سلسلة الأبحاث الجامعية والأكاديمية العدد 34 فبراير 2021 الموضوع: المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ” نموذج عمالة الصخيرات-تمارة
مقدمة:
تعد التنمية عملية متعددة الأبعاد ومتنوعة المجالات، بالرغم من أن مفهوم التنمية ارتبط في بادئ الأمر بعلم الاقتصاد حيث استعمل لإحداث مجموعة من التغيرات الجذرية في مجتمع معين، عن طريق زيادة قدرة المجتمع لتلبية حاجاته الأساسية وذلك بالترشيد المستمر لاستغلال الموارد الاقتصادية المتاحة وحسن توزيع عائدات ذلك الاستغلال. فالتنمية هي عملية اقتصادية في الأصل تتجلى فيها معطيات قانونية وسوسيوثقافية تتفاعل من أجل تحقيق نوع من التقدم الاقتصادي الهادف إلى الزيادة في الإنتاج وتحسين الدخل الفردي والادخار الوطني[1].
مع تقدم العلوم والتكنولوجية فقد تزايد الاهتمام في عالمنا المعاصر بقضية التنمية التي أخذت معنى آخر أكثر شمولية بحيث لم تعد تقتصر على الأهداف الاقتصادية فحسب، بل توسعت لتشمل أهداف أخرى، فأصبحت التنمية مرتبطة بتحول فكري وتربوي ضخم يهم سائر الإمكانات البشرية العلمية والثقافية والتكنولوجية الموظفة في خدمة التنمية الشاملة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها. ذلك أن بناء المؤسسات السياسية وتمكينها وتفعيل دورها وتشجيع الممارسات الديمقراطية تعد أحد المؤشرات الأساسية لمستوى التنمية الذي تحققه الدولة، كما يمثل التعليم قاعدة الانطلاق الحقيقية بالنظر إلى دوره في الارتقاء بقدرات ومعارف الأفراد. وبالتالي تم نهج أسلوب التنمية المستدامة التي تمكن من الاستجابة لحاجيات الشعوب الحالية بدون التقليل أو النيل من إمكانيات الأجيال القادمة لتلبية حاجاتهم الخاصة[2]. ومن خلال هذه الأبعاد ظهرت التنمية البشرية كفلسفة اجتماعية جديدة تسعى إلى إشراك الإنسان في البحث والتخطيط والمتابعة لكل مشروع يهدف إلى الرفع من قدرات الفرد العلمية وتطوير إمكانياته.
ويقدم تقرير التنمية الإنسانية العربية سنة 2002 تعريفا يلخص هذه الخلفية المفاهيمية للتنمية البشرية كالتالي: “يمكن تحديد التنمية البشرية ببساطة بكونها عملية توسيع الخيارات. ففي كل يوم يمارس الإنسان خيارات متعددة، بعضها اقتصادي، وبعضها اجتماعي، وبعضها سياسي، وبعضها ثقافي. وحيث إن الإنسان هو محور تركيز الأنشطة المنجزة في اتجاه تحقيق التنمية، فإنه ينبغي توجيه هذه الأنشطة لتوسيع نطاق خيارات كل إنسان في جميع ميادين النشاط البشري لفائدة الجميع…”[3]
يمكننا القول من خلال هذا التعريف أن مفهوم التنمية هو مفهوم معقد ومركب تتداخل فيه العوامل السياسية والاقتصادية والجغرافية والإنسانية. لذلك قد اتجه البعض في مقارباتهم لمفهوم التنمية البشرية إلى التركيز على العلاقات والروابط لرفع مستوى الفرد اجتماعيا وثقافيا وصحيا، ومن هذه المقاربات التي أكدت على هذا المعنى تعريف يشير إلى أن المقصود بالتنمية البشرية هي تنمية العلاقات والروابط القائمة داخل المجتمع ورفع مستوى الخدمات التي تحقق تأمين الفرد على قوت يومه وغذائه، ورفع مستواه الاجتماعي والصحي وزيادة قدراته على تفهم مشاكله وتعاونه مع أفراد المجتمع للوصول إلى حياة أفضل.[4] وفي هذا الصدد قد تمكنت سلسلة من القمم والمؤتمرات المنعقدة تحت رعاية الأمم المتحدة من صياغة هذا المفهوم وإغنائه وتطويره عن طريق وضع مؤشر التنمية البشرية[5] الذي تلته مجموعة من المؤشرات المكملة أو البديلة.
أما بالنسبة للمغرب فقد وجد نفسه أمام تحديات عديدة مرتبطة بالتحولات الديمقراطية والاندماج في الاقتصاد الدولي وتعزيز البناء الديمقراطي، وكل هذه التحديات تفرض على المملكة اعتماد رؤية جديدة، تتمحور حول مبادئ الحكامة الديمقراطية لتدارك العجز المتراكم وتساهم في الرفع من ترتيب المغرب ضمن الدول ذات تنمية بشرية متقدمة. ذلك أن التقارير الصادرة عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة قد دقت ناقوس الخطر بالنسبة للتنمية بالمغرب، إذ احتل هذا الأخير المرتبة 126 سنة 2005 في الترتيب العالمي، كما تسببت التحولات الدولية وكذا الاختلالات الاجتماعية في خلق أزمات ترتب عنها عدة أحداث تجلت في إضرابات وعمليات إرهابية وتفاقم الوضع المزري من فقر وتهميش وهشاشة بين مختلف الفئات. فكل هذه الأحداث استدعت إلى وقفة تأملية من طرف السلطات للبحث عن إستراتيجية لمعالجة هذه الاختلالات في النهج التنموي لجميع القطاعات وذلك لملائمة سياستها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية مع التوجهات الدولية. فجاء خطاب الملك محمد السادس في 18 ماي 2005 ليعلن عن انطلاق رؤية مستقبلية وإستراتيجية جديدة، نظرا لالتزام المغرب بالأهداف الإنمائية للألفية من أجل القضاء على الفقر، و للتعرف على المناطق ذات الأولوية، تم وضع خرائط للجماعات المحلية بناء على التقاطع ما بين نتائج البحث حول استهلاك الأسر الذي أنجز سنة 2001 ونتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2004، حيث شكلت هذه الخرائط الأدوات المناسبة لتحديد العمليات والوحدات الترابية ذات الأولوية وكذا السكان المستهدفين. وعلاوة على ذلك فإن المبادرة تتطابق مع توصيات تقرير الخمسينية الذي أعطى تشخيصا لحالة المغرب وأفضى إلى وجود أزمة اجتماعية بالمملكة. لذلك فإن الإعلان عن المبادرة لم يأت بمحض الصدفة أو من فراغ وإنما جاء نتيجة ظروف سياسية واجتماعية سواء على المستوى الدولي أو على المستوى الوطني.