في الواجهةمقالات قانونية

طبيعة الإثبات في المواد الجنائية

 

 

 

طبيعة الإثبات في المواد الجنائية

مصطفى معتبر

باحث في القانون الخاص

 

إن صعوبة الإثبات في المواد الجزائية ترجع أساسا لكون الإثبات ينصب على وقائع حدثت في الماضي، القاضي لا علم له بها، بل سيتم إعادة استعراض ما حدث، من خلال ما توافر من أدلة الإثبات هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإثبات في المواد الجزائية ينصب على أفعال مادية وأمور نفسية، لا بد من البحث عن الأدلة والبراهين التي تثبت حدوث أفعال معينة أو نفيها، إضافة إلى إثبات القصد الجنائي أو إثبات عدم توافره، وكل هذه الأمور يصعب إثباتها، خاصة وأن الجناة و مرتكبي الجرائم عادة ما يعمدون إلى استعمال كل الوسائل اللازمة الطمس وإخفاء معالم الجريمة قصد تظليل المحكمة عنها، فكل هذا يجعل من اللازم أن يمنح القاضي نوعا من الحرية حتى يتمكن من الحكم في الدعوى.

نتيجة لهذا نجد أن مبدأ حرية اقتناع القاضي الجزائي، يقوم على اختيار القاضي في تكوين عقيدته على ما يتوصل إليه الاستنتاج لإصدار حكمه، وقد ساعد على انتشار هذا النظام ظهور الأدلة العلمية، كتلك المستمدة من الطب الشرعي و التحليل وتحقيق الشخصية ومضاهاة الخطوط وغيرها، وهي لا تقبل بطبيعتها إخضاع القاضي لأي قيد بشأنها، ويترك الأمر في تقديرها المحض لاقتناع القاضي، لكن هذا المبدأ مقيد ببعض القيود التي سبق ذكرها.

إذ يتسم الإثبات في المواد الجنائية بأنه لا يتعلق بإثبات وقائع مادية، وإنما يضاف إليها وقائع معنوية (نفسية) لها طابع استثنائي، كما أنه ليس متعلقا بإثبات تصرفات قانونية، يحتاط أطرافها بالأدلة المهيأة سلفا، فهي ليست عقدا يسار إلى تدوينه كما هو الحال في الإثبات المدني، فإثبات الجريمة لا يقتصر على مادياتها، وإنما يرد الإثبات على ركنها المعنوي، فالإثبات الجنائي ينصرف بالإضافة إلى حقيقة الوقائع المادية إلى إثبات القصد الجنائي والتحقق من قيامه أو عدم قيامه، فالجريمة ليست کيانا خالصا قوامة الفعل وآثاره إنما هي ذلك الكيان النفسي، ويراد به الأصول النفسية لماديات الجريمة، وهو ما يقوم على الإرادة والإدراك، وهي أمور كامنة في ذات المتهم، لا يمكن الاطلاع عليها واستجلاؤها إلا بمظاهر خارجية وربطهامع البواعث الداخلية، وهذا أمر يستلزم سبر غور المتهم والتطلع إلى ذاته، مما يستلزم عملا تقديرية لتحقيق قيامها.

ذلك أن المصالح التي يحميها القانون المدني هي مصالح خاصة في الغالب وذات طابع مالي، ولا يثار بشأنها كيان المجتمع ونظامه ولا حماية الحرية الفردية، في حين أن هدف القانون الجنائي ومهمته تتمثل في حماية كيان المجتمع والمصالح الأساسية لأفراده، من أي اعتداء عليها، ويعاقب الأفراد الذين ينتهكون القواعد القانونية عن طريق أفعالهم المضرة بالمجتمع، وليحقق هذه الحماية بصفة فعالة يترك المشرع اللقاضي حرية واسعة للوصول إلى الكشف عن الحقيقة والتعرف على الجناة والقبض عليهم ومعاقبتهم.

كما أن الإثبات الجنائي على خلاف الإثبات المدني، لا يترك لتقدير الخصوم، بل يلعب القاضي الجنائي دورا إيجابيا فهو ملزم بالكشف عن الحقيقة، ويجب عليه البحث عن كل الأدلة المفيدة لتكوين عقيدته، وله استكمال ما نقص من الأدلة عندما تبدو له أنها غير كافية، ويمكن أن يقال أن عبء الإثبات لا يقع على الخصوم فحسب بل أيضا وفي نفس الوقت على القاضي الجنائي، وخلافا للقاضي المدني يجب على القاضي الجنائي أن يبحث عن الحقيقة الموضوعية، وليس الحقيقة الشكلية كما يراها الخصوم، بل وكما يراها بنفسه وفقا لما يمليه عليه اقتناعه الشخصي.

فالمشرع الجنائي يهدف إلى إيجاد مساواة بين مصلحة المجتمع في العقاب، ومصلحة الطرف المدني من جهة، ومصلحة المتهم في الدفاع عن حقوقه المتمثلة خاصة في حريته وعدم الاعتداء عليها بلا مبرر من جهة أخرى، وحرية الإثبات وحرية الاقتناع هي الوسيلة التي يهدف المشرع بواسطتها إلى إعطاء نفس السلاح للأطراف المتخاصمة ليكونوا على قدم المساواة في الدعوى.”

كما أن مقتضيات مصالح المجتمع العليا في الحفاظ على أمنه واستقراره بمكافحة الجريمة بكل السبل، مما يستلزم أن يخول القضاة إثبات الجريمة والخطورة الإجرامية بكافة الوسائل، كي يتجه إليها بالعقوبة أو التدبير التي تقتضيهما المصلحة الاجتماعية.

كما أن وجود قرينة البراءة التي يحتمي بها المتهم، تستوجب حمايته الشخصية، ومقابل ذلك فإن مصلحة المجتمع في مكافحة الجريمة وكشف حقيقتها استوجب قانونا قبول جميع طرق الإثبات، ومنح سلطة للقاضي في تقدير أدلتها وذلك تحقيقا للتوازن بين مصلحة المجتمع ومصلحة المتهم، ثم إن هذه السلطة كما تفيد الاتهام تفيد الدفاع ومناطها النهائي كشف الحقيقة، كما أن الصفة العامة التي تتسم بها الدعوى الجنائية، نتيجة للضرر الذي تخلف عن الجريمة وكونه لا يقتصر على المجني عليه فقط، وإنما يسود كافة أفراد المجتمع، وطالما أن المجتمع هو صاحب الدعوى الجنائية، وأن الضرر سرى إلى كافة أفراده، وهذا ما يقتضي تحري الحقيقة بكل السبل المشروعة مما خول القاضي سلطة التقدير في هذا المجال، إضافة إلى تطور الوسائل العلمية الحديثة في الإثبات، كمبرر لهذه السلطة فإذا كان العلم قد أحدث العديد من أساليب الإثبات، وأمد سلطات التحقيق بوسائل علمية حديثة ومتطورة، فإن سلطة القاضي في تقدير الأدلة تأتي كضمان إزاء هذه الوسائل حيث أنها تشكل ضمانة هامة، لما قد يرافق هذه الوسائل من أخطاء تترتب عليها أخطر الأضرار في حالة التسليم بها، دون تقدير قيمتها الفعلية، بالإضافة إلى ما تنطوي عليه من اعتداء على الحريات الشخصية، لهذا بات من الضروري منح القاضي سلطة تقدير الأدلة الناجمة عنها.

هذا ونجد أن المشرع قد استلزم للإدانة اليقين، فإذا وجد شك في الإدانة فسر هذا الشك المصلحة المتهم وصرح ببراعته، ومن ثم فإن القاضي يجد نفسه أمام عدة معطيات لو لم يعط السلطة التقديرية الواسعة والمطلقة في الإثبات بالأدلة المشروعة ما تمكن من الوصول إلى الحقيقة، وعلى هذا فقد نص المشرع في المادة 212 من قانون الإجراءات الجزائية على إمكانية إثبات الجرائم بأي طريق من طرق الإثبات، فالمشرع هنا قد أطلق حرية القاضي الجنائي في الإثبات، وهذا حتى يتمكن حقيقة من مواجهة جريمة وقعت بعيدة عن عينه، ومتهم يريد التستر عليها والتمسك بأصل براعته والقانون يطلب منه اليقين للإدانة، وعليه فإن طبيعة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى