في الواجهةمقالات قانونية

علاقة حقوق المتقاضين بقواعد سير العدالة – أي حكامة قضائية –

 

مقال مشترك بعنوان :

علاقة حقوق المتقاضين بقواعد سير العدالة – أي حكامة قضائية –

 

 

  • يوسف الدحماني محامي متمرن بهيئة القنيطرة

 

  • أمين الدحماني باحث بسلك ماستر قانون الأعمال بتطوان

 

  

 

مقدمة

 

مما لا يجادل فيه اثنان أن فكرة العدالة تعتبر الشغل الشاغل للفكر الإنساني مند القدم، حيث فرضت نفسھا كتحد حقیقي بوصفھا مطلبا فلسفیا وسیاسیا وأخلاقیا، فكانت بذلك حاضرة في مختف المجالات الدینیة والسیاسیة والفكریة، باعتبارھا مصدرا لكل المبادئ التي یسعى إلیھا الإنسان للوصول إلى الغایات
المثلى من وجوده[1].

لذلك فإن حقيقة الحكامة[2] القضائية كسبيل لبلوغ الأمن بمختلف تجلياته، دفع الدول إلى العمل على بناء المؤسسات وسن التشریعات ووضع البرامج وإقرار الآلیات لتحقیق العدالة، منطلقة في ذلك من
التراكمات الفكریة والقانونیة الكبرى التي أنتجتھا مختلف الحضارات الإنسانیة في سعیھا نحو تحقیق التوازن بین نظام قانوني متماسك يهدف إلى ضمان حريات الأفراد وحقوقهم[3].

وعليه فنظرا لارتباط تطور الدول وازدھارھا بمدى سیادة قیم العدل والإنصاف، حتى قیل قدیما العدل أساس الملك، فقد سعت مختلف الدول المتقدمة إلى الاھتمام بوضع سیاسات في مجال العدالة، وعملت على تقییمھا بشكل دائم من أجل تحسینھا، بغیة النھوض بوضعیة حقوق الإنسان وحمایتھا فكان من الضروري أن یتولى القانون حمایة حقوق الإنسان، لكي لا یضطر المرء في آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم[4].

لهذا فإن هذا الموضوع له أهمية بالغة  في كونه یرتبط بمجال ذي حساسیة جد كبیرة، له صلة بالمواطن عموما والمتقاضي على وجه الخصوص، لذلك يجب تشخیص مظاھر الخلل في حقوق المتقاضین وقواعد سیر العدالة، ومحاولة رصد النقاط الإیجابیة للمستجدات التي طالت أو من المنتظر أن تمس ھذه الحقوق وتلك القواعد بما یضمن حكامة قضائیة عادلة[5].

إذن وعلى ضوء ما سبق فإن هذا الموضوع  يطرح إشكالية محورية مفادها :

 

إلى أي حد توفقت التشريعات الوطنية والدولية في النهوض بحقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة بما يضمن تحقيق الحكامة القضائية ؟؟

 

وفي إطار الإجابة على هذه الإشكالية اقترحنا التصميم التالي :

 

المطلب الأول : الحكامة القضائية بين حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة

المطلب الثاني : الحكامة القضائية نحو منظور جديد لحقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المطلب الأول : الحكامة القضائية بين حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة

لا شك أن حقوق المتقاضین وقواعد سیر العدالة أضحت  بفعل تصاعد مركز المواطن عموما والمتقاضي بشكل خاص، محل اھتمام القانون الدولي، بحیث عمل على تنظیمھا ومراقبة لضمان احترامھا داخل الدول، كما لا جدال في أن إلاھتمام العالمي بحقوق الإنسان ككل بات
یمثل قیمة مستھدفة للنظام القانوني الدولي باعتباره جزءا لا يتجزأ من حكامته القضائية.

ولم تتوان أیضا التشریعات الوطنیة عن تنظیم حقوق المتقاضین وقواعد سیر العدالة في قوانینھا الأساسیة والعادیة لضمان حكامة قضائية عادلة، وإن كان ھناك اختلاف على مستوى الوسائل و نسب الوصول إلى ضمانھا، وهو ما سنتطرق له من خلال استقلال السلطة القضائية كمدخل لضمان حقوق المتقاضين ( الفقرة الأولى)، ثم مكامن الضعف لقواعد سير العدالة على مستوى قرينة البراءة والبث في أجال معقولة ( الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : استقلال السلطة القضائية كمدخل لضمان حقوق المتقاضين

مما لا ريب فيه أن تسيير شؤون الدولة العصرية يرتكز على مجموعة من القواعد الدستورية، التي تنظم ممارسة السلطة في إطار العديد من الضوابط، والأنظمة القانونية الأساسية، والتي تستهدف أساسا التنظيم الداخلي للسلطة السياسية، بتوزيع الصلاحيات والاختصاصات بين أجهزة تتمتع بكياناتها المستقلة عن بعضها البعض، مع ضمان التوازن فيما بينها حتى لا تطغى أي واحدة على الأخرى، ولا يتم التفاعل والتعامل بينها إلا في إطار المقتضيات التي يحددها الدستور والقوانين المؤطرة لذلك.

ونظرا للأهمية التي تكتسيها السلطة القضائية كضان لاحترام حقوق وحريات ومصالح الأفراد والجماعات، باعتبارها الآلية المعهود إليها بضامن سيادة القانون، ومساواة الجميع أمام مقتضياته، فلا بد أن تتولاها سلطة تتمتع بكامل الاستقلال عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، لذلك تحرص معظم الدساتير على التنصيص الصريح على مبدأ استقلال السلطة القضائية، ومقتضاه أنه لا يجوز باسم أية سلطة سياسية أو إدارية أو أي نفوذ مادي أو معنوي التدخل في أي عمل من أعمال القضاء أو التأثير عليه بأي شكل من الأشكال، ولا يجوز لأي شخص أو مؤسسة من السلطة التنفيذية أو التشريعية أن يتدخل لدى القضاء بخصوص أي قضية معروضة عليه للبت فيها، أو ممارسة ضغط مباشر أو غير مباشر على المحاكم بخصوص ما تصدره من أحكام قضائية، وأن لا يخضع القضاة وهم يزاولون مهامهم إلا لضمائرهم ولسلطان القانون[6].

ويحظى التنصيص الدستوري على أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، بأهمية خاصة لسببين هما[7] :

  • أنه لا يتصور أي إصلاح للقضاء دون استقلاله، على اعتبار أن هذا الاستقلال يشكل حجر الزاوية والدعامة والركيزة الأساس لبناء جهاز قضائي منيع وقوي، كفيل باستعادة ثقة المواطن، ولذلك فهو يعد من المبادئ الأساسية التي استقرت في الضمير الإنساني، بحيث لا يكاد يخلو من النص عليه الإعلانات الدولية لحقوق الإنسان، كما تنص عليه أغلب الدساتير الوطنية، وغدا المجتمع الإنساني ينظر إلى تحقيقه في واقع دولة ما على أنه علامة من علامات الديمقراطية، ومظهر من مظاهر احترام حقوق الإنسان بها، ودليل على الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها، لكن لا على أساس أنه هدف في حد ذاته، وإنما وسيلة تسعف في تحقيق العدل ونشر الثقة لدى المواطنين ودعم إيمانهم بقوة القانون.
  • إن وصف القضاء بكونه سلطة هو أمر لازم لمبدأ الاستقلال، وعلى العكس من ذلك فإن نعته بكونه وظيفة وليس سلطة، يجرده من ذلك الاستقلال وينفي تسويته بباقي السلط الدستورية الأخرى، ويكون حينئذ محتاجا إلى سلطة ينتمي إليها وينطوي تحت لوائها ويخضع لسلطاتها، وهي بالفعل السلطة التنفيذية الممثلة في شخص وزير العدل، وهذا ما كان حاصلا في المغرب إلى حين مجيء الفصل 107 من دستور 2011.

وبالتالي فإن تسمية السلطة القضائية في الفصل 107 تعتبر تغييرا مهما يستجيب لمطلب ملح ويضع حدا لإشكالية لطالما تجاذبت أطرفها مناقشات وطرحت بشأنها تساؤلات عن طبيعة القضاء، لأن هذه التسمية تتم عن الارتقاء بهذا الأخير إلى مصاف السلط المؤتثة للنظام السياسي المغربي على غرار الجهازين التشريعي والتنفيذي، ناهيك عن انه اعتراف لها بالاستقلالية عنهما، مؤكدا بأن الملك هو الضامن لذلك، مما يحمل على القول أن القضاء يندرج في وظائف إمارة المؤمنين، وبالتالي فإن الملك هو المؤتمن على ضمان استقلال السلطة القضائية، غير أن استقلال القاضي يكلفه أيضا الميثاق القائم بينه وبين ضميره، الذي يعد السياج الواقي من تحكم أي مؤثرات أو إغراءات فيه أثناء أداء رسالته التي تفترض في شخصه -إلى جانب الاقتدار المهني والاحترافي الكافية- قيما أدبية كالنزاهة والحياد، تجعله يمتثل لسلطان القانون ويهتدي بما تمليه عليه مقتضيات العدالة والإنصاف[8]

الفقرة الثانية : مكامن الضعف لقواعد سير العدالة على مستوى قرينة البراءة والبث في

أجال معقولة

كما هو معلوم أنه قبل صدور دستور فاتح یولیوز  2011  وما تضمنه من مستجدات في مجال حقوق المتقاضین وقواعد سیر العدالة، فقد كانت بعضھا منظمة بموجب دستور 1996، والحق یقال إنه بعد كل تعدیل دستوري یتوجب تعدیل القوانین المرتبطة به والأدنى منه درجة بما یحقق انسجاما معه تفادیا للوقوع في معضلة عدم المطابقة، إلا أنه لم یقع إلا القلیل من ذلك، فلا تزال القوانین المتصلة
بحقوق المتقاضین وقواعد سیر العدالة يكتنفها بعض اللبس والضعف وهو ما سنتناوله على مستويين :

أولا: على مستوى قرینة البراءة

يجد مبدأ قرينة البراءة مرجعيته في الشريعة الإسلامية وكذا المواثيق الدولية[9]، فضلا عن تكريسه في دساتير مختلف بلدان العالم ومنها المغرب، حيث أقر المشرع الدستوري مبدأ قرينة البراءة في الفصل 119 منه عندما  نص على أنه ” یعتبر كل مشتبه فیه أو متھم بارتكاب جریمة بریئا، إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به”. كما أكد على هذا المبدأ أيضا في الفصل 1 من قانون المسطرة الجنائية بنصه على أن “كل متھم أو مشتبه فیه بارتكاب جریمة یعتبر بریئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فیھا كل الضمانات القانونیة.
الشك یفسر لصالح المتھم”.

كل هذه النصوص القانونية وغيرها جاءت  من أجل ضمان أمن الأشخاص وحماية حقوقهم وحرياتهم الفردية، لأن المشتبه فيه أو المتهم الذي  يستفيد من مبدأ قرينة البراءة يتعين أن يخضع لنظام مشابه بذلك الذي يستفيد منه الشخص العادي، وبالتالي لا يجب حرمانه من حريته خلال سريان البحث والتحقيق والمحاكمة الجنائية[10].

غير أنه ما تجب الإشارة إليه في هذا الإطار هو أنه في حالات عدة یتم اللجوء إلى الحراسة النظریة بمناسبة البحث التمھیدي من طرف الشرطة القضائیة حتى وإن لم تتطلب ضرورة البحث ذلك بحسب ما تقضي به المادتین [11]66  و [12]81 من قانون المسطر الجنائية، بل إن اللجوء أیضا إلى الاعتقال الاحتیاطي أصبح مفرطا، وبالتالي قد يكون الشخص بريء ويتم تقدیمه في حالة اعتقال، الشيء الذي يؤدي سلب حریة الكثیر من المواطنین الذین تبرأ ساحتھم بعد آماد طویلة من الاعتقال، مما أصبح التعامل معه
وكأن الاعتقال هو الأصل والبراءة ما هي إلا استثناء، بالرغم من كون المادة 159 من ق.م.ج. التي اعتبرته صراحة بأنه تدبير استثنائي [13]،  لا یلجأ إلیه إلا في الجنایات والجنح المعاقب عنھا بعقوبة سالبة للحریة.

لذلك  فإن مبدأ قرينة البراءة هو إشهار الحقيقة وإقرار مبدأ المساواة وتبيان من هو المتهم الحقيقي…، لأن الحقوق المضمونة للدفاع تكون غير تامة دون مبدأ مساواة الجرائم والعقوبات الذي ترجع حقيقته إلى مبدأ قرينة البراءة المضمون لكل متهم في سبيل تحقيق ما يسمى بالحكامة القضائية.

ثانيا : على مستوى البت في آجال معقولة

مما لا يختلف فيه اثنان أن الزمن من أثمن وأنفس ما یملك الإنسان، فلا شيء یمكن تعویضه،
ذلك أن الوقت یؤثر على حقوق المتقاضین، فقد یكتسبون حقوقا وقد یفقدون أخرى، كل ذلك في خضم الصراع مع الزمن.

حيث إن للزمن في المجتمعات المتقدمة قداسة خاصة وھذا ما جعل 27 مواطنا فرنسیا یقدمون یوم الاثنین 21  شتنبر 2016 على مقاضاة الدولة الفرنسیة أمام القضاء للتندید بالتأخیر المفرط في فصل النزاعات وإصدار الأحكام في آجال طویلة الأمد من طرف قضاة الشؤون الأسریة في محكمة بوبیني، ذلك أن أجل انتظار تعیین الجلسة أمام ھذا القضاء كان هو 24 شھرا ولا یصدر الحكم إلا بعد أسابیع او أشھر، وخلال ھذا الوقت الضائع بین أروقة وردھات المحاكم تظل حقوق المتقاضین في المیدان الأسري معلقة، خصوصا تلك المتعلقة بالطلاق، إذ وصف مجلس الدولة الفرنسي المرأة في ظل ھذا التأخیر بكونھا متزوجة رغما عنھا، فأصدر مجلس الدولة الفرنسي قراره بتحمیل الدولة الفرنسیة المسؤولیة بناء على أن طول الدعاوى دون مبرر ھو إنكار وانتهاك للعدالة[14].

أما في التشريع المغربي فقد نص المشرع الدستوري على حق المتقاضي في صدور الأحكام داخل أجال معقولة في الفصل120   من الدستور، وهو مقتضى سيسعف في معالجة إشكالية البطء في الإجراءات، وحتى إهمال إصدار الأحكام في القضايا الجاهزة التي حل دور تعيينها في الجلسة على أن تكون ضوابط تلك الآجال محددة على ضوء طبيعة أنواع القضايا التي تعرض على أنظار المحاكم، وحق المتقاضي في الدفاع أمامها، ذلك الحق الذي يمثل الثقل الوازن للعدالة الجيدة، كيف لا ؟ وهو حق أصيل يتبوأ مكان الصدارة بين طائفة الحقوق الفردية العامة، ويشكل ضمانة ينبغي أن يتمتع بها المتقاضين في ساحة القضاء لتحقيق محاكمة تستوفي مقاييس تم وصفها بالعدالة [15].

غير أن الواقع العملي يوضح خلاف ذلك إذ لا يوجد من يحدد ماهية وطبيعة الآجال المعقولة، ليبقى الأمر بين يد السلطة التقديرية للمحاكم كلا حسب قناعتها ومبرراتها وتوجهاتها في إصدار الأحكام… وهو ما لا يضمن لحقوق المتقاضين الحكامة في التقاضي.

 

المطلب الثاني : الحكامة القضائية نحو منظور جديد لحقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة

تعتبر الحكامة القضائية مقدمة لكل إصلاح مرتقب للجهاز القضائي، حيت أن هذا الشرط يتأسس على الاستقلالية والحياد والشفافية والفعالية في العمل القضائي وانعدام سيادة منطق التعليمات…، لذلك سنحاول في هذا المطلب ملامسة مدى تعزيز المشرع المغربي لضمانات المحاكمة العادلة ( الفقرة الأولى)، وما هي المستجدات التي جاء بها المشرع المغربي في إطار تحديث الإدارة القضائية وتعزيز حكامتها ( الفقرة الثانية ).

الفقرة الأولى: تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة

نظرا لما یشوب السیاسة الجنائیة من نواقص، ولأجل تعزیز ضمانات المحاكمة العادلة بما یتوافق والمواثیق الدولیة، فقد حث المیثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة على ضرورة مراجعة القوانین ذات الصلة بالحقوق والحریات، من ذلك القانون المتعلق بالمسطرة الجنائیة، وھو ما تمت بلورته من خلال مشروع قانون رقم 01.15 القاضی بتغییر وتتمیم القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائیة وقد أقر ھذا المشروع إلى جانب العمل على تقویة قرینة البراءة وتفسیر الشك لصالح المتھم، مجموعة من المبادئ المتعارف علیھا دولیا في مجال المحاكمة العادلة، خاصة تلك الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعھد الدولي الخاص بالحقوق المدنیة والسیاسیة، حیث تم التنصیص على ضرورة مراعاة ما یلي :

– المساواة أمام القانون، وذلك بمقتضى المادة 1 من المشروع [16].

-ضرورة المحاكمة في أجل معقول طبقا للمادتین 1 و 307 من المشروع[17]

مراجعة الضوابط القانونیة لوضع الأشخاص تحت الحراسة النظریة، وذلك بالاعتماد على معاییر أكثر دقة ووضوحا، وفي إطار ترشید اللجوء إلى تدبیر الحراسة النظریة كإجراء مقید لحریة الأفراد، الذي كان یلجأ إلیه كلما تطلبت ضرورة البحث ذلك وتعلق الأمر بجنحة أو جنایة، فقد بادر مشروع قانون المسطرة الجنائیة إلى التضییق من حالات اللجوء إلیھا واعتبارھا صراحة تدبیرا استثنائیا لا یمكن اللجوء إلیه إلا إذا تعلق الأمر بجنحة أو جنایة معاقب علیھا بعقوبة سالبة للحرية وتبین انه
ضروري لواحد أو أكثر من الأسباب الآتیة :

– الحفاظ على الأدلة والحیلولة دون تغییر معالم الجریمة.

-الحلول دون ممارسة أي ضغط على الشھود وأسرھم أو أي شخص له علاقة بالجریمة المرتكبة.               – حمایة المشتبه فیه.

أما بالنسبة للاعتقال الاحتیاطي باعتباره في أحیان كثیرة يقوم بھدم مبدأ قرینة البراءة كأحد ضمانات المحاكمة العادلة، فقد تضمن المیثاق في توصیته رقم 83 العمل على ترشید الاعتقال الاحتیاطي، من خلال إخضاعه لضوابط واضحة ومحددة، وعدم اللجوء إلیه إلا في حالة الضرورة، وتقلیص مدده، وتعلیل القرارات المتعلقة به، مع العمل على جعل ھذه القرارات قابلة للطعن أمام جھة قضائیة بشروط یحدھا القانون، وھو ما تم تنزیله عن طريق مسودة قانون المسطرة الجنائیة وذلك بمقتضى المواد 47-1
و 73-1و 175و 176و ،…177وھي مواد في مجملھا تروم :

– جعل ھذا التدبیر أكثر استثنائیة، ولا یتم اللجوء إلیه إلا إذا أعوزت التدابیر الأخرى أو البدیلة عن تحقیق الغایة منھا، أو في الحالة التي یكون فیھا مثول الشخص أمام المحكمة في حالة سراح من شأنه التأثیر على حسن سیر العدالة.

– تحدید الأسباب التي من خلالھا یمكن للنیابة العامة ولقاضي التحقیق اللجوء إلی هذا التدبير.

أيضا في إطار تعزیز حقوق الدفاع فقد تضمن المیثاق ركائز قویة تمت بلورتھا في مشروع قانون المسطرة الجنائیة، من ذلك :

– حضور المحامى لعملیة الاستماع إلى المشتبه فیه بارتكاب جنایة أو جنحة، إذا لم یكن موضوعا في الحراسة النظریة، إلا إذا كان مصابا بإحدى العاھات المشار إلیھا في المدة 316 من المشروع فإنه یحضر معه حتى خلال الحراسة، طبقا للمادة 67-3 من المشروع.

– استدعاء المحامى قبل كل استنطاق للمتھم من طرف قاضي التحقیق ب 10 أیام على الأقل طبقا للمادة 139 من المشروع.

وعليه يكون المشرع المغربي قد توفق إلى حد كبير من خلال مسودة قانون المسطرة الجنائية في تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، وذلك استجابة لما تقتضيه الحكامة القضائية وحقوق المتقاضين.

 

الفقرة الثانية : تحديث الإدارة القضائية وتعزيز حكامتها

یرمي تحدیث الإدارة القضائیة وتعزیز حكامتھا إلى اعتماد الوسائل الحدیثة والتكنولوجیا المتطورة لتسریع وتیرة الإجراءات، و العمل على الرفع من مستوى البنیات التحتیة للمحاكم.

وعليه فإن مواكبة التحولات والتطورات التي تعرفھا بلادنا تماشیا مع متطلبات العصر، واللحاق بالدول المتقدمة تكنولوجیا في المیدان القضائي فقد تم العمل على اعتماد وسائل حدیثة لتسریع الإجراءات في مسودة مشروع قانون المسطرة المدنیة أھمھا :

– تضمین الاستدعاء الموجه من طرف المحكمة لحضور الجلسة بیانات إضافیة عند الاقتضاء تتعلق بوسائل الاتصال الحدیثة، وكذا تبلیغ الأطراف أو من یمثلھم بعنوان بریدھما لالكتروني، وفی حالة عدم الإدلاء یعتبر كل تبلیغ لكتابة الضبط تبلیغا صحیحا، مع التنصیص صراحة في المادة 71 من المسودة على تضمین البرید الالكتروني للأطراف بالمقال الافتتاحي، وكذا الخاص بالمحام حتى یتیسر تبلیغھم به عند الاقتضاء، بل إن عریضة النقض إن لم تتوفر على البرید الالكتروني للمحامي یحكم بعدم قبولھا تطبیقا للمادة 371 من المسودة [18].

-اعتماد التوقیع الالكتروني على صعید التعامل بین مختلف مكونات الإدارة القضائیة.
-اعتماد الأداء الالكتروني لاستیفاء الرسوم والمصاریف القضائیة والغرامات.

وما دمنا نتحدث عن إرساء مقومات المحكمة الرقمیة، فإن تقریب الإدارة القضائیة من المتقاضین باستعمال التكنولوجیا المعلوماتیة، يعد ضمانا للرفع من جودة الخدمات المقدمة لھم وتمكینھم من الحصول على حقوقھم في أقرب أجال ممكنة [19].

إضافة إلى ذلك فإن عصرنة وتحدیث الإدارة القضائیة رھین بمدى توفر ھذه الأخیرة على بنیات تحتية جیدة، تحقق الأھداف المرسومة والمھام الموكولة إلیھا، فأمام ما یعرفه المجتمع من تطور وتشعب في العلاقات، واختلاف أنواع القضایا المعروضة على العدالة وتعقدھا، زیادة على ارتفاع معدل السكان وما ینجم عنه من تزاید الطلب على خدمات العدالة، كان لابد من تطویر بنایات جدیدة للمحاكم القائمة، بشكل یتناسب وقیمة القضاء ودوره في حمایة حقوق المتقاضین، من خلال الزیادة فی عدد المحاكم، وإدخال إصلاحات على القائمة منھا، استجابة لضمان حقوق المتقاضين على قدم المساواة.

وفي ھذا الصدد أكد المصطفى الرمید، وزیر العدل والحریات السابق بمناسبة ترؤسه أشغال الندوة الجھویة السابعة للحوار الوطنی حول إصلاح منظومة العدالة بالداخلة “إنه  لا عدالة ناجعة دون تحدیث، ولا مجال الیوم    للتسییر الھواة، وللتدبیر دون التكوین والحكامة دون أسس”[20].

 

 

 

خاتمة

ختاما يمكن القول على أن الحكامة القضائية بالمغرب وصلت إلي مرحلة التنفيذ بعدما مرت بعدة مراحل أهمها وضع مخططات واستراتجيات للوصول إلى المبتغى منها، ويبقى الحجر الأساس  لتحقيق حكامة قضائية  تكريس المبدأ الدستوري الكبير ألا وهو” استقلال السلطة القضائية بمختلف مكوناتها”، وكذا السعي وراء سلطة قضائية تتميز بالنجاعة في عملها، غير أن هذا لن يتأتى من فراغ بل لا بدا من مشاركة لبنات المتجمع ووضع مصلحة الوطن نصب الأعين بعيدا على كل رغبات نفسية في نسق من التجرد والتشارك في وضع المخططات الناجعة للوصول إلى حكامة جيدة تليق بمؤسسة القضاء.

لهذا وفي نفس السياق لا بأس أن نتقدم ببعض المقترحات  من مكاننا كباحثين ومهتمين بالساحة القانونية ندرجها كالأتي :

– یجب الإسراع بالعمل على إخراج مشروع قانون التنظیم القضائي ومسودتا مشروع قانون المسطرة المدنیة ومشروع قانون المسطرة الجنائیة الى حیز النفاذ، بشكل یتطابق والمعاییر الدولیة وما تم إدراجه بالمیثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة.

– العمل على تزوید المحاكم والأجھزة القضائیة بالمعدات اللازمة من أجل الرفع من بنیتھا التحتیة، وإرساء دعائم المحكمة الرقمیة ببلادنا.

– العمل على مراجعة القوانین المتعلقة بالمھن القانونیة والقضائیة بما في ذلك المستوى المؤھل لولوجھا، باعتبارھا أحد الفاعلین الأساسیین في میدان حقوق المتقاضین وقواعد سیر
العدالة.

 

 

انتهى بعون الله.

 

[1] – فؤاد مسرة، “إصلاح منظومة العدالة بالمغرب”، أطروحة لنیل الدكتوراه في القانون الخاص، كلیة الحقوق السویسي، سنة ، 2016ص 2.

[2]– ونعني بالحكامة باختصار التدبير الجيد للشأن العام من خلال نظام يضمن حكم القانون وعدالة تطبيقه، وهي ترتكز في الأساس على تعزيز ضمان الشفافية والعدالة والاستقلال بين السلطات داخل الجهاز نفسه وعدم تعارضها مع أهدافه أو مصالحه.

[3] – سعيد جعفر، ما الحكامة ؟، طبعة 2014، مطبعة الأمنية الرباط، ص 149 وما بعدها.

[4] – دیباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المعتمد والمنشور على الملأ بقرار الجمعیة العامة للأمم المتحدة 217ألف (د- (3المؤرخ
في  10 دجنبر  .1

[5] – تتجسد هذه الحكامة القضائية من خلال الإرشادية التي يمكن استحضارها في كل توجه له، وهي الاستقلالية والمسؤولية والشفافية والفعالية والنزاهة، فهذه العناصر هي من تساعد على جعل إصلاح القضاء مقاربة حكماتية.

[6] – بلال العشيري، ” المجلس الأعلى للقضاء وتجسيد مبدأ استقلال القضاء”، المجلة المغربية للمحامي الباحث، العدد 1، 2012، ص 86.

[7] – محمد المهدي، ” استقلال القضاء في المغرب : مقاربة في ضوء الدستور الجديد “، مجلة القبس المغربية للدراسات القانونية والقضائية، العدد 2، ص 26.

[8] – محمد الأزهر ، ” السلطة القضائية في الدستور : دراسة مقارنة “، مطبعة الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2013، ص 11.

[9] – للمزيد من التفاصيل راجع في هذا الشأن : عبدالقادر الشنتوف، “استقلال القضاء دعامة مثينة لقيام الحكامة العدالة”، المجلة المغربية للمحامي الباحث، العدد 1، 2012سنة ، ص 41.

[10]– وهو ما ذھبت المحكمة الدستوریة العلیا المصریة إلى تحدید قرینة البراءة في قرارھا الصادر بتاریخ 1992/2/2في القضیة رقم 13/12 قضائیة دستوریة :
” وأصل البراءة یعد قاعدة أساسیة أقرتھا الشرائع جمیعھا، لا لتكفل بموجبھا حمایة المذنبین فقط، وإنما لتدرأ بمقتضاھا العقوبة عن
الفرد إذا كانت التھمة الموجھة إلیھ قد أحاطتھا الشبھات بما یحول دون التیقن من مقارفة المتھم أو المشتبه فیھ لھا. ذلك أن الاتھام
الجنائي لا یزحزح أصل البراءة الذي یلازم الفرد دوما، ولا یزایله سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءھا وعلى امتداد حلقاتھا،
وأیا كان الزمن الذي تستغرقھ إجراءاتھا، ولا سبیل لدحضھ بغیر الأدلة التي تبلغ قوتھا الاقناعیة مبلغ الجزم والیقین بما لا یدع مجالا
معقولا لشبھة انتفاء التھمة، وبشرط أن تكون دلالتھا قد استقرت حقیقتھا بحكم قضائي استنفذ طق الطعن فیھ… ویؤسس افتراض
البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان علیھا، فقد ولد حرا مبرأ من الخطیة أو المعصیة ویفترض على امتداد مراحل حیاتھ أن أصل
البراءة لا زال كامنا فیھ، مصاحبا لھ فیما یأتي من أفعال إلى أن تنقض المحكمة بقضاء جازم لا رجعة فیھ ھذا الافتراض… وأصل
البراءة یعكس قاعدة جوھریة مبدئ.یة في ذاتھا مستعصیة على الجدل واضحة وضوح الحقیقة ذاتھا تقتضیھا الشرعیة الإجرائیة، ویعتبر
إنفاذھا مفترضا أولیا لإدارة العدالة الجنائیة.. “، أورده مر فاروق الحسیني، مدى تعبیر الحكم بالإدانة غیر الصادر بالإجماع عن الإقناع الیقیني الجنائي، الطبعة الثامنة، ،1995ص 51.

[11] – البحث التمهیدي التلبسي.

[12] – البحث التمهيدي العادي.

[13]-وقد قام الوكیل العام للملك بمحكمة النقض، بتوجیه بلاغ إلى المحامین العامین، والوكلاء العامین، ووكلاء الملك، یدعوھم فیه إلى العمل على ترشید الاعتقال الاحتیاطي.

[14]– محمد عصمان، جدید فقه القضاء المقارن، مقال منشور بالموقع الالكتروني : www.marocdroit.com

[15] – محمد بن التاجر، ” مقتضيات القانون الجنائي والدستور الجديد “، مجلة الحقوق، العدد 14، السنة 2013، ص 116.

[16]– جاء في مطلع المادة الأولى من مشروع قانون المسطرة الجنائیة: المادة  -.1 “كل الأشخاص متساوون أمام القانون ویحاكمون فی أجل معقول من قبل محكمة مشكلة طبقا للقانون، توفر للأطراف ضمانات المحاكمة العادلة، وتحترم فی كافة مراحلھا حقوق الدفاع…”

[17]– جاء في المادة 307 من مشروع قانون المسطرة الجنائیة :”أنه.. تحرص المحكمة في كافة الأحوال أن تتم محاكمة الأشخاص في أجل معقول”

[18]– جاء في المادة 371 من المسودة :

یتضمن المقال تحت طائلة عدم القبول:

-بیان أسماء الأطراف الشخصیة والعائلیة وموطنھم الحقیقی أو المختار؛

-الرقم الوطنی والحساب الإلكترونی للمحامي؛

“…

[19] -سعيد الناوي، “رفع النجاعة القضائية”، مقال بمجلة منشورات محكمة الإستثئناف بالدر البيضاء، عدد خاص بالندوات، ص 113.

[20]– عزیزة أیت موسى،  نجاعة العدالة رھین بتحدیث المحاكم، مقال منشور بالموقع الالكتروني : .14.50  على الساعة 2018  نونبر 23  تاریخ الاطلاع https://www.maghress.com/almaghribia/.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى