الدكتور أحمد الإدريـــسي : وباء كورونا؛ وتطبيق “نظرية الظروف الطارئة” على العقود.
بسم الله الرحمن الرحيم
وباء كورونا؛ وتطبيق “نظرية الظروف الطارئة” على العقود.
بقلم: الدكتور أحمد الإدريـــسي-المغرب.
أستاذ وباحث في المالية الإسلامية.
مقدمة:
لما ابتكر الإنسان العقود تحسنت علاقاته، وتيسرت معاملاته؛ إذ توصل بهذه العقود إلى أنظمة متطورة في تبادل السلع والمنافع وتنمية الموارد، وإقامة العلاقات الاقتصادية على نطاق واسع، لكن قد يقع طارئ على العقد بسبب وجود حوادث أو ظروف طبيعية أو اقتصادية، أو أي عمل من أعمال السلطة أو من الغير، ولم تكن في الحسبان وليس لها دفعاً، وقد ظهر ذلك بوضوح في تأثيرها على الأعمال والتشغيل، مثل إغلاق أماكن العمل والموانئ، وتوقيف المواصلات وعدد من المهن والحرف، ونقص العمالة وضعف الطلب على مستوى العالم، وتعطل قنوات الإمداد والتوزيع. ويعتبر وباء كورونا، الذي اجتاح العالم في زمن الناس هذا، أحد الظواهر التي توقع خللا في العقود، فهو سبب أجنبي عن العقد، لأنه أمر خارج عن إرادة المتعاقدين وحدث فجأة عنهم دون أن يتوقعه أحد.
وترتكز نظرية “الظروف الطارئة” على تأثر الالتزام العقدي بالحادث الطارئ، فحدوث الظرف الطارئ يعطي للقاضي سلطة التدخل لتعديل العقد وفسخه، وذلك بقصد المقاربة بين ما قصده المتعاقدان من عقدهما، للتغيير الذي طرأ بعد إبرامه، من حيث ظهور ظروف طارئة مستجدة. “فالإبقاء على العقد وعدم فسخه، أو عدم تعديل قيمة الالتزام التي أثر فيها الظرف الطارئ، بما يعيد التوازن، أصبح سببا مفضيا إلى ظلم أحد طرفيه، وانتفاع الآخر بما لا يحل، أو بالباطل[1]. وذلك لأن الضرر في الفقه الإسلامي ليس ضررا اقتصاديا فقط، فقد يكون الضرر معنويا، وقد يكون شرعيا، ومعيار الإرهاق أو الضرر في نظرية العذر هو معيار شخصي، وفي نظرية الجوائح وتغير القيمة فهو معيار موضوعي.
وتعتبر نظرية “القوة القاهرة” سببا آخر في حدوث طوارئ على العقد وبالتالي احتمال اختلاف المتعاقدين، لذلك بيّن فقهاء الشريعة وفقهاء القانون أحكام “نظرية القوة القاهرة”، وسنرى الفرق بينها وبين نظرية الظروف الطارئة. والتشريعات الدولية عموما لا تساوى بين النظريتين؛ فالظروف الطارئة لا تؤدى لانقضاء الحق بخلاف القوة القاهرة، والمشرع يعترف بالوباء حادثا استثنائيا ولكن بشروط.
وسأناقش هذا البحث الظروف الطارئة على العقد، والتغيرات التي تقع عليه، والفرق بين نظريتي “الظروف الطارئة” و”القوة القاهرة”، مع أمثلة وردت في كتاب؛ “نظرية الالتزام في القانون المغربي”، والتركيز على طارئ وباء كورونا الذي حدث في زمننا، وذلك في خمس نقاط، وهي:
أولا: مفهوم الظروف الطارئة، وأقسامها؛
ثانيا: شروط تطبيق نظرية الظروف الطارئة؛
ثالثا: الجزاء في نظرية الظروف الطارئة.
رابعا: الفرق بين نظرية الظروف الطارئة ونظرية القوة القاهرة؛
خامسا: طارئ وباء كورونا يدور بين القوة القاهرة والظروف الطارئة.
وأختم بخلاصة، واستنتاجات.
أولا: مفهوم الظروف الطارئة، وأقسامها؛
1- مفهوم الظروف الطارئة:
لم يضع الفقه الإسلامي تعريفا لنظرية الظروف الطارئة، لأن الفقهاء كانوا يتناولون كل مسألة على حدة، “ويأخذون في اعتبارهم ما يحتف بها من ظروف ملابسة في كل عصر يرون أن لها دخلا في تشكيل علة الحكم”[2]. وقد عرفها بعض المعاصرين بأنها: “مجموعة القواعد والأحكام التي تعالج الآثار الضارة اللاحقة بأحد العاقدين الناتجة عن تغير الظروف التي تم بناء العقد في ظلها”[3].
والمعنى الإجمالي للنظرية، هو: أن المقصود بالظرف أو الحادث الطارئ هو كل حادث عام، لاحق على تكوين العقد، وغير متوقع الحصول عند التعاقد، ينجم عنه اختلال بيِّن في المنافع المتولدة عن عقد يتراخى تنفيذه إلى أجل أو آجال، ويصبح تنفيذ المدين لالتزامه كما أوجبه العقد يرهقه إرهاقاً شديدًا، يتهدده بخسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف في خسائر التجار، وذلك كخروج سلعة تعهد المدين بتوريدها من التسعيرة وارتفاع سعرها ارتفاعا فاحشا غير مألوف ولا متوقع[4].
2- أقسام الظرف الطارئ:
ينقسم الظرف الطارئ من حيث مصدر الظروف الطارئة إلى ثلاثة أقسام[5]:
– ظروف بشرية: وهي التي يكون مصدرها البشر أنفسهم ، كالحروب والثورات والإضرابات ونحوها .
– ظروف طبيعية: وهي الحوادث التي تطرأ دون تدخل من الإنسان، ويكون مصدرها أمور طبيعية لا بشرية كالزلازل والفيضانات، وغيرها.
– ظروف تشريعية: كالقوانين التي تشرعها الدول وتتناول الأسعار، أو تتدخل في طبيعة العقود المالية، ما يؤدي إلى إحداث خلل في طبيعة العقد.
كما ينقسم الظرف الطارئ من حيث طبيعة منشأه إلى قسمين أيضاً:
ظروف مفاجئة: وهي الظروف التي تنشأ فجأة دون توقع من العاقدين، بحيث يبدأ الظرف ويكتمل في وقت قصير[6]، كنشوب الحرب أو حدوث الأعاصير.
ظروف تدريجية: وهي التي تتكون تدريجياً، وتكتمل تدريجياً كارتفاع الأسعار.
ثانيا: شروط تطبيق نظرية الظروف الطارئة؛
يُـفترض في نظرية الظروف الطارئة أن عقدا من العقود طويلة الأجل، أو متراخية التنفيذ، قد أبرم في ظل الأحوال العادية، فإذا بالظروف الاقتصادية التي كانت أساسا يرتكز عليه توازن العقد وقت تكوينه قد تغيرت بصورة لم تكن في الحسبان، فيختل التوازن الاقتصادي للعقد اختلالا خطيراً، ويؤدي هذا التغير في الظروف إلى أن يصبح تنفيذ العقد والوفاء بالالتزامات الناشئة عن العقد مرهقا للمدين، وليس مستحيلا، بحيث يؤدي إجباره عليه إلى إفلاسه، أو ينزل به على الأقل خسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف، فتتدخل النظرية لإزالة الظلم اللاحق بالمدين، ورد التزامات العقد إلى الحد المعقول تحقيقا لمقتضيات العدالة، ورفعا للظلم عن المتعاقدين[7].
فإذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي، تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول. ويشترط لتطبيق نظرية الظروف الطارئة ثلاثة شروط هي:
1- حصول الظرف الطارئ العام بعد نشأة الالتزام.
2- عدم إمكانية توقع الظرف الطارئ.
3- وأن يصبح تنفيذ الالتزام مرهقاً وليس مستحيلاً، والإرهاق المقصود هو الإرهاق الشديد الذي يجاوز الخسارة المألوفة في التعامل، بمعيار مادي وموضوعي دون الاعتداد بالظروف الشخصية للمدين، وهو الذي يميز نظرية الظروف الطارئة عن نظرية القوة القاهرة التي يستحيل تنفيذ الالتزام في وجودها.
وبعد استيفاء هذه الشروط لابد من التأكيد أن نظرية الظروف الطارئة لا تؤدي لانقضاء الالتزام، وإنما يرد القاضي الالتزام إلى الحد المعقول حتى يطيق المدين تنفيذه بغير إرهاق، وهي تظهر في الالتزامات متراخية التنفيذ التي يكون فيها الزمن عنصراً جوهرياً، سواء كانت من العقود ذات التنفيذ المستمر كعقد الإيجار أو من العقود ذات التنفيذ الفوري مثل عقد التوريد أو عقد العمل.
ثالثا: الجزاء في نظرية الظروف الطارئة.
يكون الجزاء في نظرية الظروف الطارئة إما بفسخ العقد أو برد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول.
1- فسخ العقد:
في الفقه الإسلامي يوجد العذر الطارئ في فسخ عقد الإجارة بالطوارئ عند المالكية، وفي فسخ عقود الإجارة، والمزارعة، والمعاملة عند الحنفية، وبالعذر عند الحنابلة في الحالات التي يأخذون فيها بالعذر، لمحاربة الضرر ومنع وقوعه مطلقا، لأن كل عذر لا يمكن معه استيفاء المعقود عليه إلا بضرر يلحقه في نفسه، أو ماله، يثبت له الحق الفسخ، فالحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر، لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد، فكان الفسخ في الحقيقة امتناعا من التزام الضرر.
وأجاز القانون الإيطالي بفسخ العقد لمصلحة المدين المرهق، ولكن يجعل للمتعاقد الآخر الحق في أن يدرأ طلب الفسخ بأن يعرض تعديلا لشروط العقد بما يتفق مع العدالة، وبذلك فهو يتفق مع أحكام العذر في فسخ عقود الإجارة، قال الإمام الزيلعي رحمه الله: (تفسخ الإجارة بالعيب، لأن العقد يقتضي سلامة البدل عن العيب، فإذا لم يسلم فات رضاه فيفسخ كما في البيع، والمعقود عليه في هذا الباب المنافع، وهي تحدث ساعة فساعة، فما وجد من العيب يكون حادثا قبل القبض في حق ما بقى من المنافع فيوجب الخيار، كما إذا حدث العيب بالمبيع قبل القبض، ثم إذا استوفى المستأجر المنفعة مع العيب، فقد رضي بالعيب فيلزمه جميع البدل كما في البيع، فإن فعل المؤجر ما أزال به العيب فلا خيار للمستأجر، لأن الموجب للرد قد زال قبل الفسخ، والعقد يتجدد ساعة فساعة، فلم يوجد فيما يأتي بعده، فسقط خياره) [8].
وفي بعض القوانين لا يجوز للقاضي فسخ العقد، ذلك أن النص لا يجعل له إلا أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول. فالالتزام المرهق يبقى ولا ينقضي، ولكن يرد إلى الحد المعقول، فتتوزع بذلك تبعة الحادث الطارئ بين المدين والدائن، ولا يتحملها الدائن وحده بفسخ العقد بناء على طلب المدين[9]. وخالف القانون البولوني واليوناني فأجازا للقاضي فسخ العقد كله، أو الجزء الذي لم ينفذ.
2- رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول:
للقاضي سلطة واسعة في هذا الشأن، فله أن يسلك إحدى الطرق الثلاثة:
الطريقة الأولى: إنقاص الالتزام المرهق.
ذهبت أغلب القوانين والفقه الإسلامي إلى جواز إنقاص الالتزام بسبب الحادث الطارئ في العذر الطارئ عند الحنفية، والجوائح عند المالكية والحنابلة، حيث يوضع عن المشترى من الثمن بمقدار ما أصاب ثماره المشتراة من جائحة بالثلث، أو دونه على خلاف في ذلك عند المالكية والحنابلة[10]. قال ابن تيمية رحمه الله: (إذا استأجر ما تكون منفعة إيجاره للناس، مثل الحمام، والفندق، والقيسرية، ونحو ذلك. فنقصت المنفعة المعروفة، مثل أن ينتقل جيران المكان، ويقل الزبون لخوف، أو خراب، أو تحويل ذي سلطان لهم، ونحو ذلك فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة المعروفة)[11]. وقال الحطاب رحمه الله: (سئل ابن أبي زيد إذا أصاب الأجير في البناء مطر في بعض اليوم منعه من البناء في بعض اليوم، قال: فله بحساب ما مضى ويفسخ في بقية اليوم)[12].
مثال توضيحي: إذا تعهد شخص بتوريد سلعة معينة، ثم يقل المعروض في السوق من هذه السلعة نتيجة لحادث طارئ مثل جائحة، أو حرب منعت استيراد السلعة، فيصبح من العسير على الشخص أن يورد جميع الكميات المتفق عليها، فعندئذ يجوز للقاضي أن ينقص الكمية التي يلتزم المدين بتوريدها، بالمقدار الذي يراه كافيا لرد التزام المدين إلى الحد المعقول[13].
الطريقة الثانية: وقف تنفيذ العقد:
يمكن للقاضي توقيف تنفيذ العقد حتى يزول الحادث الطارئ إذا كان الحادث وقتيا يقدر له الزوال في وقت قصير. وما ذهب إليه القانون يوافق ما ذهب إليه الفقه الإسلامي، فإنه يجيز للقاضي تعديل العقد إذا كان في ذلك مصلحة للمتعاقدين، أو لأحدهما بشرط أن لا يتضرر المتعاقد الآخر. قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: “ولو استأجر دابة ليركبها، أو يحمل عليها إلى مكان معين، فانقطعت الطريق إليه لخوف حادث، أو اكتري إلى مكة، فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق، فلكل واحد منهما فسخ الإجارة، وإن أحب إبقاءها إلى حين إمكان استيفاء المنفعة جاز”[14].
وهذا ما قرره المجمع الفقهي الإسلامي، فقد جاء في القرار السابع ما نصه: (ويحق للقاضي أيضا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيرا بهذا الإمهال)[15].
مثال: إذا تعهد مقاول بإقامة بناء، وارتفعت أسعار بعض مواد البناء لحادث طارئ ارتفاعا فاحشا، ولكنه ارتفاع يوشك أن يزول لقرب فتح باب الاستيراد مثلا، فيوقف القاضي التزام المقاول بتسليم المبنى في الموعد المتفق عليه، حتى يتمكن المقاول من القيام بالتزامه دون إرهاق، إذا لم يكن في وقف التنفيذ هنا ضرر جسيم يلحق صاحب المبنى[16].
الطريقة الثالثة: زيادة الالتزام المقابل للالتزام المرهق:
قد يرى القاضي زيادة الالتزام المقابل ليقلل خسارة المدين. جاء في القرار السابع للمجمع الفقهي الإسلامي: (في العقود المتراخية التنفيذ -كعقود التوريد، والتعهدات، والمقاولات- إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلا غير الأوضاع والتكاليف والأسعار، تغييرا كبيرا، بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة، غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير، أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزامه، فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع، وبناء على الطلب تعديل الحقوق، والالتزامات العقدية، بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين)[17].
رابعا: الفرق بين نظرية الظروف الطارئة ونظرية القوة القاهرة؛
1- نظرية القوة القاهرة:
وهي: كل فعل لا شأن لإرادة المدين فيه، ولا يمكنه توقعه، ولا منعه، ويصبح به تنفيذ الالتزام مستحيلا. وتتحقق نظرية القوة القاهرة بوقوع حادث لا يمكن توقعه ولا يمكن دفعه، وتعرف بأنها سبب أجنبي يخرج عن إرادة الطرفين يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً، وتعني الاستحالة أنه ليس بمقدور الأطراف دفع هذا السبب أو التغلب عليه، ويشترط لتحقق القوة القاهرة عدة شروط هي: استحالة تنفيذ الالتزام، ويجب أن يكون الالتزام الذي استحال تنفيذه التزاما أساسياً وليس تبعياً،
مثال توضيحي: التزام المحامي باستئناف الحكم الصادر ضد موكله تنفيذاً لعقد الوكالة، وأن تكون الاستحالة كاملة غير جزئية تحتوي كامل العقد، وأن تنشأ الاستحالة في تاريخ لاحق للالتزام، فإذا ما توافرت هذه الشروط الثلاثة كنا بصدد قوة قاهرة مانعة من تنفيذ الالتزام الوارد بالعقد، وإذا تبين للقاضي أن الاستحالة مؤقتة جاز وقف الالتزام إلى أن تزول أما إذا كانت الاستحالة مطلقة فإن الالتزام ينقضي لعدم مُكنة التنفيذ.
2- الفرق بين النظريتين:
نظرية الظروف الطارئة مشابهة لنظرية القوة القاهرة من حيث الشكل، حيث تلتقي النظريتان في ظرف يقع بعد إبرام العقد المتراخي، لا يمكن توقعه، يؤدي إلى إحداث ضرر بأحد المتعاقدين. وبعض القوانين المدنية لا تميز بين النظريتين في نصوصها المعمول بها، بل اعتبرتها أحيانا أمرا واحدا، لكن جمهور فقهاء القانون يعتبرهما مختلفتين، فهما يفترقان من الوجوه التالية:
1- إن الظرف الطارئ لا يمنع من إمضاء العقد لكن يجعله عسراً مرهقاً، بخلاف القوة القاهرة فإنها تجعل إمضاء العقد واستيفاء متعلقاته مستحيلا.
2 – ذهب الجمهور من مشرعي القوانين إلى اشتراط العموم في اعتبار الظرف الطارئ، بخلاف القوة القاهرة فإنها لا يشترط لتطبيقها صفة العموم.
3- في نظرية الظروف الطارئة لا يجوز للطرفين المتعاقدين الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الظروف الطارئة، أما في نظرية القوة القاهرة فيجوز الاتفاق على ذلك.
4- القوة القاهرة تستلزم انتهاء الالتزام الذي ترتب على العقد، فلا يتحمل المدين تبعة عدم التنفيذ، أما الظرف الطارئ فلا ينقضي معه الالتزام، بل يرده إلى الحد المعقول برفع الأثر المرهق الذي سببه الظرف الطارئ[18].
5- نظرية الظروف الطارئة لا تؤدي لانقضاء الالتزام، ومع نظرية القوة القاهرة يستحيل تنفيذ الالتزام.
بناء على هذه الفروق بين النظريتين فإن وباء كورونا يشبه في أثره الحروب والكوارث الطبيعية التي تمنع من تنفيذ العقد بالصورة المتفق عليها، وقد يصل تأثيرها إلى استحالة تنفيذ العقد، لذلك توجد حالات عقود يعتبر فيها فيروس كورونا من قبيل الظروف الطارئة التي تؤدي إلى تعديل العقد، وحالات أخرى يعتبر فيها فيروس كورونا من قبيل القوة القاهرة.
خامسا: طارئ وباء كورونا يدور بين القوة القاهرة والظروف الطارئة.
لما جاء وباء كورونا بغتة، وانتشر بسرعة، اختلط الأمر على البعض حول ما إذا كان من قبيل الظروف الطارئة أو من قبيل القوة القاهرة، خاصة أن هذا وباء أثر على كثير من العقود التجارية تأثيراً مباشراً، لذلك وجب بيان الفارق بين نظرية الظروف الطارئة وبين نظرية القوة القاهرة في هذا الوباء، باعتبار أن كلا منهما تمثل سبباً أجنبياً يؤثر على تنفيذ العقد.
وذهب عموم فقهاء الشريعة وفقهاء القانون إلى أن وباء كورونا يخضع إلى كل من النظريتين، ويكون معيار خضوعه هو مدى تأثيره في العقد المطلوب تنفيذه، فإذا كان التأثير هو إرهاق أحد طرفي العقد إرهاقاً شديداً بأن يتسبب الوباء في ارتفاع كلفة الإنتاج أو زيادة أسعار الشحن لصورة مرهقة، فإنه يعتبر هنا من قبيل الظروف الطارئة، أما إذا تسبب هذا الوباء في استحالة تنفيذ العقد كأن يصبح نقل البضائع وتصديرها مستحيلاً بسبب غلق حدود بلد ما فإن الوباء يصبح من قبيل القوة القاهرة.
خــاتمـة:
من شأن نظرية الظروف الطارئة أن تنزل بالمدين خسائر فادحة، وهي تقوم على فكرة العدالة المجردة في مشاركة الدائن للمدين في الخسارة الناشئة عن الأحداث التي يستحيل معها تنفيذ الالتزام بذات بنوده. كما أنها لا تنطبق على العقود الاحتمالية لقيامها على المخاطرة والغرر، إلا أن بعض شراح القانون المدني يرون جواز تطبيق النظرية على العقود الاحتمالية. وحتى نتعرف على تأثير وباء كورونا في تنفيذ التزامات العقود يجب أن نتعرف أولاً على كل نظرية من النظريتين، وعلاقتهما بهذا الطارئ.
وقد استخلصت في نهاية هذا البحث إلى ما يلي:
– أن فيروس كورونا أمر خارج عن إرادة المتعاقدين وحدث فجأة دون أن يتوقعه أحد.
– الظروف الطارئة بسبب هذا الوباء لا تعطي الحق للمتعاقد الحق في عدم الوفاء بالتزامه.
– أن الشريعة الإسلامية قد تناولت الأحكام المتعلقة بنظرية الظروف الطارئة.
– يشترط في تطبيق نظرية الظروف الطارئة أن يكون الالتزام ناشئا عن عقد متراخي التنفيذ عن وقت إبرامه، سواء أكان من العقود المستمرة التنفيذ، أم من العقود الفورية المؤجلة التنفيذ، وحتى العقود الفورية غير المؤجلة إذا طرأ حادث، أو عذر بعد إبرام العقد فورا وقبل تنفيذه.
– لا يشترط في الظرف الطارئ أن يكون عاما، بل يستوي في الحادث الاستثنائي أن يكون عاما، أو خاصا لاحقا بشخص أي من المتعاقدين.
– لا يشترط أن يكون العقد ملزما للجانبين حتى تنطبق النظرية، بل تنطبق النظرية على العقود الملزمة لجانب واحد، لأن الحكمة التي شرعت من أجلها النظرية هي إزالة الإرهاق عن أحد المتعاقدين وتخفيف التزامه، وهذا ينطبق على العقود الملزمة للجانبين وعلى العقود الملزمة لجانب واحد.
– الضرر أو الحادث في الفقه الإسلامي ليس ضررا اقتصاديا فقط، بل قد يكون ضررا غير اقتصادي، فهو معنوي، أو شرعي، ومعيار الإرهاق أو الضرر في نظرية العذر هو معيار شخصي، وفي نظرية الجوائح وتغير القيمة فهو معيار موضوعي.
– اختلف فقهاء القانون عند شرحهم للقوانين المـدنية في مدى تطبـيق نظرية الظروف الطارئة على العقود الفورية، وسبب الاختلاف هو عدم نص التقنينات العربية على العقود التي تشملها النظرية.
[1] – الدريني، نظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي المقارن، الصفحة: 158-159.
[2] – عبد الرزاق أحمد السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، (بيروت، المجمع العلمي العربي الإسلامي، 1959)، الصفحة: 90. فتحي الدريني، النظريات الفقهية، (دمشق، جامعة دمشق)، الصفحة: 139-143.
[3] – محمد خالد منصور، تغير قيمة النقود وتأثر ذلك بنظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي المقارن، (مجلة دراسات علوم الشريعة والقانون، الجامعة الأردنية، المجلد الأول، العدد1، 1998)، الصفحة: 153.
[4] – السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، (بيروت، دار إحياء التراث)، ج1/ ص631.
قباني، نظرية الظروف الطارئة، الصفحة: 92.
[5] – محمد محيي الدين ابراهيم سليم، نظرية الظروف الطارئة بين القانون المدني والفقه الإسلامي دراسة مقارنة. (دار النهضة العربية). الصفحة: 233.
[6] – نظرية الظروف الطارئة بين القانون المدني والفقه الإسلامي دراسة مقارنة، (مرجع سابق). الصفحة: 241.
[7] – يوسف الثلب، الظروف الطارئة وأثرها على الالتزام العقدي في الفقه الإسلامي، (مجلة كلية الدعوة الإسلامية، كلية الدعوة الإسلامية، العدد1، 1991)، الصفحة: 136.
وسليمان مرقس، نظرية العقد، (القاهرة، مطابع دار النشر للجامعات المصرية، 1956). الصفحة: 333.
[8] – الزيلعي (الحنفي)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، ج:5 / ص:143-144.
[9] – السنهوري، الوسيط، ج1، ص647. طلبة، الوسيط في القانون المدني، ج1، ص416. حجازي، النظرية العامة للالتزام، ج1، ص200.
[10] – ابن قدامة، المغني، ج4، ص119. ابن تيمية ، مجموع الفتاوى، (بيروت، مؤسسة الرسالة، 1978، ط:1)، ج30، ص279. محمد عرفة الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (بيروت، دار الفكر). ج3، ص183. ابن رشد، بداية المجتهد، ج2، ص188.
[11] – ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج30، ص311.
[12] – الحطاب، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، (بيروت، دار الفكر، 1992، ط:3)، ج5، ص432.
[13] – أحمد حسن البرعي، “نظرية الالتزام في القانون المغربي، مصادر الالتزام العقد”. (طبعة دار الثقافة- الدار البيضاء). الصفحة:222. السنهوري، الوسيط، ج1/ ص647. حجازي، النظرية العامة للالتزام، ج:1/ص:200.
[14] – ابن قدامة، المغني، ج6، ص30.
[15] – قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي من دورته الأولى عام 1398ﻫ، ص99-104.
[16] – البرعي، نظرية الالتزام في القانون المغربي، الصفحة: 222. (مرجع سابق).
السنهوري، الوسيط، ج1، الصفحة:647. عبد الرحمن، الوسيط في النظرية العامة للالتزام، الصفحة:498.
[17] – قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي من دورته الأولى عام 1398ﻫ، ص99-104.
[18] – الدكتور قذافي عزات الغنانيم، العذر وأثره في عقود المعاوضات المالية في الفقه الإسلامي. (دار النفائس، الطبعة الأولى 1428 هـ – 2008 م). الصفحة: 304.