجاه، فإن العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة هي تلك المنصوص عليها كجزاء لاقتراف الجرائم القليلة الخطورة بالنسبة للتشريع العقابي الإيطالي مثلا، وهي المخالفة وبعض الجنح([15]) بالنسبة للتشريعات التي تعتمد التقسيم الثلاثي للجرائم.
وفي الواقع، فإنه بالرغم ما قد يكون لهذا المعيار من أهمية في تحديد المقصود بالعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، إلا أنه مع ذلك لا يصلح بمفرده لهذه المهمة وذلك للأسباب التالية:
× تجاهله لأسس ومعايير عديدة يقوم عليها تحديد تلك الماهية، منها شخصية الجاني وسوابقه وخطورته الإجرامية وظروف ارتكابه للجريمة، ومدى صلاحية العقوبة المقررة لهذه الفئة من الجرائم (جنح ومخالفات) في تحقيق أهداف السياسة العقابية الحديثة المتمثلة في إصلاح الجاني وتأهيله لإعادة إدماجه في النسيج الاجتماعي.
× تأثر هذا المعيار بمبدأ التفريد القضائي: ذلك أنه بالرغم من أن الفصول 111 و 16 و 17 و 18 ق.ج تسعفنا في تحديد نوع الجريمة التي على أساسها يمكن تحديد العقوبة السالبة للحرية القصيرة المدة، فإن هذا التحديد يبقى نسبيا،([16]) خاصة عندما يجيز المشرع للمحكمة أو يلزمها بأن توقع على الجاني عقوبة من نوع آخر، إذا توفر لمصلحة هذا الأخير عذر قانوني معف أو مخفف من العقاب أو ظرف قضائي مخفف أو قام ضده ظرف من ظروف التشديد أو العود.
× تغير الوصف القانوني للجرائم: بالرجوع إلى الفصل 112 ق ج نجد المشرع قد اعتبر بأن نوع الجريمة لا يتغير إذا حكم بعقوبة متعلقة بنوع آخر من أنواع الجرائم بسبب تخفيف أو لتحقق حالة عود، لكنه -أي المشرع- اعتبر في المادة 113 من نفس القانون بأن نوع الجريمة يتغير إذا نص القانون على عقوبة متعلقة بنوع آخر من أنواع الجرائم بسبب توافر ظرف من ظروف التشديد، فمثلا السرقة البسيطة تعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة ( وهي عقوبة جنحية) لكنها تنقلب إلى السجن المؤبد إذا كان السارق حاملا للسلاح، وبحسب المادة 113 ق.ج فإن نوع الجريمة يتغير ليصبح جناية بعد أن كان جنحة، فأي وصف قانوني للجرائم يمكن الاعتماد عليه لتحديد العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة؟ خاصة وأن نوع الجريمة ترتبط ارتباطا وثيقا بحركية العقوبة التي تفرضها السياسة العقابية الحديثة بغية تحديد العقوبة الملائمة الكفيلة بتأهيل الجاني وتهذيبه.
× كثيرا ما تتداخل الحدود القصوى والدنيا للعقوبات السالبة للحرية،([17]) وكأمثلة على ذلك- من القانون المقارن- فإن الجنح العادية والجنح المتوسطة الخطورة في شيلي يعاقب عليها بالحبس من 61 يوما حتى 5 سنوات بينما في البرازيل يكون الحبس لمدة حدها الأقصى عام واحد، وفي إيطاليا تكون العقوبة السالبة للحرية في الجنح حدها الأدنى 15 يوما.
المطلـب الثـانـي: التحـديـد علـى أسـاس نـوع
المؤسـسـة العقـابية
يفترض هذا المعيار اختلاف أنواع المؤسسات العقابية سواء من حيث طبيعة النظام السائد في كل منها أو من حيث نوعية المعاملة العقابية التي تخضع لها الساكنة السجنية، وهذا الاختلاف يجعل منه المشرع ضابطا للتمييز بين أنواع العقوبات السالبة للحرية([18])، فلكل عقوبة حسب هذا المعيار نوع من السجون يخصص لتنفيذها،([19]) فإذا كان مخصصا لتنفيذ العقوبات القصيرة تكون آنذاك العقوبة قصيرة، ومن تم يمكن إبدالها بعقوبة أخرى.
وقد أخذت العديد من التشريعات العقابية بهذا المعيار ومنها التشريع الليبي الذي ميز- في المادة الثانية من قانون السجون النافذ- بين ثلاثة أنواع من السجون([20]):
سجون رئيسية وسجون محلية وسجون خاصة، وهذه الأخيرة تخصص لتنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، كما أن قانون السجون المصري يضم أربعة أنواع من السجون([21]) وهي الليمانات والسجون العمومية والسجون المركزية والسجون الخاصة، ويخصص النوع الثاني من هذه السجون لاستقبال طائفة من السجناء من بينهم المحكوم عليهم بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر، أما النوع الثالث فتنفذ فيه العقوبة على المحكوم عليهم بالحبس مدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر أو تكون المدة المتبقية وقت صدور الحكم أقل من ثلاثة أشهر بسبب مدة الحبس الاحتياطي، وكذلك الأشخاص المكرهون بدنيا.
أما المشرع المغربي فقد أشار بدوره إلى هذا المعيار من خلال القانون رقم 98/23 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، حيث أكد في المادة 2/2 على " أن المؤسسات السجنية تقسم إلى مجموعتين.
1. السجون المحلية وهي مخصصة بصفة عامة لإيواء المعتقلين الاحتياطيين والمحكوم عليهم بعقوبات قصيرة الأمد والمكرهين بدنيا.
2. المؤسسات السجنية المخصصة لإيواء المدانيين والمنصوص عليهـم فـي المادة الثامنة بعده".
وبالرجوع إلى هذه المادة- أي المادة الثامنة- نجد أن المؤسسات المخصصة لاستقبال المدانيين تضم:
– السجون المركزية، السجون الفلاحية، السجون المحلية، مراكز الإصلاح والتهذيب.
كما تؤكد المادة 9 من هذا القانون على أن السجون المركزية تخصص للإيواء المحكوم عليهم بعقوبات طويلة الأمد.
ويبدو أن الاستناد في تحديد العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة إلى معيار نوع المؤسسة العقابية التي يتم تنفيذ العقوبة بها لا يرتكز على أساس علمي، فهو معيار تقليدي أثبتت الدراسات الحديثة ابتعاده عن الصواب، لأنه يتجاهل عناصر أخرى لها دور أساسي في تحديد المقصود بالعقوبات القصيرة، منها الخطورة الإجرامية الكامنة في شخص الجاني وظروفه الشخصية ومدى اتفاقها مع مقتضيات التأهيل والإدماج،([22]) علاوة على ذلك، فإنه كثيرا ما يجري تنفيذ عقوبتين مختلفتين في مؤسسة واحدة([23]) بغض النظر عن طبيعتها القانونية.
ثم إن هذا المعيار يحمل مغالطة أخرى تتمثل في أن مدة العقوبة التي يتضمنها الحكم القضائي هي التي تحدد نمط المؤسسة العقابية التي يتم بها تنفيذ العقوبة وليس العكس،([24]) والواقع أن إدارة السجون تستطيع أن تغير من مضمون العقوبة التي حكم بها القاضي، ما دام القانون قد كرس مؤسسة العفو والأفراح الشرطي مثلا.
والأكثر من ذلك، فإن الأفكار الحديثة للسياسة الجنائية تدعو اليوم إلى تقسيم أنواع المؤسسات العقابية لا على أساس المدة وإنما على أساس مبدأ التصنيف([25]) الذي يقتضي تخصيص لكل فئة نظاما يستمد قيمته التربوية من ظروف الفئة التي خصص لها ومقتضيات تأهيلها، مرتكزا في ذلك على السن والجنس والشخصية ودرجة انحراف الجانح([26]).
وقد أفرز هذا الفكر العقابي الحديث نماذج حديثة من المؤسسات العقابية أهمها: مؤسسات مفتوحة ومؤسسات شبه مفتوحة.
مؤسسـات مفتـوحـة:
عرف مؤتمر لاهاي الدولي الجنائي والعقابي الذي عقد في سنة 1950 مؤسسة السجن المفتوح بالتعريف الوارد في البند الأول والثاني من توصيات القسم الثاني، وهو كما يلي « إن مؤسسة السجن المفتوح هي تلك المؤسسة التي يستعان فيها بأساليب التحفظ المادية للحيلولة بين نزلائها والهروب، ولا يلجأ فيها إلى وسائل القسر والإكراه لحملهم على الخضوع لنظامها، وإنما يعتمد في داخلها على إقناعهم بأن الهروب في غير مصلحتهم وأن أساليب التهذيب والتأهيل وضعت من أجل صالحهم، فينمو بذلك لديهم الشعور بالمسؤولية قبل المؤسسة وإزاء المجتمع ويخلق الثقة بينهم وبين القائمين على إدارة المؤسسة([27]).
وتقع المؤسسات المفتوحة غالبا في المناطق الفلاحية لأسباب تربوية ولتوجيه نزلائها نحو الأعمال الزراعية والصناعات المتصلة بها([28]).
والمؤسسات المفتوحة تخصص للمجرمين المبتدئين والمجرمين بالصدفة، وفي جميع الأحوال لا يستفيد من هذه المؤسسة إلا بعد ملاحظة المحكوم عليهم،([29]) وتقدير احتمالات تلاؤمهم مع نظام المؤسسة المفتوحة.
ولهذا النوع من المؤسسات الفضل الكبير في تحقيق أغراض العقوبة وذلك لما يتسم به من مزايا أهمها:
ü إعادة الثقة إلى المحكوم عليه وإشعاره بأنه لا يزال فردا من المجتمع يأخذ بيديه لاستعادة مركزه داخل الحياة الاجتماعية بشكل طبيعي([30]).
ü يحافظ هذا النظام على علاقة المحكوم عليه بأسرته من خلال الإشراف وتقديم العون والإطلاع على أحوالها والمساهمة في حل مشاكلها.
ü مساهمة هذه المؤسسات في تجنب مساوئ الاختلاط بعتاه المجرمين.
ü تمتاز هذه المؤسسات بكونها أقل تكلفة ونفقة([31]) من المؤسسات المغلقة أو ذات الاحتياطيات المشددة.
ونظرا لأهمية هذا النوع من المؤسسات، فقد تضمن القانون المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، نظما تمهد لفكرة هذه المؤسسات باعتبارها تنطوي على خرق النظام التقليدي لسلب الحرية([32]) وهكذا نصت المادة 10 على إحداث سجون فلاحية على مستوى كل جهة وهي مؤسسات شبه مفتوحة لتنفيذ العقوبات، وتختص بالتكوين المهني في الميدان الفلاحي وتهيئ بعض المدانيين الذين اقترب الإفراج عنهم للعودة إلى الحياة العادية.
مؤسسات شبه مفتوحة:
تقع المؤسسات شبه المفتوحة بين السجون المغلقة والسجون المفتوحة،([33]) فلا هي كاملة الإغلاق ولا هي مفتوحة تماما، وتكون المعاملة العقابية فيها تدريجيا([34]) حيث يودع المحكوم عليه أول مرة في قسم شديد الحراسة نسبيا، ثم ينقل إذا أثبت بحسن سلوكه، جدارته بالتخفيف إلى درجة تقل فيها الحراسة، وعندما يقترب موعد الإفراج ينقل إلى القسم الثالث وهو شبيه بالمؤسسات المفتوحة،([35]) فهو إذن نظام انتقالي بين السجن والإفراج الشرطي([36]).
وغالبا ما تقع المؤسسات شبه المفتوحة في المناطق الزراعية أو قرب المناطق الصناعية لتشغيل المحكوم عليهم نزلاء هذه المؤسسات الذين يخضعون لهذا النظام باقتراح من قاضي تطبيق العقوبة ووفق شروط والتزامات يحددها هذا الأخير([37]).
ويوجد في بلادنا أنواع من هذه المؤسسات صنفها البعض([38]) إلى خمسة وهي:
السجن الفلاحي والصناعي بالعادر، السجن الفلاحي والصناعي بعلي مومن، السجن الفلاحي بأوطيطة الحاج، السجن الغابوي وتربية المواشي بإفران، السجن المدني المخصص للمحكوم عليهم لأول مرة بعقوبات قصيرة الأمد.
المطلب الثـالث: الـتحـديـد على أسـاس مـدة الـعقـوبـة
رغم اختلاف الآراء والاتجاهات التي قال بها الفقه حول المعايير التي يمكن الاستناد عليها لتحديد المقصود بالعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، فإن الأغلبية استقرت على المعيار الزمني([39]) باعتباره أفضل الأسس التي يقوم عليها هذا التحديد، ومع ذلك انقسم أنصار هذا الرأي حول تحديد المدة التي تعتبر فيها العقوبة السالبة للحرية قصيرة: فمنهم من ذهب إلى أنها العقوبة التي لا يتجاوز حدها الأقصى ثلاثة أشهر،([40]) ويأخذ بهذا الرأي الأستاذ كيش cuche الذي أكد « أنه من الصعب تحديد رقم معين، إلا أن الحبس القصير الأمد هو الذي تتعارض مدته مع فكرة الإصلاح وتتوافق فقط مع فكرة التخويف أو الإنذار، إلا أن الرأي السائد هو أن مدة ثلاثة شهور هي الحد الأقصى للعقوبات القصيرة الأمد»([41]) كما أقرت هذا التحديد اللجنة الدولية الجنائية والعقابية المنعقدة في برن 1946 حيث أعلنت بأن الحبس الذي لا يزيد على ثلاثة أشهر هو الذي يدخل ضمن هذه العقوبة، لأنه لا يسمح بإجراء أي عمل تربوي([42])، وهو الاتجاه الذي أيدته أيضا الحلقة العربية الأولى للدفاع الاجتماعي ضد الجرائم الاقتصادية([43]).
اتجه فريق ثاني إلى أن العقوبة القصيرة هي التي لا تزيد على ستة أشهر([44])، ولقد أخذت معظم التقارير المقدمة إلى المؤتمر الثاني للأمم المتحدة لمكافحة الجريمة ومعاملة المذنبين المنعقد في لندن 1960، بهذا التحديد.
فيما اتجه فريق ثالث إلى أنها لا تزيد على سنة([45])، وهذا ما تأكد من خلال التقرير المقدم من الآنسة إيفون ماركس إلى مؤتمر لاهاي العقابي المنعقد سنة 1950 حيث اعتبرت الحبس القصير الأمد هو الذي لا يقل عن سنة وهو ما أيده أيضا Pierre cannat مؤكدا أن مدة سنة تمكن الإدارة العقابية من توجيه مستقبل المحكوم عليه، ولعل هذا الرأي جدير بالتأييد لاعتبارات سيأتي ذكرها لاحقا.
ويعود هذا الاختلاف إلى مدى كفاية هذه الأزمنة التي تستغرقها العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة لوضع برنامج إصلاحي تقويمي للمحكوم عليه يشمل مختلف الميادين المهنية والتعليمية والتهذيبية والنفسية والطبية([46]) باعتبارها الآليات الأساسية التي تقوم عليها سياسة الإصلاح وإعادة الإدماج.
ومع ذلك، فقد يتبين أن معيار الزمن لا يمكن الاعتداد به في تحديد ماهية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، وذلك لأن مسألة المدة مسألة نسبية([47]): فالمدة التي تكفي لتأهيل شخص قد لا تكفي لتأهيل آخر([48])، ومن تم، قد يصعب تحديد سقف زمني يميز بين العقوبات القصيرة والعقوبات الطويلة الأمد، ولكن من الناحية العلمية، وحتى يتسنى حصر المشاكل التي تثيرها العقوبات القصيرة، ومن تم، إيجاد عقوبات بديلة لها كان من الضروري الاستناد إلى المعيار الزمني في تحديد العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، مع الأخذ بعين الاعتبار واقع المحكوم عليه([49])، ومدى انسجامه مع برامج التأهيل و التهذيب.
وفي ضوء ذلك، يبدو أن المدة الزمنية التي يمكن من خلالها تنفيذ برنامج إصلاحي وتأهيلي للمحكوم عليه لا ينبغي أن تقل بأي حال عن سنة كاملة.
المطلـب الـرابـع: تــقـييــم
إن إمكانية تحديد ماهية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، لا يتسنى من خلال الاعتماد على معيار واحد، وإنما يستوجب الأخذ بمعيار تركيبي- إن صح التعبير- يأخذ في الحسبان الأمور التالية باعتبارها محددات أساسية لهذه المقاربة التعريفية:
I– مـراعـاة الخـطـورة الإجـراميـة
من الضوابط التي ينبغي التعويل عليها في تحديد ماهية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، ضابط الخطورة الإجرامية ومدى مساسه بالشعور بالعدالة داخل نفوس أفراد المجتمع([50])، فإذا كانت هذه الخطورة قليلة أو أقل مساسا بالنظام العام، جاز آنذاك إبدال عقوبتها السالبة للحرية بعقوبة بديلة أخرى.
وقد أولت بعض التشريعات الجنائية المقارنة أهمية بالغة لمسألة تحديد هذه الخطورة ووضع معايير لها لمساعدة القاضي على اختيار العقوبة الملائمة، ومن أبرز هذه التشريعات التشريع الإيطالي الذي بعد ما نص في المادة 132 على أن « التحديد الواقعي للعقوبة منوط بالسلطة التقديرية للقاضي والذي يجب عليه أن يبين الأسباب التي تفسر إعماله للسلطة المنوحة له»([51])، أكد في المادة 133 على المعايير التي يتعين على القاضي عند إعماله للسلطة التقديرية المشار إليها في المادة السابقة، أن يأخذها في الاعتبار، وهي جسامة الجريمة المستخلصة من:
1. طبيعة الفعل ونوعه ووسائل ارتكابه ومحله وزمانه ومن سائر الظروف المتعلقة به.
2. جسامة الضرر أو الخطر الذي لحق أو هدد المجني عليه في الجريمة.
3. درجة القصد أو الخطأ.
كما يجب على القاضي أن يأخذ في اعتبار أيضا الميل الإجرامي أو القدرة على الإجرام المستخلصة من:
1. بواعث الجريمة ونوع المجرم.
2. السوابـق الجنائية أو القضائية، وبصفـة عامـة سلوكه أو أسلوب حياته السابق على الجريمة.
3. سلوكه المعاصر أو اللاحق للجريمة.
4. ظروف حياته الخاصة أو العائلية والاجتماعية.
أما تشريعنا الجنائي، فإنه لم يورد هذه المعايير واقتصر فقط في الفصل 141 ق ج على أن " للقاضي سلطة تقديرية في تحديد العقوبة وتفريدها في نطاق الحدين الأقصى والأدنى المقررين في القانون المعاقب على الجريمة مراعيا في ذلك خطورة الجريمة المرتكبة من ناحية وشخصية المجرم من ناحية أخرى".
وقد أدى هذا الفراغ التشريعي إلى الوقوع في أزمة تفريد العقاب سواء من حيث المصدر أو من حيث التطبيق، ممـا حذا ببعض الفقه المغربـي([52]) إلـى التأكيد علـى أن" تدخل المشرع بوضع معايير تساعد القاضي على اختيار العقوبة المناسبة، أمر مستحب وضروري في بعض الحالات حتى لا يبقى الأمر عرضة لتعسف القاضي…فمن واجب القاضي إذن عند اختيار العقوبة أن يبحث في طبيعة وزمان ومكان الجريمة والوسيلة التي تمت بها هذه الأخيرة والكيفية التي ارتكبت بها وأن يستخلص مدى جسامة الخطر الناتج عنها لمعرفة ما أحدثته من خلل واضطراب اجتماعي، وكل ذلك طبعا بالنظر إلى درجة القصد الجنائي لدى الفاعل".
ومما لاشك فيه، فإن الاسترشاد بمثل هذه المعايير سيكون له أهمية بالغة في تحديد الجزاء الجنائي والمعاملة الجنائية الملائمة([53])، ويتسنى للقاضي الجنائي لحسم فيما إذا كان الجاني أهلا للاستفادة من النظام القانوني للعقوبات البديلة أم لا.
II-مـراعـاة الحـد الأقـصـى لـمـدة الـعقـوبـة
يمكن تحديده في سنة كاملة وذلك للاعتبارات التالية:
أ. أن هذه المدة تساعد على حل مشكلة الاكتظاظ التي تعاني منها المؤسسات السجنية وذلك بسبب استمرار التشريعات الجنائية في تبني القاعدة التقليدية "لا عقوبة إلا بالحبس" والتي أصبحت متجاوزة في القوانين المقارنة([54]) لكون الحبس أصبح غير ملائم وغير منتج،([55]) بالنظر إلى تكدس السجون الذي يمثل مشكلة هامة تعوق المؤسسات العقابية عن أداء رسالتها الإصلاحية،([56]) فهو مصدر للتوتر وتشجيع الانحراف والتعسف وخلق الممارسات المدانة والفاسدة.
ب. أن هذه المدة تساهم في التخفيف من تكلفة السجن التي تشمل من جهة، إنشاء السجون وإدارتها وحراستها، ومتطلبات الإصلاح والتأهيل من جهة أخرى،([57]) وكل ذلك يكلف الدولة أموالا طائلة يمكن استثمارها في مجالات حيوية هامة.
ج. فعالية هذا التحديد في علاج مشكلة العود الجنائي الذي يعد من أبرز السلبيات الناجمة عن الحكم بالعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة.
د. فعالية هذا التحديد أيضا في تجنب الآثار الاجتماعية ([58]) للعقوبات القصيرة.
ه. أن هذه المدة كفيلة باستيعاب البرنامج الإصلاحي والتقويمي للمحكوم عليه.
المبـحـث الثـانـي: خصائـص العقـوبة السـالبـة للـحـريـة
قـصيـرة الـمدة
تعتبر العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة جزء لا يتجزأ من العقوبة السالبة للحرية، ومن تم، فهي تحمل بين طياتها نفس الخصائص، وتخضع لنفس المبادئ التي جاءت كمحصلة لتطور فكرة العقوبة في العصر الحديث، فالعقوبة صارت محددة سلفا بنص تشريعي ضمانا لحرية الأفراد وحقوقهم، ومنعا لكل تحكم وجور، كما أنه لا يجوز من جانب آخر إنزال العقوبة السالبة للحرية إلا بمن ارتكب الجريمة وتثبت مسؤوليته بموجب حكم قضائي يراعى في تحديد مقدارها مبدأ العدالة والتناسب.
إلى جانب هذه الخصائص العامة، تنفرد العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة بمميزات معينة تعكس طبيعتها القانونية، فهي- حسب الاتجاه المنادي بالإبقاء عليها- قد تشكل وسيلة إنذار وتهديد للمجرم المبتدئ ( المطلب الأول) الذي لا يحتاج إلى برنامج إصلاحي يستغرق وقتا طويلا لتفعيل مقتضياته، فقصر البرنامج الإصلاحي كفيل بإبراز فعالية هذا النوع من العقوبات (المطلب الثاني). فإلى أي حد يصدق هذا القول؟
المطـلب الأول: العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة وسيلة
لإنـذار المجـرم الـمبتـدئ
يؤكد بعض علماء علم العقاب([59]) على أهمية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة في تأثيرها على فئة معينة من المجرمين الذين لا تنبئ حالتهم عن خطورة إجرامية، وخاصة المجرمين المبتدئين والمجرمين بالمصادفة الذين يقترفون جرائم بسيطة نابعة عن طيش واستهتار بحقوق الغير([60])، والتي تقتضي العدالة الجنائية-أحيانا-إخضاعهم لنمط العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة باعتبارها تشكل صدمة لهم([61]) تجعلهم يعودون إلى رشدهم ويفكرون مرات عديدة قبل الإقدام على ارتكاب فعل إجرامي آخر، فهي بمثابة إنذار لهم على ضرورة مراعاة النظم القانونية والاجتماعية السائدة في المجتمع، وأن الإكتفاء في هذه الحالات بالعقوبات البديلة ينطوي على مساس بالشعور العام، ويفقد الثقة في أجهزة العدالة الجنائية، على أن يكون تنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة على هذه الطائفة داخل مؤسسات عقابية خاصة أو إيداعهم في مؤسسات عقابية مفتوحة أو شبه مفتوحة([62]) تتلاءم والبعد التخويفي-إن صح التعبير- المنشود من وراء هذه العقوبات، فكم من الناس تخيفهم فكرة الدخول إلى السجن ولو ليوم واحد([63]).
ويعزز أنصار هذا الرأي موقفهم، بنجاح هذه السياسة في انجلترا وألمانيا الغربية، مؤكدين أن العقوبات القصيرة قد حققت نجاحا باهرا استنادا إلى ما أثبتته الإحصاءات الجنائية من جهة، واستنادا إلى عدم فعالية العقوبات البديلة للسجين في الحد من الجرائم ووقاية المجتمع من شرورها([64]). لكن إلى أي حد يمكن مسايرة هذا الطرح؟
في الواقع، فإن هذا الطرح يتناقض والأغراض الإصلاحية للعقوبة ويجعل من التخويف والإنذار هدفا للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، متجاهلا الآثار السلبية التي تلحق النزيل المبتدئ، وهذا الموقف تدعمه الاعتبارات التالية:
× أن الهدف الحقيقي للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة هو الوقاية من الجريمة عن طريق التأهيل والإصلاح لا عن طريق التخويف والإنذار الذي يمكن تحقيقه بأنماط أخرى من العقوبات البديلة دونما حاجة إلى الزج بالمجرم المبتدئ في مثالب الحبس، يقول أستاذنا محي الدين امزازي « ما دام أن أهم الجوانب في عملية العقاب هو التنديد بسلوك الجاني والتأكيد له على أن ما قام به يشكل خرقا للقواعد الملزمة للجميع، فإن الوصول إلى هذه النتيجة لا تتوقف على تطبيق العقاب والإيلام، فبعض القبائل الإفريقية كانت تكتفي بمقاطعة الجاني وحرمانه من الحضور والمشاركة في الحفلات في عملية القنص والصيد…وقد أثبت علم الاجتماع القانوني من جهته فعالية المزاح والسخرية في القيام بأدوار ردعية ترهيبية بالغة الأثر»([65]).
× المجرم المبتدئ قد يتأثر وينتابه شعور بالخوف والندم لمجرد خضوعه للإجراءات الجنائية، فملاحقة الشرطة وحضوره أمام القضاء وصدور الحكم بالإدانة كفيل بتحقيق الردع بمقدار ما يحققه تنفيذ العقوبة([66])، ولما كان الإنذار قد يتحقق بهذا الشكل، فإن تنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة قد يحمل معنى الانتقام والتنكيل وهذا ما لا يتفق وأهداف السياسة العقابية الحديثة.
× إن التأثير التخويفي للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة على المحكوم عليه يكون قبليا، أما بعد دخوله إلى السجن للمرة الأولى، فإنه يفقد خوفه وخشيته من السجن([67]) فلا يتهيب من دخوله مرة ثانية،([68]) وهذه النتيجة تعززها الإحصائيات الجنائية التي تشير إلى ارتفاع عدد العائدين.
× وحتى مع التسليم بأن العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة لها دور فعال في إنذار وتحذير المجرم المبتدئ، فإن آثار هذه العقوبة تستمر -وحتى بعد إنهاء تنفيذها- في ملاحقته ومضايقته ومراقبته، رقابة كانت مقررة في الماضي وأصبحت اليوم واقعا: جواز مرور خاص بالمحكومين بالأشغال الشاقة في الماضي واليوم السجل العدلي،([69]) إنه عقاب من نوع آخـر يعيق عملية الإدماج ويقوي الشعور بالإزعاج.
وهكذا فالإنذار تحول إلى نتيجـة ([70]) مرتبطة بوصم المحكوم عليه داخل مجتمع لا يعي من أغراض العقوبة سوى طابعها السلبي.
لكن لا يجب أن يفهم من تقديم هذه الحجج، أنها دعوة إلى إلغاء العقوبات القصيرة، وإنما هي دعوة إلى تجنبها قدر المستطاع، بحيث يكون اللجوء إلى البدائل هو القاعدة واللجوء إلى العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة هو الاستثناء([71]) وفي حدود ضيقة، لأن المناداة بإلغائها قد يكون من باب التعسف والتطرف، خاصة وأن هناك بعض الجرائم كجرائم القتل الخطأ والإصابات غير العمدية، لا يمكن معاقبة مقترفها بغير العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، وأن استبدالها بعقوبات بديلة قد يتنافى ومتطلبات العدالة من جهة، وقد يشجع على ارتكاب مثل هذه الجرائم مستقبلا.([72])
ومنح هذه الرخصة الاستثنائية يجب أن تقدر بقدرها وأن تقيد بضمانات هامة أبرزها:
ü تخصص القضاء في المادة الجنائية([73]) يساعد على التعمق في فهم الظروف الشخصية والموضوعية للمجرم المبتدئ، ومن تم، الإقرار بالعقوبة الملائمة.
ü تفعيل دور قاضي تطبيق العقوبة في إنجاح السياسة العقابية الحديثة.
ü تنفيذ العقوبات القصيرة في مؤسسات مفتوحة أو شبه مفتوحة والتي تعتمد المعاملة فيها على أساس الثقة في المحكوم عليه،([74]) وهنا دعوة إلى تفعيل التدابير المنصوص عليها في الفصل 83 ق ج الذي يقضي بالوضع القضائي في مؤسسة فلاحية.
المطلـب الثاني: العـقوبـة السـالبـة للحـرية قصيـرة
المـدة لا تتطلب بـرنامجـا إصلاحيـا
تتميز العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة بكونها لا تحتاج إلى البرامج الإصلاحية المتبعة في العقوبات الطويلة الأمد، فدخول المحكوم عليه إلى السجن كاف لردعه.
في الحقيقة، إذا كان المنهج المنادي بأهمية الإبقاء على العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، يعتبر عدم تطلب هذه العقوبة لبرنامج إصلاحي ميزة تسجل لصالحها، فإن الأسلوب العلمي للسياسة العقابية الحديثة لا يمكنه التسليم بذلك، على اعتبار أن العقوبة السالبة للحرية ترتبط أساسا بهدف إصلاح الجاني والذي لا يمكن تحقيقه إلا بإتباع برنامج إصلاحي محكم يتطلب بالضرورة وقتا مناسبا لتفعيل مقتضياته، وفشل هذا البرنامج أو عدم وجوده معناه تجرد العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة من كل قيمة عقابية تذكر، علاوة على تحولها إلى مجرد وسيلة للانتقام من الجاني لاقترافه سلوكا مجرما([75]).
فبرامج التأهيل والإصلاح داخل المؤسسات العقابية لا يرتبط بالعقوبات الطويلة الأمد فقط وإنما ترتبط أيضا بالعقوبات القصيرة، وقد تعطي آكلها إذا ما تم تطويرها وتكثيفها بشكل يسمح بتنفيذها-استثناءا- خلال فترة قصيرة، لذلك فإن الإبقاء المحدود لهذه العقوبة رهين بترشيد استخدامها([76]) في الحالات التي يتبن للقاضي أنه ينبغي توقيع عقوبة الحبس قصير المدة على الجاني استجابة لمقتضيات العدالة واعتبارات الردع العام، أما ما عدا ذلك فإنه يجب استبدالها بالبدائل الملائمة، وهذا ما أشار إليه المؤتمر الثاني للأمم المتحدة في شؤون الوقاية من الجريمة وعلاج المجرمين الذي عقد في لندن سنة 1960 حيث أوصى كافة الدول بالعمل على ألا يحكم قضاتها الجنائيون- قدر المستطاع- بعقوبة قصيرة المدة، وأن يحلو محلها إما وقف التنفيذ وإما الاختبار القضائي وإما الغرامة وإما العمل في ظل نظام الحرية المشروطة وإما الإيداع إذا اقتضى الحال في جناح من السجن منفصل عن مكان وجود باقي المسجونين[77].
الفصل الثاني: مـوقع الـعقوبـة السـالبـة للحـرية قصيـرة المدة فـي السياسة الجـنائية المعـاصرة
لاشك أن تموقع العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة ضمن الأنظمة الجنائية الحديثة جعلها الأداة الرئيسية للعقاب في أيدي المشرعين، لاسيما بعد استبعاد العقوبة البدنية التي كانت سائدة في التشريعات القديمة وانخفاض عدد الجرائم التي توقع من أجلها عقوبة الإعدام،([78]) حتى أصبح السجن في أذهان العامة الوظيفة الأولى للقانون الجنائي، يذكرهم دوما بأنه ثمة جرائم تقع وبأن مجرمين هناك([79]).
واحتلال العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة هذه المكانة وهيمنتها على الجزاء الجنائي (المبحث الأول) ينتج عنه مساوئ وآثار سلبية عديدة (المبحث الثاني) تعرقل العملية العقابية برمتها.
المبحث الأول: هـيمنة العقوبات القصيرة على الجزاء الجـنائي
لقد أدى الاعتماد على العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة كجزاء للعديد من الجرائم إلى اعتبار السجن الوظيفة الأساسية للعدالة الجنائية للرد على تحديات الإجرام والانحراف، حتى أصبح سلب الحرية محور السياسة العقابية الحديثة التي باتت تعاني من تضخم المادة العقابية.
المطلـب الأول: مـعـطيـات إحصـائيـة
قد يكون الحديث بلغة الأرقام أكثر دلالة وتعبيرا عن حجم مشكلة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة التي أصبحت تستأثر بأعلى نسب بين مجموع الأحكام الصادرة بالعقوبات السالبة للحرية، وذلك على الرغم من انطوائها على مساوئ كثيرة.
وهكذا، تبين الإحصائيات التالية تعداد السجناء المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة والتي تم تسجيلها خلال الفترة الممتدة ما بين سنة 2001 إلى سنة 2004.
المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية أقل من سنة
السـنـة |
مجموع الأحكام الصادرة بعقوبات سالبة للحرية |
عدد المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية أقل من سنة |
النسبة المئوية |
2001 |
31776 |
6118 |
19.25 % |
2002 |
30239 |
5352 |
17.69 % |
2003 |
26203 |
4743 |
18.10 % |
2004 |
26903 |
4089 |
15.20 % |
ويتضح من الجدول السابق ارتفاع النسبة المئوية للمحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية أقل من سنة مقارنة مع مجموع الأحكام الصادرة بعقوبة سالبة للحرية، وإن كانت هذه النسبة قد عرفت خلال سنة 2004 انخفاض نسبي يرجع أساسا إلى سياسة العفو الملكي السامي الذي طالما ينعم بها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله على عدد كبير من السجناء، وذلك بغية التوجه نحو إنسانية العقوبة.
لكن باستقراء النسبة المئوية للمحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية مدتها سنتين فأقل، يتضح مدى حجم المشكل بشكل أكثر وضوحا، وإن كان قد سبق تحديد مدة هذه العقوبة في سنة.
المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية قصيرة مدتها سنتين فأقل.([80])
السـنـة |
مجموع الأحكام الصادرة بعقوبات سالبة للحرية |
عدد المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية سنتين فأقل |
النسبة المئوية |
2001 |
31776 |
17368 |
55.17 % |
2002 |
30239 |
16108 |
52.28 % |
2003 |
26203 |
13747 |
52.46 % |
2004 |
26903 |
14935 |
55.52 % |
والأكيد أن ظاهرة هيمنة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة على الجزاء الجنائي المغربي ليست مقتصرة على بلادنا فقط، وإنما أصبحت ظاهرة شائعة في مختلف الدول، ولعل نسبتها في البعض منها تفوق بكثير ما هو عليه في سياستنا الجنائية، وهذا ما أكده التقرير المقدم من سكرتارية هيئة الأمم المتحدة إلى مؤتمر لندن لمكافحة الجريمة وعلاج المذنبين([81]) سنة 1960 حيث أشار إلى أن نسبة الأحكام السالبة للحرية قصيرة المدة (6 أشهر فأقل) بالمقارنة مع مجموع الأحكام بعقوبات سالبة للحرية بصفة عامة، بلغت في بلجيكا ويوغسلافيا 80 % وفي الهند 84 % وفي سويسرا 85 % في جنوب إفريقيا 90 % وبينما تنخفض في إيطاليا إلى 60 % وفي إسبانيا 50 %.
وفي جمهورية مصر العربية([82]) بلغت نسبة المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية أقل من سنة 70.65 % سنة 1990 بعدما كانت سنة 1989 62.34 %.
ولكن تبني العديد من الدول لسياسة العقوبات البديلة كان له أثر إيجابي في التقليص من حجم مشكلة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، ففي السويد مثلا حيث تستخدم الغرامة على نطاق واسع تبلغ نسبة تطبيقها 95 % من مجموع أحكام الإدانة، فإن نسبة الأحكام الأخرى بما فيها العقوبات السالبة للحرية لا تزيد عن 5 %. وفي كل من إنجلترا وويلز لم تزيد نسبة المحكوم عليهم بعقوبات السالبة للحرية أقل من سنة عن 20 % خلال سنة 2000 ([83]).
أما في ألمانيا فقد بلغت هذه النسبة 22 % وذلك نتيجة تفعيلها لأحكام الغرامة التي وصلت نطاق استخدامها 67 %.
والواقع أن استعراض لهذه المعطيات الإحصائية في العديد من الدول التي اهتدت إلى نظام البدائل يبين أن معضلة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة في بلادنا ليست مستعصية الحل، وإن تحديث منظومتنا الجنائية وتطعيمها بالعديد من البدائل لكفيل بتجاوز هذه الأزمة التي تساهم في حدتها مجموعة من الأسباب.
الـمطلب الثـانـي: أسبـاب الحـكـم بالعقـوبـات القـصيرة
إذا كانت المعطيات الإحصائية السالفة الذكر، تعكس مدى حجم مشكلة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة ضمن المنظومة العقابية الحديثة، فإن الضرورة العلمية تقتضي التساؤل عن الأسباب الكامنة وراء كثرة الحكم بهذه العقوبات، فهل ترجع هذه الأسباب إلى السياسة التشريعية المتبعة من قبل المشرع الجنائي أم إلى السياسة القضائية المتمتعة بسلطة تقديرية واسعة في تقدير العقوبة؟
يمكن القول أن تفسير ظاهرة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة وهيمنتها على الجزاء الجنائي يعود إلى أسباب تشريعية(أولا) ثم إلى أسباب قضائية (ثانيا).
أولا: الأسبـاب التشـريعية
تساهم منظومتنا الجنائية بشكل كبير في تعزيز مكانة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة وذلك من خلال ما يلي:
أ. إسراف المشرع الجنائي في اتخاذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة كجزاء لاقتراف العديد من الجرائم.
لا زالت تعتبر العديد من التشريعات الجنائية ومنها التشريع الجنائي المغربي، أن العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة أهم الوسائل المعتمدة في حماية المجتمع والدفاع عنه ضد أنماط عديدة من الجرائم، على الرغم من أن التيارات الحديثة للسياسة الجنائية المعاصرة تدعو اليوم إلى تبني سياسة الحد من العقاب([84]) لتفادي مساوئ النظام العقابي التقليدي القاصر عن تحقيق أهدافه([85]).
وهـكذا، فالتشريع الجنائي المغربي يتضمن ما يزيد عن 132 فصل ينطوي في شقه العقابي على عقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة تتراوح مدتها في الغالب ما بين شهر إلى 6 أشهـر (ف 349 ق ج، 362 ق ج،384 ق ج، 390 ق ج،222 ق ج،260 ق ج، 275 ق ج ،286 ق ج، 321 ق ج، 324 ق ج، 326 ق ج، 441 ق ج، 446 ق ج،466 ق ج،467 ق ج،…) أو ما بين شهر واحد إلى سنة (263 ق ج، 301 ق ج، 303 ق ج، 482 ق ج، 479 ق ج، 477 ق ج، 476ق ج، 448 ق ج،…)أو ما بين ثلاثة أشهر إلى سنة (277 ق ج، 282 ق ج، 320 ق ج،322 ق ج ،327 ق ج، 348 ق ج،371 ق ج،382 ق ج، 461 ق ج،…).
وإذا تفحصنا القوانين الجنائية الخاصة، نجد أن حيز هذه العقوبة على جانب كبير من الأهمية، ولا سيما في القوانين الجنائية المتعلقة بميدان المال والأعمال التي وإن كانت تتخذ من العقوبات المالية (الغرامة) سلاحا لها لردع مجرمي الأعمال، فإنها تتضمن بشكل كبير عقوبات حبسية تطال غالبا الجرائم التي تقترف عن قصد وعن سوء نية، وان كان بعض الفقه([86]) يرى في ذلك إعاقة وعرقلة للحياة الاقتصادية وشل مبادرات رجال المال والأعمال خاصة وأن العقوبات الحبسية ليست لها نتيجة تعويضية في بعض الجرائم اللهم ما يتعلق بالنتيجة الأدبية.
ب. عدم وجود بدائل كافية في السياسة الجنائية المغربية
من الأسباب التي ساهمت في تفشي ظاهرة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، عدم وجود بدائل كافية في السياسة الجنائية المغربية توفر معاملة عقابية ملائمة وفعالة في تحقيق أهداف الإصلاح والتهذيب دون حاجة إلى سلب الحرية([87]) والزج بالمحكوم عليه في السجن، فباستثناء الغرامة ونظام وقف تنفيذ العقوبة المجرد من أي مـراقبة (الفصل 55 ق. ج) والذي غالبا ما يتردد القضاء في تفعيله، يبقى النظام الجنائي المغربي خال من أي نظام للبدائل،([88]) على خلاف العديد من التشريعات الجنائية المقارنة التي عملت على تعزيز ترسانتها الجنائية بهذا النظام،([89]) فالمشرع الفرنسي نجده قد خصص الجزء الثاني من القانون رقم 75-624 للنص على عقوبات بديلة للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة وسار على نهجه قانون العقوبات البحريني الذي نصت المادة 103 منه على الغرامة كعقوبة بديلة للحبس في المخالفات، وكذلك قانون العقوبات الألماني الذي نصت مادته 47 على عدم السماح للقاضي بالحكم بعقوبة السجن الذي تزيد مدته عن ستة أشهر إلا في أحوال معينة يتعلق بعضها بسلوك المجرم والبعض الآخر بشخصية مرتكبيه.
لكن، وعلى ما يبدو، فإن السياسة الجنائية المغربية ووعيا منها بأهمية نظام البدائل في تفعيل أهداف العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، فإنها تسعى إلى تبني هذا النظام الذي لا زال مسطرا ضمن أوليات مشروع القانون الجنائي المغربي من خلال مادته 28 و 33 التي تنص على بدائل العقوبات السالبة للحرية بالنسبة للجنح و المخالفات([90]).
ج. تخفيف العقوبة أداة للحكم بالعقوبات القصيرة
إن التوجه نحو إضفاء الطابع المرن للعقوبة والحد من صرامة النظام الجنائي السائد قبل الثورة الفرنسية، كلها مبررات دعت العديد من الدول إلى تعديل تشريعاتها العقابية بالقدر الذي يتناسب والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالقدر الذي يتلاءم والمفاهيم الدولية الداعية إلى احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
وكان من نتيجة هذه التوجه بروز فكرة الظروف المخففة كوسيلة للتخفيف من شدة العقوبات.
والظروف المخففة هي "عناصر أو وقائع تبعية تضعف من جسامة الجريمة و تكشف عن ضآلة خطورة فاعلها ويترتب على توافرها إما تخفيف العقوبة إلى أقل من حدها أو الحكم بتدبير يناسب تلك الخطورة([91]) ".وهي تنقسم إلى أعذار قانونية وظروف قضائية مخففة حيث أن الأولى يرد النص عليها قانونا أما الثانية فلا ينص عليها القانون وإنما تخضع للسلطة التقديرية للقاضي ويمكن للقاضي أن يمنحها لجميع الجرائم ما لم يوجد نص يمنعه من ذلك([92]).
ويرى جانب من الفقه([93]) أن تطبيق الأعذار القانونية المخففة والظروف القضائية المخففة([94]) والإساءة في هذا التخفيف يعد وسيلة من وسائل الحكم بالعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.
ثـانيا: الأسباب القضائية
ليس المشرع وحده هو المسؤول عن كثرة تطبيق العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، وإنما تقع المسؤولية أيضا على عاتق القضاء الذي يتمتع بسلطة تقديرية واسعة في تفريد الجزاء استنادا إلى الفصل 141 من القانون الجنائي ونزوعه دوما إلى الحد الأدنى بل ومحاولة استخدام الظروف القضائية المخففة في النزول عن الحد الأدنى([95]) للعقوبة وهو ما يعرف بعقدة الحد الأدنى([96]).
ينص الفصل 149 ق ج على أنه " في الجنح التأديبية بما في ذلك حالة العود، يستطيع القاضي في غير الأحوال التي ينص فيها القانون على خلاف ذلك، إذا كانت العقوبة المقررة هي الحبس والغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين فقط، وثبت لديه توفر الظروف المخففة أن ينزل بالعقوبة عن الحد الأدنى المقرر في القانون دون أن ينقص الحبس عن شهر واحد والغرامة عن مائة وعشرين درهما".
لكن اتساع سلطة القاضي في تقدير الجزاء في مفهوم السياسة الجنائية الحديثة يجب ألا يحيد عن الأغراض المعاصرة للعقوبة، لأن تخويل القاضي هذه الرخصة إنما كانت بهدف تقدير مدى ملائمة العقوبة([97]) المراد تطبيقها لأهداف التأهيل والتهذيب.
لذلك فإن الإفراط في استغلال هذه السلطة واللجوء المباشر إلى ظروف التخفيف بشكل ينزل عن الحد الأدنى للعقوبة، من شأنه أن يساهم في تزايد نسبة الحكم بالعقوبات القصيرة التي لا تستطيع زجر الجاني وإعادة تأهيله([98]) واحتضانه في النسيج الاجتماعي.
كما يعزى الإكثار من استخدام العقوبات القصيرة إلى ما يسمى بتسعير العقاب([99]) وهي ظاهرة شائعة في الأوساط القضائية حيث تصدر الأحكام بعقوبات متماثلة في جرائم متماثلة دون أدنى اعتبار لشخصية المحكوم عليه وظروفه، وبذلك فالقاضي يأخذ فقط بالمعيار الموضوعي للجريمة ويتناسى المعيار الشخصي الذي له أهميته أيضا في تفريد العقاب باعتباره عصب السياسة الجنائية([100]) الهادف إلى تحقيق الوظيفة التربوية للعقوبة المتمثلة في تقويم سلوك الجاني وتهذيبه.
والأكيد أن هذه الوظيفة تتطلب فترة كافية لا نجدها في العقوبات القصيرة التي تبقى عاجزة عن تحقيق أي هدف إصلاحي بل وهي ضارة وذات آثار سيئة.
المبحث الثاني: الآثـار السلبيـة للعقـوبات السـالبة للحـرية
قـصيــرة المــدة
تحمل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة بين طياتها العديد من الآثار السلبية التي تنعكس على السياسة الإصلاحية والتربوية المتوخاة من المعاملة العقابية، فهي لا تقف عند مصادرة الحرية وإنما تنصرف إلى العديد من الحقوق بطريقة خفية.
المطلب الأول: الآثـار الاجتـمـاعيـة للعـقـوبة السـالبة
للحـريـة قـصيــرة الـمـدة
ينتج عن تنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة آثار اجتماعية عديدة ومتنوعة لا ينحصر نطاقها على فترة التنفيذ فقط، بل تمتد إلى ما بعد السجن،([101]) كما أنها لا تمس المحكوم عليه وحده، وإنما تنعكس سلبا على جميع العلاقات الاجتماعية التي تربطه بأسرته وعائلته بل وبمجتمعه بأكمله([102]).
فالزج بالمحكوم عليه بعقوبة قصيرة في السجن يعد نبذا اجتماعيا([103]) وفصلا له من النسيج الاجتماعي للمجتمع الذي يعيش فيه، ومن تم، حمله على التشبع بقيم و ثقافة ونمط مجتمعي مختلف، له نظم وقواعد متباينة مع ما هو سائد خارج السجن، إنه صراع بين ثقافتين متعارضتين يتخبط في محيطهما النزيل المبتدئ الذي يكون مطالبا في ظل هذا الوضع بإنشاء علاقات اجتماعية جديدة بينه وبين مجتمعه الجديد([104]).
هذا الصراع الذي تبدأ حدته تتلاشى تدريجيا نتيجة احتضانه من طرف هذا المجتمع الجديد الذي رحب به ولم يستنكر سلوكه المنحرف، وهو الإحساس الذي لم يلقى له صدى في مجتمعه الكبير، مجتمع أبعده من حضنه لاقترافه جرما بسيطا يحمل مساسا هامشيا وضئيلا وقليل الجسامة بالشعور العام لأفراده، فتتحول نظرته إليه نظرة عداء وسخط، ومن تم، يعتبر مجتمع السجن مرجعيته الأولى في السلوك والتصرف حتى بعد خروجه من السجن، وبذلك تصبح ثقافة السجن بديلا لثقافته الأصلية.
ويشير دونالد كلمر المتخصص في علوم الإصلاح والمؤسسات الإصلاحية بأنه" حالما تتم تنشئة النزيل وتعليمه ومرانه على ما يتوقع إتباعه في المؤسسة، فإنه يلتزم بالتالي أن يكيف سلوكه مع توقعات و ثقافة السجن([105])."
هذه الثقافة التي تعكس في مضمونها ثقافة أخرى وهي ثقافة الجريمة وتبادل الخبرات الإجرامية وصقل مواهب المبتدئين وخاصة المحكوم عليهم بعقوبات قصيرة الذين تنتزع منهم صفة الخوف والعار من العقوبة، فتصبح الجريمة عندهم شيئا اعتياديا بل ويتباهون بها([106]) أيضا من خلال الانضمام إلى عصابات من داخل السجن لتنفث سمومها على الناس بعد مغادرتها السجن، فهذا الأخير لا يمكن أن يتخلى عن صنع الجانحين([107])، أنه ثكنة من ثكنات الجرائم يثقف الجانح المبتدئ الذي نفذ أول حكم عليه كيف يتعلم من البارعين الهروب من مقتضيات القانون ويلقنه أحدث أساليب الإجرام ويصبح بالتالي من محترفي الجريمة ومرتادي السجون.
وفي ذلك يقول الفقيه الفرنسي فرانسوا فوكار " أن العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة تعتبر عاملا من شأنه تعميق السلوك الإجرامي"([108]).
فهذه العقوبة تحدث اضطرابا عميقا في حياة المحكوم عليه المبتدئ([109]) الذي يظل أسيرا لتجربة السجن، مسجونا طيلة حياته في ذكراها، مطاردا دائما بالجريمة التي ارتكبها بسبب الوصم الاجتماعي([110]) الذي لحقه ويستمر في ملاحقته حتى بعد الإفراج عنه مما يعيق مستقبله، ومن تم، إعادة احتضانه من جديد في النسيج الاجتماعي.
إن عملية وصم المحكوم عليه تؤدي إلى التقليل من مركزه الاجتماعي، وبالتالي، إلى تهميشه واعتباره مواطنا من الدرجة الثانية([111]) لا يستحق أية رعاية، فقد يزدريه وينبذه كل الأفراد الذين لهم معرفة به سواء من قريب أو بعيد وذلك خوفا على سمعتهم،([112]) فيتخذون الحيطة والحذر في التعامل معه، ولا أحد يبدي استعداده لمساعدته على إعادة مركزه الاجتماعي والاقتصادي داخل المجتمع، وهذا ما يدفع بالمحكوم عليه إلى إعادة تقييم ذاته انطلاقا من المواصفات التي خصه بها هذا المجتمع، فيقتنع بهذا التصور الإجرامي الذي سيبقى سلاحا على رقبته طوال حياته، فالمجتمع لم يراعي مصلحته وأحاسيسه ومشاعره ولم يأخذها بعين الاعتبار،([113]) فأضاف في حقه عقوبة أشد من العقوبة التي قضاها في السجن؛ إنها عقوبة الإقصاء من الحياة الاجتماعية التي طالما انتظر العودة إليها.
والغريب في الأمر، أن هذا الإقصاء الناتج عن عملية الوصم الذي يلحق بالمحكوم عليه تختلف حدته وقوته التأثيرية باختلاف نوعية الجريمة المرتكبة وبالخطورة التي ستخلفها في نفوس أفراد المجتمع: فالجريمة في القانون الجنائي التقليدي ( القتل، السرقة، الاغتصاب…) تكون أشد وقعا على مكونات المجتمع وأكثر حدة مما قد تخلفه الجريمة في القانون الجنائي للأعمال وذلك لكون هذه الأخيرة تكون غير معروفة في كامل مداها، فهي لا تعتمد على العنف- كما هو الشأن في الجرائم التقليدية- وإنما تعتمد على الحيل والمكر، ومن تم، فمجال الأعمال هو مجال إجرام الأذكياء الذي لا يثير رد فعل اجتماعي ظاهر([114]).
وهذا الوصم يزيد من عبئه ذكر العقوبة في السجل العدلي الذي يتحول هو الآخر إلى عقوبة إضافية،([115]) قد تكون أكثر قساوة وخطرا على مستقبل المحكوم عليه من العقوبة الأصلية ذاتها، فهو أي – السجل العدلي- وسيلة لحرمانه من ولوج عالم الشغل سواء في نطاق القطاع الخاص أو القطاع العام([116])، الأمر الذي يؤدي به إلى الوقوع في مثالب البطالة التي تعد حسب علماء علم الاجتماع الجنائي([117]) من مسببات الجريمة.
وهكذا، تجمع العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة بين النتيجة والسبب: فهي نتيجة لارتكاب جرم بسيط، وهي سبب لإعادة ارتكاب هذا الجرم الذي غالبا ما يكون أشد وقعا من سابقه.
والأكيد أن التبعات الاجتماعية للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة لها تداعيات وآثار جسيمة ليس فقط على حياة المحكوم عليه وإنما على أفراد أسرته وعائلته سواء خلال مرحلة تنفيذ العقوبة أو بعد تنفيذها، فأسرة السجين تتأثر وتتضرر من دخول أحد أفرادها إلى السجن خاصة إذا كان هذا الفرد يمثل مورد الرزق وسندها الأساسي في تحقيق الوظيفة المعيشية، فيضطر أفراد أسرة المحكوم عليه إلى البحث عن عمل لتوفير نفقات إعاشتهم وإعاشة المحكوم عليه خلال فترة تنفيذ العقوبة([118]).
وقد تؤدي ظروف عمل الزوجة أو الأم أو الأبناء إلى تصدع البنيان الأسري: فالتحاق الأم بالعمل وتغيبها عن أطفالها وضعف الرقابة عليهم أو انعدامها من جهة واشتغال هؤلاء الأبناء في بعض المهن كالعمل في المقاهي ودور اللهو وبيع أوراق اليانصيب ومقابلة رفاق السوء من جهة أخرى، كلها عوامل قد تؤدي إلى السقوط في هاوية الجريمة وبالتالي إلى تفكك الأسرة وضياعها([119]).
هذا الضياع الذي قد يكون ناتجا عن وصمة العار التي تلحق أيضا أفراد أسرة المحكوم عليهم وعائلتهم،([120]) وما يترتب عنها من اضطراب في العلاقات الأسرية والعائلية والتي قد تصل أحيانا إلى الشقاق والفتور ، فقد يصير المحكوم عليه حتى بالنسبة لزوجته شخصا غريبا وغير مرغوبا فيه، بل وقد تعمد إلى طلب الطلاق([121]) للتخلص من عار الزوج.
إن تعقد العلاقات الاجتماعية للمحكوم عليه ورفضه من قبل مكونات المجتمع سواء قبل دخوله السجن أو بعد استرجاعه لحريته تعقبه تعقد في المكونات النفسية للمحكوم عليه بالعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة.
فما هي مظاهر وقع هذه العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة على الجوانب النفسية والعضوية للمحكوم عليه وأفراد أسرته؟
المطلـب الثـاني:
الآثـار الـنفسـية والـعضـويـة للـعقـوبـة السـالبـة
للحـرية قـصيـرة الـمـدة
ليس من السهل حصر هذه الآثار التي تبقى عديدة ومتنوعة: فبعضها يصيب الحالة النفسية مباشرة، وبعضها يؤثر على الصحة البدنية ثم يمتد تأثيره إلى نفسية المحكوم عليه،([122]) وإلى أسرته أيضا.
فالمحكوم عليه قد يتأثر نفسيا وعضويا من جراء تنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، وهذه الآثار قد يتراخى مفعولها إلى ما بعد الإفراج.
وهناك العديد من المظاهر السلبية التي يمكن أن تتخذها الآثار التي تصيب الجوانب النفسية والعضوية للمحكوم عليه أبرزها:
I– الشعـور بالتحـقيـر الاجتمـاعي وفقـدان الذات
ينتاب المحكوم عليه بعقوبة قصيرة المدة شعور بالتحقير والاغتراب النفسي والاجتماعي،([123]) وذلك نتيجة هجره وإبعاده عن محيطه الاجتماعي، فسيطر عليه إحساس بالإحباط والمهانة و فقدان الاعتزاز بالذات أمام أسرته وعائلته والمجتمع الذي انفصل عنه بصفة عامة، مما يجعله عرضة للإصابة بالعديد من الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والقلق واضطراب النوم.
والأكيد أن لهذه الاضطرابات تأثير على الصحة البدنية للمحكوم عليه التي تتدهور يوما بعد آخر، فصدمة السجن والانفعالات النفسية والعصبية الناتجة عنها من شأنها أن تحول العقوبة الحبسية إلى عقوبة جسدية.([124])
كما أن لهذه الاضطرابات انعكاسات سلبية على تصرفات المحكوم عليه وسلوكاته الرافضة لكل القيود المفروضة عليه، والتي يجب الخضوع لها ففي "السجن تستطيع الحكومة أن تتحكم بحرية الشخص وبوقت المعتقل: وقت يقظته، وقت منامه، وقت نشاطه وراحته، وعدد ومدة وجباته، ونوعية ومقدار أطعمته، طبيعة ونتاج العمل… وحتى استعمال فكره. ([125])
وهذه القيود تشعر المحكوم عليه بالسخط وعدم الرضا، مما يفضي في الغالب إلى تزايد النزعات العدوانية([126]) إما اتجاه ذاته أو اتجاه الآخرين، وهذا ما تؤكده الإحصائيات الصادرة عن مديرية السجون وإعادة الإدماج التي أشارت إلى ارتفاع حالات ممارسة العنف المرتكب من قبل السجناء، والذي بلغ سنة 2002 إلى ما يزيد عن 1396 حالة، فنظام السجن يتأسس بامتياز على العنف والعنف المضاد، وهو ما لا يساهم في تحقيق التأهيل النفسي والاجتماعي كما هو مسطر في نصوص قانون السجون أو في القواعد النموذجية لمعاملة السجناء.
II– قتـل الشعـور بالمسؤولية والإحساس بالفراغ
تؤدي العقوبة الحبسية في كثير من الأحيان إلى قتل الشعور بالمسؤولية لدى السجناء، فهم يحبذون حياة البطالة والخمول والكسل، ويكرهون أن يلقى بهم خارج السجن ليواجهوا حياة العمل،([127]) فيصبحون عالة على أنفسهم وعلى أسرهم ومجتمعاتهم، وحتى وإن أفرج عنهم فسرعان ما يثوقون للعودة إلى السجن لإيجاد ما كانوا يفتقدونه في واقعهم الاجتماعي من مأوى ومأكل ومشرب، وخلود إلى الراحة، وهذه الظاهرة الغريبة أصبحت ظاهرة منتشرة مما قد تساعد على ارتكاب الجرائم واستفحال خطورتها.
كما تؤدي العقوبات القصيرة بالمحكوم عليهم إلى الإحساس بالفراغ وضياع الوقت في أمور تافهة لا علاقة لها بأهداف التأهيل والإصلاح كالاشتغال لوقت طويل بأوراق اليانصيب أو التعاطي للمخدرات…إنه وقت متعب وممل وليس له أية قيمة تذكر،([128]) وهذا من شأنه تحطيم شخصية السجين([129]) من الناحية النفسية والعقلية أيضا.
III– الحـرمـان الجـنسـي والأمـراض الجـنسيـة
من المساوئ التي تنتج عن تنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة حرمان السجين من إشباع حاجاته الطبيعية كمزاولة الجنس، خاصة في السجون التي لا تطيق برامج العلاقات الزوجية، فينزل السجين منزلة الأعزب، وهذا حرمان غير قانوني ولا دستوري ويتنافى والمواثيق الدولية ولا فائدة فيه([130]) لا من الناحية النفسية أو الصحية.
ولا شك أنه عائق يحول دون تحقيق هدف التأهيل والإدماج، والمحروم جنسيا داخل المؤسسات العقابية غالبا ما ينهج إحدى السبل التالية: ([131])
ü الصبر على هذا الحرمان وكبث غرائزه الجنسية، وهو ما يلتزم به قلة ضئيلة من المحكوم عليهم الذين يسيطر عليهم مشاعر الإحباط و اليأس، ويعبرون عن حرمانهم بأشكال تعبيرية مختلفة قد تصل إلى حد ارتكاب جرائم الإيذاء والقتل، فالمحروم هنا يعيش صراع بين الأنا الأعلى أي الضمير الجمعي وبين الهو مركز الغرائز.
ü الإشباع الجنسي الذاتي والذي لا يخلو بدوره من مخاطر نفسية وصحية، فهو وسيلة لإضعاف الغريزة الجنسية وسبب في الانصراف عن الصلات الجنسية الطبيعية.
ü وأخيرا قد يسلك المحروم جنسيا اتجاها مختلفا لإشباع غريزته الجنسية عن طريق تكوين علاقات جنسية مثلية([132])، ومن تم، الوقوع في براثين الشذوذ الجنسي، وهذا الاتجاه هو السائد في معظم المؤسسات العقابية كما تدل على ذلك العديد من الإحصائيات التي أجريت على عينة من المحكوم عليهم، ففي مصر أكد 26.3 % من أفراد عينة الدراسة أنهم يميلون لإشباع تلك الرغبة عن طريق الممارسة الجنسية المثلية. ([133]) أما في بلادنا، فليس هناك معالجة رقمية دقيقة لهذا المشكل، وإن كان التقرير الدوري حول السجون لسنة 2003 قد سجل 56 حالة إخلال بالحياء والتي ستكون من ضمنها طبعا، ممارسة الشذوذ الجنسي الذي أصبح حديث المهتمين بالمؤسسات السجنية([134]) والذي قد يمارس طواعية أو بالقوة([135]).
وتؤدي كل هذه الممارسات الجنسية غير الطبيعية إلى تدني المستوى الأخلاقي والديني،([136]) مما ينعدم معه التوافق بين مؤسسة السجن بوصفها وسيلة وبين التأهيل النفسي والأخلاقي بوصفه غاية.
أضف إلى ذلك انتشار الأمراض المعدية بين صفوف المحكوم عليهم كالأمراض الجلدية والصدرية والأمراض الجنسية الفتاكة( السيدا والسيلان والزهري) والتي قد تنتقل بشكل أو بآخر إلى خارج السجن([137]).
IV التعاطي للمواد المسكرة والمخدرة
إن صدمة السجن غالبا، ما تفرز العديد من الإضطرابات النفسية والعصبية والاجتماعية تجعل السجين يعاني من القلق والإحباط واليأس… وهذه الوضعية يكون لها أثر فعال في اتجاهه لتعاطي المواد المسكرة والمخدرة([138]) بدعوى تجاوز واقعه المزري ومحاولة الانفصال عنه ولو لبرهة وكيفما كانت النتائج.
والتعاطي للمخدرات بالمؤسسات العقابية هو من أبرز المشاكل التي تعرقل عملية الإصلاح وإعادة الإدماج، وذلك بالنظر إلى ما تسفر عنه هذه الآفة من انفعالات نفسية وعصبية تتأرجح ما بين المرح الصاخب والشعور بالارتياح وعدم ضبط النفس وما بين ارتكاب تصرفات مشينة وعدوانية تفضي إلى اعتداء المتعاطي على نفسه أو على الغير بواسطة آلات حادة أو بواسطة إضرام النار بالمؤسسة.
ورغم المجهودات المبذولة من طرف إدارات المؤسسات العقابية للحد من هذه الآفة والضرب على أيادي كل من يساهم من قريب أو بعيد في استفحال هذه الظاهرة بين صفوف السجناء، فإن هذه المجهودات تبقى محدودة نتيجة ضعف المراقبة وانتشار الرشوة لتسهيل عملية الترويج والاستهلاك المخدرات، الأمر الذي يؤدي إلى تزايد حدة هذا المشكل كما توضحه المعطيات الإحصائية التالية([139]):
ضبط المخدرات بالمؤسسات السجنية من سنة 1998 إلى 2003
السنة |
1998 |
1999 |
2000 |
2001 |
2002 |
2003 |
عدد حالات ضبط المخدرات |
638 |
1174 |
1109 |
1342 |
1113 |
976 |
ومعضلة المخدرات بالسجون ليست خاصية المؤسسات السجنية المغربية بل هي ظاهرة اكتسحت جل دول العالم، ففي جمهورية مصر العربية، انتهت الدراسة التي أجريت على عينة من المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة، إلى التأكيد على أن ما يزيد عن 26 % من أفراد العينة كانوا يتعاطون المخدرات بمختلف أنواعها([140]).
والأكيد أن التعاطي للمخدرات يثقل كاهل المحكوم عليه ماديا كما يثقل كاهل الدولة التي عليها أن توفر برامج علاجية لمواجهة هذا الداء، وهذا ما يبين أن العقوبة السالبة للحرية لها أيضا آثار اقتصادية جسيمة.
المطلب الثالث: الآثـار الاقـتصـاديـة للـعقـوبـة السـالبـة
للــحـريـة قـصيـرة الـمــدة
لا يمكن الادعاء بحصر الحمولة الاقتصادية للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة التي تبقى متعددة بتعدد نطاق تأثيرها وحمل عبئها سواء على الاقتصاد القومي للمجتمع أو على المحكوم عليه وأفراد أسرته وعائلته، فالكل يتأثر ماديا واقتصاديا من جراء تنفيذ هذا النوع من العقوبات سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، يقول ميشيل فوكو " إن السجن هو خطأ اقتصادي مزدوج: بصورة مباشرة من جراء الكلفة الضمنية لتنظيمه وبصورة عبر مباشرة من جراء كلفة الجنوح الذي لا يقمعه"([141]).
وهكذا فالمقاربة الاقتصادية للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة يمكن إبرازها من خلال زاويتين أساسيتين:
I – تكلفـة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة التي يتحملها الاقتصاد القومي للمجتمع
يخصص لتطبيق العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة ميزانية ضخمة ترهق خزينة الدولة، وتؤثر بالتالي سلبا على الاقتصاد القومي للمجتمع الذي هو في حاجة ماسة للاستفادة منها لحل مشكلات اجتماعية أكثر أهمية وحيوية كالتعليم والصحة مثلا.
ونستطيع أن نتلمس مدى حجم هذه الميزانية من خلال هذه الإحصاءات التي تعكس مدى تطور ميزانيتي التجهيز والتسيير المخصصة لإدارة السجون خلال السنوات الممتدة من سنة 2001 إلى سنة 2004.
تطور ميزانيتي التجهيز والتسيير الخاصة بإدارة السجون من سنة 2001 إلى غاية 2004
المجموع |
ميزانية التجهيز
|
ميزانية التسيير |
السنة المالية |
||
معدل التغيير %
|
المبلغ بالدرهم
|
معدل التغيير %
|
المبلغ بالدرهم
|
||
306770600.00
|
– |
110193000.00 |
– |
196577600.00 |
2001 |
315383000.00 |
5.64 |
116407500.00 |
1.22
|
198975500.00 |
2002 |
307366600.00
|
5.35- |
110179000.00 |
– 0.90 |
197187600.00 |
2003 |
304844100.00
|
0.00 |
110179000.00 |
1.28- |
194665100.00 |
2004 |
وإذا أخذنا الميزانية المخصصة لإدارة السجون خلال سنة 2004 والتي بلغت 304844100.00 درهم، فإن ما يزيد عن نصف هذه الميزانية (152422050) يخصص فقط لمواجهة متطلبات العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والتي تشمل نفقات التغذية والملبس والرعاية الصحية والاجتماعية ونفقات حراسة السجون التي يتم تنفيذ تلك العقوبة بها، خاصة وإن متوسط التكلفة اليومية للسجين واحد قد تصل في بلادنا حوالي 55 درهـم ([142]).
أمـا إذا سلطنا الضوء على بعض الميزانيات المخصصة لبعض السجون في العالم([143])، فسنجد أن السجون الكندية يتراوح بها متوسط التكلفة اليومية للسجين الواحد خلال العام للمالي 1992/ 1993 ما بين 80 إلى 2000 دولار كندي يوميا، في حين بلغ إجمالي التكلفة التي يتكبدها الاقتصاد القومي للإنفاق على السجون الكندية خلال نفس السنة المالية ما بين 1.5 إلى 2 بليون دولار كندي، بينما بلغ إجمالي ما أنفقته الحكومة الفيدرالية الكندية على السجون خلال العام المالي 1997 / 1998 حوالي بليون دولار كندي بمقدار زيادة10.3 % عما أنفقته الحكومة الفيدرالية خلال العام المالي 1993/1994.
أما في السجون انجلترا وويلز فقد بلغ متوسط التكلفة السنوية للسجين الواحد خلال العام المالي 2000/2001 ما يقرب 72.566 جنيه إسترليني، كما بلغت التكلفة الإجمالية التي يتكبدها الاقتصاد القومي في انجلترا للإنفاق على السجون خلال هذا العام 1.646.690.2 جنيه إسترليني.
وهكذا فإن شخصا في السجن يكلف باهظا (مارسلاشي)([144]) خاصة وأن النفقات المخصصة لتغطية مصاريف المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة هي نفقات
ذات طابع استهلاكي وليس إنتاجي أو استثماري([145])
والإنفاق الاستثماري هو الذي يترتب عليه عائد يستفيد منه المجتمع، ولا عائد للمجتمع من تطبيق العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة بصورتها التقليدية، وذلك لكون قصر مدتها لا تخول للمحكوم عليه الانخراط في أي عمل منتج([146]) يعود عليه وعلى مجتمعه بمنفعة بينة، وهذا ما جعل بنتام ينتقد السجن فيما يخص علاقة المنفعة التي يحسبها ميزة جوهرية للعقوبة الصالحة([147]).
وما يزيد من عبء هذه النفقات أن الدولة تضطر غالبا إلى بناء المزيد من المؤسسات السجنية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة.
وهكذا فقد أقدمت بلادنا خلال سنتي 2003 و 2004 على افتتاح مؤسسات سجنية جديدة كما هو مبين في الجدول التالي وكأنها الحل السحري لمعضلة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة.
المؤسسات السجنية الجديدة التي تم افتتاحها خلال سنتي 2003-2004
المؤسسات السجنية |
تاريخ افتتاحها |
المساحة المغطاة للمؤسسة بالمتر المربع M2 |
السجن المحلي بآيت ملول |
2003 |
7493.00 |
السجن المحلي بتزنيت |
2003 |
3400.00 |
السجن الفلاحي بزايو |
2003 |
2476.00 |
السجن الفلاحي بأوطيطة 2 |
2003 |
11790.00 |
السجن الفلاحي بالفقيه بنصالح |
2004 |
1960.00 |
السجن المحلي بميسور |
2004 |
287.30 |
إن تبني استراتيجية التشييد والبناء ليس الحل الأنسب لمواجهة مشاكل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، فهي لا تعتبر بأي شكل من الأشكال عامل تنمية ضمن المؤسسة العقابية([148])، وإن كان وجود هذه الإستراتيجية ضروريا لاحتضان من هم في حاجة إلى إعادة التأهيل والتربية، أما من لا يستفيد من برامج التأهيل والتهذيب داخل هذه المؤسسات، فإن التنمية بالنسبة إليه تتمثل في تطوير أساليب المعاملة العقابية التي تتخذ من نظام البدائل أساسا لها.
لكن إذا ما تجاوزنا التكلفة المباشرة للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والتي يمكن تجسيدها في بيانات إحصائية، فإن التكلفة غير المباشرة لهذه العقوبة التي يتكبدها الاقتصاد القومي للمجتمع، ليس من السهل ترجمتها إلى أرقام معبرة، وذلك لتعدد أنماطها وصورها([149])، فهي تشمل تكلفة الفرصة البديلة وتكلفة الجرائم الجديدة التي قد يرتكبها المحكوم عليه بعد الإفراج عنه نتيجة فشل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة في إصلاحه و تأهيله، أو أحد أفراد أسرته نتيجة التفكك والضياع الذي قد يلحق به، كما تشمل تكلفة تعطيل الإنتاج خاصة وأن المحكوم عليهم أشخاص أصحاء قادرون على العمل بما يخدم المجتمع واقتصاد البلاد.
وأخيرا فقد تشمل تكلفة العود الجنائي وما ينتج عنه من اكتظاظ المؤسسات السجنية التي " تعتبر وسيلة باهظة التكاليف لتحويل الأشرار إلى أشخاص أكثر شرا"([150]).
II-تكلفة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة التي تصيب المحكوم عليه وأفراد أسرته
لا تقتصر الآثار الاقتصادية والمادية لهذه العقوبة على إثقال كاهل الدولة فقط، بل يتعدى عبئها ليصيب المحكوم عليه وأفراد أسرته سواء في مرحلة تنفيذ العقوبة أو بعد إنتهاء تنفيذها.
ففي مرحلة تنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، وعلى أثر فقدان الأسرة لمورد رزقها، ([151]) تتكبد هذه الأخيرة نفقات تفوق في بعض الأحيان قدرتها المادية والاقتصادية المتاحة لها، ولذلك، فهي تضطر لتوفير موارد مالية لسد احتياجاتها واحتياجات المحكوم عليه الذي لا يساهم بحكم وضعيته في جزء منها، خاصة وأن مستوى الدخل الشهري الذي كان يحصل عليه المحكوم عليه قبل الزج به في السجن، هو مستوى جد محدود يتراوح ما بين 600 إلى 2500 درهم بالنظر إلى عدد الأفراد الذين يعولهم، وهذا ما أكدته نتائج الدارسة الميدانية التي أجريت على عدد من أسر المحكوم عليهم.
مستوى الدخل الشهري لدى أغلب العينة من مدينة القصر الكبير
عدد الأسر |
مستوى الدخل الشهري |
عدد الأفراد الذين يعولهم الشخص |
1 |
1500 درهم |
أكثر من 4 |
2 |
600 |
2 |
3 |
1000 |
4 |
4 |
2500 |
2 |
5 |
لا أعرف |
3 |
6 |
1300 |
3 |
7 |
800 |
2 |
8 |
1000 |
3 |
9 |
لا أعرف |
0 |
10 |
900 |
4 |
إن الوضعية الاقتصادية لأفراد هذه العينة-عشوائية- وإن كانت لا تعكس حقيقة المشكل في حد ذاته، فإنها تعطينا صورة تقريبية لمعاناة أسر المحكوم عليهم بعقوبة قصيرة والتي تتكبد مصاريف ونفقات مكلفة كانت ستستفيد منها لو أن سياستنا الجنائية وفرت بدائل لهذه العقوبة التي تعتبر، وبحق، خطيئة اقتصادية وعامل حيوي لوقوع أحد أفراد أسر المحكوم عليه في براثين الجريمة نتيجة لضغوطات اقتصادية ومالية تعترض حياته اليومية، فيكون القرار الذي أرسل رب العائلة إلى السجن هو ذاته يحول الزوجة والأولاد إلى الترك والتشرد والتسول([152]).
أما في مرحلة ما بعد انتهاء تنفيذ العقوبة، فإن المفرج عليه يواجهه أزمة ثانية لا تقل قساوة عن أزمة العقوبة ذاتها، أنها أزمة الإفراج ([153]) التي تتخذ عدة مظاهر أهمها صعوبة احتضانه في النسيج الاقتصادي والذي يعد أهم آلية من آليات الإدماج والتأهيل والتي تحرص مؤسسة الرعاية اللاحقة في العديد من الدول على التأكيد على أهميتها في المعاملة العقابية.
والرعاية اللاحقة تعني إعطاء المساعدة المادية والمعنوية للمفرج عنهم بغية تسهيل عودتهم إلى الحياة الحرة وتكيفهم مع الوسط الاجتماعي ([154]).
وفي غياب هذه الرعاية في بلادنا يبقى من الصعب على المفرج عنه إن لم نقل من المستحيل الحصول على عمل وإعادة عمله القديم، فلا الدولة تقبل إرجاعه إلى وظيفته و لا رب العمل يتيح له تلك الفرصة([155]).
وقد رصد أحد الباحثين ([156]) مدى تمكن الشخص العائد من الحصول على فرصة عمل عقب خروجه من السجن، فكانت النتائج التالية المبينة في هذا المبيان.
لم يجدوا عمل بصعوبة بكل سهولة
فكما هو موضح في الشكل أعلاه، يتبين أن من بين 58 سجينا الذين سبق لهم دخول السجن، وجد ثلاثة فقط فرصة العمل بسهولة عقب خروجهم الأول من السجن ( غالبا في تجارتهم أو أعمالهم الحرة) في حين وجد 33 سجينا من بين 58 صعوبة كبيرة في إيجاد عمل بينما لم يتمكن 21 سجينا من الحصول على فرصة عمل عقب الخروج من السجن.
ويرجع الباحث أسباب عدم قدرة السجين في الحصول على عمل بعد خروجه من السجن إلى عدم كفاءة السجين وإما إلى صفته كسجين سابق، هذه الصفة التي تلاحقه في كل مكان وتعيقه عن الاستمرارية في الحياة، بل و قد تؤدي به إلى العودة إلى الإجرام والزج به من جديد في السجن والمساهمة في تزايد عدد الوافدين على المؤسسات السجنية التي تعاني من مشكلة الاكتظاظ.
المطلب الرابع: اكـتظـاظ السـجـون
إن احتلال العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة مركز الصدارة من حيث الأهمية في النظم العقابية الحديثة، وإسراف القضاء في النطق بهذه العقوبات، ([157]) طرح أزمة الاكتظاظ التي تعتبر أولى الإشكاليات التي تعاني منها المؤسسات السجنية بالنظر إلى محدودية الطاقة الإيوائية المخصصة للساكنة السجنية.
فباستقراء واقع السجون ببلادنا خلال الفترة الممتدة ما بين 1997 إلى غاية 31/12/2004 يتبين أن عدد السجناء بالمملكة لا زال يعرف منحى تصاعديا، بالرغم من استفادة عدد كبير من السجناء من العفو الملكي السامي في العديد من المناسبات الدينية و الوطنية، وهذا ما يوضحه الشكل التالي:
إن استقراء الوضعية الجنائية للمعتقلين وفق الإحصائيات المنجزة خلال السنوات الأربع الأخيرة يوضح بجلاء أن عدد المعتقلين المحكومين بعقوبات قصيرة المدة يبقى هو المهيمن على الخريطة السجنية، ببلادنا كما سبق الإشارة إلى ذلك سالفا، ومن تم، تعد هذه العقوبة من أهم أسباب ازدحام السجون ([158]).
وهذه الوضعية ليست مقتصرة على بلادنا فقط، وإنما هي ظاهرة عالمية تعاني منها جل المؤسسات السجنية بالعالم ([159]) والتي تسعى إلى التخفيف من حدتها وآثارها عن طريق تبني تدابير بديلة للسجن.
ففي مصر مثلا تشير بعض الإحصائيات لسنة 1998 إلى وجود 80.000 سجين، وفي فرنسا بلغ عدد السجناء سنة 2001، 64376 سجين، كما يلاحظ ارتفاع عدد السجناء في ألمانيا إلى 79348 خلال سنة 2000، أما في إسبانيا فيبلغ عدد سجناءها سنة 2001 إلى حوالي 54633 سجين.
ويترتب عن هذا الاكتظاظ جملة من المشاكل([160]) التي تتراكم على الإدارة السجنية في ظل الإمكانيات المادية والبشرية المحدودة، والتي لا ترقى إلى ما تصبو إليه السياسة العقابية الحديثة، فاكتظاظ السجون يؤدي إلى عرقلة العملية العقابية في مجموعها، مما يحول دون تطبيق أي برنامج إصلاحي متكامل يستفيد منه السجناء سواء المحكوم عليهم بعقوبات قصيرة أو المحكوم عليهم بمدد طويلة، فغالبا ما يؤدي اكتظاظ السجون إلى حرمان بعض المسجونين من الاستفادة من نظام التفريد الإداري، كما أن القائمين على إدارة السجون، وفي ظل معضلة الاكتظاظ، ينشغلون فقط بترتيبات إدارية معقدة تسمح لهم باحتواء العدد الهائل من المحكوم عليهم الوافدون على المؤسسات السجنية، بغض النظر عن وضعيتهم الجنائية، فالمحكوم عليهم بعقوبات قصيرة يودعون تحت سقف واحد مع المحكوم عليهم بمدد طويلة- وهذا ما لمسته عند زيارة السجن المحلي بطنجة- الأمر الذي يستنفذ قدرا كبيرا من جهد العاملين بالمؤسسات، فلا يتسنى لهم تركيز جهودهم لخدمة المودعين بالمؤسسة لمدد طويلة([161]).
وغير خاف على أحد ما لهذه الوضعية من تأثير سلبي على عمليات التأهيل النفسي والاجتماعي للمحكوم عليهم بعقوبات قصيرة: فاختلاط هؤلاء بأنماط شاذة من المجرمين ذوي الخطورة الإجرامية، من شأنه أن يؤدي ليس فقط إلى نقل البيئة الإجرامية إلى الجدد، بل أيضا إلى ترويج أساليب ارتكاب الجريمة والتفنن في استخدامها،([162]) ويكون بذلك قد عبر النزيل المبتدئ عن انتمائه نهائيا لعالم الإجرام، فلا يخرج من السجن إلا ليعود إليه.([163])
وهذه حقيقة أكدتها العديد من الدراسات الميدانية التي أجريت على عدد من المحكوم عليهم: ففي جمهورية التشيك بلغ العدد الإجمالي للسجناء العائدين مما كان لديهم سابقة إجرامية قضائية واحدة سنة 1995، إلى 1789 سجين،([164]) أما في فرنسا فإن حالات العود وصلت إلى 60 % خلال السنوات الأربع التي تلي قضاء العقوبة،([165]) وفي بريطانيا تبين أن ثلاثة أرباع الشباب البريطاني الذين غادروا السجن سنة 1987 عادوا إلى الجريمة خلال السنتين المواليتين وأن 40% منهم عادوا إلى السجن.([166])
وفي بلادنا، وفي غياب إحصائيات دقيقة عن العود، فإن التزايد المستمر لعدد السجناء الذي ارتفع سنة 2004 إلى 58067 معتقلا، وهذا العدد يشكل نسبة مرتفعة تقارب 0.1 % تقريبا بالنسبة لعدد السكان مقابل 0.1 بالنسبة لأغلب دول العالم،([167]) يؤكد بدون مجال للشك أن ظاهرة العود الجنائي من السمات الأساسية للسياسة العقابية المغربية والتي تعكس بصورة حقيقية فشل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة في تحقيق الأهداف التربوية والإصلاحية المتوخاة من العملية العقابية.
علاوة على ذلك، فإن مشكلة الاكتظاظ تؤدي إلى تدهور الحالة الصحية للنزلاء، فتلوث الهواء وتدني مستوى النظافة([168])، يكون وراءهما انتشار العديد من الأمراض، مثل الأمراض الجلدية وأمراض الجهاز التنفسي والأمراض الجنسية الناتجة عن التلاصق والاحتكاك… وبذلك يصبح السجن وكرا من أوكار الفساد والانحراف.
واكتظاظ السجون يتناقض تماما، مع القاعدة 57 من قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين التي تنص أنه " يجب ألا يزيد نظام السجن من العناء المتمثل في تجريد الشخص من تقرير مصيره وحرمانه من حريته، ولذلك تتطلب الفقرة الثانية من القاعدة 63 ألا يكون عدد المسجونين المودعين في المؤسسات المغلقة كبيرا لدرجة تعوق تفريد المعاملة، وترى بعض الدول أن تعداد نزلاء في مثل هذه المؤسسات يجب ألا يتعدى الخمسمائة نزيل، أما المؤسسات المفتوحة فيجب أن يكون تعداد النزلاء بها أقل ما يمكن.
وقد تضمنت العديد من المؤتمرات الدولية والعربية،([169]) جملة من التوصيات الداعية إلى التخفيض من حدة اكتظاظ السجون من خلال العمل على تطبيق مبدأ التفريد التنفيذي للمعاملة العقابية، والدعوة إلى إنشاء مؤسسات مفتوحة قادرة على تطبيق البرامج التقويمية والتأهيلية للمحكوم عليهم، وأن تكون سعة هذه السجون في حدود مئة سجين.
إن واقع العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة وما تخلفه من مساوئ خطيرة على مستقبل المحكوم عليه وأسرته في مختلف مناحي الحياة، وعلى مستقبل العدالة الجنائية وتأثيرها السلبي على أغراض العقوبة، لمن المبررات الداعية إلى تبني استراتيجية جديدة في السياسة الجنائية المغربية تعتمد على نظام البدائل الذي أصبح يعرف تطورا ملحوظا في بعض التشريعات المقارنة بالنظر إلى أهميته في تحقيق أهداف الإصلاح والتهذيب وفعاليته في تجنب الحمولة السلبية للعقوبات القصيرة. لذلك فالمشرع المغربي مدعو اليوم إلى تحديث ترسانته التشريعية بما يتلاءم والمستجدات التي يفرزها تطور الفكر الجنائي المقارن لتنصهر عدالتنا الجنائية ضمن ما أصبح يعرف بالعالمية([170]).
البـاب الثـانـي: الوجـه الجـديـد للـعقـوبـة السـالبـة
للـحـريـة قـصيـرة الـمـدة
بعد أن اتضح بشكل جلي مساوئ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة التي ينتج عنها عراقيل موضوعية وذاتية تحول دون تحقيق أهداف التأهيل والإصلاح المتوخاة من العملية العقابية، تعالت الأصوات المنادية بضرورة إيجاد بدائل لها سواء على صعيد الفقه الجنائي أو على صعيد المؤتمرات الدولية، بحيث تقررها السياسات التشريعية، وتنظمها في إطار نظام قانوني سليم، وتوضع تحت نظر القاضي ليختار منها ما هو أنسب لحالة المحكوم عليه الذي هو في حاجة إلى معاملة عقابية غير سالبة للحرية، تهدف إلى الإصلاح والتأهيل كأسمى أهداف السياسة العقابية الحديثة.
هذا، وقد ابتكرت السياسة الجنائية المعاصرة جملة من البدائل تكفل تجنب المساوئ السابقة للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، يمكن ردها إلى نوعين رئيسيين:
– بدائل تجد أساسها في نطاق النظام الجنائي (الفصل الأول).
– بدائل تجد أساسها خارج نطاق النظام الجنائي (الفصل الثاني).
الفصل الأول: البـدائـل السـالـبة للـحريـة قـصيـرة
المـدة فـي نطـاق النظـم الجـنائـية
تتضمن النظم الجنائية أشكال متعددة من البدائل يمكن إحلالها محل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، وتختلف هذه الأشكال باختلاف طبيعتها: فمنها ما يقيد حرية المحكوم عليه دون سلبها (المبحث الأول)، ومنها ما يمس ذمته المالية (المبحث الثاني)، ومنها أيضا ما يحرمه من التمتع من بعض الحقوق والمزايا أو يفرض عليها قيود معينة (المبحث الثالث).
المبحث الأول: البـدائـل الجـنائيـة المـقيـدة للحـريـة
تتعدد أشكال البدائل الجنائية التي تفرض بعض القيود على حرية المحكوم عليه: فهناك عقوبة الاختبار القضائي، وعقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة، وأخيرا الوضع تحت المراقبة الإلكترونية، وسأخصص لكل منها مطلبا مستقل.
المطلـب الأول: الاخـتبـار الـقضـائـي
على ضوء الانتقادات التي وجهت لنظام وقف تنفيذ العقوبة المجرد، والذي وإن كان يعتبر كمؤسسة بديلة للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، فإن قيمته العقابية لم ترقى إلى تطلعات السياسة الجنائية المعاصرة التي تجعل من الوقاية من الجريمة هدفا لها، فهو لايوفر معاملة عقابية إيجابية تعمل على مساعدة المحكوم عليه على استئصال عوامل الانحراف من نفسه والعودة إلى المجتمع سليما منها([171]).ولذلك اتجهت الكثير من التشريعات الجنائية إلى تطوير هذا النظام، وجعله أكثر تأقلما مع أهداف السياسة المعاصرة من خلال تطعيمه بتدابير وإجراءات إشراف ومراقبة ومساعدة المحكوم عليه وفرض جملة من الالتزامات يتوجب احترامها خلال فترة التجربة، وبذلك أصبح لهذا النظام ملامح جــديدة ([172])أبرزها وقف التنفيذ مع الاختبار القضائي، أو ما يطلق عليه بالاختبار القضائي.
ولتسليط الضوء أكثر على هذا النظام، نتوقف عند الفقرات التالية:
الفقرة الأولى : مفـهـوم الاخـتبار القـضائـي وطـبيعتـه
ذهب بعض الفقه العربي([173]) إلى تعريف الاختبار القضائي بأنه « نظام عقابي قوامه معاملة تستهدف التأهيل أساسا وتفترض تقييد الحرية عن طريق فرض التزامات والخضوع لإشراف شخص، فإن تبث فشلها استبدل بها سلب الحرية » فيما ذهب البعض الاخر([174]) إلى اعتبار« الاختبار القضائي بأنه نظام يحقق الدفاع عن المجتمع عن طريق حماية نوع من المجرمين المنتقين بتجنيبه دخول السجن وتقديم المساعدة الإيجابية له تحت التوجيه والإشراف والرقابة» كما لخص بعض الفقه([175]) مفهوم الإختبار القضائي من خلال إبراز جميع العناصر الأساسية والفرعية المكون له، وتتحدد هذه العناصر فيما يلي:
ü الاختبار القضائي هو تدبير علاجي من تدابير الدفاع الاجتماعي.
ü يطبق على فئات مختارة من المجرمين القابلين للإصلاح والتقويم.
ü من مقتضاه أن يوقف القاضي النطق بالعقوبة ويفرج عن المجرم لتجنيبه مساوئ عقوبة الحبس القصير المدة
ü ثم يعهد به إلى مساعد الاختبار القضائي الذي يتعهده بالإشراف الاجتماعي الكفيل بإصلاحه وتقويمه وإعادته إلى أحضان المجتمع مواطنا صالحا.
وقريبا من هذه التعاريف عرف تشارلسن شوت ومارجوري بل الاختبار القضائي بأنه « الطريقة التي يعامل بها المذنب أمام المحكمة والتي يفرج عنه فيها وفقا لشروط تحددها المحكمة مع تكليف ضابط الاختبار(أو المشرف) بالإشراف عليه وعلاج حالته. ([176])
والملاحظ أنه على الرغم من وجود اختلاف وتباين في التعبير عن محتوى هذا النظام، فإن هذه التعاريف تعكس في جوهرها أمرين أساسيين:
أولهما تقييد حرية المحكوم عليه عن طريق فرض التزامات معينة وإخضاعه لرقابة وإشراف هيئة أو مؤسسة مختصة، وثانيهما احتمالية تطبيق العقوبة عند فشل النظام في إصلاح الخاضع له.
وعلى ذلك، فإن الاختبار القضائي هو نمط من أنماط المعاملة العقابية المعتمدة في الوسط الحر، القائم على تقييد حرية بعض المجرمين المنتقين انتقاءا خاصا بفرض التزامات عليهم مع خضوعهم لرقابة ومساعدة جهة مختصة تتعهد بتوفير مقومات التهذيب والتقويم مما يباعد بينهم وبين العودة إلى الجريمة من جديد.
الفقرة الثانية: شـروط الاختبار القضـائي في التشريعـات العقابية
لئن كان نظام الاختبار القضائي يدخل ضمن نطاق سلطة القاضي التقديرية، فإنه مع ذلك، ليس طليقا من أي شرط بل ينبغي لتقريره جملة من الشروط.
ويمكن تقسيم هذه الشروط إلى : شروط موضوعية (أولا) وأخرى اجرائية(ثانيا).
أولا: الشـروط الموضوعـية
الشروط الموضوعية الواجب توافرها لتطبيق هذا النظام متعددة: فمنها ما يتعلق بالمحكوم عليه الذي يمكن أن يستفيد من الوضع تحت الاختبار، ومنها ما هو متعلق بالجريمة المرتكبة، وهناك أيضا شروط تتعلق بالعقوبة المراد وقف تنفيذها.
1. الشروط المتعلقة بالجاني
لا يطبق الاختبار القضائي إلا على من كان جديرا بالمعاملة العقابية في الوسط الحـر، ([177]) وجدارة المتهم من عدمه تتوقف على ما أثبته البحث الاجتماعي([178]) السابق على الحكم من نتائج ترجح جدوى هذا التدبير وملائمته لشخصية المتهم وللمجتمع أيضا، ومدى نجاحه في تحقيق أهداف التأهيل والإصلاح.
وإذا كان المبدأ المتبع في هذا الصدد، أن للقاضي سلطة تقديرية واسعة في تحديد مدى فعالية الاختبار القضائي كعقوبة بديلة، فإن بعض التشريعات العقابية قد حددت من تلك السلطة وفرضت عليها بعض القيود أبرزها:
أ. ســن الـمتهـم
تفرض بعض التشريعات العقابية لإقرار نظام الاختبار القضائي، ضرورة مراعاة سن المتهم بحيث تجعل تطبيق هذا النظام قاصرا على الأحداث دون البالغين([179])، بحجة أنه الأنسب لشخصيتهم التي لا تدل على خطورة إجرامية واضحة، ومن التشريعات العقابية التي أخذت بهذا التوجه: التشريع العقابي المصري، والتشريع العقابي الليبي، التشريع العقابي اليوناني، وقانون الأحداث الفرنسي.
إلا أن هذا التوجه، أصبح لا يتماشى مع مقتضيات السياسة الجنائية الحديثة التي أكدت على إمكانية استفادة البالغين أيضا من هذا النظام، خاصة وان من هؤلاء من لا يتوافر لديهم خطورة إجرامية، ولديهم قابلية كبيرة للاستفادة من أوجه الإصلاح والتقويم([180]).
ب. سـوابـق الـمتـهـم
اتجهت بعض التشريعات العقابية – كالتشريع النرويجي والفلندي والسويدي والألماني- ([181])إلى قصر نطاق تطبيق الاختبار القضائي على من يخلو سجله الاجرامي من أي سوابق قضائية([182])، وذلك تفاديا لدخولهم السجن وحماية لهم من بيئته الفاسدة، في حين لم تولي بعض التشريعات العقابية الأخرى – فرنسا، هولندا، بلجيكا،- أي اهتمام للماضي الإجرامي للمتهم،([183]) وأقرت امكانية الاستفادة من نظام الاختبار القضائي لكل من المبتدئ والعائد على السواء، بل ويمكن لهذا الاخير أن يستفيد منه ولو سبق أن أدين بعقوبة الحبس مع الوضع تحت الاختبار القضائي([184]).
لكن، وعلى ما يبدو، فإن استفادة المجرم العائد من هذا النظام قد لا يتماشى مع الأهداف الإصلاحية التي أنشئ من أجلها، فهو عبر عن فشله في التجارب معه، ولم يعد جديرا بهذه المعاملة، ومن تم، فليس هناك مبرر لإعادة خوض التجربة من جديد، وإن كانت هناك إمكانية لاستبدال هذا النظام بعقوبة بديلة أخرى تكون اكثر فعالية واكثر ضمانة لتحقيق ما لم يحققه الاختبار القضائي.
ج. رضــا الـمتـهـم
تلزم بعض التشريعات العقابية- كالتشريع العقابي البلجيكي-([185]) القاضي بضرورة موافقة المحكوم عليه للخضوع للاختبار القضائي كضمانة للتعاون([186]) بينه وبين الجهات المشرفة، في حين لا تشترط تشريعات أخرى مثل هذا الشرط، ومن ذلك التشريع العقابي الفرنسي الذي لا يعتد في تطبيقه للاختبار القضائي برضا المحكوم عليه، بل يفرضه عليه فرضا([187])، ولعل هذا الاتجاه الأخير أقرب إلى الصواب، ذلك أن الطبيعة العقابية لهذا النظام تتنافى ورضا المحكوم عليه الذي يجب عليه أن يمتثل لما حكم عليه([188]).
2. الشروط الخاصة بالجريمة
يمكن القول أن الشروط الخاصة بالجريمة الجائز الحكم من أجلها بالاختبار القضائي تتمحور أساسا حول معيار واحد وهو قلة جسامة الجرم المرتكب ومدى مساسه بالشعور العام بالعدالة الكامن داخل نفوس أفراد المجتمع، فإذا كان ضئيلا وهامشيا، أمكن لمرتكبيه الاستفادة من نظام الاختبار القضائي، أما إذا كان الفعل الجرمي جسيما، ومن فئة الجرائم الخطيرة، استبعد تطبيق هذا النظام.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، يبقى هذا المعيار نسبي، ويختلف باختلاف التشريعات الجنائية، فالتشريع الجنائي الفرنسي يشترط في الجريمة التي يمكن أن يحكم بوقف تنفيذ عقوبتها مع الوضع تحت الاختبار، جناية أو جنحة من جرائم القانون العام (الفصل 132/ 141 ق.ج.ف) ([189]) مستبعدا بذلك المخالفات وباقي الجرائم غير العادية كالجرائم السياسية والجرائم العسكرية، لأن مرتكبي مثل هذه الجرائم ليسوا بحاجة إلى إجراءات المساعدة و الرقابة التي يتضمنها الاختبار القضائي، كما استبعد من نطاق الاختبار القضائي بعض الجرائم الخطيرة، ([190]) مراعاة لمصلحة الجماعة في تحقيق العدالة والردع العام وإرضاء الشعور الجماعي.
أما التشريع الإنجليزي، فإنه لا يستبعد من نطاق الاختبار القضائي إلا الجرائم المعاقب عليها بالإعدام أو السجن مدى الحياة([191]) شأنه في ذلك شأن بعض القوانين في بعض الولايات المتحدة الأمريكية.([192])
ولقد اعتنقت بعض التشريعات العربية مبدأ الجرائم المستثناة وأوصت بتطبيق الاختبار القضائي على جميع الجرائم باستثناء الجرائم المعاقب عليها بالإعدام أو بالغرامة (التشريع الجزائي الكويتي) ([193]) أو تلك الماسة بأمن الدولة أو القتل، الحريق، المخدرات والجرائم المنظمة (مشروع قانون العقوبات المصري) ([194]).
3. الشروط المتعلقة بالعقوبة
حدد المشرع الفرنسي طبيعة العقوبة التي يجوز الحكم بها مع وقف التنفيذ والوضع تحت الاختبار في كونها عقوبة حبسية لا تزيد مدتها على خمس سنوات ( المادة 132/ 41 ق.ج.ف) (المـادة 738 ق.م.ج.ف) لـجناية أو جنـحة مـن جرائـم القانون العـام([195])،ومعنى ذلك أنه استبعد من نطاق الاختبار القضائي العقوبات الجنائية والمخالفات والغرامة الجنائية وكافة العقوبات التي تستخدم كبديل للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة.
ولعل هذا الحصر يتماشى مع الغرض الذي أنشئ من أجله هذا النظام باعتباره أسلوب للمعاملة العقابية يكفل إصلاح بعض المجرمين، وخاصة الذين لا يجدى في تأهيلهم سلب الحرية لمدة قصيرة([196]).
ثـانيـا: الشــروط الإجــرائـيـة
تتمثل الشروط الإجرائية لنظام الاختبار القضائي في إنذار المحكوم عليه بمركزه القانوني الذي آل إليه (أ) وضرورة احترام إجراءات المراقبة والمساعدة التي تقوم بها الجهة المختصة (ب).
أ. إنذار المحكوم عليه بمركزه القانوني الجديد
بعد الحكم بإخضاع المحكوم عليه لنظام الاختبار القضائي يلزم على رئيس المحكمة أن يعلم المستفيد منه بالنتائج التي يمكن أن تترتب على الحكم عليه، بجريمة جديدة يرتكبها خلال فترة التجربة، أو عند إخلاله بالالتزامات والقيود المفروضة عليه([197])، كما ينبغي إعلامه أيضا بإمكانية أن يصبح الحكم كأن لم يكن إذا برهن عن جدارته واستعداده للتأهيل وسلوك مسلك مرض([198]).
ب. تتبع إجراءات الإشراف والمراقبة من طرف جهة مختصة
تسند إجراءات الإشراف والمراقبة في بعض التشريعات العقابية إلى كل من الجهتين التاليتين:
* ضابط الاختبار القضائي
يقوم ضابط الاختبار القضائي بدور هام في تفعيل مقتضيات نظام الاختبار القضائي والتي تتطلب إجراءات فنية أساسها الإشراف والمساعدة والتوجيه إلى الأسلوب الأمثل المتفق والقيم الاجتماعية([199]) السائدة في المجتمع.
وهو في تحقيق ذلك، يعمل على:
1. التحقق من مدى وفاء والتزام المحكوم عليه بتنفيذ الالتزامات المفروضة عليه في منطوق الحكم.
2. إقناع المحكوم عليه بأهمية هذه الالتزامات في تعديل سلوكياته التي أدت به إلى درب الجريمة([200]).
3. إعداد تقارير دورية عن سلوك المحكوم عليه([201])، وعن مدى تجاوبه مع نظام الاختبار القضائي وإرسالها إلى قاضي تطبيق العقوبة.
وعلى ذلك، فإن ضابط الاختبار القضائي يعد صلة الوصل بين المحكوم عليه والقاضي المختص، وحلقة جوهرية لمساعدة هذا الأخير في تكوين رأي حول مدى استحقاق المحكوم عليه للاختبار القضائي من عدمه.
* قاضي تطبيق العقوبة
يمثل قاضي تطبيق العقوبة العصب الحيوي للإختبار القضائي، فهو الذي يعمل على خلق التوازن بين تدابير الإشراف والمساعدة وحقوق الخاضع للاختبار([202])، من خلال إدارته للاختبار أولا واتخاذ القرارات اللازمة لتنفيذه ثانيا.
فقاضي تطبيق العقوبة يقوم بتعيين ضابط الاختبار وتوجيه وإصدار التعليمات إليه، والتأكد من كفاءته في تأدية مهام وظيفته، ويتلقى التقارير الدورية التي ينجزها عن سلوك الموضوع تحت الاختبار والتي على ضوءها يتخذ القرار المناسب لتحقيق الهدف من الوضع تحت الاختبار وهو تأهيل المجرم اجتماعيا، فله أن يلغي أو يعدل من الإجراءات والإلتزامات المفروضة عليه([203])، أو تحويل الأمر إلى المحكمة التي أصدرت الحكم لتوقيع عقوبة بديلة للاختبار القضائي بعد إعادة فحص المحكوم عليه([204]).
الفـقرة الثالـثة: آثـار الـوضـع تـحـت الاخـتبار
إذا توافرت شروط الوضع تحت الاختبار واقتنع القاضي بهذا الوضع، فإن المحكوم عليه يستفيد من إمكانية تعليق تنفيذ العقوبة خلال فترة التجربة مع التزامه باحترام قيود المراقبة والمساعة وكذا الالتزامات المفروضة عليه.
I– إمكانية تعليق تنفيذ العقوبة خلال فترة التجربة
كما هو الشأن بالنسبة لوقف التنفيذ البسيط، فإن الحكم بالوضع تحت الاختبار يترتب عليه تعليق العقوبة المحكوم بها طيلة فترة التجربة ([205])التي تبدأ من تاريخ صيرورة الحكم نهائيا، بيد أن هذا التعليق يبقى مشروطا بعدم إلغاء وقف التنفيذ([206])، أي بنجاح فترة التجربة([207]) الذي يعكس جدارة المحكوم عليه بهذه المعاملة العقابية وبإمكانية استرداد مكانته في المجتمع.
فإذا مضت مدة التجربة دون إلغاء الاختبار القضائي، فإن وقف التنفيذ يصبح نهائيا، ويصبح الحكم بالإدانة كأن لم يكن، بل الأكثر من ذلك يمكن اعتبار الحكم كأن لم يكن بالرغم من عدم انتهاء مدة التجربة، شريطة أن يثبت المحكوم عليه للمحكمة أنه قد نفذ الالتزامات المفروضة عليه، وأن يمر عام من تاريخ صدوره الحكم المشمول بوقف التنفيذ([208]).
وشمول الحكم بوقف التنفيذ نهائيا لا أثر له على العقوبات التبعية و العقوبات المالية التي يبقى تنفيذها شرطا لاعتبار الحكم كأن لم يكن([209]).
لكن إذا ألغي نظام الاختبار القضائي، فإن إمكانية تعليق تنفيذ العقوبة تزول وتعود للحكم قوته التنفيذية، وتطبق العقوبة كليا أو جزئيا بحق المحكوم عليه([210]).
ويلغى نظام الاختبار القضائي حين يثبت المحكوم عليه بأنه غير جدير بهذه المعاملة، وأنه غير صالح للتأهيل إلا عن طريق إيقاع العقوبة عليه، وذلك نتيجة عدم قيامه بتنفيذ التدابير والالتزامات المفروضة عليه بقوة القانون أو بموجب حكم القضاء، أو نتيجة لارتكابه خلال فترة الاختبار جريمة جديدة من نوع الجناية أو الجنحة من المنصوص عليها في القانون العام وصدور حكم فيها بعقوبة سالبة للحرية بدون وقف التنفيذ.
II– خضوع المحكوم عليه خلال فترة التجربة لتدابير المراقبة والمساعدة والتقيد بجملة من الالتزامات
إن من الخصائص المميزة لنظام الاختبار القضائي، تقييده لحرية المحكوم عليه بجملة من الالتزامات والتدابير التي تعكس في جوهرها إيجابية هذا النوع من المعاملة العقابية، فمن خلالها يمكن توجيه المحكوم عليه على النحو الذي يقوي لديه إرادة التأهيل والإصلاح الاجتماعي([211]) ويعيينه على التخلص من العوامل الإجرامية التي أدت به إلى سلوك طريق الجريمة.
وتختلف مسألة تحديد هذه الالتزامات والتدابير باختلاف السياسات التشريعية،([212]) فالبعض يحددها على سبيل الحصر ويقيد القاضي بالتزامات وتدابير معينة، والبعض الآخر يخول للقاضي سلطة تقديرية واسعة في اختيار وفرض الالتزامات التي يراها ملائمة لشخصية المحكوم عليه، فيما يتخذ البعض الثالث موقفا وسطا حيث يفرض المشرع مجموعة من الالتزامات، وهي ذات طبيعة قانونية يلتزم القاضي بفرضها على جميع الموضوعين تحت الاختبار بقوة القانون، ثم يترك للقاضي حرية إضافة التزامات ثانوية قد يعتبرها مناسبة لحالة الخاضع للاختبار([213]).
ويأخذ المشرع الفرنسي في تحديده للالتزامات والتدابير المفروضة على المحكوم عليه الخاضع للاختبار القضائي، بالنظام التوفيقي حيث يميز في هذا الصدد بين الالتزامات العامة التي تطبق على المحكوم عليه بقوة القانون، وبين الالتزامات الخاصة التي يجوز للقاضي إلزام المحكوم عليه بتنفيذ واحد أو أكثر منها خلال فترة الاختبار.
وهكذا نص المشرع الفرنسي في المادة 132-44 من قانون العقوبات على الالتزامات العامة ذات الطبيعة القانونية، وذلك على سبيل الحصر، وتتمثل فيما يلي:
1. الاستجابة لاستدعاءات قاضي تطبيق العقوبة أو ضابط الاختبار القضائي.
2. استقبال المحكوم عليه لضابط الاختبار القضائي وتمكينه من المعلومات و الوثائق التي يطلبها منه.
3. إخطار المحكوم عليه ضابط الاختبار القضائي بأي تغيير يلحق في مكان عمله.
4. إبلاغ ضابط الاختبار القضائي بأي تغيير في محل إقامته، وإخباره عن أي تنقل تتجاوز مدته 15 يوما وإعلامه بتاريخ العودة.
5. الحصول على تصريح مسبق من قاضي تطبيق العقوبة عند سفره للخارج.
وتندرج هذه الالتزامات ضمن تدابير المراقبة، أما تدابير المساعدة (المادة 132-46 ق.ج.ف) فقد تكون معنوية كإرشاد المحكوم عليه إلى حسن استغلال أوقات فراغ،([214]) كما قد تكون مادية كمساعدته في الحصول على عمل أو مسكن([215]).
وإلى جانب هذه الالتزامات العامة، نص المشرع الفرنسي في المادة 132-45 على التزا مات خاصة يمكن للقاضي أن يختار منها ما يراه ملائما لحالة المحكوم عليه وتتمثل هذه الالتزامات فيما يلي:
1. ممارسة نشاط مهني أو تكوين مهني أو تعليم.
2. الإقامة في مكان معين.
3. الخضوع للفحص الطبي وتنفيذ برامج العلاج وإقامته في المستشفى إذا اقتضى الأمر ذلك.
4. المساهمة في النفقات العائلية وأداء التزامات النفقة على نحو منتظم.
5. تعويض جزئي أو كلي عن الأضرار الناجمة عن ارتكاب الجريمة.
6. إثبات أداء الديون المترتبة عليه لفائدة الخزينة العامة تبعا لصدور حكم قضائي.
7. الامتناع عن قيادة أنماط معينة من السيارات.
8. الامتناع عن معاودة العمل في النشاط الذي بسببه أو بمناسبته ارتكبت الجريمة.
9. الامتناع عن الظهور في أماكن معينة.
10. الامتناع عن القيام بأعمال المراهنات.
11. عدم التردد على حانات الخمور.
12. عدم التردد على بعض المحكوم عليهم خاصة المساهمين في الجريمة.
13. الامتناع عن تكوين علاقات مع بعض الأشخاص، خاصة ضحايا الجريمة.
14. الامتناع عن حمل أو حيازة السلاح خلال فترة الاختبار.
هذه إذن الالتزامات المفروضة على المحكوم عليه الخاضع للاختبار القضائي والتي وإن كانت تقيد من حريته، فإنها في جميع الأحوال أقل إيلاما من حرمانه تماما من الحرية عن طريق الحبس.
الفقرة الرابعة: مـدى مـلاءمـة الاخـتبار القـضائـي كبديل
فـي الـتشريـع الجـنائـي الـحـديـث
يمثل نظام الاختبار القضائي مرحلة جد مهمة من تاريخ تطور السياسة الجنائية الحديثة، إذ يعتبر في جوهره من أنجح البدائل الهامة للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة([216])، التي أثبتت عدم جدواها، وبالتالي فهو يجنب المحكوم عليه وأفراد أسرته وعائلته مساوئ الإيداع في السجن مع مد يد العون إلى الخاضع تحت الاختبار ومساعدته على استعادة مكانته داخل المجتمع، ولذلك قيل بأن الاختبار القضائي نظام يحقق فائدة مزدوجة([217]): فهو يتيح من جهة فرصة جديدة للمحكوم عليه للبدء في حياة اجتماعية جديدة بعيدا عن البيئة الفاسدة للسجن، ويكفل له من جهة ثانية إمكانية الاستفادة من تدابير المراقبة والمساعدة التي توجهه على الوجه الذي يضمن إعادة بناءه اجتماعيا([218]).
والأكيد أن هذه المزية المزدوجة هي التي تضفي على هذا النظام طابعا إيجابيا، بل وطابعا علميا، وذلك من خلال استفادة من نتائج العديد من العلوم الجنائية، فهو يستعين بنتائج علم الإجرام في تحديده للحالة الإجرامية للمحكوم عليه ومدى ملاءمة الاختبار القضائي لشخصيته الإجرامية التي يسبقها فحص من مختلف الجوانب النفسية والاجتماعية والبيولوجية …للتعرف على قابليته واستعداده للإصلاح والتقويم.كما يستفيد من نتائج علم العقاب من خلال تقدير هذا النظام وتحديد أهميته في تحقيق الغرض المعاصر للعقوبة المتمثل في الإصلاح والتهذيب، ويستفيد أيضا من قانون الإجراءات الجنائية من خلال انتقاء أهم الإجراءات وأنجعها لكفالة تأهيله وتطهيره من دنس الجريمة، والحرص على رقابة هذه الإجراءات رقابة قضائية حماية للمركز القانوني للمحكوم عليه([219]) من أي تعسف محتمل، وضمانا لنجاح النظام على النحو الذي تتطلبه السياسة الجنائية الحديثة.
والأكثر من ذلك، فإن بعض الفقه([220]) اعتبر نظام الاختبار القضائي خير وسيلة لقمع بعض أنواع الجرائم كهجر العائلة مثلا إذ لا يحرمهم من مورد رزقهم، ولا يؤدي إلى تعطيل المحكوم عليه عن الإنتاج، بل يمكنه من مزاولة عمله المألوف والقيام بواجباته الأسرية، ولعل في التزامه بأداء النفقة المستحقة للمجني عليهم أو التزامه بتعويضهم، ما يكفل حلولا للكثير من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تنجم عن ترك الأسرة دون عائل.
والأكيد أن في تعويض المجني عليهم عن الأضرار التي أصابتهم من جراء الجريمة المرتكبة ما يجسد اهتمام السياسة الجنائية الحديثة بحماية الضحية الجنائية التي أصبحت ضمن مخططاتها الرئيسية([221]).
ويضاف إلى كل ذلك، أن هذا النظام يوفر مزية أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، تتمثل في كون الاختبار القضائي كعقوبة بديلة لا يكلف نفقات باهضة،([222]) فهو نظام اقتصادي بالمقارنة مع التكلفة المرتفعة التي يتطلبها تنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة.
هذه المزايا، وغيرها، جعلت نظام الاختبار القضائي يحظى بأهمية بالغة في العديد من التشريعات الجنائية الحديثة، حتى أصبح أحد ركائزها الأساسية، وتتجسد هذه الأهمية في ارتفاع معدلات الحكم بوقف التنفيذ مع الاختبار القضائي، ففي فرنسا([223]) بلغ إجمالي الأحكام الصادرة بالاختبار القضائي خلال سنة 1984/16964 حكما ليصل مع نهاية 1994 إلى 28423 حكما، أما في انجلترا([224]) فقد بلغ إجمالي تعداد المحكوم عليه بالاختبار القضائي خلال سنة 1997 ما يقرب 50.700 محكوم عليه بنسبة مقدارها حوالي 3 % عن تعدادهم خلال عام 1996 (48.300 محكوم عليه).
ومثل هذه العقوبة البديلة لا تعرف في تشريعنا الجنائي الذي لا يزال وفيا للعقوبة السالبة للحرية رغم كل مساوئها، وإن كان مشروع القانون الجنائي الجديد قد نص على عقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة التي يعتبره البعض ([225])صورة خاصة لنظام الاختبار القضائي.
فما هي أهم ملامح عقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة؟
المطلب الثاني: الشــغل مــن أجـل المـنفـعة العـامـة
تعتبر عقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة من البدائل الحديثة التي تبنتها العديد من التشريعات الجنائية لمواجهة مشكلة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، فإلى أي حد يمكن اعتبارها فعلا بديلا مناسبا لهذه المشكلة؟
الفقرة الأولى: الشـغل مـن أجـل الـمنفعـة العـامة ، مـفهـومه
وأهـميـته فـي السـياسـة الجـنائيـة الحـديثة
الشغل من أجل المنفعة العامة عقوبة خارج أسوار السجن، بمقتضاها يلزم الجاني بأداء عمل لفائدة المجتمع كتعويض رمزي عن الضرر الذي نتج عن فعله الجرمي([226])، أو عقوبة قوامها التزام المحكوم عليه بالعمل لصالح هيئة أو مؤسسة أو جمعية عامة، وذلك لمدة محددة قانونا تقدرها المحكمة، وبدون مقابل([227]).
لكن هناك من ذهب إلى أن الشغل من أجل المنفعة العامة هو " التزام المحكوم عليه بالعمل مقابل مبلغ قليل من المال يسد حاجته واسرته، خدمة للصالح العام في إحدى المؤسات العامة أو المشروعات سواء كانت زراعية أو صناعية أو خدمية، أو الجمعيات أو غيرها، وإلزامه عدد من الساعات خلال مدة معينة تحدد في الحكم، وقد يخصص جزء من أجر العمل الإلزامي لتعويض المجني عليه"([228]).
وقد أخدت بعض التشريعات العقابية بهذا التعريف الأخير ومنها التشريع العقابي لدولة الإمارات العربية المتحدة الذي ذهب إلى تعريف الشغل من أجل المنفعة العامة بأنه " تكليف المحكوم عليه بأداء العمل المناسب في إحدى المؤسسات أو المنشآت الحكومية التي يصدر بتحديدها قرار من وزير العدل بالاتفاق مع وزيري الداخلية والشؤون الاجتماعية، على أن يمنح ربع الأجر المقرر، ولا يكون الإلزام بالعمل إلا في مواد الجنح وبديلا عن عقوبة الحبس أو الغرامة على ألا تقل مدة الإلزام عن عشرة أيام ولا تزيد على سنة([229]).
ومن خلال هذه التعاريف يمكن إبراز بعض الملاحظات التالية:
1. أن الشغل من أجل المنفعة العامة هو من أهم الأساليب الحديثة للمعاملة العقابية خارج المؤسسات السجنية والتي تحول دون دخول المحكوم عليه إلى السجن.
2. أن الشغل من أجل المنفعة العامة باعتباره نظاما عقابيا يخضع كباقي النظم العقابية الأخرى إلى المبادئ العامة التي تحكم العقوبة، فهو خاضع لمبدأ الشرعية، والقضائية، والشخصية والمنفعة أيضا.
3. يجب أن يتم هذا الشغل في مؤسسات أو هيئات أو جمعيات عامة وهو ما يستبعد القول بأن تكون المؤسسات الخاصة معنية بهذا العمل([230]).
4. مجانية هذا العمل حتى يحتفظ هذا الأخير بقيمته العقابية، وإن كان البعض([231]) يرى أن يكون لهذا العمل أجر يتناسب مع طبيعة العقوبة، وهو ما ذهبت إليه بعض التشريعات العقابية كالتشريع الإمارتي والتشريع العقابي السوفياتي([232]) الذي ذهب به في مادته 25 إلى التأكيد على منح المحكوم عليه بالشغل من أجل المنفعة العامة أجرا مع خصم نسبة لا تزيد على 20 % من أجره لصالح الدولة، لكن بالمقابل لا يهدف هذا العمل إلى تحقيق الربح([233])، وإنما يهدف إلى تعويض ضحايا الجريمة وإصلاح الأضرار الناجمة عنها([234]).
5. تناسب هذا العمل مع طبيعة الجريمة المرتكبة وقدرة الجاني على أدائه والالتزام به، ومعرفة هذا التناسب يقتضي إجراء بحث اجتماعي([235])، لشخصية المحكوم عليه لمعرفة مدى كفاءته البدنية ومؤهلاته وقدرته على العمل ومدى جدوى هذه العقوبة في إعادة بنائه اجتماعيا واحتضانه من جديد كعضو صالح في المتجمع.
ويذكر غالبية الفقه([236]) أن العمل لفائدة المصلحة العامة يحقق مزايا عديدة تعود بالفائدة على كل من المحكوم عليه والمجتمع معا، وأهم هذه المزايا مزيتان أحدهما عقابية والأخرى اقتصادية.
I– المــزيــة الـعقــابـيـة
يهدف نظام الشغل من أجل المنفعة العامة إلى تجنب دخول المحكوم عليه إلى السجن مما يكون مفسدة له عوض إصلاحه وتقويمه، ولذلك قيل؛ وبحق، أنه أهم بديل للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة،([237]) وأهم سبيل للتخفيف من اكتظاظ السجون([238]) الذي لا يتفق مع الهدف من العقوبة وهو الإصلاح والتهذيب.
إن الشغل من أجل المنفعة العامة، يعد أكثر تجاوبا مع متطلبات السياسة الجنائية الحديثة، فهو نظام اصلاحي بامتياز يساعد المحكوم عليه على التعايش والاندماج الاجتماعي وتحمل مسؤولية الإصلاح والتأهيل تحت رعاية مؤسسات اجتماعية وقضائية مؤهلة([239])، تعمل جاهدة على تنمية شعور المحكوم عليه بالهوية والانتماء ([240])إلى هذا المجتمع الذي تتغير نظرته إليه، فهو يعتبره بمثابة متمرن أو تحت التدريب ([241])وليس كمجرم موصوم ينبذه المجتمع ويحتقره، ومن شأن هذا التغيير أن يمهد للمحكوم عليه بالشغل من أجل المنفعة العامة سبل الإصلاح والتصالح الاجتماعي.
II– المــزيــة الاقـتصـاديـة
مما لا شك فيه، أن إخضاع المحكوم عليه لعقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة وتمكينه من مزاولة حياته العادية والاستمرار في عمله المألوف سيؤدي حتما إلى تحقيق أغراض اقتصادية تربوية هامة, فهو يساهم في اقتصاد الأمة عن طريق استغلال طاقات المحكوم عليهم وتوجيهها نحو مزيد من الإنتاج اليافع لهم وللمجتمع([242]) ،كما يمكن المحكوم عليهم من اكتساب مهارات عملية ومهنية شريفة([243]) تكون لهم دافعا ضد البطالة التي يمكن أن تقود بهم إلى الانحراف والسقوط في هاوية الإجرام، لكن تبقى مزية التكلفة الاقتصادية المنخفضة([244]) لهذا البديل أهم ما يميزه عن العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة التي تكبد الاقتصاد القومي نفقات باهضة.
ولأهمية هذا البديل في وقاية الجاني من القطيعة التي تتولد عن العقوبة الحبسية([245]) فقد حظي باهتمام واسع من قبل المؤتمرات الدولية والعربية على السواء، فقد اعتبر كل من المؤتمر الدولي الثاني عشر لقانون العقوبات المنعقد في لاهاي خلال أغسطس 1950 والمؤتمر الثاني للأمم المتحدة لمكافحة الجريمة ومعاملة المجرمين في لندن 1960 وكذلك مؤتمر الأمم المتحدة السادس لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في كراكاس سنة 1980([246])، أن الشغل من أجل المنفعة العامة من الحلول الهامة لمشكلة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، كما أكدت على هذه الأهمية العديد من المؤتمرات العربية ويأتي على رأسها المؤتمر العربي الثاني لمديري المؤسسات الاصلاحية والعقابية المنعقد في الرباط بالمملكة المغربية سنة 1983. ([247])
ولعل مكانة هذا البديل وقيمته العقابية الفعالة هي التي كانت وراء تحفيز العديد من الدول لتحديث سياستها الجنائية وتطعيمها بهذا النظام على الرغم من انتقاده من طرف البعض. ([248])
الفقرة الثانية: مـوقـع الـشـغل مـن أجـل المـنفـعة العـامة
فـي بـعـض الـتشـريـعات المـقارنـة
تأثرت العديد من التشريعات العقابية بالتوصيات الصادرة عن المؤتمرات الدولية والعربية، فأقرت غالبيتها الأخد بنظام الشغل من أجل المنفعة العامة كشكل من أشكال الحد من العقاب([249]) مع اختلاف بعضها في القواعد والأسس التي يقوم عليها هذا النظام.
وهكذا كانت لإنجلترا السبق([250]) في إدخال هذا التدبير البديل ضمن سياستها العقابية سنة 1972، ثم سارت على دربها جل الدول الأخرى، كالولايات المتحدة الأمريكية انطلاقا من السبعينات([251])، واسكتلندا سنة 1978 ،وعمل به في أول فبراير 1979، ([252]) وأقرته أيضا البرتغال في المادة 60 من قانونها العقابي سنة 1982 ([253])،وأدخل في فرنسا بموجب قانون10 يونيو 1983([254])، أما بلجيكا فقد تبنت هذا النظام في 10 فبراير 1994([255]).
وعلى المستوى العربي، نجد بعض التشريعات العربية بادرت إلى تبني مثل هذا النظام في سياستها الجنائية ومن بينها التشريع العقابي التونسي سنة 1999 ([256])،والتشريع العقابي لدولة الإمارات العربية المتحدة في مادته 520 منه([257]) وكذلك التشريع العقابي المصري([258]) الذي نص على هذا النوع من البدائل في المادة 18 من قانون العقوبات والمادة 479 من قانون الإجراءات الجنائية بقولها " لكل محكوم عليه بالحبس البسيط لمدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر أن يطلب بدلا من تنفيذ عقوبة الحبس عليه تشغيله خارج السجن وفقا لما هو مقرر بالمواد 520 وما بعدها (من ق.إ.ج) وذلك مالم ينص الحكم على حرمانه من هذا الخيار."
وللتعرف على الملامح العامة لهذا النظام سأهتم في النقطة الموالية بالقانون الفرنسي نظرا لتجربته القديمة في تفعيل عقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة ولأهمية مرجعيته بالنسبة للقانون المغربي.
نص التشريع العقابي الفرنسي الجديد –الصادر في سنة 1992 والذي تم العمل به بداية عام 1994م، على أن نظام الشغل من أجل المنفعة العامة ينطوي على ثـلاثة أوجه([259]) : فهو إما عقوبة أصلية للجنح بديلة لعقوبة الحبس (المادة 131-8 ق ع ف) او عقوبة تكميلية لبعض الجنح والمخالفات-درجة الخامسة-ومثال جرائم المرور- (المادة 131-22 ق ع ف) أو كصورة جديدة مقترنة بنظام وقف التنفيذ (المادة 132-54 132-58).
وتخضع عقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة في هذا التشريع للأحكام التالية:
1. يشترط في الجريمة الجائز من أجلها الحكم بعقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة، أن تكون من قبيل الجنح المعاقب عليها بالحبس، وان تكون من جرائم القانون العام([260])، وألا تتجاوز مدة الحبس المستبدلة بوقف التنفيذ مع الشغل من أجل المنفعة العامة الخمس سنوات سواء لجناية أو جنحة في القانون العام (المـادة 132-41 ق. ع. ف). ([261])
2. تعـد مـوافقة المحكوم عليه لتطبيق هذا النظام أمرا ضروريا([262])، فإذا رفضه أو كان غالبا أثناء المحاكمة تعذر النطق بـه وهذا ما نصت عليه المادة 132-8 بقولـها "… إلا أنه لا يجوز تـوقيع عقوية العمل للمصلحة العامة على المتهم الـذي يرفضها أو الذي لم يكن حاضرا في الجلسة " ويستند هـذا الشرط إلى المـبدأ الذي أكدته الاتفاقية الأوربيـة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية في مادتها الرابعة التي تقضي بأنه " لا يجـوز إجبار شخص علـى القيـام بعمـل" nul ne peut être astreint à accomplir un travail force ou obligation ([263]) ويرى البعض([264]) أن تعليق الحكم بعقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة على شرط الرضا من شأنه أن يقلل من أهميته في تحقيق أغراض العدالة الجنائية فهو قد لا يحمل معنى الردع العام الذي يعد من الأهداف الأساسية للسياسة العقابية، وحتى وإن سلمنا بضرورة هذه الموافقة فإن سيف العقوبة السالبة للحرية يبقى مسلطا على رقبته إن هو رفض هذا البديل، وضاع آنذاك الهدف من احلاله وهو تجنب مساوئ السجن وعيوبه.
3. لم يشترط المشرع الفرنسي أن يكون المحكوم عليه مبتدءا او عائدا بالنسبة للشغل من أجل المنفعة العامة المقترن بوقف التنفيذ([265])، أما بالنسبة للصور الأخرى فيتطلب في المتهم الذي تطبق عليه هذه العقوبة ألا يكون قد سبق الحكم عليه خلال الخمس سنوات السابقة على ارتكاب الجريمة الأخيرة، بعقوبة الجناية أو بعقوبة الحبس لمدة لا تزيد على أربعة أشهر([266]).
4. أن يكون هذا العمل مجانيا([267])، وبالتالي لا يستطيع الحصول إلا على الضمانات المتعلقة بالتعويض عن الإصابات والأمراض التي تصيبه نتيجة أدائه لعمله([268]) وكذا الضمانات الصحية لمزاولة هذا العمل.
5. حدد المشرع الفرنسي في المواد ( 132-57-132-54-132-8-131-7) عدد ساعات العمل والمدة التي ينفذ خلالها، فبالنسبة لساعات العمل التي يلزم المحكوم عليه بأدائها يجب أن تتراوح بين 40 و 240 ساعة بالنسبة للجنايات وبين 20 و120 ساعة بالنسبة للجنح والمخالفات على أن يتم تنفيذ العقوبة خلال ثمانية عشر شهرا ([269])من تاريخ صدور الحكم، وليس من الوقت الذي يحدد فيه قاضي تطبيق العقوبة كيفية تنفيذ هذا العمل.
6. يلتزم المحكوم عليه بالشغل من أجل المنفعة العامة وفقا للمادتين 132-45 و132-55 من قانون العقوبات الجديد بعدة التزامات([270]) يترتب على احترامها واعتبار الحكم كأن لم يكن([271]) وإلا اعتبر مرتكبا لجريمة جديدة يعاقب عليها وفقا للمادة 343-42 ق.ع.ف بالحبس لا تزيد مدته عن عامين و بغرامة لا يزيد مقدارها عن مائتي فرنك فرنسي([272]).
هذه اذن أهم الأحكام التي تنظم عقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة في التشريع الفرنسي والتي أثبتت التجربة العملية عن نجاحها في تحقيق التأهل وإعادة الإدماج فقد دلت بعض الإحصائيات الصادرة عن مركز الدراسات الاجتماعية المهتم بالشؤون القانونية والمؤسسات([273]) الجنائية عن تزايد نسبة الحكم بهذه العقوبة ولعل هذا ما دعى المشرع المغربي إلى التفكير في تبني هذا النظام بالنظر إلى مزاياه في الحد من مساوئ العقوبات القصيرة.
الفقرة الثالثة: آفـاق الشـغل مـن أجـل المنفعة العامـة فـي
السيـاسـة الجـنائـية المـغـربـية
إن التفكير في إدخال نظام الشغل من أجل المنفعة العامة ضمن سياستنا الجنائية لم تترسخ في ذهن المشرع إلا بعد اقتناعه بأن السجن ليس ضروريا([274]) وليس الفضاء الأنسب لإجراء أية معاملة عقابية هادفة، وأن الترخيص بإمكانية وضع بعض المحكومين بعقوبة حبسية في الخارج مع الشغل الإجباري([275])، مازال بعيدا كل البعد عن ما آلت إليه السياسة الجنائية الحديثة من تقدم اتجاه أهداف الإدماج وفلسفة حقوق الانسان.
كما أن البدائل التقليدية المنصوص عليها في القانون الجنائي، أصبحت غير كافية وغير منسجمة مع التوجهات الكبرى الداعية إلى إرساء نظرية متكاملة للعقوبات البديلة تتماشى وما يعرف بالعدالة الجنائية العالمية([276]).
والأكيد أن قناعة مشرعنا الجنائي بأهميته هذا البديل ازدادت قوة من خلال تعالي الأصوات المنادية بتحديث ترسانتنا الجنائية وإغنائها بالعديد من البدائل التربوية، وهكذا- أكدت مناظرة افران المنعقدة ما بين 14و17 نونبر2000 –تحت عنوان بدائل العقوبات السالبة للحرية- على"ضرورة التفكير بكيفية ملحة في إيجاد صنع وبدائل أخرى على مستوى التشريع تسهم في تطوير مدلول ومفهوم سياسة العقاب وجعلها أكثر مدنية وتحضر لتساير مستجدات العصر… ومن أهم هذه البدائل استغلال بعض الكفاءات العلمية والمهارات المهنية والحرفية التي يتوفر عليها بعض الجانحين للاستفادة منها في بعض الخدمات والقطاعات أو المرافق العامة لمدة معينة وبدون مقابل عوض الزج بأصحابها في غياهب السجون"([277])
ولم تخرج المناظرة الوطنية للسياسة الجنائية بالمغرب: واقع وآفاق- المنعقدة بمكناس أيام 9-10-11 دجنبر 2004- عن هذا المطلب مؤكدة على أهمية إيجاد عدالة بديلة تكون عقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة أبرزها ملامحها([278]).
ووعيا منه بأهمية هذه العدالة البديلة في التخفيف من أزمة العقوبات القصيرة، بادر المشرع المغربي إلى تسطير عقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة ضمن أوليات مشروعه الجنائي ([279])من خلال الفقرة الرابعة من المادة 26 التي حددت العمل من أجل المنفعة العامة من ضمن العقوبات الجنحية البديلة.
غير أن تطبيق آلية الشغل من أجل المنفعة العامة كعقوبة بديلة للحبس، وإن كانت توحي لأول وهلة ببساطتها وسهولتها، فإنها في حقيقة الأمر تبدو على خلاف ذلك، إذ يتعين بداية تضافر جهود مجتمع بكامله لتهييئ([280]) الرأي العام والحقوقي على حد سواء لتقبل مثل هذه العقوبة، خاصة وأن المجتمع المدني الذي تعود على الزجر كرد فعل ضد الجاني وأن جبر خاطر الضحية، قد يعتبرها وسيلة قانونية لإفلات المذنب من السجن بل ومكافأته بتوفير الشغل له([281]).
لكن لا يخامرنا شك في نجاح هذه التجربة في بلادنا، إذا ما تهيأت الظروف الملائمة لتطبيقها وتوافرت الإمكانيات المادية والبشرية لإعتمادها، ولما لا! والنجاح كان حليف هذه التجربة في العديد من الدول أبرزها زيمباوي([282])التي أصبحت مثالا يقتدى به في هذا المجال، حتى من طرف بعض الدول المتقدمة التي أخذت بنظام الشغل من أجل المنفعة العامة إلى جانب الوضع تحت المراقبة الإلكترونية.
المطلب الثالث: الـوضع تـحت المـراقبـة الإلكتــرونية
لم يعد نطاق استفادة القانون الجنائي -بمفهومه الواسع- في المرحلة العلمية مقتصرا على مرحلة جمع الأدلة الجنائية، وإنما تعداها إلى مرحلة تنفيذ العقوبة السالبة للحرية، من خلال خضوع المحكوم عليه لنظام المراقبة الإلكترونية الذي يقيد الحرية خارج أسوار السجن عن طريق وضع سوار إلكتروني شبيه بالساعة، في معصم المحكوم عليه يرسل إشارات للمصالح المكلفة بالمراقبة([283]) فما هي مبررات هذا النظام (الفقرة الأولى) وماذا عن أحكامه القانونية (الفقرة الثانية) وإلى أي حد يمكن قبوله في السياسة العقابية الحديثة (الفقرة الثالثة).
الفقرة الأولى: مبـررات الوضـع تحـت الـمراقبة الإلكترونية
تميزت قوانين المراقبة الإلكترونية بكونها وليدة التجربة([284])، فالتشريعات العقابية لم تأخذ بها إلا بعد نجاحها من ناحية التطبيق العملي، وتبنتها لقناعتها بأنها من الأنظمة العقابية الحديثة التي باتت تنسجم مع الغرض المعاصر للعقوبة وهو الإصلاح والتأهيل بعيدا عن جو السجون الذي أصبح يتعارض وهذا الغرض.
ولذلك اعتبر بعض الفقه([285]) أن المبرر الأساسي من وراء نظام المراقبة الإلكترونية هو الحلول محل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة التي ينتج عن تنفيذها آثار أسرية واجتماعية واقتصادية مدمرة قد يصعب البراء منها.
وهكذا، فإن أسلوب المراقبة الإلكترونية من خلال هذا المنظور يهدف إلى إصلاح المحكوم عليه وتأهيله لإعادة الإدماج في النسيج الاجتماعي، خاصة وأنه يوفر أرضية خصبة لبلوغ هذه الغاية([286]): فهو يحافظ على متانة الروابط الأسرية والإجتماعية، ويجنب المحكوم عليه شرارة الحقد والإحتقار التي قد تنتج عن الوصمة الاجتماعية المعرقلة لعملية الإدماج والتاهيل، كما يمكنه من تفادي فقدان العمل الذي يمارسه…وكل هذه المبررات والمزايا من شأنها أن تنطوي على مقومات الإندماج الاجتماعي، وتحول دون سلوك درب الجريمة من جديد، فهي تساعده على اجتياز الصعوبات التي تقف حائلا بينه وبين سلوك الطريق المطابق للقانون، وهذا ما دفع بعض الفقه([287]) إلى اعتبار المراقبة الإلكترونية من أفضل الوسائل لمكافحة العود، وهي النتيجة التي أكد عليها أيضا ريتشارد تيليت مدير عام السجون " إن هدفنا هو خفض معادلات تكرار والعود إلى الجرائم عن طريق بناء، وفي نفس الوقت حماية الناس، وهذا تسمح به المراقبة الإلكترونية".([288])
ولاشك أن خفض معدلات العود يساهم حتما في التقليل من معضلة اكتظاظ السجون([289]) التي تعد من العراقيل الأساسية لنجاح العملية العقابية برمتها.
أكثر من ذلك، فإن نظام المراقبة الإلكترونية يعد أقل تكلفة من الناحية الاقتصادية لعملية التأهيل، فهي لا تصل إلى تلك النفقات التي تتحملها الدولة في سبيل الإنفاق على السجون، وهذا ما أوضحه السيد CABANEL مؤكدا أن تكلفة المكان الواحد في السجن بيوم واحد يصل إلى حوالي أربعمائة فرنك ولكنه في حدود مائة فرنك في حالة الخضوع لنظام المراقبة الإلكترونية([290]).
ويضاف إلى ذلك، أن هذا النظام يولي اهتماما أوسع بضحايا الجريمة سواء المجني عليهم، أو المضرورين منها، وذلك من خلال فرض التزام على المحكوم عليه بتعويض الضحية أو إصلاح الضرر الناتج عن الجريمة كشرط لاستمرار الخضوع للمراقبة وإلغائها في حالة عدم تنفيذ هذا الالتزام.
ويبدو أن المحكوم عليه بإمكانه التقيد بهذا الالتزام ما دام نظام المراقبة الإلكترونية يخول له فرصة البقاء في عمله أو فرصة الحصول عليه([291])، مما يمكنه من تدابير مالية تسهل عليه عملية التعويض أو إصلاح الضرر([292]).
وقد كان من شأن هذه المبررات أن تمنح لنظام المراقبة الإلكترونية قبولا واسعا من طرف بعض التشريعات العقابية والتي يأتي على رأسها التشريع العقابي الفرنسي.
الفقرة الثانية: أحكام الوضع تحت المراقبة الإلكترونية
(التشريع الفرنسي نموذجا)
لم يعرف نظام الوضع تحت المراقبة الإلكترونية طريقه إلى نصوص التشريع العقابي الفرنسي إلا انطلاقا من 1997 /10/19 وذلك بموجب القانون رقم 97-159، لكن تجربته لم تبدأ في الحقيقة إلا مع حلول سنة 2000 في بعض المناطق الفرنسية([293]) مثــل Agen.Aixlvynes .Grenoble -Loos -les Lille
وقد نظم المشرع الفرنسي أحكام هذا النظام في المواد من 723 – 7 إلى 723-13 من قانون الاجراءات الجنائية، والتي تطبق على المحكوم عليه سواء كان حدثا أو بالغا بشرط توافره على محل قار للإقامة ([294]) به خط هاتف على الأقل، ولديه مورد رزق([295]) وبالتالي يصعب تطبيق المراقبة الإلكترونية في حق المحكوم عليهم الذين لا يتوفرون على هذه الشروط، كما يصعب تطبيقها على غير الشخص الطبيعي، ومعنى هذا أن الشخص المعنوي غير معني بأحكام هذا النظام وإن تقررت مسؤوليته الجنائية وفقا للقواعد والشروط التي حددتها المادة 121 – 2 من قانون العقوبات الفرنسي([296]).
كما اشترط المشرع الفرنسي في المحكوم عليه المستفيد من نظام المراقبة الإلكترونية، أن يكون قد حكم عليه بعقوبة سالبة للحريةلا تزيد مدتها على سنة أو كانت المدة المتبقية من العقوبة لا تزيد على سنة([297])، بغض النظر عن طبيعة الفعل المقترف ما إذا كان يشكل جنحة أو جناية، فالمهم ألا تتعدى مدة العقوبة أو ما تبقى منها سنة.
وقد ألزم المشرع الفرنسي المحكوم عليه الخاضع لنظام المراقبة الإلكترونية وفقا للمادة 723- 7 من قانون الإجراءات الجنائية بالخضوع لإشراف ومتابعة قاضي تطبيق العقوبة([298]) الذي يعتبر المحرك الأساسي لهذا النظام، فهو الذي يقرر اللجوء إليه من عدمه، ويحدد الزمكان الذي يتوجب على المحكوم عليه الالتزام به أثناء تنفيذ المراقبة، كما يحدد الأشخاص الذين يتولون مهمة متابعة المراقبة، ويسهر على مراقبة سيرة المحكوم عليه ومدى التزامه بالإلتزامات والتدابير المنصوص عليها في المادتان 132-44، 132- 45 من قانون العقوبات -واللتان سبق التعرض إلى مضمونهما عند الحديث عن الإختبار القضائي- وعدم احترام هذه الالتزامات والتدابير يؤدي حتما إلى اعتبار الحكم كان لم يكن، ويلغى نظام المراقبة الإلكترونية وتعود العقوبة إلى مفعولها التنفيذي، وذلك، بعد خصم الفترة التي قضاها المحكوم عليه تحت المراقبة([299]).
وحرصا من المشرع الفرنسي على نجاح نظام المراقبة الإلكترونية في تحقيق الإدماج وإعادة التأهيل في ظروف تكفل للمحكوم عليه حقوقه وحرياته الأساسية، نجده قد أحاطه بجملة من الضمانات ينبثق أساسها من الطبيعة الخاصة لهذه المراقبة باعتبارها تنطوي على وسيلة فنية حديثة([300]).
وتتجلى أولى هذه الضمانات في ضرورة موافقة المحكوم عليه للخضوع لهذا النظام وذلك بحضور محاميه أمام قاضي تطبيق العقوبة([301])، ليصبح بذلك مقترف الجريمة شخصا فاعلا في إدانته، الأمر الذي دفع البعض إلى اعتبار نظام المراقبة بمثابة عقد لتنفيذ العقوبة بين قاضي تطبيق العقوبة والمحكوم عليه([302]).
كما أكد المشرع الفرنسي في المادة 723 -8 من قانون الاجراءات الجنائية على أن الوضع تحت المراقبة الإلكترونية وسيلة لا يمكن اللجوء إليها إلا بعد مصادقة وزارة العدل عليها، ويجب أن تتم بشكل يضمن احترام كرامة وحرمة الحياة الخاصة للفرد.
أكثر من ذلك فإن إفساح المجال للمحكوم عليه للطعن في قرار سحب المراقبة الإلكترونية،([303]) هو ضمان آخر من ضمانات شرعية هذا النظام.
ولكن رغم محاولة المشرع الفرنسي تقييد المراقبة الإلكترونية بقيود وضمانات خاصة، إلا أنها ،ومع ذلك، لم تكن بمنآى عن النقد.
الفقـرة الثالثـة: عيـوب الـوضـع تحـت المـراقبة الإلكتـرونية
تعرض نظام الوضع تحت المراقبة الإلكترونية إلى انتقادات عديدة دفعت البعض إلى التقليل من أهميته بالنظر إلى العيوب التي ينطوي عليها، والتي تثير مشكلات قانونية تمس المحكوم عليه، كما تمس العدالة الجنائية، فما هي أبرز هذه العيوب؟ وإلى أي حد يمكن القبول بها؟
I– المراقبة الإلكترونية نظام بمبدأ المساواة
ذهب بعض الفقه([304]) إلى اعتبار المراقبة الإلكترنية وسيلة لتقويض مبدأ المساواة أمام العقوبة، وذلك من خلال تطلبها شروط خاصة-محل إقامة به هاتف ثابت…- قد تتوافر لدى فئة دون أخرى، وبالتالي لن يستفيد منها إلا من استطاع توفير هذه الشروط.
لكن، وعلى ما يبدو، فإن هذا النقد لا يرتكز على أساس صحيح، ذلك أن نظام المراقبة الإلكترونية هو مظهر من مظاهر التفريد العقابي الذي لا يتطلب المساواة الحسابية في المعاملة العقابية، وإنما يتطلب تناسب العقوبة مع ظروف كل متهم ومقتضيات تأهيله، والقول بضرورة توافر شروط خاصة لتطبيق المراقبة الإلكترونية، هو قول تقتضيه الطبيعة الفنية والتقنية لهذه المراقبة، بل ويمكن لقاضي تطبيق العقوبة استبعاد تطبيق المراقبة الإلكترونية حتى بالنسبة لمن توافرت لديه هذه الشروط([305])، فالأمر إذن متروك للسلطة التقديرية للقضاء الذي يجب أن يضفي على مبدأ المساواة طابعا موضوعيا وليس شكليا، ومن هنا فإن مبدأ المساواة لا يتعارض مع اختلاف المعاملة العقابية طالما اقتضت ذلك الغاية من هذه المعاملة وهي تأهيل المحكوم اجتماعيا وأخلاقيا بعيدا عن مساوئ السجون.
II– المراقبة الإلكترونية اعتداء على الحق في الحياة الخاصة
إن التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي بدأ في القرن الأخير جعل من الممكن اليوم الاستعانة بنظام المراقبة الإلكترونية في مجال العدالة الجنائية، ولكن إذا كانت هذه الاستعانة قد تنطوي على جوانب إيجابية، فإنها كذلك قد تنطوي على جوانب سلبية تشكل خطرا على ما تبقى للمحكوم عليه من حق في حياة خاصة والتي تعد حرمة المسكن وحرمة الجسد من مقوماتها الأساسية. فإلى أي حد يصدق هذا القول؟
1. حــرمـة الـمسـكــن
يمكن القول أن حرمة المسكن قد تنتهك من طرف نظام المراقبة الإلكترونية إذا كان هذا المسكن مشترك، أي يضم تحت سقفه المحكوم عليه وأفراد أسرته أو آخرين، وهذا ما أكدت عليه المحكمة في قضية Alderman "معتبرة أن المصالح المحمية لصاحب المنزل لا تخص ملكيته فحسب، بل حقوقه المشروعة في الخصوصية والعائلية ولمن يستضيفهم، ويبدو أن المحكمة أرادت أن تقول أن مصلحة الخصوصية لا تلتصق بالضرورة بشخص الفرد بل تنسحب على أفراد آخرين مثل الأسرة والضيوف"([306]).
لكن لا يجب أن يفهم من هذا الكلام أن حرمة المسكن الخاص بالمحكوم عليه ليست لها أية حماية، وإنما هي حماية نسبية إن صح التعبير تتماشى والمركز القانوني الجديد الجديد للمحكوم عليه الذي يحتم خضوع هذا الأخير للمراقبة الإلكترونية التي تعد أخف ضررا من تنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، وهذه النسبية هي التي دفعت التشريعات الجنائية التي أخذت بهذا النظام إلى تقييده، بحيث لا يجوز زيارة المحكوم عليه أثناء الليل، وفي كل الأحوال لا يجوز الدخول إلى المنزل إلا بإذن صاحب الشأن، ولا يجوز أيضا أن تتم المراقبة عن طريق الكاميرا تطارده في كل حركاته وسكناته([307]).
1. حــرمة الجـسـد وسـلامـته
قد يقول قائل بأن السوار الإلكتروني الذي يوضع في معصم يد المحكوم عليه أو رجله قد يشكل اعتداءا على سلامة جسده، إلا أن هذا القول مردود عليه، وذلك لكون هذا السوار لا يتم وضعه إلا بموفقة المعني بالأمر وبحضور محاميه بل ويمكن- إذا اقتضى الأمر ذلك-أن يعرض على طبيب للتأكد من مدى تأثير هذا الجهاز على المحكوم عليه من عدمه.
III– نظام المراقبة الإلكترونية يعصف باعتبارات العدالة والردع العام
يراد بالردع العام إنذار الناس كافة عن طريق التهديد بالعقاب- بسوء عاقبة الإجرام كي ينفرهم بذلك منه([308])، فهل نظام المراقبة الإلكترونية يحقق هذا الغرض الذي يعتبر من المحاور الأساسية للسياسة الجنائية الحديثة؟ خاصة إذا علمنا أن الضحية بمعناها الواسع (المجتمع) لا زال يعتبر العقوبة هي وسيلة التهديد الوحيدة([309]).
يبدو أن الإجابة على هذا التساؤل يجب أن يتم من خلال معرفة ما إذا كانت العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة تحقق بالفعل هذا الغرض بالقدر الذي يحقق للمجتمع وللمحكوم عليه مصلحة أم لا ؟ الأكيد أن العقوبة بصفة عامة والقصيرة المدة بصفة خاصة باتت عديمة الجدوى في تحقيق أغراضها العقوبة بنوعيها (الردع العام والخاص)، وما يدل على ذلك ارتفاع نسبة العود الجنائي، وهذا ما جعل التشريعات الجنائية تبحث عن سبل أخرى لتحقيق هذه الأغراض بعيدة عن تنفيذ العقوبة السالبة للحرية، ومن بين هذه السبل اللجوء إلى المراقبة الإلكترونية على النحو الذي لا ينطوي على إهدار للعدالة أو الردع العام و لا ينطوي أيضا على إهدار للردع الخاص الذي أصبح مرجحا على سائر أغراض العقوبة([310]). والأكثر من ذلك، فإن تطبيق المراقبة الإلكترونية لا يعدم اليقين في تنفيذ العقوبة، لأن إمكانية التنفيذ تبقى واردة في حالة إلغائها، وهذا ما يؤكد أن المراقبة الإلكترونية لا تعصف بأغراض العقوبة.
ولذلك فإن النيل من المراقبة الالكترونية وتوجيه النقد إليها لا يقلل من أهميتها في تطوير السياسة العقابية، خاصة وأن التشريعات حاولت إحاطتها بجملة من الضمانات تحول دون التطاول على حقوق المحكوم عليه والمجتمع على السواء.
ونأمل أن توفر سياستنا الجنائية مناخا ملائما لاحتضان مثل هذا البديل وإقناع الرأي العام الحقوقي والمدني بتقبله- وليس ذلك بمستحيل ! – حتى نغني منظومتنا الجنائية بجزاءات حديثة تسد النقص الذي يعتريها وتنوع من جزاءاتها المقتصرة فقط على العقوبات السالبة للحرية والعقوبات المالية.
المبحث الثاني: البــدائــل المــاليـة
وهي واحدة من أهم أشكال العقوبات البديلة وأوسعها انتشارا في التطبيق وأعمقها تأثيرا على الكثير من الجناة.ومن بين هذه العقوبات البديلة: الغرامة الجنائية (المطلب الأول) والمصادرة (المطلب الثاني).
المطلـب الأول: الغــرامـة الجـنائيــة
ما زالت الغرامة الجنائية تحظى بأهمية واسعة في مختلف التشريعات الجنائية، وذلك بسبب اعتبارها من المنافذ المهمة لحل مشكلة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، خاصة وإنها اكتست حلة جديدة متمثلة في الغرامة اليومية.
الفقـرة الأولى: دور الغـرامة كبـديل في السياسة الجنائية الحديثة
يكاد يتفق الفقه ([311])على اعتبار الغرامة من أفضل البدائل الجنائية للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، وذلك بفضل قيمتها العقابية التي أضحت أكثر تجاوبا مع متطلبات السياسة الجنائية الحديثة: فهي تجنب الجاني مغبة ارتياد السجون مع ما يترتب على ذلك من مساوئ نفسية واجتماعية واقتصادية ضارة، وتحافظ على الصلات الأسرية والاجتماعية على النحو الذي يصون كرامة المحكوم عليه وأسرته من مخاطر الوصمة الاجتماعية([312]) للسجن التي تعرقل عملية الإدماج في النسيج الاجتماعي، فضلا عن ذلك، يؤدي الحكم بالغرامة إلى تحصيل منافع مادية مفيدة لخزانة الدولة يمكن استغلالها في تحسين مرافق العادالة الجنائية بل ويمكن تخصيص جزء منها لتعويض ضحايا الجريمة عن الأضرار التي أصابتهم من جراء الجرم المقترف([313]).
ويذكر للغرامة أيضا أنها عقوبة مرنة([314]) خاضعة لمبدأ تفريد العقاب الذي يخول للقاضي سلطة تقديرية واسعة في تقدير مدى ملاءمتها لظروف المحكوم عليه الاجتماعية والاقتصادية ومدى تناسبها مع درجات الجرم المقترف أو جسامة الضرر الذي تخلف عنه، ويستتبع ذلك، أنه بإمكان الرجوع في تطبيقها ورد ما دفع منها بغير سند قانوني([315]) للمحكوم عليه، وهو ما لا يمكن أن يتحقق عند تطبيق العقوبة السالبة للحرية على الإطلاق.
ولكن، ومع التسليم بهذه الفوائد يبقى التساؤل مطروحا، وهو هل لعقوبة الغرامة ما ينطوي على مقومات الإصلاح والتأهيل، حتى تحقق ما لم تحققه العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة؟
يجيب بعض الفقه([316]) على ذلك بالنفي ويقول " إن محاولة اعتبار الغرامة بديلا عاما عن سلب الحرية ذي المدة القصيرة هي محاولة تفتقر إلى السند العلمي، فكل منهما عقوبة إنذار، وليس من شأن الغرامة تحقيق تهذيب تقصر عنه العقوبات السالبة للحرية ذات المدة القصيرة، بل تأثير سلب الحرية في الإنذار أكثر فاعلية، وبالإضافة إلى ذلك فإن الغرامة قد تقصر عن الإنذار حين يكون المحكوم عليه ثريا فلا يحس بوقعها… وفي النهاية فإن أسلوب تنفيذ الغرامة قد يرتد إلى سلب الحرية في صورة إكراه بدني وهو حتما سلب للحرية قصيرة المدة… ونحن إذ ننكر التفضيل المجرد للغرامة على العقوبات السالبة للحرية ذات المدة القصيرة، نسلم بإمكان التفضيل الواقعي في ضوء ظروف الشخصية الإجرامية للمتهم.
وعلى ما يبدو فإنه، إذا كان من الممكن الاتفاق مع هذا الفقه في جانب، فإنه لا يمكن التسليم بالعديد من الجوانب، ذلك أنه لا يمكن اعتبار العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة وسيلة إنذار وتحذير وإنما هي وسيلة إفساد ما يمكن إصلاحه بطرق أخرى غير سلب الحرية، ومنها بطبيعة الحال، الغرامة التي يجب أن يقترن تطبيقها ببرنامج إصلاحي فعال ينسجم مع الظروف الشخصية الإجرامية للمتهم، وهذا هو الجانب المتفق عليه، والذي من خلاله يمكن تحقيق التناسب المعقول بشكل لا يميز بين الفقير والغني، وإن كان من المسلم به أنه لا توجد قط عقوبة تستطيع تحقيق المساواة وإلا اعتبرت في حد ذاتها تعبير عن اللامساواة، أما القول بأن عقوبة الغرامة قاصرة على التهذيب والإصلاح، فإنه قول نسبي ذلك أنه في كثير من الأحيان، وفي زمن طغت فيه الماديات أصبح للغرامة دور رادع ومؤثر في نفس الجاني([317]) الذي حرم من جزء من ماله وهو الأشد حرصا على الحفاظ عليه، وليس بمقدوره التعود على خسارته مرة ثانية([318]). وقد يمتد هذا التأثير إلى نفوس الآخرين ويحملهم على النفور من ارتكاب أي جرم يؤثر على ذمتهم المالية، وفي ذلك تحقيق للردع العام الذي يعجز الحبس قصير المدة عن تحقيقه.
وأخيرا فإن التخوف من أسلوب تنفيذ الغرامة الذي قد يرتد إلى سلب الحرية في صوره الإكراه البدني، يمكن التغلب عليه من خلال اقتراح بدائل لهذا النظام([319]) كما هو الشأن بالنسبة للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة ما دام يتحدان في النتيجة النهاية، وهي سلب الحرية، أو من خلال ابتكار أساليب تنفيذية جديدة للغرامة تأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية والاجتماعية للمحكوم عليه دون اخضاعه للإكراه البدني، ومن هذه الأساليب تقسيط قيمة الغرامة([320])، وهو أسلوب حضي بقبول العديد من التشريعات العقابية التي ترى في عقوبة الغرامة خير بديل للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة رغم الاعتراضات التي تحاول التقليل من شأنها([321]).
الفقـرة الثانـية: موقـع الغـرامـة في بعـض التشريعات العقابية
تتبوأ الغرامة مكان الصدارة ضمن مختلف النظم العقابية، فلا يكاد يخلو تشريع عقابي من النص عليها أما كعقوبة أصلية أو كعقوبة إضافية أو كبديل عن عقوبة سالبة للحرية([322]).
هذا ويتسع نطاق تطبيق الغرامة بشكل أساسي في مجال القانون الجنائي للأعمال، إذ تعتبر من الملامح الأساسية لشقه العقابي([323])، وذلك لكونها الأداة الكفيلة بردع مجرمي الأعمال الذين يسعون إلى الحصول على الأموال بطرق غير مشروعة، فيعاملون على نقيض قصدهم، ولذلك قيل بأنها جزاء من جنس العمل ولها من هذه الوجهة دور تربوي([324]).
وإذا كانت معظم التشريعات الجنائية المقارنة تهدف من وراء إقرار عقوبة الغرامة، تجنب مساوئ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، فإن خطتها التشريعية في تحقيق هذا الهدف، تختلف من تشريع لآخر:
فهناك من نظم العلاقة بين الغرامة والحد من العقوبات القصيرة بمقتضى قيود تشريعية، ومن ذلك التشريع العقابي الألماني([325]) الذي نص في مادته 141/1 على أنه يجب أن تعطى الأولوية للغرامة بالنسبة للعقوبات التي تقل عن ستة أشهر، ولو لم يتضمن النص التشريعي عقوبة الغرامة، إلا إذا كانت هناك ظروف استثنائية متعلقة بالجريمة أو بشخصية الجاني تجعل توقيع الحبس أمرا ضرويا، وسار على منواله التشريع العقابي اليوناني([326]) الذي أكد في مادته 82 على أن للقاضي سلطة في أن يحل الغرامة محل العقوبة السالبة للحرية التي تقل عن ستة أشهر إذا وجد ما يدعو إلى ذلك، كما أن التشريع البرتغالي([327]) يلزم القاضي – في قانون العقوبات الصادر عام 1982 بالحكم بعقوبة الغرامة كبديل للعقوبة السالبة للحرية التي لا تزيد مدته عن ستة أشهر باستثناء الحالات التي يتطلب فيها لردع العام ، الحكم بعقوبة سالبة للحرية.
وهناك من التشريعات الجنائية من أعطى سلطة تقديرية واسعة للقاضي للحكم بعقوبة الغرامة ودون التقيد بحد أدنى لمدة العقوبة الحبسية التي يجب ان تكون محل إبدال، ومن هذه التشريعات التشريع العقابي الليبي الذي منح للقاضي إمكانية الإختيار بين الغرامة وعقوبة الحبس في العديد من النصوص (المادة 175- 193-194-275…) ([328])، ويسلك هذا النهج أيضا كل من التشريع العقابي الإيطالي والتونسي، واللبناني وإن كان ذلك بشكل متفاوت([329])، لكن أين يتوقع تشريعنا الجنائي؟.
من خلال استقراء نصوص القانون الجنائي المغربي، يمكن القول أن المشرع المغربي ترك أمر اختيار الجزاء المناسب لسلطة القاضي التقديرية فهو يستطيع – في غالب الأحيان- الاقتصار إما على عقوبة الحبس أو عقوبة الغرامة، ولم يلزمه المشرع بجعل الغرامة كبديل للعقوبة السالبة للحرية، وإنما خول له هذه الإمكانية من خلال الفقرة الثانية والثالثة من نص المادة 150 اللتان تؤكدان على أن" …كما يجوز له أن يحكم بالغرامة عوضا الحبس على أن لا تقل الغرامة في أي حال عن الحد الأدنى المقرر للمخالفات.
وفي حالة الحكم بالغرامة عوضا عن الحبس، إذا كانت العقوبة المقررة هي الحبس وحده، فإن الحد الأقصى لهذه الغرامة يمكن أن يصل إلى خمسة آلاف درهم".
وبهذا يكون المشرع المغربي قد انضم إلى مجموعة القوانين التي أعطت للقاضي سلطة تقديرية واسعة في إبدال عقوبة الحبس بعقوبة الغرامة دون تقييده بحد أدنى تشريعنا لمدة الحبس.
وعلى ما يبدو، فإنه على الرغم من أن هذا المسلك الذي سلكه المشرع المغربي يبقى محمودا في السياسة الجنائية الحديثة، إلا أنه كان من الأفضل أن يكون هذا الإبدال مقترنا بمدة محددة تشريعيا إسوة ببعض التشريعات الجنائية السالفة الذكر، فتصبح للقاضي إمكانية الحكم بعقوبة الغرامة كبديل للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة التي تقل مدتها عن سنة كمبدأ عام، إلا إذا دعت الضرورة إلى توقيع عقوبة الحبس ورأى القاضي أن عقوبة الغرامة ليس من شأنها تحقيق الأهداف التربوية والإصلاحية المرجوة من كل نظام عقابي.
ولعل هذا التوجه سيجعل المشرع يلعب دورا مهما في الحد من مساوئ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، إلى جانب الدور الذي يجب أن يقوم به القاضي الجنائي المختص، الذي بإمكانه إحلال الغرامة محل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة- سنة فأقل- دون مراعاة نوع الجريمة سواء كانت جنحة أو مخالفة أو حتى جناية ( في حالة استخدام ظروف مخففة)، لأن ما يهم هو تلافي مثالب الحبس([330]).
وعقوبة الغرامة إذا كانت تسعى إلى تحقيق هذا الهدف فإنها تحرص على الحفاظ عليه من خلال جعلها أكثر تناسبا مع الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمحكوم عليه، والذي بإمكانه أن يستفيد من نظام الغرامة اليومية المعروف في العديد من التشريعات الجنائية الحديثة.
الفقـرة الثـالثـة: الغـرامـة اليـوميـة
لم تقف بعض التشريعات الجنائية الحديثة عند الحكم بعقوبة الغرامة في صورتها التقليدية، بل أوجدت نظام الغرامة اليومية كأسلوب لتحقيق أكبر قدر من العدالة، وكبديل فعال للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة([331]).
ويرجع بعض الفقه ([332])أصل هذا النظام إلى الفقيه كارل ثورب الدنماركي، والفقيه ثيران جوهان السويدي باعتبار كلا منهما الأب الروحي لهذا النظام.
ويقصد بالغرامة اليومية " أن يحكم القاضي على الجاني بمبلغ معين يدفعه يوميا لمدة معينة، ويقوم الجاني بسداد قيمة الغرامة اليومية، مضروبة في عدد أيام الغرامة المحكوم بها في نهاية المدة المحددة للغرامة([333])" لكن القاضي قبل أن يحكم بهذا النوع من الغرامات، يقوم بإجراء العمليتين التاليتين: أولا، يحدد درجة الجرم التي على أساسها سيحدد عدد أيام الغرامة، وثانيا: يقوم بتقييم هذه الأيام وتحويلها إلى وحدة مالية في صورة غرامة يومية، أخذ بعين الاعتبار القدرة المالية للمحكوم عليه وحاجاته الشخصية والأعباء الملقاة على كاهله، ودون أن يؤدي ذلك إلى سقوطه في الفاقة، وإهمال واجباته العائلية([334]).
وحاصل عدد أيام الغرامة في قيمة يوم الغرامة يعطي إجمالي مبلغ الغرامة الواجب دفعه لخزينة الدولة، ويكون مستحقا بصفة نهائية بعد تمام مدة أيام الغرامة المحددة في الحكم([335])، عكس عقوبة الغرامة التقليدية التي تكون واجبة النفاذ عند اكتساب الحكم قوة الشيء المقضي به نهائيا.
وقد أخذت بهذا النظام، أول الأمر حسب بعض الفقه([336])، فلندا منذ سنة 1921، ومنها عرف انتشارا واسعا في بعض الدول الأخرى كالسويد سنة 1931، وكوبا سنة 1936، والدانمارك 1939، وتبنته أيضا ألمانيا سنة 1975([337])، أما فرنسا فقد أدخلته إلى نصوصها الجنائية بموجب القانون الصادر في 10 يونيو 1983، ليحتـل مكانه ضـمن المـواد 5-131، 9-131، 25-131، 28-132 من قانون العقوبات([338]).
وحسب المادة 5-131 من قانون العقوبات الفرنسي" يجوز للمحكمة إذا كانت الجنحة معاقبا عليها بالحبس، أن تقضي بعقوبة الغرامة اليومية، بأن يدفع المحكوم علي المبلغ الإجمالي الذي يحدده القاضي للغرامة اليومية، لمدة عدد معين من الأيام إلى الخزانة العامة، ويتحدد مبلغ كل يوم من أيام الغرامة، مع مراعاة دخل المتهم وأعبائه، ولا يجوز أن يزيد على ألفي فرنك، كما يتحدد عدد أيام الغرامة بالنظر إلى ظروف الجريمة، ولا يجوز أن يزيد على ثلاثمائة وستين يوما"([339]).
فمن خلال هذه المادة، يمكن إبراز أحكام الغرامة اليومية([340]) في التشريع الجنائي الفرنسي، والتي تعد بمثابة قيود ملزمة للقاضي عند إقراره بهذه العقوبة، وتتمثل هذه الأحكام فيما يلي:
أولا: القاضي لا يوقع عقوبة الغرامة اليومية إلا في الجنح المعاقب عليها بالحبس فقط.
ثـانيا: لا تزيد عدد أيام الغرامة عن ثلاثمائة وستين يوما، وألا تتجاوز قيمة اليوم الواحد عن ألفي فرنك، أي ما يعادل ثلاثمائة يورو([341]).
ثـالثا: مراعاة القاضي عند الحكم بهذه العقوبة لظروف المحكوم عليه ودخله، وأعبائه.
ولا يمكن للقاضي وفقا للمادة 9-131 ق.ع.ف الجمع بين عقوبة الغرامة اليومية والغرامة في حكم واحد، وهذا ما يبين أن المشرع الفرنسي يميل إلى تطبيق الغرامة اليومية كبديل لعقوبة الغرامة أو عقوبة الحبس، كما لا يمكن له أن يجمع بينها وبين الشغل من أجل المنفعة العامة([342]).
وفي حالة عدم أداء المحكوم عليه للغرامة اليومية أو بجزء منها، فإنه يعاقب بالحبس لمدة تساوي نصف عدد أيام الغرامة التي لم يتم أداءها، ويعامل معاملة المكره بدنيا (المادة 25-131) وتفاديا لمثل هذه الحالة، فإن المشرع الفرنسي جعل بين يدي المحكوم عليه إمكانية دفع هذه الغرامة بالتقسيط خلال مدة لا تزيد على ثلاث سنوات، وذلك لاعتبارات ذات طابع عائلي، أو مهني أو اجتماعي (المادة 28-132) ([343]).
ولعل مثل هذه الأحكام تقريبا، نجدها عند التشريع العقابي الألماني الذي يعرف قضاءه تطبيقا واسعا لعقوبة الغرامة اليومية، وذلك لأهميتها في تفعيل وإنجاح سياسة الحد من العقاب، ونأمل ان تعرف السياسات الجنائية العربية، وعلى رأسها السياسة الجنائية المغربية، طريقها إلى مثل هذه العقوبة، التي تبدو أكثر تأقلما مع الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للمحكوم عليهم، وأقل وطأة من العقوبات الأخرى. وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للغرامة اليومية، فماذا عن المصادرة؟
المطـلب الثـانــي: المصــادرة
إذا كان بعض الفقه([344]) يعتبر المصادرة من ضمن البدائل العينية التي يمكن أن تحل محل العقوبات القصيرة، فإلى أي حد يمكن القبول بهذا الطرح؟ وما علاقة المصادرة بهذه العقوبات؟
الفقـرة الأولى : أهـميـة المـصادرة كبـديل للعـقوبة السـالبة
للحـرية قصـيرة المـدة
ليس من المبالغ فيه، اعتبار المصادرة بديلا مهما من البدائل الجنائية للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، وذلك لكونها قد تكون الأسلوب الملائم لردع أنماط عديدة من الجناة دون الزج بهم في ويلات السجن، فهي تهدف إلى إصلاح وتأهيل الجاني من خلال حرمانه من الأدوات أو الأشياء التي استعملها أو كان سيستعملها في ارتكاب جريمته أو التي تحصلت منها وبالتالي تحول المصادرة بينه وبين إعادة استعماله لها في جرائم أخرى([345])، كما تحرمه من المنح أو غيرها من الفوائد التي كوفئ بها مرتكب الجريمة، أو كانت معدة لمكافأته([346])، للحليولة دون استغلالها في اقتراف جرائم جديدة في المستقبل.
ولكن ما يجب التاكيد عليه، هو أن مجرد إبدال عقوبة السجن بعقوبة المصادرة وما يترتب عليها من تفادي المحكوم عليه وأسرته الآثار السلبية لسلب الحرية، ليس من شأنه محاربة أو تغيير القيم والمفاهيم الفاسدة المنحرفة المترسخة في نفس الجاني، والتي قد تدفعه مرة ثانية لسلوك درب الجريمة، لذلك فإن فعالية المصادرة كعقوبة بديلة تحتاج إلى برنامج إصلاحي تأهيلي يشتمل على ملف علمي لشخصية المحكوم عليه وظروف ارتكابه للجريمة، والذي على ضوئه يمكن معرفة مدى كفاية هذا البديل في تحقيق أغراض العقوبة.
وأخيرا، فإن عقوبة المصادرة شأنها شأن الغرامة، قد تكتسي طابعا تعويضيا([347]) يستفيد منه ضحايا الجريمة الذين أضحوا من الإهتمامات الرئيسية للسياسة الجنائية الحديثة.
الفـقرة الثـانيـة: المصـادرة فـي بعـض التـشريعات العقـابية
تأخذ العديد من التشريعات العقابية بالمصادرة لكنها تتباين في طبيعتها القانونية، فهناك من التشريعات ما تنص عليها كعقوبة، وهناك ما ينص عليها كتدبير وقائي، وهناك من يجمع بينهما أي ينص عليها كعقوبة من جهة، وكتدبير وقائي من جهة ثانية، بل ويمكن الحكم بها كتعويض.
وهكذا ذهب التشريع العقابي الليبي إلى إدارج المصادرة ضمن التدابير الوقائية المالية([348])، وجعلها وجوبية بالنسبة للأشياء المحصلة أو المكتسبة من الجريمة التي صدر فيها الحكم بالإدانة أو العفو القضائي ما لم يكن المالك شخصا لا يد له في الجريمة، أو الأشياء التي يعد صنعها أو استعمالها أو حملها أو حيازتها أو التصرف فيها جريمة في ذاته، وذلك حتى ولو لم يصدر حكم بالإدانة (المادة 163 قانون عقوبات ليبي).
وقد تكون جوازية حسب المادة 164 من نفس القانون التي نصت على أنه " في حالة الحكم بالعقوبة أو بالعفو القضائي، تجوز مصادرة الأشياء التالية:
1. الأشياء التي استعملت أو اعدت لارتكاب الجريمة([349]).
2. الأشياء التي يعد صنعها أو استعمالها أو حملها أو حيازتها أو التصرف فيها جريمة ما لم يوجد تصريح في شأنها من السلطات الإدارية.
ولا تطبق الأحكام السابقة إذا كان المالك شخصا لايد له في الجريمة ".
أما التشريع العقابي المصري([350])، فقد تناول المصادرة إما كعقوبة تكميلية في الجنايات والجنح وإما كتدبير احترازي وإما كتعويض، يتم من خلالها نقل ملكية المصادر إلى الطرف المضرور.
وذهب التشريع العقابي الفرنسي([351])، إلى اعتبار المصادرة كعقوبة تكميلية جوازية في الجنايات (المادة 10-131) وكعقوبة أصلية بديلة عن الحبس في بعض الجنح وتكميلية في البعض الآخر، أما في المخالفات فهي تعتبر إما كعقوبة أصلية على مقترفي جرائم المخالفات من الدرجة الخامسة (15و 14- 131 )أو كعقوبة تكميلية في بعض المخالفات الأخرى(18-16-131).
ويندرج تشريعنا الجنائي ضمن المجموعة التشريعية التي اعتبرت المصادرة إما كعقوبة إضافية (الفصول 43-44-45-46) أو كتدبير وقائي عيني (الفصل 62 ق.ج).
والمصادرة كعقوبة إضافية تتخذ صورتين فهي إما جزئية (ف 42 ق.ج ) أو عينية ف43 ق.ج) وهي تختلف عن كونها تدبيرا وقائيا عينيا، فالمصادرة كعقوبة إضافية يوقعها القانون كجزاء على الجريمة، أما المصادرة كتدبير وقائي فينظر فيها إلى الخطورة الإجرامية([352])، ثم إن المصادرة كعقوبة لكون جوازية للقاضي، أما كونها تدبير فهي تكون وجوبية يجب على القاضي الحكم بها حتى ولو انتهت الدعوى الجنائية إلى تبرئة المتهم([353]).
وأخيرا يمكن القول بأنه لا غرو في أن يكون من أغراض المصادرة تجنب الحكم بالعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، كلما كان ذلك ممكنا.
ولكن تحقيق هذا الغرض يتوقف على تدخل المشرع بتنظيم مثل هذه العقوبة واعتبارها صراحة من البدائل الهامة التي من شأنها أن تكون مؤثرة.
فهل يمكن اعتبار البدائل العقابية السالبة أو المقيدة للحقوق أو المزايا هي أيضا مؤثرة؟
المبحث الثالث: البـدائل السالبـة أو المقيدة للحقوق أو المزايا
تتجه السياسة الجنائية الحديثة إلى بسط العقوبات السالبة أو المقيدة للحقوق أو المزايا ضمن الملامح الرئيسية استراتيجية البدائل كنوع من المعاملة العقابية للمحكوم عليه الذي وإن كان يحتفظ بحقه في الحرية، فإنه يفقد أو تقيد صلاحيته في التمتع بحق أو ميزة من الحقوق أو المزايا القانونية ذات الطبيعة المدنية أو السياسية أو المهنية، بصفة نهائية أو بصفة محددة، على النحو الذي يسبب له إيلاما يحمله على الإصلاح والتهذيب والانخراط في المجتمع من جديد من داخله وليس بمنآى عنه أي داخل السجن.
وتحقيق هذه البدائل لأهدافها لا يتأتى بالحرمان المجرد من هذه الحقوق أو المزايا، وإنما يتأتى بالحرمان الواقعي لها، وهو حرمان يستند إلى برنامج إصلاحي فعال، يقوم على دراسة الجوانب المختلفة لشخصية المحكوم عليه، وظروفه الشخصية والمادية وظروف ارتكابه الجريمة، ويتم تنفيذ هذا البرنامج بمعرفة هيئات أو مؤسسات مختصة تحت إشراف قاضي تطبيق العقوبة([354]).
ويبدو أن أهميته العقوبات السالبة أو المقيدة للحقوق أو المزايا في تحقيق أغراض العدالة الجنائية، جعلتها تنتشر على نحو واسع في التشريعات الجنائية المعاصرة.
ففي التشريع الجنائي الفرنسي الجديد تنص المادة 6-131 منه على أنه " في مواد الجنح المعاقب عليها بالحبس، يجوز للمحكمة أن تقضي بعقوبة أو اكثر من العقوبات السالبة أو المقيدة للحقوق الآتية:
1. وقف الترخيص بالقيادة لمدة خمس سنوات على الأكثر.
2. حظر قيادة سيارات معينة خلال مدة خمس سنوات على الأكثر.
3. إلغاء رخصة القيادة على حظر تسليم رخصة جديدة لمدة خمس سنوات على الأكثر.
4. مصادرة سيارة أو أكثر من السيارات التي يملكها المحكوم عليه.
5. توقيف سيارة أو عدة سيارات يملكها المحكوم عليه لمدة سنة على الأكثر.
6. حظر حيازة أو حمل سلاح مما يخضع للترخيص لمدة خمس سنوات على الأكثر.
7. مصادرة سلاح أو عدة أسلحة يملكها المحوم عليه أو يكون له حق التصرف فيها.
8. سحب رخصة الصيد مع حظر تسليم رخصة جديدة لمدة خمس سنوات على الأكثر.
9. المنع من إصدار شيكات غير تلك التي تسمح للساحب باسترداد ماله لدى المسحوب عليه أو شيكات المعتمدة، وحظر استعمال بطاقات الوفاء، وذلك لمدة خمس سنوات على الأكثر.
10. مصادرة الأشياء التي استخدمت أو كانت معدة للاستخدام في ارتكاب الجريمة والأشياء المتحصلة منه، ومع ذلك لا يجوز الحكم بهذه المصادرة في جرائم الصحافة.
11.حظر مزاولة النشاط المهني أو الاجتماعي لمدة خمس سنوات على الأكثر مادام أن التسهيلات التي يتضمنها هذا النشاط قد استخدمت عن علم في التجهيز لارتكاب الجريمة أو في ارتكابها، ومع ذلك، فإن هذا الحظر لا يطبق على مباشرة الوكالة بالانتخاب، ولا تولي المسؤولية النقابية، وأيضا لا يطبق في مجال جرائم الصحافة"([355]).
كما يمكن أن تكون العقوبات السالبة أو المقيدة للحقوق أو المزايا بديلا للغرامة المنصوص عليها كعقوبة للمخالفات في الدرجة الخامسة، وتتحدد هذه العقوبات حسب المادة 14-131 من قانون عقوبات فرنسي فيما يلي:
1. وقف ترخيص القيادة الممنوح للجاني لمدة لا تزيد على سنة.
2. التحفظ على سيارة أو أكثر من السيارات التي يملكها الجاني لمدة لا تزيد على ستة أشهر.
3. مصادرة سلاح أو أكثر من الأسلحة التي يملكها الجاني.
4. سحب رخصة الصيد الممنوحة للجاني، مع فرض حظر على حصوله على رخصة جديدة لمدة لا تزيد على سنة.
5. منع الجاني من إصدار شيكات أو حظر استعماله لبطاقات الوفاء لمدة لا تزيد عن سنة.
أما المشرع المصري([356])، فإنه ينص على مثل هذه العقوبات، لكن إما كعقوبات تكميلية يستلزم الحكم بها بقوة القانون في الجنايات وفق للمادة 25 من قانون العقوبات المصري، وإما كتدبير من تدابير الوقائية كما هو منصوص عليه في المادة 118 مكرر.
ولم يخرج المشرع العقابي([357]) اللبناني عن هذا النهج مبرزا في عدة مواضيع صورا للعقوبات والتدابير المانعة أو المقيدة للحقوق والمزايا، والتي من بينها: الاسقاط من الولاية أو الوصاية (المادة 90 من قانون العقوبات) الحرمان من حق أحد الأعمال المهنية او الحرفية (المادة 94 منه) الحرمان من حق حمل السلاح (المادة 97) إغلاق الشخص المعنوي بصفة نهائية أو مؤقتة (المادة 13).
لكن ، إذا كان المشرع المصري ونظيره اللبناني لم يرقى بعد إلى طموحات السياسة الجنائية الحديثة بجعل هذه العقوبات أو التدابير صراحة بديلا للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، فإن تشريعنا الجنائي المغربي يسير في هذا التوجه اسوة بالمشرع الفرنسي، وذلك من خلال النص صراحة في المادة 29/4 من مشورعه الجنائي الجديد على العقوبات المقيدة للحقوق- المنصوص عليها في المادة 28و33 – كبديل للعقوبات السالبة للحرية بالنسبة للجنح والمخالفات([358]).
وهكذا أوردت المادة 28 من المشروع العقوبات المقيدة للحقوق والتي يجوز أن تكون محل إبدال بالنسبة للجنح، وهي كالتالي:
1. توقيف رخصة السياقة لمدة خمس سنوات على الأكثر.
2. إلغاء رخصة السياقة مع الحرمان من طلب الحصول على رخصة جديدة لمدة خمس سنوات على الأكثر.
3. مصادرة ناقلة واحدة أو أكثر من ملكية المحكوم عليه.
4. الحرمان من حيازة أو حمل سلاح خاضع للترخيص لمدة خمس سنوات على الأكثر.
5. مصادرة سلاح واحدا أو أكثر من أسلحة المحكوم عليه أو له حرية التصرف فيه.
6. سحب رخصة الصيد مع الحرمان من طلب الحصول على رخصة جديدة لمدة خمس سنوات.
7. الحرمان لمدة خمس سنوات على الأكثر من إصدار شيكات غير التي تسمح بسحب مبالغ من طرق الساحب لدى المسحوب عليه أو التي تكون مصادق عليه، ويطبق نفس التدبير بالنسبة لبطاقات الأداء.
8. مصادرة الشيء الذي استعمل في الجريمة أو كان سيستعمل في ارتكابها أو الذي تحصل منها.
9. الحرمان لمدة خمس سنوات على الأكثر من مزاولة نشاط مهني أو اجتماعي من كافة التسهيلات التي يوفرها هذا النشاط إذا استعملت عن قصد في تحضير او ارتكاب الجريمة ولا يطبق هذا الحرمان بالمقابل على ممارسة انتخابية أو مسؤولية نقابية.
أما العقوبات المقيدة للحقوق والتي يجوز الحكم بها كبديل عن الغرامة المنصوص عليها كعقوبة في المخالفات، فتحدد حسب المادة 33 من المشروع فيما يلي:
1. توقيف رخصة السياقة لمدة سنة على الأكثر.
2. مصادرة سلاح أو أكثر يملكها المحكوم عليه أو يتصرف فيها بحرية.
3. سحب رخصة الصيد مع حظر تسيلم رخصة جديدة لمدة سنة على الأكثر.
4. المنع من إصدار شيكات، لمدة سنة على الأكثر، غير تلك التي تسمح بسحب مبالغ من طرف الساحب لدى المسحوب عليه أو التي تكون مصادقة عليها، والحرمان من استعمال بطاقات الأداء.
5. مصادرة الشيء الذي استعمل أو كان سيستعمل في ارتكاب الجريمة أو الذي تحصل منها.
وإضافة إلى هذه العقوبات التي يتضمنها المشروع صراحة، يمكن تفعيل العقوبات التبعية أو الإضافية وبعض التدابير الوقائية الشخصية والعينية المنصوص عليها فيتشريعنا الجنائي وجعلها كعقوبات أصلية يمكن الحكم بها كبدائل للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة([359])، في نطاق من التقنين التشريعي المحكم القائم على بناء قانوني سليم، ومن هذه العقوبات أو التدابير: الحرمان المؤقت من ممارسة بعض الحقوق الوطنية أو المدنية أو العائلية، نشر الحكم الصادر بالإدانة، حل الشخص المعنوي (المادة 26 من ق.ج ) المنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن، إغلاق المحل…
وتنوع هذه الجزاءات أو التدابير والتي يمكن أن تحل محل الحبس قصير المدة سيمنح القاضي مرونة في اختيار البديل الملائم لشخصية المحكوم عليه، وظروف ارتكابه الجريمة، ومعيار الملاءمة هو الذي سيعكس نجاج هذه البدائل وتقبلها من الرأي العام، فلا يتصور أن يحكم القاضي على شخص غني بعقوبة سلب رخصة الصيد، وهو لديه من المنافذ ما يغنيه عنها، أو يحكم بعقوبة سلب رخصة السياقة على من ليس له مورد رزق سوى الشاحنة التي يعمل بها في نقل البضائع([360])، فالقاضي يلجأ إلى عقوبة سلب رخصة السياقة مثلا، في الحالة التي تكون مجدية، تؤدي إلى الشعور بالحرمان المعقول من استعمال هذا الحق.
ويرى البعض([361]) أن تطبيق البدائل السالبة أو المقيدة للحقوق لا يرتبط بطبيعة الجريمة-مخالفة-جنحة-جناية- إنما يجب أن يرتبط بطبيعة العقوبة التي تكون في جميع الأحوال عقوبة حبسية، كما أنه ليس من الضرورة وجود تلازم بين الجريمة المرتكبة والجزاء المحدد، فالقاضي يمكن أن يحكم بسحب رخصة الصيد أو السياقة على من يرتكب سرقة في محلات تجارية.
وحتى تحافظ هذه البدائل على قيمتها العقابية، يجب أن تقترن بشرط معلق، وهو ضرورة احترام هذه البدائل، وعدم خرق الالتزامات و الامتناعات الناتجة عنها، وإلا تعرض مخالفها لعقوبة يحددها المشرع ويترك لقاضي تطبيق العقوبة سلطة تقديرية واسعة في إيقاعها او إبدالها بما هو أنسب.
وفي ختام هذا الفصل ، نؤكد مرة ثانية على أهمية هذه البدائل التي تزخر بها النظم الجنائية وخاصة المقارنة التي لم تدخر جهدا في البحث عن بدائل أخرى تقطع الصلة مع كل تضمين جنائي وتتخذ من القنوات غير الجنائية والمسالك العلاجية أساسا لها.
الفصــل الثاني:
بـدائـل الـعقـوبة السـالبة للحـرية قـصيـرة الـمـدة
خـارج الـنطـاق الجـنائي
أمام ما يعرف بأزمة السياسة الجنائية وقصورها عن تحقيق أهداف العدالة الجنائية والاقتناع التام بكون العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة تدنس ولا تطهر فضلا عن أنها لا تفلح في تحقيق إعادة التأهيل الاجتماعي للمحكوم عليه، اتجهت التيارات الحديثة للسياسة الجنائية المعاصرة إلى تبني مبدا تقييد التدخل الجنائي بالحد الأدنى[362] واعتبار الأداة الجنائية الملاذ الأخير لحماية المصالح الاجتماعية المختلفة.
وقد أدى هذا التوجه الحديث إلى التخفيف من حدة التدخل الجنائي والاستعانة ببدائل قانونية غير جنائية (المبحث الأول) وبدائل مجتمعية (المبحث الثاني) تسعى في عمومها إلى مواجهة الظاهرة الإجرامية على النحو الذي يكفل نوعا من التناسب والفعالية.
المبحث الأول: بدائل غير جنائية
إن البحث عن بدائل توفرها قوانين غير جنائية هو تجسيد لظاهرة الحد من العقاب التي تقتضي " رفع الصفة التجريمية عن فعل غير مشروع طبقا لقانون العقوبات، لصبح بالتالي مشروعا من الناحية الجنائية، ولكن يظل غير مشروع طبقا لقانون آخر، يقرر له جزاءات قانونية أخرى غير الجزاءات الجنائية[363]" وغالبا ما تجد هذه الجزاءات أساسها في القانون المدني (المطلب الأول) وفي القانون الجنائي الإداري[364] (المطلب الثاني).
المطلب الأول: في القانون المدني
يتضمن القانون المدني جزاءات عديدة يمكن أن تكون الجواب الكافي لبعض المخالفات والجنح البسيطة بل وقد تكون أكثر فعالية في تحقيق ما عجز عنه الجواب الجنائي. ومن أهم هذه الجزاءات نذكر التعويض (الفقرة الأولى) والرد (الفقرة الثانية).
الفقــرة الأولـى: التعـــويــض
يصف بعض الفقه([365]) المعاصر نظام التعويض بأفضل الأساليب التي يمكن أن تعتمدها السياسة الجنائية الحديثة للحلول محل العقوبات القصيرة، وإعادة التوازن الاجتماعي والاقتصادي والقانوني الذي أخلت به الجريمة المطلوب التعويض من أجلها، وذلك عن طريق كفالة حقوق كل من ضحايا الجريمة والجناة بالشكل الذي يستجيب والتوجهات الكبرى للسياسة الجنائية المعاصرة التي باتت تحرص ليس فقط على ضمان حصول المجني عليه على حقه في التعويض، بل كذلك تحرص على ضمان معاملة عقابية للجاني تهدف إلى إصلاحه وإعادة تأهيله للاندماج في النسيج الاجتماعي خاصة بعد أن يكون قد التزم ووفى بدينه اتجاه ضحيته([366]) ولم يعد هناك ما يدعو للزج به في مثالب السجن و ما ينتج عنه من أضرار مادية ومعنوية.
وقد تبلور هذا الاهتمام بشكل واضح في توصيات المؤتمر الدولي الحادي عشر لقانون العقوبات الذي عقد في بودابست حيث أكد في إحدى توصياته " أن تعويض المجني عليه يعد وسيلة فعالة للجزاء الجنائي على الخصوص بإعادة التكييف الاجتماعي للمحكوم عليه"([367]).
وحتى يقوم التعويض بهذا الدور التربوي عمدت بعض التشريعات العقابية المقارنة إلى الحكم به إما كعقوبة أصلية بديلة عن الحبس أو كعقوبة تكميلية لعقوبة بديلة أخرى مثل الشغل من أجل المنفعة العامة أو الاختبار القضائي أو تأجيل النطق بالعقاب.
وهكذا نجد التشريع العقابي الألماني نص في مادته 46/1 على التعويض وإصلاح أضرار الجريمة كبدائل أصلية للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة([368]) وهو نفس المسلك الذي نهجه التشريع العقابي الفرنسي في العديد من نصوصه.
ففي المادة 469/2 من قانون الاجراءات الجنائية الفرنسي يكون التعويض شرط الإعفاء من العقاب أو تأجيل النطق بالعقوبة([369]) في الكثير من الجرائم القليلة الخطورة التي لا تستوجب الحكم بالسجن على الجاني.
ويشترط المشرع الفرنسي أيضا في قانون العقوبات الجديد لتطبيق نظام الاختبار القضائي أو الشغل من أجل المنفعة العامة أن يلتزم الجاني بتعويض المجني عليه.
وتذهب بعض التشريعات العربية إلى إقرار مثل هذا الالتزام ومنها التشريع السوداني الذي يعلق تسريح الجاني تحت الاختبار القضائي على تعويض المجني عليه المضرور([370]).
ولضمان فعالية التعويض كعقوبة بديلة في تحقيق التوازن المطلوب بين طرفي الجريمة أقرت السياسة الجنائية المعاصرة مجموعة من الضمانات التي يمكن من خلالها حث الجاني على تعويض المجني عليه وإجباره على تحمل مسؤوليته على النحو الذي يشعره بالألم الذي هو طريقة الى الردع والتأهيل.
وتتمثل هذه الضمانات فيما يلي:
1. اللـجـوء الـى الاكـراه البـدنـي
يعتبر نظام الإكراه البدني من الوسائل التقليدية التي ما زالت تعتمد عليها بعض التشريعات الجنائية لإجبار الجاني على دفع التعويض، فالمادة 519 من قانون الإجراءات الجنائية المصري تجبر محكمة الجنح التي بدائرتها المحكوم عليه، أن تحكم عليه بالاكراه البدني، بعد التنبيه عليه بتنفيذ الحكم الصادر للضحايا بالتعويض، وذلك إذا ثبت أنه قادر على الدفع وأمرته به ولم يمتثل([371]) ويقابل هذه المادة في تشريعنا الجنائي المادة 635 من قانون المسطرة الجنائية الجديد التي نصت على أنه "يمكن تطبيق مسطرة الإكراه البدني في حالة عدم تنفيذ الأحكام الصادرة بالغرامة ورد ما يلزم رده والتعويضات والمصاريف، إذا تبين أن الإجراءات الرامية إلى الحصول على الأموال المنصوص عليها في المادة السابقة بقيت دون جدوى أو أن نتائجها غير كافية.
يتم الإكراه البدني بإيداع المدين في السجن وفي جميع الأحوال فإنه لا يسقط الالتزام الذي يمكن أن يكون محلا لإجراءات لاحقة بطرق التنفيذ العادية… "
وإذا كان البعض([372]) يدعم نظام الإكراه البدني كوسيلة للمحافظة على مصالح ضحايا الجريمة وكافة المضرورين منها، متجاهلا ما قد ينتج عن هذا النظام من مساوئ مادية ومعنوية لا تقل عن تلك التي تنتج عن العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، فإن التوجه الحديث للسياسة الجنائية أضحى ينادي بضرورة تضييق نطاق تطبيق الإكراه البدني وإبداله ببدائل([373]) كفيلة بضمان حصول المجني عليه على حقه في التعويض.
وقد أكدت على هذا المعطى القانوني الندوة العربية لحماية حقوق الإنسان في قوانين الإجراءات الجنائية في العالم العربي التي عقدت في القاهرة في المدة من 16 الى 20 ديسمبر 1989، حيث أوصت في بندها الثالث بأنه "من الملائم التضييق من مجال تطبيق نظام الإكراه البدني وفقا لقيود يقررها القانون ويتعين أن يستعاض عنه- في حالات عدم جواز تطبيقه- بخدمة عامة يؤديها المحكوم عليه"([374]).
ويمكن إضافة إلى الشغل من أجل المنفعة العامة، اعتبار تقسيط التعويض على غرار تقسيط الغرامة، من البدائل المهمة للإكراه البدني التي بإمكانها تحقيق أهداف تربوية وإصلاحية للمحكوم عليه الذي يحرص على العمل والمواظبة عليه وبذل مزيد من الجهد لكي يستطيع دفع القسط في ميعاده للمجني عليه إرضاءا له وللعدالة أيضا.
2. أولويـة التعويض علـى الغرامة فـي التـنفيذ على اموال المحكوم عليه
تنص المادة 634 من قانون المسطرة الجنائية الجديد على أنه" إذا كانت أموال المحكوم عليه غير كافية لتحصيل المصاريف والغرامة ورد ما يلزم رده والتعويضات فيخصص المبلغ المحصل وفقا لنظام الأسبقية الآتي:
1- المصاريف القضائية
2- رد ما يلزم رده
3- التعويضات
4- الغرامات
والأكيد أن هذه الأولوية تعكس مكانة الضحية في السياسة الجنائية المعاصرة التي تسعى إلى كفالة حقوقه على النحو الذي يرضي المجني عليه ويجمد رغبة الانتقام لديه.
3. رد الاعتبار معلق على شرط أداء التعويض
إن استفادة الجاني من حقه في رد الاعتبار من جهة، وإمكانية خضوعه لنظام العقوبات البديلة من جهة أخرى، رهين بالتزامه بأداء التعويض المستحق للمجني عليه([375]).
وربط رد الاعتبار القضائي بأداء التعويض من شأنه أن يقوي الدور العقابي لهذه العقوبة التي تصب في اتجاه تأهيل الجاني وإصلاحه بعيدا عن مخاطر السجن والسجناء.
وبهذه الضمانات يمكن التأكيد على أهمية القيمة العقابية للتعويض كبديل في جبر الضرر وإصلاح ما أفسدته الجريمة وخاصة الجريمة الاقتصادية التي تستوجب التعويض عن الأضرار الناتجة عنها، على وجه السرعة واليقين([376])، بما يتماشى والحفاظ على المصالح الاقتصادية للمتضرر الذي قد لا يجد في العقوبات الجنائية ما يصبو إليه، ولذلك أكد بعض الفقه المغربي([377]) على أنه" لا حاجة الى العقوبات الجنائية كلما لم ينشأ عن الفعل ضرر بالمجتمع، فكلما تعلق الأمر بضرر شخصي يمكن اللجوء إلى وسائل القانون المدني والاكتفاء بها".
وأخيرا، لا بد من الإشارة إلى مكانة التعويض في الشريعة الإسلامية حيث يعتبرها بعض الفقهاء دية ضمان وليست عقوبة([378])، فيها ذهب البعض الأخر إلى اعتبار الدية عقوبة جنائية بدلية تقررت بدلا من العقوبة الأصلية وهي القصاص، كلما امتنع أو سقط سبب من أسباب السقوط([379])، ويذهب اتجاه ثالث إلى تحديد طبيعة الدية في كونها عقوبة وتعويض معا.([380])
والأصل في مشروعية الدية، القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الفقهاء فأما في كتاب الله تعالى قوله" وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مومنة ودية مسلمة إلى أهله إلا ان يصدقو"([381]) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول "الا أن قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الابل"([382]) ، وقد اتفق الفقهاء على وجوب الدية ولم يخالف ذلك أحدا منهم.
الفقـرة الثانية: الـــرد
عرفت المادة 106 من القانون الجنائي الرد بأنه "إعادة الأشياء أو المبالغ أو الأمتعة المنقولة الموضوعة تحت يد العدالة إلى أصحاب الحق فيها، وأضافت في الفقرة الثانية بأنه يمكن للمحكمة أن تأمر بالرد ولو لم يطلبه صاحب الشأن".
وبهذا التعريف يكون المشرع المغربي قد اعتنق مفهوما ضيقا للرد يقتصر على رد الأشياء التي وضعت بين يدي العدالة بمناسبة ارتكاب جريمة، إلى أصحاب الحق فيها،([383]) وإن كان القضاء المغربي([384]) يسير في اتجاه تبني المفهوم الواسع للرد الذي يعني ارجاع الحال الى ما كانت عليه قبل ارتكاب الجريمة.
ومن أمثلة الرد رد المال المسروق أو الذي استولى عليه الجاني كأثر لجريمة الاحتيال أو إساءة الائتمان أو إغلاق مخزن فتح بصورة مخالفة للقانون أو إبطال العقد الذي انتزع التوقيع عليه بالقوة أو إبطال الأوراق المزورة.
والرد في كلا المعنيين، يعد من مستجدات قانون المسطرة الجنائية الجديد التي جاءت لتدعيم الدور الاجتماعي للنيابة العامة([385]) المتمثل في القضاء الفوري على آثار الجريمة، وإعادة النظام الاجتماعي إلى توازنه وإصلاح الأضرار الاجتماعية الناجمة عن الجريمة، وعلى تحقيق وطأة الفعل الإجرامي على الضحية.
ولا يقتصر هذا الدور على النيابة العامة، وإنما قد يفعل في جميع مراحل الدعوى العمومية([386]) إذ يجوز في مرحلة التحقيق الإعدادي حسب المادة 106 ق.م.ج للمتهم وللطرف المدني ولكل شخص آخر يدعي أنه له حقوق على شيء محتفظ به لدى العدالة أن يقدم طلبا لقاضي التحقيق لإسترداده أو استرداد ثمنه، إذا كان قاضي التحقيق قد قرر بيعه خشية فساده أو تلفه أو لتعذر الاحتفاظ به" ويبقى قاضي التحقيق هو المختص بالبث في رد الأشياء المحجوزة ولو بعد صدور قرار بعدم المتابعة.
أما في مرحلة المحاكمة فإنه طبقا للمادة 107 من ق.ج. يجوز للمحكمة علاوة على ذلك، بقرار معلل بناء على طلب المجني عليه أن تأمر برد:
1. المبالغ المتحصلة من بيع الأشياء أو الأمتعة المنقولة التي كانت له الحق في استردادها.
2. الأشياء أو الأمتعة المنقولة المتحصل عليها بواسطة ما نتج عن الجريمة، مع احترام حقوق الغير".
وإذا كان الرد في جوهره يعد بمثابة إصلاح للأضرار المترتبة على الجريمة وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل حدوثها، فإن بعض الفقه([387]) ذهب إلى اعتباره من البدائل القانونية غير الجنائية التي يمكن أن تحل محل العقوبات الحبسية وثؤثر على الجاني بفعل دورها الردعي الذي قد يمس جانبه المادي والمالي وكذلك النفسي.
لكن وعلى ما يبدو، فإن الاقتصار على الحكم بالرد بشكل مجرد قد يخل بميزان العدالة الجنائية لصالح الجاني الذي وإن كان سيعامل بنقيض قصده بحرمانه من المغانم التي حصل عليها أو حاول الحصول عليها من الجرم الذي اقترفه، إلا أنه يجب إضافة إلى الحكم بالرد، الحكم عليه بالتعويض المناسب للضرر الذي تسبب فيه سواء على المستوى المادي أو المعنوي، وذلك احقاقا للعدالة الاجتماعية التي يعد التوازن بين أطرافها من مقوماتها الأساسية.
ومن هذا المنطلق، يتبين أهمية الرد المقترن بالتعويض في تحقيق الأهداف التربوية و الإصلاحية دون الحاجة إلى الجزاءات الجنائية التي يمكن أن يكون الجواب الأخير لمكافحة الجريمة، ومن تم، إفساح المجال للمجزاءات تتماشى وسياسة الحد من العقاب كالجزاءات الإدارية مثلا.
المطلب الثاني: القـانـون الجـنائـي الإداري
يعتبر القانون الجنائي الإداري من الآليات القانونية الجديدة التي أضحت ترتكز على سياسة الحد من العقاب كتيار حديث للسياسة الجنائية والداعية إلى تهذيب نظام العدالة الجنائية وتقديم الحلول المناسبة، بمنأى عن التدخل الجنائي في معترك الصراعات الاجتماعية إلا عند الضرورة([388]) القصوى التي تتمثل في فشل أو عدم كفاية الأنظمة القانونية الأخرى المتجردة من الصفة العقابية في حماية المصلحة الاجتماعية محل التحريم.
وبحكم خصوصية القانون الجنائي الإداري كقانون تدخلي([389]) له ذاتيته الخاصة تمكنه من معالجة الكثير من المشاكل القانونية والاجتماعية والتي تأتي على رأسها معضلة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة. فأين تتجلى هذه الذاتية أو خصوصية القانون الجنائي الإداري؟ وإلى أي حد يمكن القبول به كبديل للجزاء الجنائي؟
الفقرة الأولـى: خـصوصـية القـانـون الجنـائي الاداري
إذا كان القانون الجنائي الإداري هو ذلك الفرع الذي ينص على جرائم إدارية ويحدد جزاءات إدارية توقعها جهة الإدارة([390]) على غير الخاضعين لها والمتعاملين معها، فإن طبيعته المزدوجة الإدارية والجنائية أضفت عليه خصوصية ساهمت في تحديد توجهاته الأساسية.
وتتمثل هذه الخصوصية في مرونة المبادئ الجنائية التقليدية ( (Iوالتجاوز عن الشكليات والإجراءات الجنائية المعروفة في النظام الجنائي العادي ومحاولة تبسيطها بالشكل الذي يضفي على الدعوى الإدارية الجنائية نوع من السرعة والفعالية المطلوبين(II).
I– مرونة المبادئ الجنائية في القانون الجنائي الاداري
لما كانت موضوعات القانون الجنائي الإداري([391]) لا تخرج أساسا عن تلك الجرائم التي تتعلق بالمال والأعمال كالجرائم الضريبة والجمركية وجرائم الاستهلاك وجرائم البيئة والصحة والبناء وجرائم المرور وغيرها من الجرائم التي تصنف ضمن التشريع الجنائي الاستثنائي كان مبررا أن يتحرر نسبيا هذا القانون في معالجة ومكافحة لهذه الجرائم من القيود والمبادئ الأساسية الكابحة لجماح الدولة في ممارسة حق العقاب والتعامل معها على النحو الذي يحقق ردع بعض الأفعال غير المشروعة القليلة الخطورة، ينسجم مع فلسفة القانون الجنائي الإداري كمظهر من مظاهر سياسة الحد من العقاب ويمكن تناول بعض هذه المبادئ فيما يلي.
1. مبـدأ الشـرعيـة الجـنـائــية
يثير مبدأ الشرعية الجنائية في القانون الجنائي الإداري عدة إشكالات قانونية تناولها فقهاء هذا القانون بالدرس والتحليل، فمن المعلوم أن مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص المتعارف عليه عالميا فرضته ضرورة المحافظة على حقوق الأفراد والمجتمع وتوفير ضمانات قانونية وإنسانية من شأنها كبح جماح الدولة ومنعها من التدخل خارج الحدود والأوضاع التي يعينها القانون.
ولأهمية هذا المبدأ في حماية الحريات الفردية وعدم التعسف بها سارعت الدول التي تبنت القانون الجنائي الإداري إلى التأكيد على ضرورة احترامه، وهكذا نجد أن المشرع الألماني([392]) حرص على النص على هذا المبدأ في كل من المادتين الأولى والثالثة من قانون العقوبات الإداري الصادر في يناير 1975 فتنص المادة الأولى منه –بصدد تحديدها للجريمة الإدارية على أنه" كل عمل غير مشروع يتكون من فعل منصوص عليه في قانون يعاقب على ارتكابه بغرامة إدارية " وتنص المادة الثالثة منه على أنه" يعاقب عن فعل بكونه غير مشروع إداريا، إذا ما كان العقاب منصوص عليه في قانون مطبق قبل وقوع الفعل".
و سار المشرع الإيطالي([393]) على نهج نظيره الألماني فأكد بدوره على ضرورة خضوع أحكام قانون العقوبات الإداري لمبدأ الشرعية من خلال المادة الأولى من هذا القانون- رقم 689 لسنة 1981- والتي نصت على أنه" لا يخضع أحد لجزاءات إدارية إلا على الحالات التي تقع بعد صدورها".
وحتى بالنسبة للتشريعات التي لم تأخذ بعد بالقانون الجنائي الإداري كنظام متكامل فإنها تؤكد على مبدأ الشرعية الجنائية في جميع الحالات التي يكون فيها للإدارة سلطة فرض جزاءات إدارية -ومن هذه التشريعات نذكر تشريعنا المغربي الذي نص في المادة 90 من القانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة([394]) في حالة مخالفة قواعد هذا القانون- على أنه " تصدر العقوبات الإدارية بقرار صادر عن الجهة المنصوص عليها في المادة 86 أعلاه بعد استطلاع رأي المصلحة الخارجية للإدارة الراجع إليها أمر البضاعة والمنتوج أو الخدمة المقصودة" وتتحدد هذه العقوبات الإدارية حسب المادة 91 من نفس القانون في شكل إنذار أو غرامة أو مصادرة كلية أو جزئية للمدخر السري.
ولكن وعلى الرغم من ذلك، يبقى مدلول مبدأ الشرعية الجنائية في نطاق القانون الجنائي الإداري أكثر مرونة سواء في مغزاه أو في نتائجه([395]) مما هو عليه الحال في القانون الجنائي التقليدي، ذلك أنه إذا كان هذا الأخير يتحرى الدقة والوضوح في تحديد شقي القاعدة الجنائية، فإن نصوص القانون الجنائي الإداري غالبا ما ترد في صيغ عامة وفارغة وخاصة فيما يتعلق بنص التكليف، فقد يضطر المشرع في أحيان كثيرة إلى تحديد الفعل محل الجريمة الإدارية، ويترك اللائحة تحديد ركنيه المادي والمعنوي بكامل الحرية وعلى وجه الدقة، ومن أمثلة ذلك جريمة تلويث الهواء في القانون المغربي التي تتحقق بمجرد عدم احترام شرط أو تقييد أو منع مفروض من لدن الإدارة أو برفض الامتثال للتعليمات الصادرة من الإدارة أو بعرقلة أو منع بأي شكل من أشكال تنفيذ الإجراءات الاستعجالية التي تأمر بها الإدارة (المادة 18 من القانون المغربي المتعلق بمكافحة تلوث الهواء الصادر في 19 يونيو 2003).([396])
وإذا كان من نتائج مبدأ الشرعية الجنائية في نطاق القانون الجنائي التقليدي انفراد السلطة القضائية بتطبيق وفرض الجزاء استنادا على قاعدة لا عقوبة إلا بحكم قضائي فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للجزاءات الإدارية ذات الطبيعة العقابية التي توقعها السلطات الإدارية باعتباره خصم وحكم فهي عدالة بدون قاض وهذا فيه مساس بمبدأ الفصل بين السلطات الذي يعد من مقومات مبدأ الشرعية لكن هذا المساس سرعان ما يبقى نسبيا وليس مطلقا إذا علمنا أن من حقوق المتهم بالجريمة الإدارية أن يطعن في الجزاء الذي فرضته الإدارة عليه أمام القضاء([397]) بوصفه الحارس الطبيعي للحقوق والحريات.
وليس ثمة اعتراض على تفويض التشريع للإدارة ما دامت الضرورة تفرضه وطالما لا يمس بالحرية المدنية، وذلك أن متطلبات السياسة الجنائية المعاصرة أضحت في أمس الحاجة إلى إعطاء الإدارة التدخل في تطبيق القانون الجنائي وفسح المجال أمام طرق غير جنائية لتسوية النزاعات، يقول بعض الفقه المغربي([398]) " لا بد من الاقتناع بأن الزمن الذي كان يعتبر فيه تخويل كل السلطات المتعلقة بتطبيق القانون الجنائي للقضاء ضروريا ولا غنى عنه قد ولى ومضى، وأن من شأن هذا المنطق يخنق الجهاز القضائي ويعجزه، ويؤدي إلى نتائج سلبية على مستوى ما يتطلبه تحقيق العدل، لابد إذن من إعادة التفكير، ومن جديد في توزيع المهام والاختصاصات بين الجهاز القضائي والجهاز الإداري وحصر تدخل الأول في حماية القيم الأساسية بالنسبة للمجتمع أما فيما عدا ذلك فيمكن الاعتماد على طرق أخرى لتسوية النزاع".
ولعل تدخل الإدارة- السلطة التنفيذية- في تطبيق القانون الجنائي فرض نوعا من المرونة في الأداة التشريعية كي يتسنى لها مواجهة الظواهر الاقتصادية والمالية المتقلبة، ومن تم، فهذا التدخل يصل إلى مبتغاه إذا عهد به إلى الحكومة أو الوزير المختص أو حتى لجنة فنية مختصة تستطيع تحقيق التوازن بين متطلبات هذه المرونة وبين توفير قدر ممكن من الضمانات التي تبعدها عن التعسف أو شطط قد تسقط فيه.
2. مبــدأ التنـاسـب
يعتبر مبدأ التناسب من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها كل من القانون الجنائي العادي والقانون الجنائي الإداري وإن كانت حمولته القانونية أكثر ليونة وبساطة كلما تعلق الأمر بالنوع الثاني دون الأول.
ويقصد بمبدأ التناسب تلك العلاقة الملائمة التي تربط بين شقي القاعدة الجنائية بحيث يكون الإيلام المتضمن في شق الجزاء متناسبا مع جسامة الخطأ وكافيا لحمل المخاطبين على احترام الالتزامات التي يتضمنها شق التكليف من جهة، ومؤديا إلى تحقيق أهداف الجزاء من جهة أخرى([399]) " أو هو تلك العلاقة الملائمة التي تربط بين الجزاء الإداري ودرجة الخطأ محل هذا الجزاء ومدى كفايته في تحقيق أهدافه.
هذا، ويرتبط مبدأ التناسب في نطاق القانون الجنائي الإداري بطبيعة العقوبة ونوعها من جهة، والمصالح والقيم الاجتماعية والاقتصادية محل الحماية من جهة ثانية، وهو في تحديد لهذه العناصر أهمية خاصة تعكس طبيعته الذاتية ذلك أن العقوبات الإدارية لا تخرج عن كونها عقوبات مالية أو عقوبات مقيدة أو سالبة للحقوق أوالمزايا ([400]) ولا تصل في حال من الأحوال إلى حد العقوبات السالبة للحرية التي تبقى منتقدة من عدة أوجه ومنها معارضتها للدستور الذي يؤكد في مختلف التشريعات على أن القضاء هو الحارس الطبيعي للحريات الفردية([401])، واقتصار القانون الجنائي الإداري على مثل هذه العقوبات لا يقلل من أهمية مبدأ التناسب كما هو متعارف عليه في القانون الجنائي العادي خاصة وأن طبيعة الجرائم التي تكون محل الجزاءات الإدارية هي جرائم اقتصادية بالأساس يقتضي الأمر لردعها خضوعها لجزءات اقتصادية ومالية تفرضها الإدارة ضمن الحدود التي يقرها المشرع، وتكون مدعوة إلى احترامها بما يتماشى ومبدأ التناسب وإلا وصف جزاءها بكونه متعسفا وغير منطقيا.
أما فيما يخص علاقة مبدأ التناسب بالمصالح والقيم الاجتماعية والاقتصادية محل الحماية فإنها تتحدد وفق معيار موضوعي اساسه جسامة الخطأ وخطورته على هذه القيم والمصالح، فإذا كان الفعل ينطوي على جانب من الخطورة التي تشكل تهديدا جديا للقيم والمصالح الجوهرية في المجتمع، يشكل جريمة جنائية، وجب استخدام الجزاء الجنائي، أما إذا كان الضرر أو الخطر الذي ينطوي عليهما الفعل قليل الأهمية ولا يشكل مساسا جديا بالقيم أو المصالج الجديرة بالحماية القانونية، وجب استخدام الجزاء الإداري([402]). ولعل هذا المعيار يتماشى مع توصيات المؤثمر التمهديدي للمؤتمر الدولي الرابع عشر لقانون العقوبات التي دعت إلى حصر تطبيق قانون العقوبات على حماية المصالح الأساسية للمجتمع، أما بالنسبة للأفعال الموجودة في قانون العقوبات والتشريعات الجنائية التكميلية والتي لا تمس المصالح الأساسية للمجتمع فإنها تعد النطاق الجوهري لقانون العقوبات بحيث ترفع عنها صفة التجريم وتقرر لها جزاءات إدارية([403]) .
لكن قد يوصف هذا المعيار بكونه نسبي ينبثق من نسبية مفهوم النظام العام الذي يبقى من المفاهيم المرنة، ومن تم، فالمصلحة أو القيمة الاجتماعية تعتبر مصلحة أولية وأساسية لدى البعض، وقد تعتبر ثانوية لدى البعض الآخر، الأمر الذي قد يخل بمبدأ التناسب كمحدد موضوعي للفعل، لذلك نجد بعض الفقه([404]) يأخذ بمبدا الاحتياط كمبدأ مكمل لمبدأ التناسب يساعد على تحديد رد فعل مناسب.
3. التوسـع بالأخذ بمبدأ مسؤولية الشخص المعنوي في القانون الجنائي الإداري
إذا كانت هناك بعض التشريعات الجنائية لم تقر بصفة عامة بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي فإنها اضطرت إلى الاعتراف بهذه المسؤولية بشكل موسع في نطاق القانون الجنائي الإداري بعدما تبين لها يسر إقرار هذه المسؤولية من عدة أوجه([405]) ذلك أن المسؤولية الإدارية الجنائية للشخص المعنوي لا تثير الكثير من الصعوبات القانونية مثلما هو عليه الحال في المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، كما أن قيام هذه المسؤولية في كثير من الأحيان على أساس الخطأ المفترض لاعتبار الفعل المرتكب جريمة إدارية والتي تكون في غالبيتها من الجرائم المادية([406]) ( جرائم الضريبة، جرائم البيئة، جرائم الجمركية، جرائم الاستهلاك) أدى إلى التقليل من صعوبة عدم إسناد خطأ شخصي للكيان المعنوي، ثم إن طبيعة العقوبات الإدارية التي لا تخرج عن كونها عقوبات مالية او سالبة أو مقيدة للحقوق تتوافق بشكل كبير مع المركز القانوني للشخص المعنوي.
و هكذا أقر المشرع الالماني في المادة 30 من قانون العقوبات الإداري مسؤولية الشخص المعنوي في الجرائم الإدارية التي تقع لصالحه وبواسطة ممثليه على ألا تزيد قيمة الغرامة الإدارية التي يمكن فرضها على الشخص المعنوى مليون مارك إلا استثناءا، كما سار المشرع الايطالي على نهج نظيره الألماني وأقر المسؤولية الإدارية الجنائية للشخص المعنوي في المادة 316 من قانون العقوبات الاداري لكن تبقى هذه المسؤولية بالتضامن مع الفاعل.([407])
4. الميل الى التسوية بين الفاعل الأصلي والشريك في القانون الجنائي الاداري
يعد التمييز بين الفاعل الأصلي والشريك من المبادئ والمفاهيم الثابتة في القانون الجنائي الإداري والتي يمكن تحديدها بشكل دقيق وواضح، لكن هذه الدقة والوضوح تكاد تنعدم كلما اقتربنا من أحكام القانون الجنائي الإداري حيث تكون متابعة الشريك في نطاقه بمثابة الفاعل الأصلي ويخضع لنفس المعاملة التي يخضع لها هذا الأخير، وتطبيقا لذلك يرى بعض الفقه الفرنسي([408]) أن الصياغة الواسعة التي أقر فيها المشرع جريمة الغش الضريبي (المادة 743/2 من المدونة العامة) تسمح بتوقيع العقاب على الأعمال المساعدة أو المساعدة لارتكاب الغش ولو لم يتحقق الفعل الاصلي في الجريمة.
وإضافة إلى هذه المبادئ التي تحكم الجزاءات الإدارية أو القانون الجنائي الإداري بصفة عامة هناك العديد من المبادئ التي تجد أصلها في النظرية العامة للجريمة في القانون الجنائي: شخصية العقوبة، التقادم، الظروف المخففة والمشددة، أسباب التبرير، الركن المادي الركن المعنوي… والتي يعد وجودها من الضمانات الموضوعية التي يتقرر عليها الجزاء الإداري العقابي غير أن تطبيقها يتسم في عمومها بمقدار من المرونة والبساطة التي تنعكس بدورها على فاعلية هذا الجزاء وسرعة الإجراءات المتصلة به.
II-التحرر من الضمانات الإجرائية والشكليات في القانون الجنائي الإداري
لم تقف ملامح الذاتية أو الخصوصية عند الجانب الموضوعي للقانون الجنائي الإداري بل امتدت إلى جانبه الإجرائي وذلك من خلال صياغته في قوالب شبه مفتوحة أضفت عليه نوعا من التحرر من القيود الإجرائية والشكلية المعمول بها في قواعد المسطرة الجنائية.
وقد استتبع هذا التغيير، والتحرر في النموذج الأصلي تغييرا موازيا في مقومات المحاكمة العادلة، ولعل أبرز مظاهر هذا التحرر تتجلى فيما يلي:
1- السلطات الادارية عدالة بدون محاكمة.
تتمتع السلطات الإدارية في نطاق القانون الجنائي الإداري بصلاحيات واسعة يؤدي العمل بها إلى تلاشي مبدأ الفصل بين السلطات، فالإدارة تجمع بين سلطات الاتهام والتحقيق والمحاكمة.([409]) وتطبيقا لذلك يمكن حسب المادة 84 من قانون المنافسة حريات الأسعار أن يثبت الأعوان التابعون لهيئة مراقبة الأسعار المخالفات لأحكام الباب السادس والسابع من هذا القانون والنصوص المتخذة لتطبيقها فيما يتعلق بالمنتوجات والخدمات المشار إليها في الفقرة الأولى من المادة 13 أعلاه.
وترفع المحاضر المتبتة فيها المخالفات إلى الجهة المنصوص عليها المادة 86([410]) باعتبارها الجهة المؤهلة لإجراء المصالحة وإصدر العقوبات الإدارية.
فجهة التحقيق الإداري يمكن أن تكون هي نفسها جهة الحكم، وهذا ما يتضح بشكل أكثر وضوحا في جرائم المرور حيث يفرض رجل الشرطة الغرامة الإدارية فور تقريره لوجود مخالفة لقواعد المرور، فهو يلعب دور الخصم والحكم في آن واحد وهذا ما يجعلنا أمام عقوبة بدون حكم Punir sans juge .
وقد أثارت هذه الإشكالية ردود فعل قوية بين الأوساط الفقهية والقضائية بدعوى أنها تتعارض ومبدأ الفصل بين السلطات الذي يعد من النتائج الرئيسية لمبدأ الشرعية الجنائية، إلا أن المجلس الدستوري الفرنسي في العديد من المناسبات أقر عدم تعارض الجزاءات الإدارية مع الحقوق الدستورية([411]) وأن سلطة الإدارة في فرض هذه الجزاءات ترتكز على احترام المبادئ الدستورية، غير مبدأ الفصل بين السلطات الذي لا يعد مبدأ دستوريا في حد ذاته([412]).
ولعل هذا ما دفع بعض الفقه([413]) إلى التأكيد على عدم معارضة مبدأ الفصل بين السلط لطبيعة الجزاءات الإدارية التي تبقى في كل الأحوال قابلة للطعن أمام القضاء الذي يعرف بدوره خروجا عن المبدأ المذكور في بعض الحالات الاستثنائية التي تجمع بين سلطة الاتهام والتحقيق والمحاكمة، الأمر يتعلق بجرائم الجلسات التي تضفي على الاختصاص الجنائي طابعا مرنا.
2- ازدواجية الإجراءات في القانون الجنائي الإداري
من خصوصيات القانون الجنائي الإداري أن اجراءاته تتسم بالإزدواجية فهي ذات طابع إدراي في المرحلة الأولى وذات طابع قضائي في المرحلة الثانية.
أ- المرحلة الإدارية:
المرحلة الإدارية في القانون الجنائي الإداري، مرحلة الكشف عن الجرائم الإدارية والتحقق من وقوعها وجمع الأدلة عنها ومعاقبة مقترفيها، وبصفة عامة هي مرحلة العدالة الإدارية التي تضم اجراءات البحث والتحقيق والمحاكمة وصدور قرار الإدارة الذي يبقى قابل للطعن أمام القضاء.
ب- المرحلة القضائية:
في هذه المرحلة التي تبدأ بمجرد الطعن في قرار الإدارة يستعيد القضاء كامل ولايته في رقابة القرارات الإدارية الصادرة بالجزاء الإداري العقابي وتقويم ما قد يحصل فيها من اعوجاج أو خروج عن القانون.
واللجوء إلى القضاء قد يكون بغرض إعادة المحاكمة عن نفس السلوك غير المشروع المكون للجريمة الإدارية بغض النظر عن القرار الإداري، وقد يكون فقط لتقديم الاعتراض في القرار الإداري الصادر بالجزاء الإداري العقابي([414]).
3- قـلة وبساطة الضمانات الخاصة بالدعوى الإدارية الجنائية
إذا كانت الدعوى العمومية لا تستقيم إلا بتوفرها على ضمانات المحاكمة العادلة فإن الدعوى الإدارية الجنائية بحكم سرعة اجراءاتها وبساطتها قد لا تتقيد بكل الضمانات المعروفة وإن كانت تحرص على مراعاة الحد الأدنى منها([415]) كضمان الحق في الدفاع والحق في العلم بالتهمة والحق في الطعن وتسبيب القرارات الإدارية تحت طائلة البطلان.([416])
وأخيرا نؤكد على أن هذه الخصوصية التي يمتاز بها القانون الجنائي الإداري سواء في شقه الموضوعي أو الإجرائي مرتبطة أشد الارتباط بأبعاده والغاية من وجوده فهو المظهر الرئيسي للحد من العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة والاقتصار على أنماط أرى أصل صرامة.
الفقرة الثانية: أنماط الجزاءات الإدارية العقابية
إن الاعتراف بمشروعية الجزاءات الإدارية الجنائية رهين بعدم المساس بالحريات الفردية وأي تطاول عليها من طرف السلطات الإدارية يعد خرقا لمقتضيات الدستور في مختلف التشريعات، ذلك أن هذه الأخيرة تؤكد على أن سلب الحرية أو تقييدها هو اختصاص أصيل من اختصاصات السلطة القضائية باعتبارها الحارسة الطبيعية للحقوق والحريات ([417]) ويستتبع هذا القول استبعاد العقوبات السالبة للحرية في نطاق الجزاءات الإدارية والاكتفاء بالجزاءات المالية والجزاءات السالبة أو المقيدة للحقوق([418]).
1. الجــزاءات الإداريــة المـاليــة
قد تلجأ السلطات الإدارية إلى فرض جزاءات مالية كمعاملة أصلية لردع كل من يثبت في حقه مخالفة القوانين واللوائح وغالبا ما تتخذ هذه الجزاءات صورتين أساسيتين هي الغرامة الإدارية والمصادرة الإدارية.
أ. الغــرامــة الإداريــة
يعرف بعض الفقه([419]) الغرامة الإدارية بأنها " مبلغ من النقود تفرضه الإدارة على المخالف بدلا من متابعته جنائيا عن الفعل".
هذا وتختلف الغرامة الإدارية عن الغرامة الجنائية من عدة أوجه:
1. الغرامة الإدارية تقرر وتحدد من طرف السلطات الإدارية بينما الغرامة الجنائية فتقررها السلطة القضائية.
2. تأخذ الغرامة الإدارية بالمعيار الموضوعي وليس بالمعيار الشخصي فهي لا تراعي ظروف المتهم الشخصية أو سوابقه وذلك لاهتمامها بعنصر الردع أكثر من اهتمامها بتحقيق تفريد المعاملة العقابية([420]).
3. يجوز وقف تنفيذ الغرامة الجنائية دون الغرامة الإدارية ويستفاد هذا المعنى القانوني من المادة 95 من قانون حرية الأسعار والمنافسة بقوله " لا يقرر ايقاف التنفيذ فيما يتعلق بالعقوبات الإدارية.
4. لا يمكن تطبيق نظام الإكراه البدني كوسيلة لتحصيل الغرامة الإدارية وإن كان من الممكن تطبيق نظام الإكراه الإدراي الذي يعد حسب الفصل 258 من مدونة الجمارك عقوبة إدارية تلجأ إليها الإدارة لتحصيل الغرامات المحكوم بها لصالحها ولتحصيل الغرامات الإدارية المنصوص عليها في الفصل المذكور.
ومقدار الغرامة قد يكون محدد سلفا من طرف المشرع، وقد يكون متروكا أمر تحديده للسلطة الإدارية([421])، وتحديد مقدار الغرامة الإدارية حسب المادة 17/1 من قانون العقوبات الألماني بخمسة ماركات كحد أدنى لها، وألف مارك كحد أقصى لها ومع ذلك يمكن أن تزيد …الغرامة الإدارية لتصل في بعض الأحيان إلى مليون مارك خاصة بالنسبة للجناة الذين جنوا ثمارا مالية كبيرة من وراء اقترافهم لسلوكهم المجرم([422]) أو بالنسبة للمخالفات الصادرة عن الشخص المعنوي.
أما في قانون العقوبات الإيطالي فتؤكد المادة العاشرة منه على أن الحد الأدنى للغرامة الإدارية لا يجب أن يقل عن أربعة آلاف ليرة لا تزيد عن مليون ليرة كحد أقصى لها ويمكن تجاوز هذا الحد الأقصى في حالة تطبيق الغرامات النسبية([423]) والتي يتم تقريرها بناء على الفوائد والمكاسب المالية التي حققها المخالف من اقترافه لجريمة إدارية.
وعلى الرغم من عدم وجود نظام متكامل للقانون الجنائي الإداري في التشريعات العربية إلا أنها تستعين بالغرامات الإدارية في مواضع عديدة من نصوصها القانونية خاصة تلك المتعلقة بحماية المستهلك أو البيئة أو بالمرور والجمارك..وهكذا نجد على سبيل المثال ما نصت عليه المادة 91 من قانون حرية الأسعار والمنافسة المغربي والذي اعتبر الغرامة من ضمن العقوبات الإدارية مؤكدة على أن العقوبات الإدارية هي:
غرامة يمكن، دون أن تتجاوز 100.000 درهم، أن تساوي عشرين مرة متوسط رقم أعمال المخالف الأسبوعي محسوبا على أساس آخر سنة محاسبية، ويمكن أن يضاف إليها أن اقتضى الحال مجموع المبالغ المقبوضة بغير حق طوال مدة المخالفة أي الفرق بين السعر الذي كان من اللازم أن يباع به المنتوج أو الخدمة والسعر الذي تم به البيع بالفعل.
غير أن الغرامة تكون من 1.000 إلى 5.000 درهم في حالة المخالفة النصوص المتخذة لتطبيق المادة 58 أعلاه"
وفي التشريع الجزائري([424]) تنص المادة 39 من قانون قمع المخالفة الخاصة بتنظيم الأسعار على أنه " إذا كانت المخالفة معاقب عليها بغرامة 1000 درهم جزائري فأقل، يجوز لمدير الولاية للتجارة والأسعار والنقل ، إما أن يقرر تطبيق الحد الأدنى من العقوبة المالية، وإما أن يحيل الملف إلى وكيل الدولة للقيام بالملاحقات القضائية.
وعند ما تكون المخالفة معاقب عليها بغرامة تفوق 1000 درهم جزائري يجوز لمدير الولاية للتجارة والأسعار والنقل أن يحيل الملف إلى وزير التجارة، ويجوز لوزير التجارة أن يفرض بموجب مقرر غرامة مطابقة للمعدل الأدنى المنصوص عليه بالنسبة للمخالفة وإما أن يحيل الملف إلى وكيل الدولة للقيام والملاحقات القضائية.
والواقع أن موقع الغرامات الإدارية في التشريعات التي لم تأخذ بعد بنظام القانون الجنائي الإداري يظهر بشكل واضح عند الحديث عن مؤسسة المصالحة التي تكون الإدارة والمخالفة طرفيها الأساسيان.
ب. المصادرة الإدارية:
تعتبر المصادرة الإدارية من أهم الجزاءات الإدارية العقابية التي تفرضها الإدارة كجزاء لاقتراف بعض السلوكات الي تدخل في نطاق الجرائم الإدارية وقد يحكم بها إما كجزاء تكميلي أو تبعي أو اصلي بل كجزاء إداري بديل عن الغرامة الإدارية([425]).
وهكذا تنص المادة 22 من قانون العقوبات الإداري الألماني على المصادرة كجزاء إداري تبعي لحائز الأشياءا لتي يعد استعمالها أو حيازتها جريمة سواء طبقا لأحكام هذا القانون أو لأحكام قانون العقوبات، كما نص عليها المشرع الألماني في المادة 29 من قانون لعقوبات الإداري الألماني كعقوبة أصلية دون أن يتقرر معها غرامة مالية بالنسبة للفوائد غير المشروعة المتولدة عن الحرية الإدارية إذا كان المخالف يتعامل لمصلحة طرف آخر([426]).
وتنص المادة 20 من قانون العقوبات الإيطالي على منح الإدارة المختصة توقيع المصادرة كجزاء إداري تبعي للأشياء التي تم استخدامها في ارتكاب الفعل غير المشروع كما تلتزم الإدارة بمصادرة الأشياء المتحصلة في ارتكاب الجريمة([427]) وإذا كانت النظم القانونية التي تبنت ضمن سياساتها التشريعية قانون العقوبات الإداري قد نضمت أحكام المصادرة الإدرية في إطار بناء قانوني سليم، فإن التشريعات الأخرى التي لم تنظم بعد نظام متكامل لهذا القانون، لم ترقى إلى هذا المستوى واكتفت في بعض نصوصها الخاصة بالإشارة إلى هذا النوع من العقوبات المالية الإدارية، والمثال على ذلك التشريع المغربي الذي نص في الفقرة الأخيرة من المادة 91 من قانون حرية الأسعار والمنافسة على أنه:
" يمكن في حالة إدخار سري أن تكون العقوبات المنصوص عليها في الفقرة الأولى- أعلاه- مقرونة علاوة على ذلك بالمصادرة الكلية أو الجزئية للمدخر السري"
"وتقتضي المادة التابعة من قانون الصرف المصري في فقرتها الأخيرة بأنه في حالة عدم الإذن برفع الدعوى يجوز للوزير أو المندوب مصادرة المبلغ موضوع المخالفة" .
وبعيدا عن الخلاف الفقهي الذي ثار حول الطبيعة القانونية للمصادرة الإدارية([428]) يمكن القول أن هذه الأخيرة عقوبة إدارية ذات طبيعة عقابية ولا يمكن أن تعتبر عقوبة جنائية صرفة، وذلك لخصوصيتها التي لا تنفصل عن خصوصية القانون الجنائي الإداري في حد ذاته.
II– الجزاءات الإدارية السالبة أو المقيدة للحقوق
يصف بعض الفقه([429]) الجزاءات الإدارية السالبة أو المقيدة للحقوق بالقاسية والمؤثرة فهي أكثر وقعا على المخالف من الجزاءات المالية، الأمر الذي تحرص معه بعض القوانين على تقييد سلطة الإدارة في توقيع هذه الجزاءات التي تبقى محل نظر وتخوف نابع من عدم احترامها لضمانات المحاكمة العادلة من جهة، لاحتمال تأثيرها المستقبلي على الحياة الاجماعية والاقتصادية للمخالف ولاتباعه من جهة ثانية.
فنطاق تدخل الإدارة في فرض هذه الجزاءات يتأرجح بين الحرية والتقييد، وهذا ما يتبين من خلال الجزاءات الإدارية السالبة أو المقيدة للحقوق في كلا من قانون العقوبات الإداري الألماني وقانون العقوبات الإداري الإيطالي، ذلك أنه إذا كان هذا الأخير قد أعطى لجهة الإدرة سلطة واسعة في فرض جزاءات إدارية معينة منها سحب الترخيص وغلق المنشأة والحرمان من مزاولة المهنة على من يخالف الأحكام المنصوص عليها سواء في التشريعات واللوائح، فإن قانون العقوبات الإداري الألماني لم يسمح للإدارة أن تقرر غلق المنشأة والحرمان من مزاولة المهنة وإن كان يسمح في حدود ضيقة للإدارة بوقف رخصة القيادة لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر([430]).
وهناك العديد من الحقوق والمزايا التي يمكن ان تكون محل للعقوبات الإدارية([431]) سلب أو تقييد الحق في ممارستها سواء أكان السلب أو التقييد مؤقتا أو نهائيا وأهمها سحب التراخيص أو الحرمان من الحصول عليها، غلق المنشأة الحرمان من مزاولة المهنة، نشر الحكم.
ولا تقتصر القوانين المذكورة النص على هذه العقوبات الإدارية في نطاق نظام متكامل، بل نجدها حاضرة أيضا في العديد من النصوص الجنائية الخاصة التي خولت للإدارة سلطة النظر في بعض الجرائم الاقتصادية ونذكر على سبيل المثال الحصر ما نصت عليه الفقرة الثانية من الفصل السادس من القانون رقم 2.82([432]) المتعلق باختصاصات المحتسب وأمناء الحرف والتي ذهبت إلى القول بأنه" يجوز كذلك للمحتسب إذا أثبت مخالفة خطيرة أو إذا كان المخالف قد سبق له أن عوقب من أجل مخالفتين على الأقل من سنة أن يأمر على سبيل التحفظ بإغلاق المؤسسة التجارية أو المهنية إلى أن يتم البث في المخالفة المثبتة على ألا تتجاوز مدة الإغلاق ستة أيام".
كما تنص المادة 92 من قانون حرية الأسعار والمنافسة بأنه" يجوز للجهة المنصوص عليها في المادة 86 أعلاه أن تأمر إذ رأت ذلك مناسبا بأن تعلق أو تدرج في الجرائد التي تعينها القرارات أو مستخرجات القرارات الصادرة بمصادرة البضائع أو المنتوجات أو بعقوبة مالية."
وفي القانون المقارن نجد المادة 45 من قانون قمع المخالفات الخاصة بتنظيم الأسعار الجزائري تجيز للوالي أن يأمر بإغلاق المخازن أو المعامل لمدة لا تتجاوز شهرا واحدا، إذا وقعت مخالفة لأحكام هذا الأمر وذلك بموجب قرار صادر بناء على اقتراح مدير الولاية للتجارة والأسعار والنقل.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض الفقه ([433]) لا يحبذ تخويل جهة الإدارة سلطة توقيع هذه العقوبات على مقترفي الجرائم التي تم تحويل الصفة التجريمية عنها من التشريعات الجنائية إلى تشريعات أخرى غير جنائية كبديل للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة ويقترح ببقاء هذه العقوبات أو الجزاءات في يد القضاء واعتبارها عقوبات جنائية بديلة للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.
ورغم وجاهة هذا الرأي وحرصه على توفير ضمانات قانونية لا يمكن توفيرها إلى في نطاق القضاء باعتباره الحارس الطبيعي للحقوق والحريات، يمكن القول بأن تخويل هذه السلطة للإدارة فرضته اعتبارات عملية وقانونية تتماشى ومتطلبات المرحلة الراهنة التي تستدعي الحرص على الاقتصاد الوطني عن طريق تقريب وتسهيل الرقابة عليه على النحو الذي يكفل سرعة البث والفصل في الجرائم التي تدخل في نطاق الجائم الإدارية بعيدا عن بطء وتعقد الأحكام الجنائية التي تبقى اللجوء لها في مرحلة لاحقة، وهذا ما يبين بأن القيمة العقابية للجزاءات الإدارية تتجلى أيضا في السرعة والوقاية أكثر من البطء والعلاج([434]).