معاد الفاضلي
طالب باحث في القانون
المساس بمبدأ الشرعية الجنائية في زمن جائحة كورونا
{…وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا } سورة الإسراء الآية 15
إن تجريم الأفعال والمعاقبة عليها من اخطر المسائل التي تمارسها السلطة التشريعية بالنظر لمساس التجريم والعقاب بحرية الأفراد مساسا ملحوظا حيث أن هذه الأخيرة ـأي حرية الأفرادـ تبقى مهددة إذا لم يكن هناك قانون جنائي يرسم لهم حدود تصرفاتهم ويحدد لهم كل أنواع الأفعال الممنوع إتيانها بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي؛ وما في ذلك من أهمية بارزة في الحفاظ على حقوق وحريات الأفراد.
قد عمل المشرع على تعريف هذا المبدأ من خلال الفصل الثالث من القانون الجنائي على أنه” لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون”، كما يتم التعبير عنه من طرف الفقه عامة بعبارة (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، وباعبارة أخرى لا يمكن متابعة و معاقبة أي شخص على فعل غير مجرم بمقتضى القانون.
وإرتباطا بالظرفية الراهنة زمن كورونا -كوفيد19- وللحفاظ على السلامة والصحة العامة، تم الإعلان بواسطة بلاغ – يعني قرار إداري يدخل ضمن مجال التنظيم، طبقا لأحكام الدستور، وليس شيئا آخر- لوزارة الداخلية عن حالة الطوارئ الصحية، وتقييد الحركة في البلاد ابتداء من 20 مارس على الساعة السادسة مساء؛ وبما أن هذا الأخير جاء بشكل مفاجئ وبطريقة إستثنائية، فقد تم خرقه من طرف العديد من الأشخاص، ومعلوم أن لكل مخالفة جزاء خصوصا إذا كان الأمر متعلقا بالمصلحة العامة، فأي جزاء هذا؟ وبناء على أي أساس قانوني؟
ظهرت في هذا الصدد ثلاث آراء بارزة هي كما يلي:
هناك من قائل بوجوب تطبيق المرسوم الملكي لسنة 1967، رقم 554.65 بمثابة قانون يتعلق بوجوب التصريح ببعض الأمراض، واتخاذ تدابير وقائية للقضاء على هذه الأمراض، لكن بالقراءة والتمعن في هذا المرسوم نجده يخاطب أصحاب المهن الطبية والشبيهة بالطبية، ويلزمهم بالتصريح بالأمراض والأوبئة الجاري عليها الحجر الصحي، وكذا بالتطهير وإتخاد التدابير الوقائية اللازمة للحفاظ على الصحة العامة، وكل مخالفة لذلك يترتب عليها جزاء يتمثل في عقوبة تتراوح بين ستة أيام وشهرين وغرامة يتراوح قدرها بين 40 و 2400 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.
وبالتالي فكل تطبيق لهذا المرسوم على المواطنين عامة بسبب خرق الحجر الصحي يعتبر من قبيل القياس والتفسير الواسع للتشريع الجنائي، وهو ما يتعارض كل التعارض مع مبدأ الشرعية الجنائية.
وهناك من قال بتطبيق الفصل 308 من القانون الجنائي المتعلق بجريمة العصيان، والذي ينص على أنه “كل من قاوم تنفيذ أشغال أمرت بها السلطة العامة أو صرحت بها يعاقب بالحبس من شهرين إلى ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن مائتي درهم ولا تتجاوز ربع مبلغ التعويضات.
أما الأشخاص الذين يعترضون على تنفيذ هذه الأشغال بواسطة التجمهر أو التهديد أو العنف فإنهم يعاقبون بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين وبالغرامة المشار إليها في الفقرة السالفة.”، الملاحظ أن هذا الأخير نص على مقاومة أشغال أمرت بها السلطة العامة أو صرحت بها، غير أن التدابير المنصوص عليها في البلاغ لا يمكن إعتبارها أشغال بل مساطر إحترازية وقائية من هذا الوباء، وإحتراما لقاعدة عدم التفسير الواسع للنص الجنائي لا يمكن تطبيق هذا المقتضى على مخالفة البلاغ المذكور، وإلا سنكون أمام خرق واضح لمبدأ الشرعية الجنائية.
ويعتبر البعض الآخر على أن مخالفة التدابير المتخذة بواسطة البلاغ تقع تحت طائلة الفصل 609 من القانون الجنائي، البند 11 منه الذي ينص على ما يلي: “يعاقب بغرامة من عشرة إلى مائة وعشرين درهما من ارتكب إحدى المخالفات الآتية :
11 – من خالف مرسوما أو قرارا صدر من السلطة الإدارية بصورة قانونية، إذا كان هذا المرسوم أو القرار لم ينص على عقوبات خاصة لمن يخالف أحكامه”.
وبما أن البلاغ صادر عن الوزير، ولم يحدد عقوبات لمن يخالفه، فيظهر للوهلة الأولى أننا أمام الإختيار الأنسب، إلا أنه و بالتمعن في مغزى النص نجد أن البلاغ الموجه إلى الصحافة لا يرقى إلى مرتبة المرسوم او القرار، خصوصا وأنه لم ينشر في الجريدة الرسمية، وبذلك عدم إفتراض علم العامة به، بالإضافة إلى عدم تناسب تلك العقوبة مع الغاية الملحة لردع المواطنين بهذف الحفاظ على الصحة العامة، وبالتالي عدم إمكانية تطبيق الفصل المذكور على مخالفة حالة الطوارئ الصحية.
حسما لهذا الجدل وإحتراما لمبدأ الشرعية الجنائية تدخلت الحكومة وأعدت مرسوما بقانون يتعلق بسن أحكام حالة الطوارئ الصحية، إلا أن هذا الأخير بدوره له تأثير واضح على مبدأ الشرعية الجنائية، كيف ذلك؟
معلوم، ومن خلال التعريف أعلاه المتعلق بالشرعية الجنائية أن النص الجنائي مبدئيا يصدر عن البرلمان، وهو ما يؤكده الفصلان 70 و 71 من الدستور الجديد، إذ ينص الفصل 71 على أنه ” يختص القانون…بالتشريع في الميادين التالية:
- تحديد الجرائم والعقوبات الجارية عليها؛
- المسطرة الجنائية؛
- نظام السجون… “.
لكن وبما أن ظرفية كورونا تزامنت مع الفترة الفاصلة بين دورات البرلمان ( أي أن البرلمان متوقف عن عقد جلساته )، تدخلت الحكومة طبقا للفصل 81 من الدستور -الذي يعطيها الحق في إصدار، وبإتفاق مع اللجان التي يعنيها الأمر في كلا المجلسين، مراسيم قوانين في الفترة الفاصلة بين الدورات- وأعدت مرسوم بقانون رقم 2.20.292، الذي دخل حيز التنفيذ في 24 مارس، والذي سن الأحكام الخاصة بحالة الطوارئ الصحية بما فيها العقوبات التي تقع على المخالفين لأوامر الحجر الصحي.
إلا أن ما أثار إنتباهنا هي المادة الثالثة من هذا المرسوم بقانون التي تنص على أنه ” … تقوم الحكومة، خلال فترة إعلان حالة الطوارئ، باتخاذ جميع التدابير اللازمة التي تقتضيها هذه الحالة، وذلك بموجب مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية، أو بواسطة مناشير وبلاغات،…”.
الشاهد عندنا أن هذه المادة أعطت للمشرع مفهوما جديدا، وذلك بتفويضها الإختصاص للسلطات الإدارية بواسطة المراسيم والمقررات وكذا المناشير والبلاغات، لإتخاذ جميع التدابير التي تقتضيها حالة الطوارئ الصحية بما فيها التشريع بل والتشريع الجنائي.
الأمر الذي لمسناه على أرض الواقع، فبعد أن كان ممنوع فقط، التجول إلا لأغراض ضرورية وبواسطة رخص إستثنائية، تم إصدار بلاغ مشترك بتاريخ 6 أبريل، بناء على تفويض المادة الثالثة من المرسوم بقانون اعلاه، يقضي بإجبارية وضع الكمامة من قبل الأشخاص المسموح لهم بالتنقل، وإلا تعرضوا للعقوبات المنصوص عليها في المادة 4 من المرسوم بقانون اعلاه التي تنص على مايلي: “… یعاقب على مخالفة أحكام الفقرة السابقة بالحبس من شھر إلى ثلاثة أشھر وبغرامة تتراوح بین 300 و 1300 درھم أو بإحدى ھاتین العقوبتین، وذلك دون الإخلال بالعقوبة الجنائیة الأشد…”، إذن إلى أي حد يعتبر مشروعا معاقبة شخص لا يضع كمامة، مع العلم أنها كانت غير متاحة لا في الصيدليات ولا حتى في المراكز التجارية.
ثم بعد ذلك أعلنت وزارة الداخلية في 23 من أبريل بواسطة بلاغ، حظر التجول الليلي إبتدءا من فاتح رمضان، وذلك من الساعة السابعة مساءا إلى الخامسة صباحا، تحت توقيع العقوبات المنصوص عليها في المادة 4 اعلاه.
وإستثناء من القاعدة أعلاه حددت وزارة الداخلية في بلاغ صادر عنها في اليوم الموالي الحالات التي سيتم استثناؤها من القرار الذي يقضي بـحظر التنقل الليلي. لاحظو معي أننا أمام تشريع جنائي بواسطة بلاغات.
إذن أصبحنا اليوم أمام مفهوم جديد للشرعية الجنائية، مفهوم لم نعهده من قبل، بآليات تجريمية جديدة -البلاغ، المقرر، المرسوم، المنشور- إلى جانب القانون.
جدير بالذكر إلى أن المرسوم بقانون المتعلق بحالة الطوارئ الصحية فوض سلطة التجريم دون سلطة العقاب، هاته الأخيرة التي ابقاها حكرا على المادة الرابعة منه.
وتجب الإشارة في الختام إلى أن هذه النصوص الزجرية لن تطبق إلا على الحالات التي أتت بعد دخول المرسوم بقانون حيز التنفيذ -أي نشره في الجريدة الرسمية-، إحتراما لمبدأ عدم رجعية القوانين بشكل عام، والقانون الجنائي بشكل خاص.
نسأل الله تعالى أن يحفظ بلدنا ومواطنيه والبشرية جمعاء من شر هذا الوباء.
تم بعون الله