” الدولة ما بعد جائحة كورونا”
مما لا شك فيه أن جائحة كورونا زلزلت العالم بأسره، وأثبتت أوجه القصور والإختلالات التي يعاني منها النظام العالمي، وشكلت محطة تفكير في عالم جديد ما بعد جائحة كورونا، في عالم مختلف تماما عن سابقه، لكن أمام كل هذا، برزت الدولة الوطنية في ظل هذه الجائحة، وتبين مدى أهميتها ودورها، وبالتالي كيف ستكون الدولة ما بعد أزمة كورونا ؟
لمعالجة هذا الموضوع، اعتمدنا التقسيم التالي :
المبحث الأول:الدولة بين النشأة والتطور
لمعالجة موضوع الدولة ما بعد جائحة كورونا،لابد من التطرق أولا للتعريف السياسي والقانوني للدولة، ثم بعدها التطرق لأصل نشأة الدولة، وأشكالها، وأخيرا التطور الوظيفي لها.
+”التعريف السياسي والقانوني للدولة” :
-الدولة في شقها السياسي، هي السلطة التي تهتم بشؤون المجتمع، وقد اتخذت عدة أشكال، نذكر ما يلي:
*”الشكل المجهول”:هذا الشكل كان لا يميز بين الحاكمين والمحكومين، بمعنى ليس هناك قائد،لكن نلاحظ أن هذا الشكل غير مستقر، لأنه ينتهي بمطالبة أحد الأفراد بالقيادة(1).
*”الشكل الباتريمونيالي”:يرتبط تعريف الدولة هنا بملكية الأرض، ويؤدي إلى تعدد المالكين خلال الإراثة، مما ينتج عنه تجزيئ للسلطة، وهو أيضا لا يعرف الإستقرار، ويمكن أن نطلق على هذا الإسم بشخصنة السلطة.
*”الشكل الدولي” : هو مخالف للشكل السابق لأنه لا يقوم على الشخصنة وإنما على مأسسة السلطة، بحيث تتولى أجهزة الدولة تنظيم حياة المجتمع،وهذا الشكل بخلاف الشكلين السابقين، هو الأكثر إستقرارا ودواما.
-الدولة في شقها القانوني،يتحدد تعريفها في خاصيتين أساسيتين:
*”الدولة شخص معنوي”:فالدولة هي شخص معنوي من أشخاص القانون العام، لها ذمة مالية ولها حقوق وعليها واجبات، وتتكون من أجهزة، يتم تسييرها من طرف أشخاص ذاتيين طبيعيين، مثلا رئيس الدولة،الوزراء، الولاة، المدراء، الموظفين..
*”الدولة والسيادة”:عنصر السيادة مهم في كل دولة، فكل دولة تتوفر على سيادة داخلية على مواطنيها من خلال سن قوانين وتنظيم الحقوق والحريات وردع مخالفي القوانين،كما أنها تتوفر على سيادة خارجية أمام كل الدول، إلا أن السيادة الخارجية مقرونة بقوانين دولية، لاسيما أن العالم يعيش تحت إطار تنظيم دولي المعروف بمنظمة الأمم المتحدة التي حلت محل عصبة الأمم، كما أنه يعيش تحت سقف منظمات دولية أخرى من قبيل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي،كما أن التعاون بين الدول أو بين المنظمات السياسية والإقتصادية يمكن أن يقود إلى التخلي أو التنازل عن السيادة ونموذج على ذلك “الإتحاد الأوروبي”.
بالإضافة إلى هذا كله، نجد أن الدولة تقوم على عناصر أو أركان وبدون هذه العناصر لا يمكن أن نقول أن هذه دولة، وتتلخص هذه العناصر فيما يلي:
*”الإقليم” :كل دولة في العالم لها إقليم يحدد حدودها، وداخل ذلك الإقليم تمارس سيادتها، وهناك الإقليم البري والبحري والجوي، فالبنسبة للإقليم البحري المجاور لشواطئها(12 ميلا بالنسبة للبحر الترابي).
*”الأمة”: وجود الأمة ضروري لقيام الدولة، وهنا ينبغي التمييز بين الأمة والسكان، فالدستور المغربي لسنة 2011 (2) على سبيل المثال لا الحصر، ذكر في فصله الثاني لفظ “الأمة” ولم يذكر لفظ “السكان”، لأن الأمة هي مجموعة من الأشخاص تجمعهم روابط أو قواسم مشتركة (الدين، اللغة، التاريخ، نمط العيش… إلخ) بينما السكان ليس بالضرورة أن تكون بينهم قواسم مشتركة وليس بالضرورة ان يكونوا منتمين لنفس الدولة،مثلا تجد مواطن فرنسي أو ألماني يسكن بالمغرب.
*”تنظيم سياسي” :ونقصد هنا بالتنظيم السياسي وجود جهاز الدولة، والدولة تتكون من ثلاث سلط (التشريعية، التنفيذية،القضائية) ،وبالتالي فهذه السلط تمارس وظائفها وإختصاصاتها في إطار احترام تام للقانون.
+”أصل نشأة الدولة” :
يتجلى أصل ظهور الدولة في العديد من النظريات، نختزلها فيما يلي:
*”نظرية القوة والتغلب” :تتجلى هذه النظرية في أن أصل نشأة الدولة هي إنتصار شخص أو جماعة على أشخاص أو جماعات أخرى، مما أدى إلى خضوع المغلوب للغالب، وبالتالي فالطرف الغالب أنشأ الدولة والمغلوبين أصبحوا هم المحكومين.
*”نظريات الإتجاه الديني”، تتجلى فيما يلي:
-نظرية تأليه الحاكم:أصل هذه النظرية أن الحاكم هو الله، ونلاحظ أن الحضارات السابقة كان تعتبر الحاكم إلها.
-نظرية الحق الإلهي المقدس:أصل هذه النظرية أن الحاكم يستمد سلطته من الله مباشرة دون تدخل أحد، وما على المحكومين إلا طاعته وعدم عصيانه، ففي هذه النطرية لم يعد الحاكم هو الله وإنما مجرد شخص طبيعي لكنه يتميز عن عامة الناس بأن الله إختاره لينوب عنه في الأرض.
-نظرية العناية الإلهية:في هذه النظرية بدأت سلطات الحاكم تتقيد، بحيث لم يعد يتم اختياره مباشرة دون تدخل أحد بل أصبحت الكنيسة تتدخل في تنصيبه بمعنى الإختيار الغير المباشر.
*”نظريات العقد الإجتماعي” :ذهب العديد من الباحثين إلى أن نظرية العقد الإجتماعي ظهرت مع القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكن في الحقيقة أن فكرة العقد الإجتماعي ظهرت قبل ذلك، فقد تحدث عنها الفيلسوف “أبيقورس” (3) الذي اعتبر أن الدولة ليست شيئا مقدسا من الله لخدمة عقائد الإنسان وتوجيهه إلى الحقائق الأزلية، ولا هي اكتشاف مجرد بالعقل، وإنما هي تقوم على فكرة المنفعة المبنية على التعاقد.
وقد انتقلت الفكرة من هذا الفيلسوف إلى بعض مفكري الرومان، لكن ظهرت فكرة العقد الإجتماعي بكل قوة خلال القرن السابع عشر والثامن عشر مع كل من المفكرين الثلاث:”توماس هوبز” ،”جون لوك”، “جان جاك روسو”، وسنوضح فكرة كل مفكر:
-توماس هوبز: يرى أن سبب قيام الدولة هو الخوف، وبالتالي أنشأ الأفراد فيما بينهم تنظيما سياسيا، مقابل تنازلهم عن كافة حقوقهم، حيث يعتبر الحاكم طرفا أجنبيا عن العقد ولا يلتزم بأي شيئ وله سلطات مطلقة، ولا يمكن الإطاحة به إلا في حالة انهزامه في حرب أهلية أو أجنبية حينها يمكن فسخ العقد.
-جون لوك: إذا كان توماس هوبز كان ينادي بالحكم المطلق، فإن جون لوك ينادي بالحكم المقيد، فهو يختلف مع توماس هوبز أيضا في تشخيص حالة الفرد في إطار حياة الطبيعة، حيث أن توماس هوبز كان يعتبر أن الفرد يعيش الخوف بينما جون لوك عكسه، إذ يعتبر أن الفرد في حالة الطبيعة كان يعيش حالة السعادة والسبب في إنشاء الدولة هو الحصول على سعادة أكثر، مقابل تنازل جزئي لصالح التنظيم السياسي ككل وليس للحاكم وليس كلي كما قال توماس هوبز، بل أكثر من ذلك أن الحاكم يعتبر طرفا في العقد وليس أجنبيا وإذا أخل بإلتزاماته جاز فسخ العقد.
-جان جاك روسو: يتفق مع جون لوك في حياة الفرد في الطبيعة، التي كانت تسودها السعادة والحرية، لكنه يعتبر أن سبب قيام الدولة هو انعدام المساواة في حياة الطبيعة، وبالتالي فالأفراد يتنازلون عن كافة حقوقهم مقابل اكتساب حقوق جديدة وتكون إرادة الأغلبية هي المعبرة عن إرادة العامة وما على الأقلية سوى الإمتثال، كما أنه اعتبر أن الحكومة(التنظيم السياسي) مجرد وكيل عن الشعب، إذ أقر أن الشعب هو صاحب السيادة.
+”أشكال الدولة” :
*”الدولة البسيطة أو الموحدة” :بمعنى أن الدولة تقوم على الوحدة، بحيث توجد حكومة واحدة، وبرلمان واحد، وقضاء واحد، و دستور واحد، والأمة تخضع لنفس القوانين، ومن أجل تخفيف العبئ على الدولة المركزية يتم اللجوء إلى “عدم التركيز أو اللاتمركز أو اللاتركيز”، هم أشخاص معينون (السلطة المحلية) تتولى تسيير الشؤون الجهوية والإقليمية والمحلية) وكذلك اللامركزية،وهذه الأخيرة تنقسم لنوعين هناك اللامركزية الإدارية والسياسية، فاللامركزية الإدارية تقتضي منح جزء من الإختصاصات لأشخاص خاضعة للقانون العام تتمتع بالإستقلال الإداري والمالي وتخضع للمراقبة والرقابة من طرف أجهزة الدولة، وتختلف عن اللاتركيز الإداري بأنها خاضعة لأسلوب الإنتخاب وليس التعيين، فمثلا المغرب هناك الجماعات الترابية، ويطلق على هذا النوع من اللامركزية بمصطلح “الترابية” لأن هناك نوع آخر من اللامركزية الإدارية وهو “المرفقية أو المصلحية أو التقنية أو الوظيفية” وهي المؤسسات العمومية التي تتولى تسيير المرافق العمومية التابعة للدولة.
أما بخصوص اللامركزية السياسية فتقتضي منح الإستقلال السياسي للجهات إذ تتوفر على حكومة جهوية وبرلمان جهوي وقضاء جهوي، ومع ذلك تبقى الدولة موحدة لأن الجهات أو الدولة الجهوية لا تتوفر على سلطة تأسيسية كما أن القوانين التي تسنها تخضع للمراقبة الإدارية والرقابة القضائية(المحكمة الدستورية) ،ومن أمثلة هذه اللامركزية نجد إسبانيا وإيطاليا.
*”الدولة الفيدرالية أو المركبة” :تعني تشكل دولة معينة من مجموعة من الدول التي تفوض جزءا من سلطتها إلى الدولة المركزية،وهنا ينبغي التمييز بين الإتحاد الشخصي والإتحاد الفعلي، فالإتحاد الشخصي يعني وجود رئيس دولة واحدة على رأس دولتين أو أكثر وتحتفظ كل من هذه الدول على السيادة الداخلية والخارجية، أما الإتحاد الفعلي يعني اتحاد دولتين أو أكثر يحتفظون بسيادتهم الداخلية لكنهم يفقدون السيادة الخارجية والدفاع لفائدة دولة جديدة التي يرأسها رئيس واحد.
تتميز الفيدرالية بأن كل دولة مكونة للدولة الفدرالية تتوفر على دستور وتشريع وحكومة ومحاكم، لكن تظل العملة والدفاع والسياسة الخارجية بيد الدولة المركزية، وفي حالة وقوع نزاع بين الدول المكونة للفدرالية يتم اللجوء إلى هيئة متخصصة بالسهر على احترام الدستور مثلا كالمحكمة العليا بالولايات المتحدة الأمريكية.
بالإضافة إلى أن هناك تنظيم من نوع آخر وهو “الكنفدرالية” التي تنشأ بناءا على معاهدات لها قيمة دستورية التي توضح المجالات الإقتصادية والسياسية التي سيتم تسييرها بشكل مشترك،دون أن ننسى تنظيم من نوع آخر يدخل ضمن قائمة الدول المركبة ألا وهو “المجموعة فوق الوطنية” كالإتحاد الأوروبي الذي كان سابقا يسمى بالسوق الأوروبية المشتركة بموجب معاهدة روما لسنة 1957 ثم تحول إلى الإتحاد الأوروبي سنة 1992 بموجب معاهدة ماستريخت،حيث أن السيادة الوطنية تنقص في هذا التنظيم.
+”التطور الوظيفي للدولة”:
كانت الدولة تتمتع بوظائف تقليدية تتمثل في الوظيفة التشريعية من خلال سن القوانين ثم وظيفة تنفيذية من خلال تنفيذ القوانين بواسطة مراسيم وقرارات تنظيمية وفردية ومناشير ودوريات ثم وظيفة قضائية من خلال تطبيق القانون أمام المنازعات المعروضة عليها.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ومع أزمة 1929 إزداد دور الدولة خصوصا مع خطة نيوديل أو ما تسمى بالخطة الجديدة إزداد تدخل الدولة في الحياة الإقتصادية والإجتماعية ولم يعد مقتصرا على الوظيفة التقليدية التي ذكرناها(التشريع،التنفيذ، القضاء)، وبعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الدولة تشجع القطاع الخاص ومنح تحفيزات للمستثمرين(إعفاءات ضريبية)، كما يجب ألا ننسى أن من أهم وظائف الدولة خدمة حرية الإنسان وكانت الإرهاصات الأولى لهذا المعطى في إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789 إذ تم دمجه في الدستور الفرنسي الأول لسنة 1791،نلاحظ أن جل الدساتير تراعي حقوق الإنسان، بما فيها الدستور المغربي الجديد الذي خصص بابا كاملا وهو الثاني للحريات والحقوق الأساسية دون أن ننسى وظيفة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى وهي خدمة بيئة الإنسان، إذ نلاحظ أن الدستور المغربي اهتم لمسألة البيئة من خلال دسترته للمجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي وتخصيص باب كامل له وهو الباب الحادي عشر، بالإضافة إلى الفصل 31 من الدستور ، إذ ينص في فقراته الأخيرة على حق الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة والتنمية المستدامة.
المبحث الثاني:تراجع الليبرالية وهيمنة الدولة الوطنية
إذا كان فرانيس فوكوياما صاحب نظرية “نهاية التاريخ” أيد الليبرالية واعتبرها هزمت باقي الإيديولوجيات المنافسة، فإن جائحة كورونا، أثبتت عكس نظريته، وأن النظام الليبرالي يعاني من اختلالات لم يستطيع مقاومة فيروس غير مرئي، إذ شل إقتصادات جل دول العالم.
إذا كان العالم قد تأثر بالنظرية الليبرالية، لأن هذه الأخيرة لم تكن خيارا وإنما ضرورة فرضتها ظروف معينة، فبعد الحرب العالمية الثانية، انطلق عصر الحرب الباردة بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية، انتهى بفوز أمريكا وتفكك الإتحاد السوفياتي سنة 1991،وبالتالي أصبح العالم خاضعا لنظام أحادية القطبية مما استوجب اتباع النظام العالمي في تلك الفترة، الذي فرض على الدول التخلي عن أدوارها والإندماج في سياسة جديدة “إقتصاد السوق”، لكن مع أزمة كورونا عادت الدولة الوطنية من جديد، وتجلى هذا في العديد من الإجراءات التي اتخذتها جل دول العالم من إغلاق الحدود وفرض حالات الطوارئ والحجر الصحي، بل أكثر من ذلك إذا كانت الدول في الإتحاد الأوروبي تكون ناقصة السيادة في هذا الإتحاد بحيث تتنازل عن اختصاصاتها، إلا أنه ومع أزمة كورونا لاحظنا كيف تصرفت كل من إيطاليا وإسبانيا بسبب موقف الإتحاد الأوروبي، فإيطاليا حينما كانت تعاني من إرتفاع كبير في الأموات كان الإتحاد الأوروبي مكتوف الأيدي اكتفى فقط بالمشاهدة، فقررت الصين مساعدتها، مما جعل إيطاليا تتخذ موقفا من الإتحاد الأوروبي، وقبل ظهور كورونا، لاحظنا عودة الدولة الوطنية ذات السيادة من خلال انسحاب بريطانيا من الإتحاد الأوروبي هذه السنة، فإذا كانت الليبرالية تتميز بخصائص إلا أن دورها تراجع في ظل أزمة كورونا في المقابل ازداد وتضاعف دور الدولة الوطنية.
ولمعالجة موضوع الدولة ما بعد أزمة كورونا،سنسلط الضوء على التجربة المغربية، ففي أزمة كورونا تجلى المفهوم الجديد للسلطة الذي تبناه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله منذ إعتلائه عرش أسلافه المنعمين سنة 1999 وبالضبط في الخطاب الملكي السامي 12 أكتوبر1999، إذ تجدست قيم التضامن والتآزر والتآخي بين السلطة والشعب بل تعدتها لمفهوم أكبر وهو التلاحم، وبرزت الدولة الإجتماعية.
إذ تم تفعيل العديد من القرارات من خلال دعم المواطنات والمواطنين عبر صندوق تدبير جائحة كورونا(الذي أحدث بموجب الفصل 70 من دستور 2011 والمادة 26 من القانون التنظيمي للمالية العامة(4))،كما لاحظنا الدولة الوطنية بكل تجلياتها، فالمؤسسة الملكية لعبت دورا مهما من خلال التوجيه والإرشاد والتنسيق بحيث أنها لم تلجأ لإستخدام الزمن الإستثنائي التي يتيحه لها الدستور بموجب الفصل 59 منه بل فضلت الإشتغال تحت سقف الزمن العادي للدستور، كما أنها اشتغلت وراء الستار ولم تفضل الخروج عبر توجيه خطابات كما أنها لم تستغل جائحة كورونا للظهور على السطح كما فعل العديد من رؤساء دول العالم، بل اكتفت بالتسيير والتنسيق وإصدار تعليمات وتوجيهات وراء الستار في إطار احترام تام للدستور كل هذا لبعث الطمأنينة في نفوس المواطنات والمواطنين هنا تظهر حكمة وعبقرية المؤسسة الملكية،وليس كما فعل بعض رؤساء دول العالم بحث وجهوا خطابات فيها نوع من الفزع والرعب للشعب(5)،وبالتالي اشتغلت جل مؤسسات الدولة(الحكومة-البرلمان-القضاء-الأمن-المجلس العلمي الأعلى… إلخ).
إن جائحة كورونا عززت بل زادت من منسوب الثقة بين الدولة والمواطن،ونلاحظ أن جلالة الملك حفظه الله أكد على عنصر الثقة في خطاب العرش لسنة 2019،إذ قال جلالته :…غير أن المرحلة الجديدة، التي نحن مقبلون عليها، حافلة أيضا بالعديد من التحديات والرهانات الداخلية والخارجية، التي يتعين كسبها؛ وفي مقدمتها :
- أولا : رهان تو طيد الثقة والمكتسبات : لكونها أساس النجاح، وشرط تحقيق الطموح : ثقة المواطنين فيما بينهم ، وفي المؤسسات الوطنية، التي تجمعهم، والإيمان في مستقبل أفضل… “.
إن الدولة ما بعد جائحة كورونا أمام تحديات كثيرة لاسيما، الإقلاع الإقتصادي والإجتماعي،ثم تحدي أساسي ومهم ألا وهو إعداد نموذج تنموي يواكب التطورات الدولية والتطورات الداخلية،فينبغي أن يرتكز هذا النموذج على الإصلاح السياسي والإداري، فجلالة الملك في الخطاب السالف الذكر أكد على ضخ دماء جديدة في العمل السياسي والإداري، فالأحزاب السياسية عليها أن تتمتع بعقلية المقاولة وبعقلية جديدة وأن تواكب القرن الحادي والعشرين وأن تعمل على ضخ دماء شابة في العمل السياسي وإعطاءها مراكز مهمة في الحزب لأنه كما قال جلالة الملك نصره الله في خطاب العرش لسنة 2018 :”… والواقع أن الأحزاب تقوم بمجهودات من أجل النهوض بدورها. إلا أنه يتعين عليها استقطاب نخب جديدة، وتعبئة الشباب للانخراط في العمل السياسي، لأن أبناء اليوم، هم الذين يعرفون مشاكل ومتطلبات اليوم. كما يجب عليها العمل على تجديد أساليب وآليات اشتغالها… “، ويجب أيضا القطع مع هذه التعددية المفرطة والإكتفاء فقط بثنائية حزبية في حدود ثلاث أحزاب(الليبرالية، الإشتراكية،المحافظة) كما ينبغي تعديل الفصل 47 من دستور 2011 من خلال الضمان لنخب التكنوقراط بأن يكونوا في تشكيلة الحكومة، فأزمة كورونا أثبتت مدى أهمية نخب التكنوقراط في تدبير الأزمة، فلجنة اليقظة الإقتصادية التي تم إحداثها لعبت دورا مهما في تدبير جائحة كورونا، إذ تقوم وزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة بتنسيق أشغالها، والتي تضم بين أعضائها كل من وزارات الداخلية، والشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، والفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، وزارة الصحة، وزارة الصناعة والتجارة والاقتصاد الأخضر والرقمي.
كما تضم اللجنة في عضويتها وزارة السياحة والصناعة التقليدية والنقل الجوي والاقتصاد الاجتماعي، ووزارة الشغل والإدماج المهني، وبنك المغرب، والمجموعة المهنية لبنوك المغرب، والاتحاد العام لمقاولات المغرب، وجامعة الغرف المغربية للتجارة والصناعة والخدمات، وجامعة غرف الصناعة التقليدية،وبالتالي نخب التكنوقراط وجودهم أساسي في مغرب ما بعد أزمة كورونا، لاسيما أنهم يعتمدون في تدبيرهم على “التخطيط الإستراتيجي القائم على الحكامة الجيدة”.
أما بخصوص الإصلاح الإداري الذي سيعزز كذلك من منسوب الثقة ما بين الدولة والمواطن، فكما قال جلالة الملك في خطاب العرش لسنة 2019:”…فالقطاع العام يحتاج، دون تأخير، إلى ثورة حقيقية ثلاثية الأبعاد : ثورة في التبسيط، وثورة في النجاعة، وثورة في التخليق…”،وبالتالي فالتبسيط والنجاعة والتخليق،لا يمكن أن يتأتى إلا بالتركيز على الرأسمال البشري، لأنه لا تنمية بدون رأسمال بشري ثم كذلك الإعتماد على الإدارة الإلكترونية، ففي أزمة كورونا، وحفاظا على الصحة العمومية تمت رقمنة العديد من القطاعات (التعليم نموذجا) وبالتالي فالدولة ما بعد أزمة كورونا، ستسارع إلى إدماج الجانب الإلكتروني في جل القطاعات العامة، إذ أن التعليم عن بعد سيتم تعميمه ما بعد كورونا، نظرا للنتائج الإيجابية التي أعطاها، بالإضافة سيكون التطبيب عن بعد، ورقمنة الخدمات العمومية والجماعية،كما أن التقاضي إذا كان في جائحة كورونا تم العمل به، فإن الدولة ستعمل على إتخاده كوسيلة دائمة ما بعد أزمة كورونا، وسيتم التخلي عن الأوراق والملفات التي تكلف الكثير لميزانية الدولة وسيتم الإكتفاء بالخدمات الإلكترونية، كما أن الدولة ما بعد جائجة كورونا ستلجأ لتنظيم الإنتخابات عن بعد والتصويت عن بعد والحملات الإنتخابية عن بعد بدلا من الخروج للشارع، إن الإدارة الإلكترونية تعتبر الخيار الإستراتيجي للدولة ما بعد أزمة كورونا.
خلاصة:
إذا كانت جائحة كورونا عززت ووطدت من نسبة الثقة بين الدولة والمواطن، فإنه ينبغي أن يواكبها الإصلاح السياسي للأحزاب والتركيز على الرأسمال البشري وتعميم الإدارة الإلكترونية في جميع مرافق الدولة، كما أن الدولة المغربية في ظل جائحة أظهرت أنها دولة إجتماعية بإمتياز،لكن هذا لا يعني بأن الدولة لم تكن إجتماعية ما قبل كورونا، بل منذ إعتلاء جلالة الملك أعزه الله العرش وهو يولي عناية بالغة بالقطاع الإجتماعي، من خلال إطلاقه للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية،وكذلك من خلال إحداث صندوق التكافل العائلي، وحثه على إخراج السجل الإجتماعي الموحد، وسنختم بمقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش لسنة 2018،إذ قال جلالته :”… وفي هذا الصدد فإننا نعتبر المبادرة الجديدة لإحداث “السجل الاجتماعي الموحد” بداية واعدة، لتحسين مردودية البرامج الاجتماعية، تدريجيا وعلى المدى القريب والمتوسط.
وهو نظام وطني لتسجيل الأسر، قصد الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي، على أن يتم تحديد تلك التي تستحق ذلك فعلا، عبر اعتماد معايير دقيقة وموضوعية، وباستعمال التكنولوجيات الحديثة.
إن الأمر يتعلق بمشروع اجتماعي استراتيجي وطموح، يهم فئات واسعة من المغاربة. فهو أكبر من أن يعكس مجرد برنامج حكومي لولاية واحدة، أو رؤية قطاع وزاري، أو فاعل حزبي أو سياسي.
شعبي العزيز،
إن طموحي للنهوض بالأوضاع الاجتماعية، يفوق بكثير وضع آلية أو برنامج مهما بلغت أهميته.. “.
الهوامش:
1-الدكتور الحسن الجماعي، مدخل إلى القانون الدستوري،مطبعة دعاية، الطبعة الثانية-2015،الصفحة: 9.
2-ظهير شريف 1-11-91 الصادر بتنفيذ دستور 2011،بتاريخ 29 يوليوز 2011،الصادر في الجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر،بتاريخ 30 يوليوز 2011،الصفحة: 3600.
3-الدكتور الحسن الجناعي،مرجع سابق، الصفحة: 14.
4-ظهير شريف 1.15.62 الصادر بتنفيذ القانون التنظيمي 130.13 المتعلق بالمالية،بتاريخ 2 يونيو 2015،الصادر في الجريدة الرسمية عدد 6370،بتاريخ 18 يونيو 2015،الصفحة: 5810.
5-الدكتور المنتصر السويني،”المؤسسة الملكية ومواجهة فيروس كورونا” ،منشور بجريدة هسبريس، تاريخ التصفح:يوم السبت 27 يونيو 2020،على الساعة الثامنة صباحا.