حدود مراقبة النيابة العامة للمهن القانونية و القضائية : سلسلة الابحاث الجامعية و الاكاديمية العدد 30 مارس 2020
مـقدمـة
اعتمدت الدول لإرساء أنظمتها و استتباب الأمن بشتى مظاهره داخل مجتمعاتها إلى وضع قوانين تحكم سلوك الأفراد و الجماعات، علاوة على إحداث مؤسسات تعمل على تأطير المواطنين و معه ضمان احترام القانون الموضوع من قبل المؤسسات الحاكمة، وذلك كله يبرز الاستراتيجية الوطنية للدولة المتجهة إلى وضع تصور للعلاقة التعاقدية بين الحاكم و المحكوم، و في هذا الصدد فإن تعدد المؤسسات القانونية المساهمة بدورها تروم ضمان حقوق الأفراد و حرياتهم و تحصين تعاملاتهم، و من بين هذه المؤسسات التي أرست دعائمها المملكة المغربية نجد السلطة القضائية[1]، فإذا كان قضاة الأحكام هم المسئولون عن التطبيق العادل للقانون في مختلف القضايا المعروضة أمامهم، فإن الأمر لا يختلف مطلقا بالنسبة للنيابة العامة[2] الحريصة على تطبيق القانون و إتباع التعليمات القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها كمبدأ دستوري[3]، و هذه الأخيرة التي تستمد صلاحياتها بموجب قانوني المسطرة المدنية[4] و المسطرة الجنائية[5] و أيضا نصوص خاصة كما هو الحال بالنسبة قوانين المهن القانونية و القضائية[6].
والتشريع المغربي لم يعرف نظام النيابة العامة[7] كمؤسسة قائمة الذات إلا عندما احتك بأوروبا عن طريق فرض الحماية على المغرب، فهذا النظام يعد من ضمن التراث القانوني الذي حملته فرنسا باعتبارها دولة حامية للمغرب ابتداء من معاهدة فاس المبرمة في 30 مارس 1912، ذلك أن القضاء الإسلامي لم يعرف هذه المؤسسة إلى أن دخلت أول مرة إلى المغرب بمقتضى ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتنظيم القضائي للحماية الفرنسية بالمغرب، و قد اختلف المفكرون القانونيون حول تاريخ ظهور هذه المؤسسة، لكن بعضهم اتفق على أن ظهورها يرجع إلى القرن الرابع عشر مستندين في ذلك على الرسالة الملكية للملك فيليب الخامس الموجهة إل وكلاء المحاكم الفرنسية، و التي تضمنت أمرا ملكيا من هذا الأخير بالمنع من الانتصاب كطرف في الدعاوى التي لا تمس بمصالحه وحقوقه[8].
أما في وقتنا الحاضر فقد شهد المغرب إصلاحات تهم السلطة القضائية و بالأساس جهاز النيابة العامة، حيث عمل على فك ارتباطها بالسلطة التنفيذية بشكل مطلق أي عن وزير العدل[9]، و ذلك بعد إصدار القانون 33.17 و المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة[10]، و بسن قواعد تنظيم رئاسة النيابة العامة[11]، و ذلك إيمانا من المشرع المغربي من إزالة أي مداخل لشبهة تقاطع السياسي مع القضائي[12]، إضافة إلى مرجعيات أخرى متعددة فرضتها الظرفية الحالية ببلادنا[13]، و التي ارتقت بالمغرب إلى مصاف الدول الرائدة والداعمة للاستقلال التام للسلطة القضائية عن السلطتين التشريعية و القضائية وذلك بإرادة ملكية حكيمة لجلالة الملك محمد السادس[14].
و لعل إصلاح نظام القضاء بالمغرب و تطوير أساليب سيره لا يهتم فقط بالمحاكم والقضاة والموظفين الإداريين و التقنيين، و إنما أولى المشرع المغربي عناية مهمة لباقي مكونات أسرة العدالة من المهن القانونية والقضائية، و التي تساهم بدورها على كافة المستويات في تصريف العدالة و مساعدة القضاء في تحقيق الأمن القانوني و القضائي[15] وتكريس الحكامة القضائية[16]، الأمر الذي يفسر اهتمامه الكبير بهذه المهن الحرة، وذلك من خلال مراجعة القوانين المنظمة لمهنهم في مسلسل تحديث المنظومة القانونية، ووعيا منه أن صناعة العدالة وجعل القضاء في خدمة المواطن و أداء الخدمة القضائية على الوجه الحسن، لا يتحمل مسؤوليتها القاضي لوحده، و إنما تساهم فيه مجموعة من المتدخلين المساعدين له، والذين يتفاوت دورهم في ذلك بحسب موقع كل واحد منهم[17].
و من بين هذه نجد ممارسي المهن القانونية و القضائية التي عمل المشرع المغربي على تنظيمها تنظيما قانونيا، نجذ كل من المحاماة[18] ومهنة المفوضين القضائيين[19] والموثقين[20] و العدول[21] و التي اقتصرت دراستنا على الإحاطة بهم في علاقة بتدخل النيابة العامة، إلى جانب كل التراجمة المحلفين[22] و الخبراء القضائيين[23] و مهنة النساخة[24].
و قد أكد التشريع المهني المغربي المنظم للمهن موضوع دراستنا، على تحديده لجملة من الضوابط و الأحكام الواجب إتباعها و استحضارها من قبل المهني، أثناء أدائه لمهمته المنوط القيام بها من قبل كل من المحامي و الموثق و العدل[25] و المفوض القضائي، بمسؤولية و أمانة وكذلك في احترام لأصول و أعراف و تقاليد هذه المهن الموضوعة من قبل الأجهزة المهنية المسيرة لها و الساهرة على حفظها، و تجنب كل ما من شأنه الإطاحة بعراقة و نبل رسالة هذه المهن المفوضة إليها من قبل الدولة، خدمة للمتقاضين بشكل خاص و لكافة المواطنين بشكل أعم، و كذلك إتقاءا لكل محاسبة أو إثارة للمسؤولية المهنية القانونية في أبعادها المدنية و التأديبية و الجنائية حسب خطورة الفعل الخارق للقانون المهني المغربي، و لعل مطلب التخليق يبقى أيضا مطلبا مهما يستدعي القطع مع كافة الممارسات اللامهنية التي قد يأتيها استثناء بعض الممارسين الذين لا يستحضرون الضمير المسئول و المهني، و أيضا الوازع الديني و القيم الأخلاقية، الأمر الذي لم يفت على المغرب أن قطع فيه أشواطا كبيرة لمحاربة الفساد و تخليق منظومة العدالة ببلادنا، مما قد يشكل معه مستقبلا إلى زعزعة الثقة المشروعة في هذه الفئة القريبة إلى القضاء كمرفق عمومي له وظيفته العظيمة في صيانة الحقوق والحريات[26].
وتبعا لذلك فإن العنصر الذي يتحكم في الثقة التي يوليها المواطنون والشركاء الأجانب لنظام حكم معين، ويساهم بشكل فعلي في التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية من خلال الإحساس بالأمن والاعتقاد الراسخ بأن القانون يطبق على الجميع وبشكل عادل لا يعرف الإسثناء، و عليه فقد عمل المشرع المغربي على إنفاذ هذا الدور بواسطة تفعيل الرقابة القانونية الإدارية أو القضائية أو المهنية المفروضة على المهن و هيئاتها الخاصة بها، حيث جعلها متعددة، كما هو الحال بالنسبة للمؤسسات الرقابية الإدارية كوزارة العدل و وزارة المالية و غيرها، إضافة إلى مؤسسات قضائية كالنيابة العامة التي مكنها المشرع المغربي من عديد الصلاحيات و المهام إلى جانب غرفة المشورة ذات الاختصاص التأديبي و أيضا القضاء الزجري و المدني وفقا لما سنأتي على دراسة غاياته و حدوده، كما لا يفوت التأكيد على دور الرقابة المهنية التي تفرضها الهيئات و المجالس المهنية، من خلال إحياء الضمير المهني لممارسيها[27] باعتبارها المحرك الرئيسي في المجتمع والوطن، لما فيه من ضمان للأمن المهني للمهن و حفظ للنظام العام القانوني و القضائي بالمغرب[28].
و في ضل تنامي أدوار النيابة العامة في شتى المجالات القضائية، و تعدد مهامها بين القضائية أو الشبه القضائية أو الإدارية، فإن المشرع المغربي استحضر من خلال فرض رقابة من نوع خاص على المهن القانونية و القضائية عن طريق القضاء الواقف، تراعي في ذلك المصلحة العليا للدولة التي فوضت اختصاصاتها و نقلته إلى هذا القطاع المهني الخاص، فهذه المراقبة في أبعادها تفرض نفسها أيضا صونا لحقوق المتقاضين والحد من تشكيل هذه المهن لأي ضغط على لسلطة القضائية نفسها[29].