في الواجهةمقالات قانونية

حماية السلامة الجسدية للفرد في مواجهة التجارب الطبية والعلمية    في التشريع المغربي

حماية السلامة الجسدية للفرد في مواجهة التجارب الطبية والعلمية    في التشريع المغربي

 

ليس من شك في أن الكيان الجسدي للإنسان يحتاج إلى الحماية القانونية، بحيث لا يغدو جسم الإنسان  محلا للتعامل وللإتفاقات المخالفة لمبدأ حرمة الكيان الجسدي، رغبة في تحقيق مصلحة معينة دون أن يكون هناك ثمة مبرر لذلك، ومن هنا تظهر أهمية القانون في إضفاء الحماية على الجسد مما يحول دون المساس به .

ويعتبر حفظ حياة الإنسان وسلامة جسمه من المصالح الضرورية التي عنيت مختلف التشريعات بحمايتها من خلال تقرير الحرمة المطلقة لجسم الإنسان وتمنع شتى أنواع الإعتداء عليه والتي تؤدي إلى المساس بحياته أو سلامة جسمه .

وقد طرحت مسألة السلامة الجسدية للأفراد بشدة في النصف الثاني من القرن العشرين الذي شهد تطورات هامة في العديد من الميادين المعرفية النظرية والتطبيقية التي من بينها الطب و علوم الحياة، اللتين كان لهما تأثير كبير في تغير نمط الحياة وظهور العديد من التقنيات الحديثة من قبيل الهندسة الوراثية والإستنساخ والتلقيح الإصطناعي وزراعة الأعضاء و غيرها .

إلا أن هذا التطور الذي عرفته العلوم الطبية، لم يكن إلا نتيجة للتجارب الطبية، التي تعتبر من التدخلات التي لا يمكن إجتنابها، فبفضل هذه التجارب تمكن العلماء من الحد من الكثير من الأمراض التي حصدت الكثير من الأرواح لمدة طويلة من الزمن كأمراض الزهري والسل والجذري وغيرهم من الأمراض القاتلة، إذ أصبحت الكثير منها في طي النسيان وما بقي منها لا يشكل خطورة على مستقبل البشر بحكم أن علاجها أصبح الآن ميسورا  . كما طفت على السطح في الآونة الأخيرة مسألة جائحة كورونا التي يتسارع العالم نحو إيجاد لقاح فعال للحد من إنتشارها، هذا اللقاح الذي بدأ بالتجارب على الحيوان ولا يمكن إعتماده إلا بعد أجراء تجارب مماثلة على الإنسان للتأكد من فاعليته .

ونظرا للخطورة التي قد يشكلها هذا النوع من التجارب على الكيان الجسدي للإنسان، فقد تنبه المشرع المغربي لهذا الأمر وجعل حرمة الكيان الجسدي للإنسان مبدأ دستوري بمقتضى دستور 2011، وعمل كذلك على حمايته بمقتضى مختلف القوانين الداخلية، وذلك من خلال تنظيم التجارب الطبية والعلمية على الكيان الجسدي من خلال القانون رقم 28.13 المتعلق بحماية الأشخاص المشاركين في الأبحاث البيوطبية حتى لا تؤدي إلى المساس بحرمة الكيان الجسدي .

ودراسة هذا الموضوع جاءت على إعتبار الطابع التجديدي الذي يستمد منه أهميته النظرية بحيث أنه يعتبر من المواضيع التي تتطور بإستمرار مما يقتضي مواكبتها تشريعيا من خلال سن قوانين منظمة لها، أما أهميته العملية فتتجلى في ضرورة وضع ضوابط قانونية تنظم هذا النوع من العمليات حتى لا يخرج عن الغرض الذي أبيحت لأجله .

أما بخصوص المنهج الذي تقتضيه هذه الدراسة، فإنه تم الإعتماد على المنهجين الوصفي      والتحليلي اللذين لا تخلوا أي دراسة قانونية منهما وذلك من خلال وصف الحماية المقررة للجسم البشري في مواجهة التجارب الطبية والعلمية وواقعها، وكذا إبراز النصوص القانونية المؤطرة لهذه الحماية في التشريع الوطني .

كما أن دراسة هذا الموضوع تقتضي طرح الإشكالية التالية : إلى أي حد نجح المشرع المغربي في وضع ضوابط قانونية توازن بين ضرورة حماية الكيان الجسدي للإنسان و حاجة المجتمع إلى التجارب الطبية والعلمية على الجسد الإنساني للإرتقاء بصحة الفرد ؟

وللإجابة عن هذه الإشكالية فقد تم تقسيم الموضوع على الشكل التالي :

المبحث الأول : الضوابط القانونية للتجارب الطبية والعلمية على الجسد

المبحث الثاني : المسؤولية الجنائية عن التجارب الطبية والعلمية على الجسد

 

 

الفقرة الأولى : الضوابط القانونية للتجارب الطبية والعلمية على الجسد

لقد أحاط المشرع المغربي التجارب الطبية على الجسد بمجموعة من الضوابط القانونية خاصة بعد صدور القانون رقم 28.13 المتعلق بحماية الأشخاص المشاركين في الأبحاث البيوطبية، الذي يعتبر أحد أحدث القوانين المنظمة لهذا المجال والذي يهدف إلى تطوير الظروف الملائمة لإجراء الأبحاث البيوطبية وضمان شفافية هذه الأبحاث وحماية الأشخاص المشاركين فيها[1] .

لكن قبل التطرق إلى الشروط التي جاء بها هذا القانون لإضفاء الشرعية على التجارب الطبية على الجسد الإنساني ( ثانيا )، يجب أولا الحديث عن شرعية التجارب الطبية والعلمية على الإنسان ( أولا ) .

أولا : شرعية التجارب الطبية والعلمية على الجسد

يحضى الجسد الإنساني بحرمة خاصة في جل التشريعات المعاصرة التي وفرت له الحماية القانونية اتجاه أي أعمال أو ممارسات قد تؤدي إلى المساس به، ولكون موضوع التجارب الطبية والعلمية هو الجسد الإنساني في الغالب، فقد ثارت إشكاليات حول شرعية هذه التجارب الطبية والعلمية على الجسد الإنساني .

وإن كان الإشكال لا يثور كثيرا بصدد التجارب العلاجية، من حيث أساس مشروعيتها، فإن الأمر يختلف بالنسبة للتجارب الطبية العلمية أو المحضة، والتي ينتفي فيها قصد العلاج، وعلى إعتبار الشريعة الإسلامية أحد أهم مصادر التشريع المغربي، فيجب استطلاع رأيها أولا بهذا الخصوص، قبل التطرق لرأي التشريع المغربي .

أ – شرعية التجارب الطبية والعلمية شرعا

أثارت مسألة شرعية التجارب الطبية والعلمية على الإنسان إهتمام فقهاء الشريعة الإسلامية الذين ميزوا في ذلك بين التجارب العلاجية وغير العلاجية .

فبخصوص التجارب العلاجية، فإنها لم تطرح إشكالا كبيرا، حيث إن بعض الفقهاء المحدثين استخلصوا مشروعية التجارب العلاجية من بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وكذا القواعد العامة في الشريعة الإسلامية، ولعل أهم الآيات التي إستدل بها الفقهاء للقول بشرعية التجارب العلاجية قوله تعالى ” فمن إضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم “[2] وقوله تعالى ” وقد فصل  لكم ما حرم عليكم إلا ما إضطررتم إليه “[3] .

فهذه الآيات تفيد إلى قاعدة كلية مفادها أن الضرورات تفيد المحظورات، وأن الضرورة تقدر بقدرها، وقد إستند الفقهاء إلى هذه القاعدة للقول بأن الإنسان المريض الذي لم تفلح الطرق المعروفة في علاجه يكون مضطر لتجريب أدوية أو طرق علاجية جديدة، ذلك لأن إباحة التداوي، تبيح بالضرورة إستخدام الوسائل المسخرة للتداوي، لأن الوسائل حكم المقاصد[4] .

أما السنة النبوية الشريفة، فنجد ما ورد في الصحيحين عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد يسأل عما عولج به جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقال ” جرح وجهه وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وكان علي ابن أبي طالب – كرم الله وجهه – يسكب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة – رضي الله عنها – الدم لا يزيد إلا كثرة، أخذت قطعة حصير فأحرقتها حتى صارت رمادا ثم ألصقته بالجرح، فاستمسك الدم “، فقد إستدل الفقهاء بهذه الواقعة للقول بأن علاج فاطمة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرماد بعد عجز الوسيلة المتبعة في إيقاف نزيف الدم كانت تجربة، ولم ينكر عليها الرسول صلى الله عليه وسلم تلك التجربة، وهو ما يدل على جواز إباحة تجريب الأدوية الجديدة في حالة عدم نجاح الطرق المعروفة[5] .

أما بخصوص التجارب غير العلاجية، والتي لا يراد بها علاج الأشخاص الخاضعين لها، وإنما فقط لتحصيل معارف جديدة بخصوص حالة مرضية معينة وأعراضها وتطوراتها، فقد خلقت إتجاهين لدى فقهاء  الشريعة الإسلامية بين مؤيد ومعارض، فالإتجاه المؤيد لا يفرق بين التجارب الطبية العلاجية وغير العلاجية، ويرى أن مشروعية الأولى يؤدي بالضرورة إلى مشروعية الثانية، وإستندوا إلى نفس الأسس المبررة لشرعية التجارب العلاجية، وأكدوا أن الغاية المرجوة من التجارب هو تحصيل معارف علمية جديدة تفيد البشرية وتحييها وتحسن من مستواها الصحي، فهي أعمال مرخص بها رغم معصومية جسم الإنسان، والضرورة هنا تتمثل في حاجة الإنسانية إلى هذه المعارف وحقها في الإرتقاء بمستوى العيش .

أما الإتجاه القائل بعدم المشروعية فإن سندهم في ذلك هو قوله تعالى ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة “[6] وقوله تعالى ” ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما “[7]، فالمفهوم من هذه الآيات أن الله حرم تعريض النفس للخطر من غير مصلحة مقصودة شرعا، وبالتالي فتحقيق هذه المصلحة غير مؤكدة في هذه التجارب، وبذلك لا يمكن إباحة هذه التجارب وإضفاء الشرعية عليها، حيث أنها تفتقد لعنصر الضرورة المشروعة التي تبيح في بعض الحالات تعريض الإنسان للخطر[8] .

ب – شرعية التجارب الطبية في القانون الوضعي

لقد إعترفت مختلف التشريعات الوضعية بحق الإنسان في سلامته الجسدية التي لا يجوز المس بها، غير أن ذلك لا يعني عدم قبول بعض الإستثناءات على المبدأ المذكور، فهناك من الحالات التي تبرر المساس بجسد الإنسان، ويصبح بعد ذلك في كل مرة تبرر فيها مصلحة المجتمع مثل هذا المساس، ولعله من البين أن المساس بالجسد في صورة التجارب الطبية والعلمية يعد من أهم الحالات التي تبرر هذا المساس نزولا على مقتضى المصلحة العامة، لأنه يخدم هذه المصلحة في مقاومة الأمراض، بل ينبغي أن يعتبر إجراءها مصلحة حيوية لأي مجتمع .

والواقع أن أهم ملاحظة على ما جرت عليه التشريعات المقارنة بالنسبة للتجارب الطبية والعلمية على الإنسان، أن هذه التشريعات تكاد تتفق في شرعية تلك التجارب إذا كان إجراءها في إطار محاولة علاجية، أي أن تكون للشخص مصلحة مباشرة في إجراء التجربة، أما التجارب الطبية والعلمية غير  العلاجية أي التي يكون القصد منها هو إجراء تجارب علمية، والتي تجرى على الإنسان سليم الصحة، فقد إختلفت التشريعات في الإعتراف بشرعيتها، فالبعض من هذه التشريعات تذهب إلى إباحة إجراء هذه التجارب إما إستنادا إلى رضا الشخص الخاضع للتجربة، أو المصلحة الإجتماعية المقترنة برضا الشخص، والبعض من التشريعات الأخرى لا تقر هذا النوع من التجارب، وتحظر إجراءها[9].

كما أن الفقه القانوني كذلك لا يثير إشكالا كبيرا بخصوص التجارب الطبية والعلمية العلاجية، إلا أن الإشكال يثور بخصوص التجارب الطبية غير العلاجية التي ينقسم الفقه بصددها بين مؤيد ومعارض، فالإتجاه المؤيد يستند على عدة مبررات من قبيل الدور الذي تلعبه التجارب العلمية في تحقيق الكثير من المنافع البشرية، من خلال توصلها إلى معالجة مجموعة من الأمراض المستعصية أو الوبائية، وكذا حتمية اللجوء إلى التجارب العلمية على الإنسان في الحالات التي لا ينفع فيها إستعمال غيره، لأن هناك من الأمراض ما يصيب الإنسان دون الحيوان، وهناك أمراض تصيب الحيوان دون الإنسان[10] .

أما الإتجاه المعارض فيرى أن إجراء التجارب دون ترخيص قانوني هو عمل غير مشروع، يكون خطأ يستوجب مسؤولية الطبيب عن الجريمة، ولا يمكن إضفاء الشرعية عليها حتى في حالة رضا الشخص الخاضع لها، لأن الرضا في هذه الحالة لا يبرر المساس بسلامة وصحة الإنسان، على إعتبار أن هذه التجارب لا تدخل ضمن أسباب الإباحة المنصوص عليها ضمن القانون الجنائي، إذ لا يمكن تصور إباحة تدخل جراحي على شخص سليم لا يشتكي كيانه من أية علة[11] .

وهذا الإتجاه يستند إلى عدة مبررات تتمثل أولا في إنتفاء حالة الضرورة لأنه لا وجود لأي ضرورة ملحة لتعريض سلامة وصحة أشخاص أصحاء لمخاطر إجراء بحوث أو تجريب عليهم، كما أن هذه التجارب غير العلاجية تجعل الطبيب يتجاوز حدود العلاج التي تضفي على العمل الطبي المشروعية .

ثانيا : شروط شرعية التجارب الطبية والعلمية على الإنسان

لقد أضفت مختلف التشريعات صفة الشرعية على التجارب الطبية والعلمية، وذلك من خلال وضع نصوص قانونية تبيح صراحة هذا النوع من التدخلات الطبية على جسم الإنسان، لكن هذه الإباحة ليست مطلقة، بل يجب توافر عدة شروط يجب مراعاتها قبل إجراء التجربة .

ولعل أهم هذه الشروط هي ضرورة توفر الرضا من الشخص الخاضع للتجربة، وفي ذلك نصت المادة الثالثة من القانون 28.13 المتعلق بحماية الأشخاص المشاركين في الأبحاث البيوطبية على ضرورة توفر ” … الموافقة المتنورة والصريحة للشخص المشارك في البحث المذكور وإستقلالية قراره …” .

والرضا في مجال التجارب الطبية والعلمية يعد شرطا لازما لكل تجربة، وذلك حماية للحرية في إتخاذ القرار، بحيث لكل إنسان حقوق مقدمة على جسمه لا يجوز المساس بها بغير رضاه، وتطبيقا لذلك فإن التجارب الطبية التي تجري على الإنسان دون موافقته تعد غير شرعية، وتمثل إعتداء على سلامة جسمه، ومن ثم إشترطت مختلف التنظيمات الحصول على الموافقة المسبقة الحرة والمستنيرة[12] للشخص قبل تنفيذ التجربة عليه.

ولا تكون لهذه الموافقة أية قيمة قانونية إلا إذا سبقها إعلام كاف بكل عناصر التجربة، خاصة منها الأخطار المقترنة بالتجربة، والمنافع المنتظرة منها ومختلف المعلومات الأخرى التي نصت عليها المادة 4 من القانون 28.13، وفي حالة إذا كان الشخص الخاضع للتجربة في حالة لا تسمح له بإعطاء الموافقة، وجب طلب الموافقة المكتوبة من أحد أفراد عائلته وفق الترتيب المحدد بمقتضى المادة 4 من القانون 28.13 ، مع إتاحة الإمكانية للشخص الخاضع للتجربة لسحب موافقته في أي وقت وإيقاف البحث[13] .

كما لا يجب منح أي مقابل مالي للشخص الخاضع للتجربة مقابل مشاركته فيها، لأن المقابل المالي له أثر مكره على الشخص المراد إخضاعه للتجربة، خاصة إذا كان في حاجة ماسة إلى المال[14]، ولعل هذا ما أكد عليه المشرع المغربي بمقتضى المادة الثالثة من القانون 28.13 التي جاء فيها أن من بين المبادئ التي يخضع لها البحث البيوطبي هي مبدأ التطوع وكذا الطبيعة غير التجارية للجسم البشري .

كما أكدت على ذلك المادة 9 من نفس القانون التي نصت على عدم جواز تقديم أي مقابل مالي مباشر أو غير مباشر للمشاركة في التجربة، ولا يعتبر مقابلا ماليا بناء على الفقرة الثانية من نفس المادة التعويض الذي يمنح مقابل الإكراهات التي يتحملها المشارك في التجربة .

كما يجب أن تحترم التجربة السلامة الجسدية للشخص الخاضع لها، وذلك بعدم تعريضه لأخطار يمكن أن تفوق المنافع المتحصلة من التجربة، بحيث يجب أن يتوفر تناسب وتوازن بين الأخطار والمنفعة المنتظرة من التجربة[15] .

كما نصت المادة 24 من نفس القانون أن أي بحث بيوطبي لا يمكن إنجازه إلا في المؤسسات الصحية التابعة للدولة، سواء كانت مدنية أو عسكرية، أو في المؤسسات الصحية الخاصة أو في مواقع البحث التابعة للمراكز الإستشفائية والجامعية وذلك على أساس إتفاقية تحدد كيفيات تسيير تلك المواقع .

لكن الفقرة الثانية من نفس المادة جاءت بإستثناء وهو عدم جواز إجراء الأبحاث البيوطبية التي تتعلق بأدوية منتجة صناعيا لعلاج خلوي أو جيني، أو خلوي مستخلص من جينات حيوانية أو تتعلق بمشتقات ثابتة الدم إلا في المؤسسات الصحية التابعة للدولة أو في مواقع البحث التابعة للمراكز الإستشفائية والجامعية المشار إليها سابقا .

كما يشترط في مواقع إجراء الأبحاث البيوطبية أن يكون معتمدا من قبل الإدارة، وأن يكون متوفر على الوسائل البشرية والمادية والتقنية الملائمة للبحث والمتناسبة مع شروط سلامة المشاركين .

وبالتالي فكل تجربة بيوطبية لا يمكن إجراءها إلا بعد التحقق من توفر جميع الشروط السالفة الذكر، وإلا أثيرت مسؤولية من خرق هذه الشروط سواء المدنية أو الجنائية .

الفقرة الثانية : المسؤولية الجنائية عن التجارب الطبية والعلمية على الجسد

الملاحظ أن المشرع الجنائي قد عمد إلى توفير أكبر قدر من الحماية للكيان الجسدي للإنسان ليضع بذلك حدا للمساس به في أي صورة من الصور، ومن ثم نجد أن عدم الإلتزام بشروط الشرعية الأساسية والصحة الشكلية للتجربة يرتب المسؤولية الجنائية للقائم بالتجربة، ولإبراز طبيعة هذه المسؤولية يجب تحديد أساس المسؤولية الجنائية عن التجارب الطبية والعلمية على الجسد ( أولا ) ثم كذلك تحديد العقوبات المطبقة في حالة الإخلال بشروط شرعية هذه التجارب ( ثانيا ) .

أولا : أساس المسؤولية الجنائية عن التجارب الطبية والعلمية

تطورت الأعمال الطبية في العصر الحديث، وتشعبت التخصصات الطببية وإزدادت أعداد من يتعاملون بتلك الأعمال، مما دفع مختلف التشريعات إلى تنظيم تلك المهن للمحافظة على التطور في هذا المجال الطبي وتشجيعه، وفي نفس الوقت حماية الإنسان المريض من تجاوزات الأطباء وأخطار الأخطاء الطبية[16] .

فمن المعروف أن الطبيب ملزم ببذل العناية اللازمة لمريضه وليس تحقيق النتيجة، ولكن هذه العناية يجب أن تكون مرتبطة بالأصول العلمية والطبية المتعارف عليها بين الأطباء، ولكن مع التطور العلمي الهائل في جميع نواحي الحياة فمن الطبيعي أن يكون هناك بعض الأعمال التي يكون فيها الطبيب ملزما بتحقيق نتيجة وذلك لتطور أجهزة الفحص الطبي، ووجود مختبرات على مستوى عال، فمثل التجارب الطبية لابد أن يكون الطبيب أو القائم بالتجربة على مستوى عال وذو خبرة واسعة في مجاله، كما يجب عليه إحترام شروط إجراء التجارب الطبية قبل وأثناء القيام بها[17] .

ويترتب عن عدم إحترام الطبيب هذه الشروط قيام مسؤوليته الجنائية[18]، وذلك لتحول فعل التجريب الذي يقوم به القائم بالتجربة من فعل مشروع يبيحه القانون إلى فعل غير مشروع يجرمه القانون ويعاقب عليه بسبب خرق هذه الإلتزامات التي إشترطها القانون لإعتبار الفعل مشروعا، والذي يعتبر في الأصل فعلا مجرما وذلك لما فيه من مساس وتعدي على جسم الإنسان، وبالتالي فمتى خرق الطبيب هذه المقتضيات وهو مدرك لما يقوم به، فإنه يكون مسؤولا عن فعله العمدي بعد التحقق من توفر كافة الأركان من ركن مادي ومعنوي.

كما قد تقوم المسؤولية نتيجة لخطأ من المسؤول عن التجربة يكون إما تقنيا أو فنيا، وذلك بخروج الطبيب أو القائم بالتجربة عن الأصول المهنية والفنية ومخالفة قواعد العلم، كالخطأ في التشخيص أو العلاج، فالتشخيص اللازم مثلا قبل إجراء التجربة الطبية أو العلمية يجب فيه مراعاة ما ورد بشأن التشخيص بصفة عامة وعدم الخروج عنه، إذ لا يجب إتباع أسلوب تشخيص قبل التجربة بإستخدام وسائل مجهولة أو طرق لم يعد معترف بها علميا في هذا المجال مما قد يؤدي إلى خطأ في التشخيص، وبالتالي خطأ في التجربة، مما يرتب مسؤولية الطبيب القائم بالتجربة نتيجة ذلك[19] .

أما الخطأ العلاجي فقد يكون ناشئ عن الإخلال بقواعد الحيطة والحذر وعدم الأخذ بعين الإعتبار حالة المريض قبل التجربة من حيث سنه وصحته ودرجة مقاومته وغيرها، كما أن الخطأ قد يكون ناشئ عن عدم إتباع الأصول العلمية أثناء التجربة، وبالتالي يكون القائم بالتجربة مسؤولا إذا لم يلتزم الحيطة والحذر في إستخدام العلاجات الحديثة .

وعليه فإن الطبيب الذي يقوم بإجراء التجارب الطبية على الإنسان لا يكون مسؤولا جنائيا عن أفعاله أو عن النتائج السلبية الناجمة عنها، متى إلتزم بالضوابط التي تضمنتها التشريعات المنظمة لهذا المجال .

كما أن إجراء التجارب الطبية والعلمية لم يعد مقتصرا فقط على الأشخاص الطبيعية، بل شمل كذلك الأشخاص المعنوية في صورة المستشفيات ومراكز الأبحاث الطبية التي تكون مسؤولة عن تجريب الأدوية التي تقوم بصناعتها أو الأجهزة والآلات المستعملة في التجارب الطبية والعلمية، لذلك تدخل المشرع من أجل وضع إطار قانوني لترتيب مسؤولية الأشخاص المعنوية في حالة إخلالها بشروط وضوابط التجارب الطبية[20] .

وبالتالي، فمتى قامت مسؤولية الشخص الطبيعي أو المعنوي مستوفية لكافة أركانها فإنه يكون معرضا لتطبيق العقوبات الجنائية التي نص عليها المشرع سواء بمقتضى القوانين الخاصة أو بمقتضى القانون الجنائي .

ثانيا : العقوبات الجنائية عن خرق ضوابط التجارب الطبية والعلمية

لقد نظم المشرع المغربي العقوبات الجنائية المطبقة في حالة خرق المقتضيات المنظمة للتجارب الطبية والعلمية على الإنسان بمقتضى القسم الثالث من القانون رقم 28.13 المتعلق بحماية الأشخاص المشاركين في الأبحاث البيوطبية، إلا أنه يمكن كذلك تطبيق عقوبات أشد في حالة وجودها بمقتضى التشريع الجنائي[21] .

ومن بين الأفعال التي عاقب عليها المشرع الجنائي هي تعريض السلامة الجسدية للشخص الخاضع للتجربة لخطر يؤدي إلى موته أو إلى جرح ينتج عنه بتر عضو من أعضائه أو عجز دائم، وهذا الخطر يجب أن يكون ناتجا عن عدم تقيد القائمين بالتجربة بقواعد  الحذر والسلامة التي يفرضها القانون 28.13، وبالتالي في حالة ثبوت هذا الفعل فإن المشرع عاقب كل من المتعهد[22] والباحث والمتدخل بالحبس من 3 إلى 5 سنوات وغرامة قدرها 500 ألف درهم وذلك طبقا للمادة 56 من القانون 28.13 .

كما عاقبت نفس المادة بنفس العقوبات السابقة في حالة خرق الأحكام المنظمة للتجارب الطبية على الأشخاص الموجودين في حالة ضعف الذين أشارت لهم المواد من 12 إلى 16 من هذا القانون .

أما في حالة خرق المقتضيات المنظمة للرضا والموافقة المطلوبين من المشارك في التجربة فالمشرع حدد العقوبة في الحبس من ثلاث إلى خمس سنوات وبغرامة قدرها 500 ألف درهم، هذا إضافة إلى ما نصت عليه المادة 59 من نفس القانون في حالة إفشاء المعطيات الشخصية للأشخاص الخاضعين للتجربة والتي عاقب عليها المشرع بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبغرامة قدرها 200 ألف درهم .

أما في حالة خرق مبدأ التطوع الذي يحكم مجال التجارب الطبية والعلمية، فإن المشرع عاقب الشخص الذي يمنح المقابل للشخص المشارك في التجربة بالحبس من ثلاث إلى خمس سنوات وغرامة قدرها 500 ألف درهم، كما يعاقب أيضا الشخص الذي تلقى المقابل المالي قصد المشاركة في بحث بيوطبي بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وغرامة من 2000 إلى 20.000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين .

وإضافة إلى هذه الأفعال الجرمية السابقة أضاف المشرع مجموعة من الأفعال الجرمية الأخرى التي تشكل سلوكات مخالفة لضوابط إجراء التجارب الطبية والعلمية من قبيل مخالفة الغرض من التجارب البيوطبية أو مخالفة التناسب بين مخاطر ومنافع التجربة البيوطبية أو مخالفة شرط الكفاءة العلمية أو عدم مراعاة الأصول العلمية أثناء التجريب، وخص هذه الأفعال بعقوبات متفاوتة .

وإضافة إلى العقوبات الحبسية والغرامات المالية التي عاقب بها المشرع على هذه الأفعال، يمكن كذلك تطبيق مجموعة من التدابير الوقائية الأخرى من قبيل المنع من مزاولة أي مهنة أو نشاط إرتكبت الجريمة خلال مزاولته أو بمناسبة مزاولته، أو الحكم بعدم الأهلية لمزاولة أي وظيفة أو خدمة عمومية، إضافة إلى إمكانية إتخاذ تدبير المصادرة .

أما بخصوص العقوبات المطبقة على الأشخاص المعنوية التي تقوم مسؤوليتها الجنائية فهي تتراوح بين الحكم بغرامات مالية أو إغلاق المؤسسة .

هذا فيما يخص العقوبات المطبقة، أما فيما يخص معاينة هذه المخالفات فهي موكولة إلى ضباط الشرطة القضائية وكذا الأعوان المفتشون المنتدبون بصفة قانونية لهذا الغرض من قبل الإدارة، وكذا المحلفون طبقا للتشريع المتعلق بأداء اليمين القانونية من طرف الأعوان محرري المحاضر، مما يضفي على هذا النوع من الجرائم خصوصية .

وبالتالي فالمشرع حاول من خلال هذه العقوبات الحبسية والغرامات المالية ردع المتدخلين في التجارب البيوطبية حتى لا تخرج عن نطاق الإباحة الذي حدده لها المشرع .

 

 

 

 

 

خاتمة

 

و من كل ما سبق يمكن القول أن المغرب خطى خطوة مهمة في إتجاه تنظيم مجال التجارب الطبية والعلمية على الإنسان من خلال إصدار القانون رقم 28.13 المتعلق بحماية الأشخاص المشاركين في الأبحاث البيوطبية، هذا القانون الذي يهم أساسا المواطنين المشاركين في التجارب والأبحاث الطبية، يتبنى المبادئ والقواعد الكونية التي يكرسها الدستور ويضع الآليات لضمان تطبيقها حيث تشكل الموافقة الطوعية والحرة والمستنيرة للأشخاص المشاركين في الأبحاث البيوطبية شرطا أساسيا لتحقيق هذه الأبحاث .

 

 

ملخص

إن تطور العلوم الطبية لم يأتي من فراغ، بل سبقته العديد من التجارب العلمية الطبية التي عرفت نجاحا كبيرا، الشيء الذي أدى إلى تزايد الإقبال على هذا النوع من التجارب سواء منها العلمية أو العلاجية، كان لزاما على التشريعات التدخل من أجل تنظيم هذه التجارب، حيث إتفقت جل التشريعات على شرعية التجارب العلاجية التي يكون فيها مصلحة مباشرة للشخص الخاضع للتجربة، في حين ظل الإختلاف قائما بينها بخصوص التجارب العلمية غير العلاجية التي تجرى على الإنسان سليم الصحة .

وبهذا الخصوص ذهب المشرع المغربي إلى السماح بإجرائها إذا كان الهدف منها توسيع المعرفة العلمية بالنسبة للكائن البشري و الوسائل الكفيلة بتحسين وضعيته، وذلك وفق مجموعة من الشروط التي حددها المشرع بمقتضى القانون 28.13 المتعلق بحماية الأشخاص المشاركين في الأبحاث البيوطبية، وحدد بمقتضاه كذلك مجموعة من العقوبات لزجر المخالفين لمقتضياته حتى لا يتم الإعتداء على سلامة الخاضعين للتجربة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

RÉSUMÉ

 

Dans le cadre de développement des sciences médicales on note qu’il n’est venu d’un vide, mais a été précédé par de nombreuses expériences scientifiques médicales qui ont été très réussies, ce qui a conduit à une demande accrue pour ce type d’expérience, à la fois scientifique et thérapeutique, la législation a dû intervenir pour organiser ces expériences, où la plupart de la législation a convenu de la légitimité des essais thérapeutiques dans lesquels il ya un intérêt direct de la personne soumise à l’expérience, tandis que la différence entre eux est resté. Expériences scientifiques non thérapeutiques menées sur la santé humaine saine.

Pour cette raison, le législateur marocain a ensuite permis qu’il soit réalisé si son but est d’élargir les connaissances scientifiques de l’être humain et les moyens d’améliorer son statut, conformément à un ensemble de conditions fixées par le législateur en vertu de la loi 28.13 concernant la protection des personnes impliquées dans la recherche Biomédical, en vertu duquel il a également précisé un ensemble de sanctions pour les violations forcées de ses exigences afin de ne pas attaquer la sécurité des personnes visées par l’expérience.

 

 

لائحة المراجع

  • مراجع باللغة العربية
  • كتب

 

  • محمد عيد الغريب، التجارب الطبية والعلمية وحرمة الكيان الجسدي للإنسان، دراسة مقارنة، مطبعة أبناء وهبه وحسان، الطبعة الأولى، 1989
  • سهير منتصر، المسؤولية المدنية عن التجارب الطبية في ضوء قواعد المسؤولية المدنية للأطباء، دار النهضة العربية، 1990
  • عبد العزيز بن محمد الصغير، نقل وزراعة الأعضاء البشرية في ضوء الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، المركز القومي للإصدارات القانونية، الطبعة الأولى، 2015
  • محمود علي السرطاوي، قضايا طبية معاصرة في ميزان الشريعة، دار الفكر، الطبعة الأولى، 2007
  • مرعي منصور عبد الرحيم، الجوانب الجنائية للتجارب العلمية على جسم الإنسان، دار الجامعة الجديدة، 2011
  • أطروحات
  • بن عودة سنوسي، التجارب الطبية على الإنسان في ظل المسؤولية الجزائية – دراسة مقارنة، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الخاص، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة أبو بكر بلقايد – تلمسان، السنة الجامعية 2017 – 2018
  • مقالات
  • منذر الفضل، التجربة الطبية على الجسم البشري ومدى الحماية التي يقررها القانون المدني والقوانين العقابية والطبية، مجلة الكوفة للعلوم القانونية والسياسية، العدد السابع، 2010

 

[1]  الفقرة الأولى من المادة الأولى من القانون رقم 28.13

[2]  سورة الأنعام، الآية 145

[3]  سورة الأنعام، الآية 119

[4]  بن عودة سنوسي، التجارب الطبية على الإنسان في ظل المسؤولية الجزائية – دراسة مقارنة، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الخاص، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة أبو بكر بلقايد – تلمسان، السنة الجامعية 2017 – 2018 ، ص 80

[5]  نفسه، ص 81

[6]  سورة البقرة، الآية 195

[7]  سورة النساء، الآية 29

[8]  بن عودة سنوسي، م . س، ص 91

[9]  محمد عيد الغريب، ، التجارب الطبية والعلمية وحرمة الكيان الجسدي للإنسان، دراسة مقارنة، مطبعة أبناء وهبه وحسان، الطبعة الأولى، 1989 ، ص 38، 39

[10]  منذر الفضل، التجربة الطبية على الجسم البشري ومدى الحماية التي يقررها القانون المدني والقوانين العقابية والطبية، مجلة الكوفة للعلوم القانونية والسياسية، العدد السابع، 2010، ص 19

[11]  بن عودة سنوسي، م . س، ص 88

[12]  سهير منتصر، المسؤولية المدنية عن التجارب الطبية في ضوء قواعد المسؤولية المدنية للأطباء، دار النهضة العربية، 1990، ص 24، 25

[13]  المادة 5 من القانون 28.13

[14]  بن عودة سنوسي، م . س، ص 149

[15] عبد العزيز بن محمد الصغير، نقل وزراعة الأعضاء البشرية في ضوء الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، المركز القومي للإصدارات القانونية، الطبعة الأولى، 2015، ص 145

[16]  محمود علي السرطاوي، قضايا طبية معاصرة في ميزان الشريعة، دار الفكر، الطبعة الأولى، 2007، ص 65

[17]  بن عودة سنوسي، م . س، ص 210

[18] Patrick MISTRETTA, Droit pénal médical, éditions cujas , 1er trimestre 2013, p 64

[19]  مرعي منصور عبد الرحيم، الجوانب الجنائية للتجارب العلمية على جسم الإنسان، دار الجامعة الجديدة، 2011، ص 206

[20]  بن عودة سنوسي، م . س، ص 335

[21]  المادة 55 من القانون 28.13

[22]  عرفت المادة الأولى المتعهد بأنه الشخص الذاتي أو المعنوي الذي يأخذ المبادرة بإجراء بحث بيوطبي ويتحمل مسؤولية تنفيذه والإشراف عليه وتمويله، ويضمن إحترام الإلتزامات المترتبة على ذلك طبقا لأحكام هذا القانون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى