مهام ضباط الشرطة القضائية في قانون المسطرة الجنائية
- ياسين الرحموني
طالب باحث بسلك الماستر
القانون الخاص
- مقدمة
إن قواعد القانون الجنائي باعتباره قانون موضوع تظل في حالة سكون، إلى أن تقع الجريمة فيأتي دور القانون الإجرائي (قانون المسطرة الجنائية) باعتباره حلقة وصل بين ارتكاب الجريمة وتوقيع العقاب على مرتكبها، كما ينظم سلطة الدولة وأجهزتها في الاعتقال والمتابعة والمحاكمة والعقاب ويحدد القواعد المتعين تطبيقها في جميع الإجراءات القضائية التي تعقب ارتكاب الجريمة، هذه القواعد التي قد تمس بعضها بحقوق وحريات الأفراد، ذلك لأننا أمام معادلة صعبة تقتضي الموازنة بين مكافحة الجريمة وحماية الأمن العام وبين احترام الحقوق والحريات العامة وهو الأمر المتفق عليه عالميا في مجال حقوق الإنسان.
والقانون الجنائي في شقه المسطري يتنازعه نظامان للإجراءات هما النظام الإتهامي وهو الأقدم حيث كانت الدعوى الجنائية أشبه بالمدنية ولا تتحرك الدعوى الجنائية إلا إذا باشرها المجني عليه مع العلانية وشفوية المرافعات، ثم النظام التفتيشي حيث تقوم الدولة بمهمة الإتهام عن طريق النيابة العامة مع سرية الإجراءات وكتابتها وجريانها في غياب الخصوم، والمشرع المغربي أخذ بالنظام المختلط حيت يعتمد النظام التفتيشي خلال مرحلة البحث عن الأذلة فتسود السرية والكتابة ثم يظهر النظام الإتهامي خلال المحاكمة حيث العلنية والحضورية والشفوية.
هذا وتجذر الإشارة إلى أن قانون المسطرة الجنائية المغربي عرف تطورا مهما، حيث كان أول قانون للمسطرة ج عرفه المغرب هو الظهير رقم 1.58.261 الصادر في 10 فبراير 1959 واستمر العمل به لغاية 13 نونبر 1963، حيث ثم تغييره بمقتضى الظهير رقم 1.63.271 كما تم تعديله سنة 1974 بمقتضى الظهير رقم 1.74.448 وبقي معمولا به إلى غاية صدور القانون [1]22.01 بمقتضى الظهير رقم 01.02.255 بتاريخ 3 أكتوبر 2002 والذي دخل حيز التطبيق في فاتح أكتوبر 2003 كقانون جديد للمسطرة الجنائية، حيث جاء بعدة مستجدات لكنه بدوره لم يخلوا من الثغرات التي عرضته لعدة تعديلات في إطار مخطط إصلاح القضاء نذكر منها القانون رقم 10-36 والقانون 10-37 والقانون 11-35 كانت الغاية من اصدار هذه القوانين سد تلك الثغرات التي اعترت القانون 22.01.
وقد خصص المشرع للشرطة القضائية الباب الثاني من القسم الأول من الكتاب الأول من القانون السالف الذكر، بالإضافة إلى بعض المواد الأخرى المتفرقة. إذن ما هي مخلف المهام المنوطة بالضابطة القضائية في قانون المسطرة الجنائية؟
لمعالجة هذا الإشكال فإنني ارتأيت تناوله بالدراسة والتحليل من خلال التطرق إلى النقط التالية:
- صلاحيات ضباط الشرطة القضائية في إطار البحث التمهيدي
- تفتيش المنازل (الوقت القانوني المحدد)
- الوضع تحت تدابير الحراسة النظرية (الشروط – المدد)
- تنفيذ الإنابات القضائية الصادرة عن قاضي التحقيق أو المحكمة
- صلاحيات ضباط الشرطة القضائية في إطار البحث التمهيدي
يعتبر البحث التمهيدي المرحلة الأولى في إطار المحاكمة العادلة والتي تتطلب جمع الأدلة والحجج والقيام بالأبحاث الضرورية، وهو ينقسم إلى بحث تمهيدي عادي وبحث تلبسي، كما أن عملية إنجاز البحث التمهيدي بنوعيه يعد من أهم وظائف ضباط الشرطة القضائية التي يكلفها به القانون والذي تقوم به إما تلقائيا وإما بناء على تعليمات وتكليف من النيابة العامة المختصة باعتبارها الجهة المشرفة على أعمال ضباط الشرطة القضائية، بحيث تكون الغاية منه إعداد ملف كامل عن الجريمة المدعى ارتكابها ومرتكبيها، ويكون هذا الملف محصلة لمجموعة من الأعمال والتدابير والتحريات تطال الخاضعين لها[2].
هذا ولمعرفة المهام المنوطة بالضابطة القضائية أثناء مرحلة البحت التمهيدي، وتماشيا مع التقسيم الذي أتى به قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002، فإنه يجب التمييز بين الحالات العادية وحالات التلبس.
أولا: مهام الضابطة القضائية في الحالات العادية:
البحث التمهيدي العادي هو البحث الذي تقوم به الشرطة القضائية في غير حالات التلبس بالجريمة أي في الأحوال العادية التي لا يتوفر فيها الاستعجال لغياب المظهر الإنفجاري للجريمة المرتكبة بحيث لا يسيطر فيها على الباحث هاجس الحيلولة دون إخفاء أو تدبر الجاني لأموره وتمكنه من إخفاء معالمها، إذ الأمر يتعلق ببحث متعلق بجريمة ارتكبت غالبا منذ فترة مهمة وكل ما يشترط فيها هو ألا تكون مشكلة لفترة تقادم الجريمة حيث يمنع إذ ذاك إثارة الدعوى العمومية بصددها.
هذا وقد عالج قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 البحث التمهيدي العادي من خلال الباب الثاني من القسم الثاني من ق م ج في خمس مواد وهي: 78-79-80-81-82.
واختصارا فإن المهام المنوطة بالضابطة القضائية في مرحلة البحت التمهيدي العادي تتلخص فيما يلي:
- تلقي الشكايات والوشايات طبقا للمادة 21 من ق م ج، ولا يختلف الأمر بين ما إذا قدمت هذه الشكايات أو الوشايات كتابة أو شفويا أو عبر الهاتف أو الشبكة المعلوماتية، ومن شخص معلوم أو مجهول، فقط يتعين التحري على ما هو كيدي حفاظا على كرامة المواطنين وحقوقهم.
- استدعاء المشتكى بهم أو المشبوه فيهم للاستماع إليهم مع الاحترام التام لحقوقهم المنصوص عليها في ق م ج عند البحث معهم تمهيديا.
- استدعاء المصرحين والاستماع إليهم، وفي هذا الإجراء فإن من تستمع إليهم الضابطة القضائية في إطار جمع الأدلة وثبوت الجريمة من عدم ثبوتها يسمون مصرحين لا شهودا لأن المصرحين لا يؤدون اليمين القانونية أمامها عكس الشهود.
- القيام بكل إجراء يفيد العدالة مثل الإنتقال إلى مكان ارتكاب الجريمة والإستعانة بالكلاب البوليسية المدربة لاكتشاف المخدرات والمتفجرات مثلا، والتنصت على الهاتف طبقا للقانون (المادة 108 ق م ج).
ثانيا: مهام الضابطة القضائية في حالات التلبس:
اعتمادا على المادة 56 من ق م ج يمكن القول بأن صور أو أحوال التلبس بالجناية أو الجنحة قد أوردها المشرع على سبيل الحصر، بحيث لا يمكن والحالة هذه الزيادة فيها من أي كان، وعليه فإن حالاته لا تخرج عن الوضعيات التالية:
1-حالة إذا ضبط الفاعل أثناء إنجاز الفعل الإجرامي أو على إثر إنجازه.
2-حالة ما إذا كان الفاعل مازال مطاردا بصياح الجمهور على إثر ارتكاب الجريمة.
3-حالة مشاهدة ما يستدل به على إسناد الجريمة لشخص معين.
4-حالة التماس مالك المنزل أو ساكنه من النيابة العامة أو ضابط الشرطة القضائية معاينة جريمة وقعت بداخله.
وفيما يلي نورد مختلف المهام والاجراءات المنوطة بالضابطة القضائية في عملية البحث التمهيدي التلبسي:
- إذا تعلق الأمر بحالة التلبس بجناية أو جنحة يجب على ضابط الشرطة القضائية أن يخبر ممثل النيابة العامة المختصة فورا وأن ينتقل حالا إلى عين المكان لإجراء المعاينات المفيدة والضرورية.
- الحفاظ على الأدلة القابلة للاندثار وحجز الأدوات التي استعملت في إرتكاب الجريمة أو التي كانت معدة للإستعمال.
- عرض الأشياء المحجوزة على المشبوه فيهم قصد التعرف عليها.
- العمل على منع كل شخص غير مؤهل قانونا لتغيير حالة مكان ارتكاب الجريمة وبصفة استثنائية يسمح بهذا التغيير في حالة الضرورة وللحفاظ على السلامة أو الصحة العمومية أو تقديم إسعافات للضحايا.
- العمل على حجز الأوراق أو الوثائق التي قد تكون لها علاقة بالجريمة من الأشخاص الذين يظن أنهم قد شاركوا في الجريمة أو من الذين يحوزونها، للضابطة القضائية الحق في الإنتقال إلى منازل هؤلاء لتفتيشها طبقا للقانون.
- الحفاظ على السر المهني إذا تعين إجراء التفتيش في الأماكن المعدة للإستعمال المهني، يشغلها شخص يلزمه القانون بكتمان السر المهني.
- إحصاء الأشياء المحجوزة ولفها ووضعها في غلاف أو وعاء أو كيس والختم عليها من طرف ضابط الشرطة القضائية وذلك بحضور الأشخاص اللذين حضروا التفتيش.
- تحرير محضر بهذه العمليات طبقا للقانون.
- تفتيش المنازل (الوقت القانوني المحدد)
إذا كان القانون المغربي، سواء في الدستور (الفصل 24) أو في مجموعة القانون الجنائي (الفصلان 230 و441) قد حصن المنازل وجعل لها حرمة لا ينبغي انتهاكها من أحد، وإلا عرض نفسه للعقاب الواجب بالنصوص الآنفة الذكر، فإن هذا التحصين، مع ذلك لا ينبغي أن يكون مطلقا ليقف حائلا دون تحقيق العدالة الجنائية التي قد تقتدي أحيانا استبعاد هذه الحصانة وغض الطرف عنها لضرورة إجراء بحث أو تحقيق في منزل من المنازل قد يضم داخله أدلة حاسمة عن جريمة من الجرائم يجري البحث بصددها، ولا يمكن التوصل للأدلة إلا عن طريق إباحته لضابط الشرطة القضائية ليطلع وهو يقوم بالبحث عن كل ما يستدل به عن الجريمة ونسبتها لفاعل معين –قد يكون صاحب المنزل أو غيره- وهذا هو التفتيش.
لكن وحفاظا على حرمة المنازل فقد حدد المشرع أوقاتا محددة للقيام بهذا الإجراء، وعليه فإن تفتيش المنازل يتعين أن يكون داخل الوقت القانوني المحدد بين السادسة صباحا والتاسعة ليلا طبقا للمادة 62 من ق م ج التي نصت على: “لا يمكن الشروع في تفتيش المنازل أو معاينتها قبل السادسة صباحا وبعد التاسعة ليلا، إلا إذا طلب ذلك صاحب المنزل أو وجهت استغاثة من داخله، أو في الحالات الإستثنائية التي ينص عليها القانون، غير أن العمليات التي ابتدأت في ساعة قانونية يمكن مواصلتها دون توقف.
إذا تعلق الأمر بجريمة إرهابية واقتضت ذلك ضرورة البحث أو حالة الإستعجال القصوى أو إذا كان يخشى اندثار الأدلة فإنه يمكن الشروع في تفتيش المنازل أو معاينتها بصفة استثنائية قبل الساعة السادسة صباحا أو بعد التاسعة ليلا بإذن كتابي من النيابة العامة.
لا تطبق هذه المقتضيات إذا تعين إجراء التفتيش في محلات يمار فيها عمل أو نشاط ليلي بصفة معتادة.”
هذا وتجدر الإشارة إلى أن الإخلال بهذه الإجراءات يعرض المخل للمساءلة القانونية عن جنحة إنتهاك حرمة منزل، كما يجب لفت الانتباه إلى أن الوقت القانوني لتفتيش المنازل يتقيد به ضباط الشرطة القضائية والضباط السامون للشرطة القضائية إذا كانوا يقومون بالبحث التمهيدي كيفما كانت رتبهم، ما عدى قاضي التحقيق وفي مرحلة التحقيق الإعدادي فإنه عند تفتيشه لمنزل الضنين فإنه لا يتقيد بهذا الوقت، شريطة قيامه به شخصيا وبحضور ممثل النيابة العامة[3].
- الوضع تحت الحراسة النظرية (الشروط – المدد)
تعتبر الحراسة النظرية إجراء يقوم به ضابط الشرطة القضائية دون غيره من الأعوان، وهي توقيف شخص والاحتفاظ به في مكان مخصص (غرف الأمن) لمدة محددة وحسب شروط معينة حسب الأحوال.
وبهذا الوضع تحت الحراسة النظرية إجراء من شأنه أن يقيد من حرية الشخص، وهو أقدس حق يملكه، لهذا فإن المشرع قد أحاطه بسياج من الحيطة والحذر وحدد بالتالي شروطا يتعين التقيد بها عند وضع شخص تحت الحراسة النظرية (أولا) ثم وضع له مددا يتعين على ضابط الشرطة التقيد بها والتي تختلف حسب نوع الجريمة (ثانيا).
أولا: شروط الوضع تحت الحراسة النظرية
يتبين من قراءة المواد 66 و67 و82 من ق م ج بأن شروط الوضع تحت الحراسة النظرية المخول لضابط الشرطة القضائية أثناء البحث التمهيدي بنوعيه واحدة -على العموم- سواء من حيث تقدير أسباب اللجوء إليها أو من حيث مدتها أو الشكليات التي على ضباط الشرطة القضائية مراعاتها[4]، وفيما يلي نلخص هذه الشروط:
- أن تكون الجريمة تشكل جناية أو جنحة يعاقب عليها القانون بعقوبة سالبة للحرية، وهذا أمر طبيعي في نظرنا لأنه إذا كان المشرع لا يفرد للفعل الجرمي عقوبة حبسية كالإقتصار على الغرامة فقط فليس من المعقول في شيئ حرمان المشبوه فيه في مثل هذه القضايا من حريته بوضعه تحت الحراسة النظرية.
- أن تكون هناك ضرورة للإحتفاظ بالمشبوه فيه تحت الحراسة النظرية، وهذا الشرط تنص عليه (المادة 66 من ق م ج) ذلك أن البحث قد يتطلب الإحتفاظ بالمشبوه فيه رهن إشارة ضابط الشرطة القضائية للحد من خطورة المجرم أو الحيلولة دون فراره أو التأثير على باقي شركائه في الجريمة.
- أن يكون الشخص الموضوع تحت الحراسة النظرية بالغا سن الرشد الجنائي (18سنة) أما القاصرين فيتم الإحتفاظ بهم في مكان مخصص لذلك طبقا لما نص عله الفصل 460 من ق م ج.
- ألا تتجاوز الحراسة النظرية المدة القانونية حسب الأحوال كما سنرى لاحقا.
- تمديد مدة الحراسة النظرية مقيد بوجود أدلة جديدة وضرورة الإستمرار في البحث لمدة أطول، فقد يكتشف ضابط الشرطة القضائية وهو يبحث في الجريمة أن خيوطا مرتبطة بها تشكل أدلة جديدة لا بد من إتمامها كما إذا كان للمشبوه فيه شركاء في مدن أخرى تتطلب المسطرة إجراءات لإحضارهم ووقتا كافيا لإنجاز المهمة وهذا يتطلب منه الحصول على تمديد لمدة الحراسة النظرية بإذن كتابي من النيابة العامة المختصة.
ثانيا: مدد الوضع تحت الحراسة النظرية:
إن مدد الحراسة النظرية تختلف باختلاف نوع الجريمة، فإذا تعلق الأمر بجناية أو جنحة يعاقب عليها بالحبس وكانت تندرج ضمن الجرائم العادية فمدة الحراسة النظرية 48 ساعة يمكن تمديدها بإذن كتابي لمدة واحدة 24 ساعة أي ما مجموعه 72 ساعة، ويتعين لزوما تقديم المشتبه فيه إلى وكيل الملك أو الوكيل العام للملك قبل انتهاء المدة.
وإذا تعلق الأمر جرائم المس بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي، فإن مدة الوضع تحت الحراسة النظرية تحدد في 96 ساعة قابلة للتجديد مرة واحدة بإذن كتابي من النيابة العامة.
إذا تعلق الأمر بجريمة إرهابية فإن مدة الحراسة النظرية تكون 96 ساعة قابلة للتمديد مرتين لمدة 96 ساعة في كل مرة بناء على إذن كتابي من النيابة العامة[5].
ونلخص هذه المدد في الجدول الآتي:
المدة الأصلية | التمديد | |
الجرائم العادية | 48 ساعة | 24 ساعة |
الجرائم الماسة بأمن الدولة | 96 ساعة | 96 ساعة |
الجرائم الإرهابية | 96 ساعة | 96 ساعة + 96 ساعة |
كما تجدر الإشارة إلى أنه يتعين على ضباط الشرطة القضائية مراعات واحترام ضوابط الوضع تحت الحراسة النظرية لما لهذا الاجراء من أهمية ومساس بحرية الأفراد، فيجب التقيد بهذه الضوابط سواء على مستوى الضمانات التي منحها المشرع للشخص المشتبه فيه أو على مستوى مدد الوضع تحت الحراسة النظرية وشروط اللجوء إليها ثم ملاءمة محاضر الشرطة للشروط الموضوعية والإنسانية، والابتعاد عن معاملة الموقوفين بطريقة قاسية أو مهينة وتجنب التعذيب والإكراه والضغط، وتفعيلا للدور الرقابي للنيابة العامة فإنها تقوم بزيارات تفقدية إلى مخافر الشرطة والإطلاع على السجل المعد لهذه الغاية وإحالة لائحة الأشخاص الموضوعين تحت الحراسة النظرية إلى النيابة العامة خلال 24 ساعة السابقة.
- تنفيذ الإنابات القضائية الصادرة عن قاضي التحقيق أو المحكمة
نظرا للعديد من الظروف التي قد تطرأ وتكون حائلا أمام قيام قاضي التحقيق للقيام بجميع الإختصاصات المخولة له من ذلك مثلا اختصاصه الإقليمي، واقتضاء التحقيق القيام بعدة إجراءات في آن واحد وفي أماكن مختلفة فقد خول المشرع له اللجوء إلى غيره لأداء بعض مهامه، وهذا ما يسمى بالإنابة القضائية.
فالإنابة القضائية إذن ما هي إلا إجراء يكلف بمقتضاه قاضي التحقيق أي قاض أخر للتحقيق، أو أي قاض أو أي ضابط من ضباط الشرطة القضائية الموجودة في نفس دائرة محكمته، القيام بإجراء ما يراه لازما من أعمال التحقيق في الأماكن الخاضعة لنفوذ كل واحد منهم[6]. وقد تناول المشرع المغربي الإنابة القضائية في المواد من 189 إلى 193 من قانون المسطرة الجنائية. فما هي إذن شروطها سواء من حيث الجهة أو من حيث الأعمال؟ وماهي الرقابة التي يمارسها قاضي التحقيق في هذا الإطار؟
قصد معالجة مختلف تلك التساؤلات سيتم تناول الموضوع وفق الشكل التالي:
أولا: الشروط الواجب توافرها في الجهة المنيبة
يتمتع الأشخاص الموجهة إليهم إنابات قضائية من أجل تنفيذها بنفس السلطات التي يتمتع بها قاضي التحقيق نفسه كما يتحملون ذات الواجبات التي تقع على عاتقه حينما يجري التحقيق بنفسه.[7]
هكذا يتمتعون مثلا بسلطة استدعاء الشهود لسماع شهادتهم، وفي هذا الصدد يلزم القانون الشاهد الذي استدعي لهذا الغرض صراحة بالحضور وأداء اليمين ثم الإدلاء بشهادته[8]، وحينما يتعلق الأمر باستجواب فإنه على القاضي المفوض لهذا الغرض احترام كافة الإلتزامات التي تقع على عاتق قاضي التحقيق مصدر الإنابة، كوجوب استدعاء المتهم ضمن الشروط المحددة في القانون، كما أن ضابط الشرطة القضائية المكلف بإجراء تفتيش منزلي احترام كافة الشكليات التي يفرضها القانون على قاضي التحقيق نفسه.
هذا إلا أن ضابط الشرطة القضائية يحرم بمقتضى القانون من بعض إجراءات التحقيق من ذلك أنه ليس له استجواب المتهم ومواجهته مع الغير، كما أنه ليس من صلاحياته الإستماع إلى المطالب بالحق المدني إلا إذا طلب هذا الأخير منه ذلك، كما لا يستطيع تفتيش منزل لأن الفقرة الأولى من المادة 102 من قانون المسطرة الجنائية تخص ذلك بقاضي التحقيق شخصيا إذا تعلق الأمر بجناية أو بجريمة إرهابية وبحضور ممثل النيابة العامة، ولا يسمح له – قاض التحقيق – بندب ضابط الشرطة القضائية لتفتيش المنازل خارج الساعات القانونية إلا إذا توافرت ثلاث شروط، أولها أن يتعلق الأمر بجريمة إرهابية، وثانيها أن يلجأ قاض التحقيق لهذا الإنتداب حالة الإستعجال القصوى، وأن يتم أخيرا بحضور ممثل النيابة العامة.
ثانيا: رقابة قاضي التحقيق على تنفيذ الإنابة القضائية
إن الإنابة القضائية تخضع في تنفيذها من طرف المفوضين إلى رقابة صارمة يمارسها قاضي التحقيق المنيب، إذ يمارس قاضي التحقيق هذه الرقابة أثناء تنفيذ الإنابة القضائية وبعد تنفيذها، وتتعلق هذه الرقابة حينما تمارس أثناء تنفيذ الإنابة أولا بحجز الأشخاص تحت الحراسة النظرية، فإذا كانت هذه الوسيلة تعد من ضمن السلطات المخولة أصلا لضابط الشرطة القضائية فإن القانون يفرض على هذا الأخير حينما يلجأ إلى هذا الإجراء في إطار تنفيذ الإنابة القضائية أن يقوم بذلك تحت رقابة صارمة لقاضي التحقيق.
أما بعد تنفيذ الإنابة القضائية فإن رقابة قاضي التحقيق تتعلق باحترام أجل التنفيذ وصحة الأعمال المنفذة، ففيما يخص النقطة الأولى تجدر الإشارة إلى أن الأشخاص المفوضين يتعين عليهم بعد تنفيذ الإنابة إرسال كل الوثائق أو المحاضر التي حرروها إلى القاضي المنيب، ويتم هذا الإرسال ضمن الأجل المحدد سلفا من طرف قاضي التحقيق.
وتجدر الإشارة إلى أنه لصحة الإنابة القضائية يجب كذلك أن تكون صادرة عن قاضي مختص ومكلف بالتحقيق في القضية التي صدرت بشأنها، وأن يكون قاضي التحقيق أو القاضي أو الضابط الذي وجهت إليه الإنابة مختص من حيث المكان، وينتدب كل واحد من هؤلاء لإنجاز الإجراء الذي انتدب له في الأماكن الخاضعة لنفوذه. وإذا تعلق الأمر بتنفيذ إنابة خارج دائرة نفوذ قاضي التحقيق فإنه يعهد بالتنفيذ لأي قاضي أخر من قضاة التحقيق أو الحكم بالدائرة التي سينفذ بها الإجراء، ولا ينتدب في هذه الحالة مباشرة الشرطة القضائية، ويتعين على القاضي المنتدب أن يشعر النيابة العامة التي تنفذ الإنابة القضائية بدائرته[9].
[1] – ظهير شريف رقم 01.02.255 صادر في 25 من رجب 1423 (3 أكتوبر 2002) بتنفيذ القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 27 ذي القعدة 1423 (30 يناير 2003) ص:315.
[2] – الحسن بوعيسي، عمل الضابطة القضائية بالمغرب، دراسة نظرية وتطبيقية، الطبعة الثالثة، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، ص:92
[3] – الفقرة الأولى من المادة 102 من ق م ج
[4] – عبد الواحد العلمي، شرح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الأول، مطبعة النجاح الجديد، الطبعة الثانية 2010 ص:424
[5] – عبد الواحد العلمي، شرح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الأول، م س ص:425
[6] – المادة 189 من قانون م ج المغربي
[7] – الفقرة الأولى من المادة 190 من ق م ج
[8] – المادة 91 من ق م ج
[9] – طبقا للفقرة الثانية من المادة 189 من ق م ج