في الواجهةمقالات قانونية

التحقيق الإعدادي بين الإجباربة و الاختيارية – لطيفة المازغي

التحقيق الإعدادي بين الإجباربة و الاختيارية

لطيفة المازغي خريجة ماستر الأسرة في القانونين المغربي والمقارن

تقديم:

لعل أهم غاية يرمي إلى تحقيقها قانون المسطرة الجنائية إلى جانب الغايات الأخرى في أي بلد هي تحقيق التوازن بين مصلحة المجتمع في استتباب الأمن ومحاربة الجريمة، وبين مصلحة الفرد في الدفاع عن نفسه ضد كل ما يهدد حريته واستقراره[1].

وبالتالي فإن قانون المسطرة الجنائية بوصفه قانونا إجرائيا فإنه يشمل القواعد والإجراءات المتعلقة بالبحث في الجرائم والتحقيق فيها ومتابعة وزجر مرتكبيها، مما يتبين معه أن المتابعة الزجرية تمر بجملة من المراحل بدءا بالبحث التمهيدي المسند لأعضاء الشرطة القضائية وانتهاء بمرحلة المحاكمة التي تستكمل في إطارها إجراءات المتابعة وتنتهي بصدور حكم بات في القضية.

وغني عن البيان مرحلة التحقيق الإعدادي التي تتوسط كلا من البحث التمهيدي والمحاكمة، حيث يعد هذا الأخير-التحقيق الإعدادي- مرحلة من مراحل القضية الجنائية والتي تسبق عملية المحاكمة، كما يعد من أخطر وأهم مراحل المتابعة الزجرية، لذلك نجد أن المشرع المغربي قد أحاط هذه المرحلة بنوع من التنظيم القانوني، كما عمل من خلالها على تمتيع المتهم بجملة من الضمانات القانونية والتي تكفل صون حقوقه، وكل ذلك في سبيل تكريس نوع من المحاكمة العادلة.

ولقد تطرق المشرع المغربي إلى الأحكام الإجرائية التي تخص التحقيق الإعدادي في المواد 83 إلى 250 من قانون المسطرة الجنائية[2]، وذلك في إطار القسم الثالث من الكتاب الأول (التحري عن الجرائم ومعاينتها)، تناول من خلاله المشرع الإجراءات المخولة لقاضي التحقيق سلوكها، والأوامر التي مكنه من إصدارها من أجل تقريب الوصول إلى الحقيقة، والضمانات التي يجب عليه احترامها عند إنجازه لهذا التحقيق من بدايته إلى نهايته.

وتناط مهمة التحقيق الإعدادي بقاض من قضاة التحقيق[3] المعينين بكل محكمة من المحاكم الابتدائية أو محاكم الاستئناف، وفقا لإجراءات معينة بدقة، وفي ظل مسطرة قضائية تمتاز بوفرة ضمانات حقوق الدفاع، وبذلك يكون قضاة التحقيق هم السلطة الثالثة المكلفة بالتحري عن الجرائم إضافة إلى الشرطة القضائية وجهاز النيابة العامة.

هذا ويتمتع التحقيق الإعدادي بأهمية كبيرة باعتباره مرحلة حاسمة في حياة الدعوى العمومية، وهي المرحلة التي تؤدي إلى تحضير الدعوى وتحديد مدى قابليتها للنظر أمام قضاء الحكم، ونظرا إلى أنها تتم على إثر وقوع الجريمة، فإنها تتيح للقائمين عليها فرصة جمع الأدلة قبل ضياعها، لأن كل تأخير في تحقيق هذه المهمة قد يؤدي إلى تشويه صورة الحقيقة[4].

وفي هذا المقال سنقتصر على دراسة الشق المتعلق بنطاق التحقيق الإعدادي، من خلال تسليط الضوء على الأحكام والمقتضيات القانونية التي جاء بها المشرع في هذا الصدد.

لذا فإن الإشكال الذي يطرح نفسه كالتالي: ما هي الحدود التي وضعها المشرع المغربي لاعتماد التحقيق الإعدادي في الجرائم؟

ويتفرع عن هذا التساؤل ما يلي: ماهي الأفعال الجرمية التي أحاطها المشرع بإجبارية التحقيق الإعدادي؟ وما هي الحالات التي خول من خلالها إجراء التحقيق بصورة اختيارية؟

واستنادا إلى ما سبق سنحاول من خلال هذا المقال بسط الحدود التي رسمها المشرع والتي ترمي إلى اعتماد التحقيق الإعدادي من خلال جرد الأفعال الجرمية التي تستدعي الركون إليه كإجراء وذلك بصورة إجبارية {المطلب الأول}، وكذلك الحالات التي أجاز فيها المشرع إمكانية اللجوء إلى التحقيق بصفة اختيارية { المطلب الثاني}.

المطلب الأول: إلزامية التحقيق الإعدادي

تتم المطالبة بإجراء التحقيق إما من طرف النيابة العامة[5] والمتجسدة في شخص الوكيل العام للملك بواسطة ملتمس بإجراء تحقيق، أو من طرف المتضرر من الجريمة بواسطة ادعاء مصحوب بالمطالب المدنية، وذلك في الجرائم التي يوجب فيها القانون إجراء التحقيق، وعليه فإن قاضي التحقيق لا يسوغ له إمكانية تقرير اللجوء إلى التحقيق من عدمه بصورة تلقائية.

ولما كان التحقيق الإعدادي أداة للبحث عن الأدلة قبل إحالة المتهم على قضاء الحكم فإنه كان منطقيا أن يستثني القانون منه بعض القضايا الحاملة معها منذ اقتراف الأفعال الجرمية، وسيلة الإثبات كالتلبس، وأن يجعله إلزاميا بالنسبة لبعض الجرائم الخطيرة[6].

أولا: التحقيق الإجباري في الجنايات

في مستهل الحديث عن التحقيق الإجباري، حري بنا في هذا المقام التطرق لما جاءت به القوانين السابقة على صدور قانون المسطرة الجنائية بخصوص إلزامية التحقيق، فبالرجوع إلى ظهير 10 فبراير 1959[7] في الفصل 84 منه نجد أن المشرع قد نص من خلاله على ما يلي: “إن التحقيق الأولي يكون إلزاميا في القضايا الجنائية”[8]، مما يتضح معه أن المشرع أخذ بمبدأ الإلزامية بخصوص الجرائم التي تتخذ صبغة جناية.

وهذا الأسلوب الذي سلكه مشرع ظهير العاشر من فبراير 1959 جعل من التحقيق الإعدادي مؤسسة لها دورها الملحوظ والمتميز في مسيرة الخصومة الجنائية إلى جانب كل من النيابة العامة وهيئة الحكم[9].

لكن بصدور الظهير المتعلق بالإجراءات الانتقالية في 28 شتنبر 1974، حصلت خلخلة كبيرة لمؤسسة التحقيق الإعدادي، كانت نتيجتها تقليص التحقيق الإعدادي بكيفية ملحوظة جدا لأسباب متعددة لعل أهمها توفير الجهد وتحقيق سرعة البت في القضايا، وهكذا أصبح التحقيق الإعدادي إجباريا في الجنايات المعاقبة بالإعدام أو السجن لمدى الحياة، مع مراعاة ما إذا كان المتهم حدثا فيكون التحقيق الإعدادي في جميع الجنايات[10].

أما بخصوص المقتضيات التي جاء بها المشرع على صعيد القانون 22.01 فيما يهم التحقيق الإعدادي نجده قد نص من خلال منطوق المادة 83 من ق.م.ج على الحالات التي يصبح فيها التحقيق إجباريا، مما يتضح أن اللجوء إلى التحقيق الإعدادي يصبح بمثابة أمر إلزامي في الحالات التالية:

حينما يتعلق الأمر بجناية معاقب عليها بالإعدام، أو الجنايات المعاقب عنها بالسجن المؤبد، فضلا عن الجنايات المعاقب عليها بعقوبة سجنية يصل حدها الأقصى إلى 30 سنة، ولو تم ضبط الفاعل في حالة تلبس، وفي هذا الصدد نورد قرار صادر عن محكمة النقض –المجلس الأعلى سابقا-  والذي قضى منطوقه بما يلي:” التحقيق إلزامي في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام وبالسجن المؤبد، وهو إجراء جوهري يؤدي عدم إنجازه على الوجه الأكمل إلى بطلان جميع الإجراءات المتخذة بما فيها القرار الذي أدان المتهم”[11].

كما يعتبر التحقيق إلزاميا بخصوص الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث أيا كانت العقوبة المقررة لها، فكلما تعلق الأمر بجناية ارتكبها حدث يقل عن سنه عن 18 سنة شمسية كاملة، يتوجب على الوكيل العام للملك أن يتقدم بملتمس بإجراء تحقيق بشأنها، في حالة ما إذا قرر متابعة الحدث.

فهذه الأنواع من الجنايات يجري التحقيق بشأنها بشكل إجباري، بمعنى أن الوكلاء العامين بمحاكم الاستئناف لا يجدون بداً من إحالة القضايا المعروضة عليهم من طرف الشرطة القضائية والتي تدخل في زمرة جرائم الجنايات أعلاه، على قضاة التحقيق المعينين بالمحاكم التي يمارسون بها[12].

فالمشرع غلً يد النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية بالإحالة على غرفة الجنايات الابتدائية سواء عن طريق الإحالة بالإيداع في السجن، أو بالإحالة عن طريق استدعاء إذا ما ارتأت متابعة المتهم في حالة سراح، حيث يتحتم عليها إحالة هذا النوع من القضايا على التحقيق الإعدادي تحت طائلة بطلان الإجراءات التي لا تحترم إجبارية التحقيق[13].

والملاحظ من خلال جرد ما جاءت به المادة أعلاه، نجد أن المشرع عاد ليتبنى نظاما متوازنا في تحديد نطاق التحقيق الإعدادي، فلم يجعله واسعا كما كان عليه الحال في ظهير 10/2/59، ولم يقلصه إلى الحد الذي أخذ به في ظهير 28/4/74، وإنما وسع من هامش الجرائم التي يكون التحقيق فيها اختياريا. ثانيا: التحقيق الإجباري في الجنح

نص المشرع في الفصل 84 من ظهير 10 فبراير 1959 -المشار إليه سلفا- في فقرته الثانية على مايلي: “…أما في القضايا الجنحية فيكون اختياريا اللهم إذا كانت هناك مقتضيات خصوصية”.

واستنادا إلى الفصل المذكور نجد أن المشرع جعل من سلوك مسطرة التحقيق إجراءً اختياريا كقاعدة عامة، واستثناء يمكن اللجوء إليه في حالات معينة وضمن مقتضيات خاصة.

أما على مستوى ظهير الإجراءات الانتقالية لسنة 1974 فلم ينص على وجوبية التحقيق في الجنح، مما يتبين معه أن المشرع سعى إلى تقليص دائرة الجرائم المشمولة بالتحقيق بالرغم من ضرورة إعمال التحقيق بها نظرا لخطورة الفعل الجرمي المرتكب.

وهذا الموقف الذي تبناه المشرع والقاضي مبدئيا باستبعاد إخضاع الجنح للتحقيق الإعدادي، فيه تجاهل واضح لتعقد الملابسات التي قد تحيط ببعض الجنح، وخصوصا التأديبية منها، والتي قد تقترن بظروف مشددة فتغير بذلك من وصفها لتجعلها جناية، أو تبقيها على وصفها ولكن عقوبتها تصبح عقوبة جنائية (القتل الخطأ أو خيانة الأمانة أو النصب…)، مما كان يقتضي معه ترك اللجوء لإجراء تحقيق أولي فيها أفيد، لما يشكله من ضمان في سبيل تحصيل عدالة جنائية فعالة، ولكن شريطة ألا يستغل ذلك من قبل النيابة العامة للزيادة من هيمنتها على القضية الجنائية[14].

وبالرغم من قصور المقتضيات التي تضمنتها طيات هذا الظهير والمتجسدة في تحجيم رقعة التحقيق الإعدادي، إلا أنه تم الاستمرار به إلى غاية صدور قانون المسطرة الجنائية الذي حاول المشرع من خلاله قدر الإمكان أن ينتدب منزلة وسطى بخصوص اعتماد التحقيق.

فالمشرع أخذ بازدواجية التحقيق في الجنايات والجنح بإحداثه قضاء التحقيق بالمحاكم الابتدائية، وعهد إليه التحقيق في الجنح[15]، وبالتالي فإن التحقيق يكون إلزاميا في صنفين من الجنح:

  • في بعض الجنح بنص خاص في القانون؛
  • في الجنح المتعلقة بالقتل الخطأ في حوادث السير المميتة؛

فبالنسبة للصنف الأول يكون التحقيق إجباريا بمقتضى نص خاص، وتعد المواد من 255 إلى 275 من ق.م.ج نموذجا للنصوص الخاصة لإحالة الجنح والمخالفات غير القابلة للتجزئة عن الجنايات والمرتبطة بها للتحقيق مع هذه الجنايات.

فالمادة 255 تنص على ان المحكمة المختصة بالنظر في الجريمة الأشد تكون مختصة بالنظر في الجرائم المرتبطة بها أو غير القابلة للتجزئة عنها، ويؤدي هذا الأمر إلى أن المخالفات والجنح المرتبطة بجنايات خاضعة للتحقيق الإلزامي أو غير قابلة للتجزئة عنها تصبح هي الأخرى قابلة للتحقيق، بل يجب التحقيق فيها مع الجنايات المذكورة[16].

أما الصنف الثاني فيتعلق بالجنح المتصلة بالقتل الخطأ في حوادث السير المميتة، حيث تنص الفقرة الأخيرة من المادة 137 من مدونة السير على الطرق[17] على ما يلي:”…يجب لزوما أن تكون حوادث السير المميتة موضوع تحقيق إعدادي وفقا لأحكام المادة 83 من القانون المتعلق بالمسطرة الجنائية”.

ومن الأمثلة الأخرى على التحقيق الإلزامي في الجنح ما نصت عليه المادة 264 من ق.م.ج وما يليها، والتي تهم قواعد الاختصاص الاستثنائية بشأن الجنايات والجنح  المنسوبة لبعض القضاة والموظفين، وهو ما جاء في قرار لمحكمة النقض –المجلس الأعلى سابقا- حيث قضت بمايلي:”خول القانون لقاضي التحقيق المكلف بالقضية في نطاق المادة 265 من قانون المسطرة الجنائية أن يمارس كل مهام التحقيق الإعدادي المنصوص عليه في القسم الثالث من الكتاب الأول من القانون المذكور، ومن ضمنها البت في كل ما بتعلق بموضوع الاعتقال الاحتياطي للمتهم، وسراحه والإفراج عنه، وإصدار أوامر بشأنها، إضافة إلى الأمر بعدم المتابعة أو بالإحالة حسب الحالة”[18].

وإجبارية التحقيق في الجنح تمنع على وكلاء الملك بالمحاكم الابتدائية تكييف الأفعال المعروضة عليهم إجراء المتابعة دون الإحالة على التحقيق الإعدادي تحت طائلة بطلان الإجراءات المتخذة[19].

المطلب الثاني: اختيارية التحقيق الإعدادي

         من المعلوم أن المشرع حدد الجنايات والجنح التي تدخل في مجال الجرائم الخاضعة وجوبا للتحقيق الإعدادي، لكن ذلك لا يعني عدم إعمال التحقيق في باقي الجنايات والجنح الأخرى، بل نص على إمكانية التحقيق إذا ما اقتضت الضرورة ذلك على سبيل الاختيار، وهذا ما يدل وبما لا يدع مجالا للشك على رغبة المشرع في توسيع نطاق الجرائم المشمولة بالتحقيق الإعدادي.

أولا: التحقيق الاختياري في الجنايات

تم تحديد الجنايات المنصوص على إلزامية التحقيق بشأنها من خلال المادة 83 آنفة الذكر، بيد إن المشرع عاد لينص على اختيارية التحقيق الإعدادي فيما ما عدا تلك الجنايات، وهاته الأخيرة هي التي لا تدخل في زمرة الجنايات المعاقب عليها بعقوبة الإعدام؛ أو السجن المؤبد أو المحدد والذي يصل إلى ثلاثين سنة.

وتتخذ النيابات العامة لدى محاكم الاستئناف قرار الإحالة على غرفة التحقيق اختيارا في هذا النوع من الجنايات بغية تعميق البحث في بعض الجوانب التي لم يطلها البحث التمهيدي، أو بقيت ملتبسة بهدف كشفها واستكمال البحث بشأنها قبل إحالتها على غرفة الجنايات الابتدائية[20].

وتجدر الإشارة إلى أن التحقيق يكون اختياريا كذلك في الجنايات متى تعلق الأمر بالتلبس بجناية عملا بمقتضيات المادة 56[21]، وتبين لممثل النيابة العامة أن القضية غير جاهزة للحكم.

ويتضح من ذلك أنه لا خيار للوكيل العام للملك في إحالة القضية على قاضي التحقيق إذا كانت غير جاهزة للحكم، أي متى تبين له أن وسائل الإثبات غير كافية وأن الحقيقة لم تتضح بعد من البحث الذي أنجزته الشرطة القضائية، كما أن مفهوم الاختيارية ليس متروكا إلى تقدير عضو النيابة العامة وإنما هو مرتبط بمدى تحقق أو انتفاء مقتضيات المادة 73 بالنسبة للجنايات التي غير المعاقب عليها بالعقوبات المذكورة أعلاه[22].

ويستخلص من ذلك أنه بالرغم من استعمال المشرع تعبير”يكون التحقيق اختياريا فيما عدا ذلك من الجنايات”، فإن الواقع لا يسمح بالاختيار بالنسبة للجنايات إلا في حدود السلطة التقديرية المتاحة للوكيل العام للملك لتقدير مدى جاهزية القضية للحكم في حالة التلبس، وحتى في هذه الحالة فإنه لا يملك الخيار لأنه ملزم بإحالتها مباشرة على الجلسة، وهو ما عبرت عنه الفقرة الرابعة من المادة 73: “…إذا ظهر أن القضية غير جاهزة للحكم، التمس إجراء تحقيق فيها”.

ثانيا: التحقيق الاختياري في الجنح

إذا كان المشرع قد وسع من دائرة الأفعال الخاضعة للتحقيق الإعدادي، بشموله الجنايات والجنح على حد سواء، فإنه على ما يبدو ظل متحفظا بخصوص هذا النوع من الجرائم، بحيث لا يتم إجراء تحقيق إعدادي بشكل إجباري في الجنح إلا بنص خاص وضمن حدود ضيقة، سيما وأنه لم يعدد الجنح التي تقبل التحقيق الإجباري كما هو الشأن بالنسبة للجنايات[23].

وبالنظر إلى خطورة بعض الجنح التي قد تصل عقوبتها القصوى إلى خمس سنوات حبسا أو أكثر، فقد أتى القانون بمسطرة التحقيق الاختياري بالنسبة لهذه الجنح بالإضافة للجنح التي يجيز أو يوجب نص خاص التحقيق فيها، ولتحقيق هذه الغاية تم إحداث مؤسسة قاضي التحقيق لدى المحاكم الابتدائية بالإضافة لاستمرار المؤسسة الموجودة لدى محاكم الاستئناف[24].

والتحقيق الاختياري في الجنح لا يسع كل أنواع الجرائم الجنحية، حيث ينصب على الجنح التأديبية بدل الضبطية، وبالتالي فإن المشرع أخذ بعين الاعتبار إجراء التحقيق الإعدادي في الجنح تبعا لخطورتها، باقتصاره على الجنح التأديبية التي يصل الحد الأقصى لعقوبتها خمس سنوات، عوض الجنح الضبطية التي لا تتجاوز عقوبتها الحبسية سنتين كحد أقصى[25].

ولقد ميز المشرع بين التحقيق الاختياري المعمول به بخصوص الجنح المرتكبة من طرف الرشداء والأحداث.

حيث يكون التحقيق اختياريا في الجنح المرتكبة من طرف الرشداء متى كان الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها يوازي على الأقل خمس سنوات، وتتمثل الاختيارية في تقدير ما إذا كان المناسب أو غير المناسب إحالة القضية على المحكمة، وهي ليست متروكة لتقدير عضو النيابة العامة، ولكنها مقررة بهدف استجماع كافة الأدلة المتعلقة بالفعل الجرمي، سواء كانت في صالح المتهم أو ضده، ولذلك يتعين على وكيل الملك أن يأخذ بعين الاعتبار في اختياره المطالبة  بإجراء تحقيق أو اللجوء إلى مسطرة الإحالة المباشرة على قضاء الحكم، النتائج المتوخاة من التحقيق، فالغاية من إتاحة إجراء التحقيق هي الوصول إلى الحقيقة كاملة وليست إجراء شكليا[26].

وبالنسبة للجنح المرتكبة من طرف الأحداث نجد أن المشرع لم يميز بشأنها من حيث العقوبة المقررة لها أو كيفية ضبط فاعليها.

خاتمة:

من خلال ما سبق التطرق إليه، نخلص إلى كون مؤسسة التحقيق الإعدادي مرت بمجموعة من الأطوار والإرهاصات، وذلك بدءا بالظهير الصادر في العاشر من فبراير لسنة 1959 ومرورا بالتعديلات التي طرأت بموجب ظهير الإجراءات الانتقالية لسنة 1974 ، وصولا لقانون المسطرة الجنائية، ففي كل مرحلة من هاته المراحل حاول المشرع قدر الإمكان أن يرسم نطاقا محددا لهاته المؤسسة فتارة يمنح الجهة الساهرة على التحقيق نطاقا معقولا كما هو عليه الحال في قانون 1959، وتارة أخرى يعمل على تقليص دورها لصالح جهاز النيابة العامة، مما برزت معه هيمنة النيابة العامة على حساب مؤسسة قاضي التحقيق، وهذا التوجه هو المعتمد من لدن المشرع في ظل الإجراءات الانتقالية لسنة 1974.

بيد أن مشرع قانون المسطرة الجنائية عاد ليتبنى موقفا وسطيا بخصوص التحقيق الإعدادي، إيمانا منه بأن هذا الإجراء ليس ترفا إجرائيا يمكن الأخذ به تارة والاستعاضة عنه تارة أخرى، بل لكونه مسطرة تحمل في طياتها جملة من الإجراءات الهادفة إلى تمحيص الأدلة والكشف عن ظروف وملابسات الجريمة.

فالمشرع أناط بقاضي التحقيق مجموعة من الصلاحيات قصد القيام بالأبحاث الضرورية من أجل الوصول إلى الحقيقة، فهو الجهة المسؤولة على تصريف وتوجيه إجراءات التحقيق، وبعد استنفاذ قاضي التحقيق لهذه الإجراءات وتكوين قناعته في القضية موضوع المتابعة الزجرية المعروضة على أنظاره، يتخذ قراره بناء على ما توصل إليه من حجج سواء كانت في صالح المتهم أو ضده، وعلى أساسها يصدر أمرا إما بالإحالة على المحكمة المختصة أو بالأمر بعدم المتابعة، وضمانا لسلامة وصحة الإجراءات المسطرية لإنهاء التحقيق، يتوجب على قاضي التحقيق أن يرفع إلى النيابة العامة أمرا بالاطلاع وذلك لإمكانية تقديم النيابة العامة ملتمساتها النهائية، وذلك قبل إقفال مسطرة التحقيق الإعدادي.

المراجع:

كتب:

  • أحمد قيلش- محمد زنون، الإجراءات العملية للتحقيق الإعدادي”الكتاب الثالث”، سلسلة المعارف العملية في الشرح العملي للمنظومة الجنائية، الطبعة الأولى، مطبعة سيدي مومن، 2012.
  • أحمد قيلش وآخرون، الشرح العملي لقانون المسطرة الجنائية، الطبعة الثانية، مطبعة الأمنية – الرباط،
  • عبد اللطيف كرازي، الوجيز في قانون المسطرة الجنائية، الطبعة الثانية، مطبعةSO-ME PRINT agadir، 2020.
  • عبد الواحد العلمي، شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الثاني التحقيق الإعدادي. المحاكمة، الطبعة الخامسة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2017.
  • لطيفة الداودي، دراسة في قانون المسطرة الجنائية وفق آخر التعديلات، الطبعة السابعة، المطبعة والوراقة الوطنية – مراكش،2018.
  • محمد بفقير، قانون المسطرة الجنائية والعمل القضائي المغربي، الطبعة الرابعةـ مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، 2017.
  • وزارة العدل، شرح قانون المسطرة الجنائية الجزء الأول، الدعوى العمومية-السلطات المختصة بالتحري عن الجرائم، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية سلسلة الشروح والدلائل، العدد 2، الطبعة الثالثة، 2004،

مقالات:

  • محمد الدكي، حق الاتصال بمحام خلال فترة الوضع تحت الحراسة النظرية، مقال منشور بالمجلة الإلكترونية والأبحاث القانونية، العدد:2019،3.

قوانين:

  • ظهير شريف رقم 1.58.261 صادر في 1 شعبان 1378 (10 فبراير 1959).
  • ظهير شريف رقم 1.02.255 صادر في 25 من ر جب 1423 (3 أكتوبر 2002) بتنفيذ القانون 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 27 ذي القعدة 1423 (30 يناير 2003)، ص:315.
  • ظهير شريف رقم 1.10.07 بتاريخ 26 صفر 1431 (11 فبراير2010) بتنفيذ القانون رقم 52.05 المتعلق بمدونة السير على الطرق، الجريدة الرسمية عدد 5824 بتاريخ 8 ربيع الآخر1431 (25 مارس 2010)، ص:2168.

 

 

 

[1] – محمد الدكي، حق الاتصال بمحام خلال فترة الوضع تحت الحراسة النظرية، مقال منشور بالمجلة الإلكترونية والأبحاث القانونية، العدد:2019،3ص:64.

[2] – ظهير شريف رقم 1.02.255 صادر في 25 من ر جب 1423 (3 أكتوبر 2002) بتنفيذ القانون 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 27 ذي القعدة 1423 (30 يناير 2003)، ص:315.

[3] – بالرجوع إلى الفصل السادس من الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1/74/448 الصادر بتاريخ 11 رمضان 1394 موافق ل 28 شتنبر 1974 والمتعلق بالإجراءات الانتقالية، كان قد حصر القضاة المكلفين بالتحقيق في حدود محاكم الاستئناف فقط، غير أنه بصدور التعديل الذي طال المسطرة الجنائية أخذ المشرع على إثره بازدواجية التحقيق الإعدادي في الجنايات والجنح أي بمحاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية، وقد حددت المادة 52 من قانون المسطرة الجنائية طبيعة القضاة المكلفين بالتحقيق وطريقة تعيينهم.

[4] – لطيفة الداودي، دراسة في قانون المسطرة الجنائية وفق آخر التعديلات، الطبعة السابعة، المطبعة والوراقة الوطنية -مراكش،2018، ص:215.

[5]– تشكل النيابة العامة تلك المؤسسة التي أناط بها المشرع مهمة الدفاع عن الحق العام العائد للمجتمع إثر وقوع جريمة وعرض قضيتها على أنظار المحكمة الزجرية للبت فيها، ومصطلح النيابة العامة يحيل على معنى مفاده كون أن هذه الأخيرة تنوب عن المجتمع من أجل الدفاع عن الحق العام العائد له، وذلك بمناسبة أية متابعة زجرية، أورده: عبد اللطيف كرازي، الوجيز في قانون المسطرة الجنائية، الطبعة الثانية،مطبعةSO-ME PRINT agadir، 2020، ص:15.

[6] – وزارة العدل، شرح قانون المسطرة الجنائية الجزء الأول، الدعوى العمومية-السلطات المختصة بالتحري عن الجرائم، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية سلسلة الشروح والدلائل، العدد 2، الطبعة الثالثة، 2004، ص:219.

[7] – ظهير شريف رقم 1.58.261 صادر في 1 شعبان 1378 (10 فبراير 1959).

[8]– Article 8 : « L’instruction préparatoire est obligatoire en matière de crime ».

[9] – عبد الواحد العلمي، شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الثاني التحقيق الإعدادي. المحاكمة، الطبعة الخامسة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2017، ص:19.

[10] – عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص:19.

[11] – قرار صادر عن المجلس العلى بتاريخ 26/1/1978 تحت عدد 357، محمد بفقير، قانون المسطرة الجنائية والعمل القضائي المغربي، الطبعة الرابعةـ مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، 2017، ص:112.

[12] – أحمد قيلش- محمد زنون، الإجراءات العملية للتحقيق الإعدادي”الكتاب الثالث”، سلسلة المعارف العملية في الشرح العملي للمنظومة الجنائية، الطبعة الأولى، مطبعة سيدي مومن، 2012. ص: 43.

[13] –  أحمد قيلش-محمد زنون، مرجع سابق، ص:43.

[14] – عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص:21.

[15]– أحمد قيلش- محمد زنون، مرجع سابق، ص:44.

[16] – وزارة العدل، شرح قانون المسطرة الجنائية الجزء الأول، مرجع سابق، ص:223.

[17] – ظهير شريف رقم 1.10.07 بتاريخ 26 صفر 1431 (11 فبراير2010) بتنفيذ القانون رقم 52.05 المتعلق بمدونة السير على الطرق، الجريدة الرسمية عدد 5824 بتاريخ 8 ربيع الآخر1431 (25 مارس 2010)، ص:2168.

[18] – قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 18/5/06 تحت عدد 1783 في الملف الجنحي عدد 6060/06، أورده: محمد بفقير، مرجع سابق، ص:190

[19] – أحمد قيلش- محمد زنون، مرجع سابق، ص:45.

[20] – أحمد قيلش وآخرون، الشرح العملي لقانون المسطرة الجنائية، الطبعة الثانية، مطبعة الأمنية – الرباط، 2016، ص:148.

[21] – تنص المادة 56 من ق.م.ج على ما يلي: “تتحقق حالة التلبس بجناية أو جنحة:

أولا: إذا ضبط الفاعل أثناء ارتكابه الجريمة أو على إثر ارتكابها؛

ثانيا: إذا كان الفاعل مازال مطاردا بصياح الجمهور على إثر ارتكابها؛

ثالثا: إذا وجد الفاعل بعد مرور وقت قصير على ارتكاب الفعل حاملا أسلحة او أشياء تثبت هذه المشاركة.

يعد بمثابة تلبس بجناية أو جنحة، ارتكاب جريمة داخل منزل في ظروف غير الظروف المنصوص عليها في الفقرات السابقة إذا التمس مالك المنزل من النيابة العامة أو من ضابط للشرطة القضائية معاينتها”.

[22] –  وزارة العدل، شرح قانون المسطرة الجنائية الجزء الأول، مرجع سابق، ص:221.

[23] – أحمد قيلش وآخرون، مرجع سابق، ص:148.

[24] – ديباجة قانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، ص:17.

[25] – أحمد قيلش- محمد زنون، مرجع سابق،ص: 47.

[26] – وزارة العدل، شرح قانون المسطرة الجنائية الجزء الأول، مرجع سابق، ص:221

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى