في الواجهةمقالات قانونية

الوكالة في بيع العقار (تعليق على قرار قضائي) – الباحث عبد الواحد حليمي

الوكالة في بيع العقار (تعليق على قرار قضائي) – الباحث عبد الواحد حليمي

                          خريج ماستر قانون الأعمال

 

 

 

مقدمة:

تعددت حاجيات الإنسان التي يسعى إلى إشباعها، حتى يتمكن من العيش على وجه يليق بآدميته، وهو يستمد العناصر اللازمة لذلك من الطبيعة التي تحيط به ومن الأشخاص الذين يعيشون معه، بحيث يقدمون له الخدمات والأعمال التي لا يستطيع أن يقوم بها بنفسه.

والأصل أن يقوم الشخص بنفسه بإبرام ما يحتاج من عقود، لكن قد تحول الظروف دون ذلك كبعده أو غيبته أو قلت تجربته أو خبرته[1].

وكقاعدة عامة في الميدان العقدي أن العقد لا يلزم إلا من كان طرفا فيه، فهو لا يضر ولا ينفع الغير، غير أن هذا المبدأ لا يؤخذ على إطلاقه، إذ قد يحدث أحيانا أن تنصرف أثار العقد إلى غير عاقديه، وذلك هو حال التعاقد بالوكالة حيث يقوم الوكيل بإبرام العقد فتنصرف أثاره إلى الأصيل والتعاقد على هذا النحو ليس على صورة واحدة بل إنه يختلف بحسب مصدره، فهو إما أن يكون قانوني أو قضائي أو اتفاقي والنيابة الاتفاقية هي التي يصطلح على تسميتها بالوكالة[2] متى كان الوكيل مفوضا للقيام بتصرف قانوني لفائدة موكله.

ونظرا للأهمية العملية والقانونية لعقد الوكالة باعتبارها وسيلة وأداة تسهل على الناس أمور حياتهم عن طريق تمكينهم من إجراء تصرفات يتعذر عليهم في بعض الأحيان من إجرائها بأنفسهم لغيابهم عن مكان العقد أو لقلة خبرتهم أو لكثرة مشاغلهم، لهذا فإن جل القوانين الحديثة اعترفت بالوكالة ونظمت أحكامها.

حيث تظهر اهمية الوكالة في البيوعات ذات الطابع العقاري وهنا يجب مراعات ارتباط الإنسان بالعقار والأرض بصفة عامة الذي يعتبر ارتباط فطري بطبيعة الإنسان الذي يتمسك بالملكية العقارية، لأنها تجسد له نوعا من الاستقرار الاجتماعي والاستمرار العائلي والانتماء الترابي[3].

وبهذا يكون تدخل المشرع المغربي لينظم عقد الوكالة الواردة على العقار وغيرها من التصرفات المدنية في قانون الالتزامات والعقود إذ أنه خص الوكالة بالفصول من 879 إلى 942 من ظهير الالتزامات والعقود في القسم السادس من الكتاب الثاني. تدخل يتيم لا يسعفه في تحصين الوكالة في البيوعات العقارية من تصرفات تعصف باستقرار المعاملات العقارية عن طريق الوكالة العقارية التي ما فتئت ان تكون محل تلاعبات من قبيل التزييف والتزوير الذي يؤدي الى الاستلاء على عقارات الغير والذي أصبح في الأونة الأخيرة ظاهرة مستفحلة ومستشرية، كانت وراؤها الوكالات العرفية مما جعل الجنب الشريف يتدخل في أواخر سنة 2011 عن طريق رسالة سامية موجهة لوزير العدل من أجل ردع هده التصرفات.

وللتفصيل أكثر حول موضوع الوكالة في بيع العقار، سنقوم بدراستها من خلال القرار الذي بين أيدينا[4]، حيث أن المدعية تقدمت بمقال افتتاحي عرضت فيه أن المطلوب فوت لها بواسطة (ي ح)، بمقتضى عقد وكالة القطعة الأرضية الموجودة بعنق الجمل ذات الرسم العقاري عدد (xxxx)، ولم تتمكن من تحفيظ شرائها لعدم تسليمها الكناش الخاص العقاري والتمست الحكم على المدعى عليه، بتسليمها الكناش الخاص العقاري أعلاه، قصد تحفيظ شرائها والإذن للسيد المحافظ على الأملاك العقارية بتسجيله لدى المحافظة العقارية بسلا الجديدة تحت طائلة غرامة تهديدية عند الامتناع عن التنفيذ، وأرفقت مقالها بعقد وكالة وعقد شراء وشهادة ملكية وبمذكرة مؤرخة في 13/12/2010 تنازلت عن الدعوى ثم تراجعت عن هذا التنازل بمذكرة مدلى بها بتاريخ 24/12/2010ثم تقدمت بتاريخ 24/02/2011 بطلب إضافي يرمي إلى التشطيب على التقييد الاحتياطي المسجل بناء على مقال تقدم به المطلوب يخص الرسم العقاري المدعى فيه وأمر المحافظ على الأملاك العقارية بالتشطيب عليه تحت طائلة غرامة تهديدية.

أجاب المدعى عليه أن المدعية أدلت بمجرد صورة شمسية لعقد الشراء وأنه في حالة إدلائها بأصل العقد فسيقدم بطلب الطعن فيه بالزور لكون التاريخ مزور والجهة التي صادقت غير مختصة مكانيا وأدلت الطاعنة بأصل عقد البيع وتقدم المطلوب بتاريخ 20/02/2008 بمذكرة جواب مع مقال إدخال الغير في الدعوى وعرض أن الوكيل الذي ابرم عقد البيع مع الطاعنة ما هو إلا زوجها الشرعي الذي تجاوز حدود الوكالة وتواطئ مع زوجته اضرارا بحقوقه والتمس إدخاله كطرف في الدعوى وفي المقال المقابل عرض أن المدخل في الدعوى (ي ح) استغل الوكالة الممنوحة له المتعلقة بتجزئة الملك موضوع النزاع وتجهيزه وإقامة التصميم وإدخال الماء والكهرباء والواد الحار استغل هذه الوكالة لبيع العقار لزوجته بثمن بخس والحال أن الوكالة لا تخوله بيع العقار ذي الرسم العقاري عدد (xxxx)، برمته وإنما انصب التوكيل على إعمال التجهيز وإقامة التصميم وغيره… وأن الوكيل تجاوز حدود الصلاحيات المخولة له، ومن جهة أخرى فقد جاء في العقد أن الأطراف يعفون صراحة الموثق الموقع أسفله من التثبت من أصل ملكية العقار المبيع، والعقد لا يتضمن أي تاريخ وديل على التوقيع بالمقاطعة الحضرية الخامسة بالرباط بتاريخ مزور سابق للتاريخ المومأ إليه أعلاه، والحال أن العقار يوجد بسلا من اختصاص السلطات الإدارية بسلا، وأن الوكالة المستند عليها في البيع لا تشير صراحة إلى بيع العقار المتنازع فيه عملا بالفصل 894 من قانون الالتزامات والعقود، والتمس الحكم ببطلان العقد وبطلان الوكالة والحكم على المدخل في الدعوى، بأن يتحمل كافة تبعات هذه الدعوى مع إرجاع ما قد يكون تسلمه من زوجته وحفظ حقه في المطالبة بالتعويض عن الضرر، وبتاريخ 01/02/2011 تقدم المدعى عليه بطلب إضافي مع مذكرة جوابية، وعرض أنه اثناء جريان المسطرة استطاعت المدعية أن تسجل العقد موضوع هذه الدعوى متجاوزة بذلك ما يمكن أن تحكم به المحكمة، وتقدمت بتنازل عن الدعوى وهو تنازل ينم عن سوء نية في التقاضي، ولا يمس الدعوى المقابلة وأنه نظرا لبطلان عقد البيع وبطلان الوكالة، فإنه يلتمس التشطيب على تقييد عقد البيع المسجل على الرسم العقاري عدد (xxxx)، مع ما يترتب على ذلك قانونا واحتياطيا إعمال مقتضيات الفصل 89 وما يليه من قانون المسطرة المدنية وحفظ حقه في الإدلاء بمستنتجاته وارفق نسخة من شهادة عقارية تفيد تقييد الطاعنة كمالكة على الرسم العقاري المذكور قبله.

ومن خلال ما تقدم، أمرت المحكمة الابتدائية بإجراء خبرة في تحقيق الخطوط وأنجزها الخبير xx)) الذي أودع تقريره بتاريخ 09/08/2012 وبعد التعقيب على الخبرة من الطرفين أصدرت المحكمة الابتدائية بتاريخ 26/02/2013 في الملف عدد 503/07/10 حكما: ” في الشكل بعدم قبول الدعوى الأصلية وتحميل رافعها الصائر، وبقبول الدعوى المضادة وفي الموضوع في الدعوى المضادة، الحكم بإبطال عقد البيع المبرم بين ( ي ح) بصفته وكيلا عن ( م ت) وبين (ن ب) المصحح الإمضاء بتاريخ 28 غشت 2005 وأمر السيد المحافظ على الأملاك العقارية بسلا الجديدة بالتشطيب على المدعية من الرسم العقاري عدد (xxxx)، وإرجاعه في رسم مالكه المدعى عليه وبتحميل المدعية الصائر “.

وبعد صدور الحكم الابتدائي، قامت المدعية باستئنافه، وبعد استنفاد أوجه الدفع والدفاع أصدرت محكمة الاستئناف قرارا: ” بتأييد الحكم المستأنف “، وهذا هو القرار المطعون فيه بالنقض بمجموعة من الوسائل وهي التي سنتناولها بنوع من التفصيل من خلال التصميم التالي:

المطلب الأول: السلطة التقديرية للمحكمة في تطبيق النصوص القانونية على النازلة

المطلب الثاني: أية حماية لحقوق الغير في البيع المبرم من طرف الوكيل

 المطلب الأول: السلطة التقديرية للمحكمة في تطبيق النصوص القانونية على النازلة

لقد عرف المشرع المغربي عقد الوكالة على غير عادته في قانون الالتزامات والعقود، وذلك في الفصل (879) منه وجاء نصه كالآتي: ” الوكالة عقد بمقتضاه يكلف شخص شخصا آخر بإجراء عمل مشروع لحسابه، ويسوغ إعطاء الوكالة أيضا لمصلحة الموكل والوكيل، أو لمصلحة الموكل والغير، بل ولمصلحة الغير وحده “.

يتبين من خلال هذا الفصل أن عقد الوكالة في البيوعات العقارية بصفة خاصة فهي عقد يلتزم بمقتضاه الوكيل القيام بعمل مشروع، والذي يتمثل في الشراء أو البيع الذي محله عقار، والذي لا يرغب الشخص في القيام به بنفسه أو لا يقوى عليه، ولكي يصح حلول إرادة هذا الأخير، يجب أن يكون هذا التوكيل واضحا وغير مبهم وإلا أصبحنا أمام الإبهام الذي يستدعي التفسير والتأويل من طرف القضاء وفي هذه الحالة كيف يمكن أن تحل إرادة محل أخرى؟ وحيث يجب على الموكل أن يحدد صلاحيات وحدود الوكيل بدقة حتى لا يتجاوز أثناء تنفيذه للعمل الذي تم إنابته فيه على وجه صحيح دون تقصير أو مبالغة.

وللإجابة على هذا التساؤل، تبين لنا أن نتناوله من خلال نزالة موضوع القرار الذي هو بين أيدينا، عن طريق دور المحكمة في تمحيص مضمون عقد الوكالة في بيع العقار المبرم من طرف الوكيل (الفقرة الأولى)، وكذا مسؤولية الوكيل في حالة تجاوزه حدود عقد الوكالة وأثار هذا التجاوز على عقد البيع المبرم مع الغير المتعاقد معه (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: دور المحكمة في تمحيص مضمون الوكالة في بيع العقار

إن التعاقد عن طريق الوكالة هو استثناء عن المبدأ العام المستقر عليه قانونا، والذي يفيد أن الشخص لا يلتزم إلا بإرادته، وأن أثار العقود لا تنسحب إلا على أطرافها فقط، بحيث لا يضار ولا ينتفع منها الغير، غير أنه يجوز في العديد من الحالات ولأسباب مختلفة الخروج عن هذا المبدأ والسماح بأن يحل إرادة شخص محل أخر في التعاقد، أو في القيام بأي عمل قانوني، وهو ما يعرف بالوكالة في التعاقد[5].

حيث تعتبر الوكالة وسيلة فعالة تمكن الشخص من القيام بالتصرفات القانونية، فبفضل هذه الوكالة يستطيع الشخص أن يقوم بإبرام هذه التصرفات دون الاضطرار إلى الحضور فعليا، لأنه قد حضر حكما بواسطة الوكيل عنه، ولهذا فالوكالة تسمح للإنسان أن يكون حاضرا في أمكان متعددة، ويمكن أن يكون ممثلا في عدة جهات بواسطة الوكلاء[6].

والوكالة في التعاقد هي حلول إرادة الوكيل محل إرادة الأصيل في مباشرة تصرف قانوني معين، مع انصراف آثار هذا التصرف إلى شخص الأصيل، كما لو كانت الإرادة قد صدرت منه شخصيا[7].

وفي هذا الإطار، يجب على الوكيل تنفيذ الوكالة دون مجاوزة حدودها المرسومة، فالوكيل ملزم وطبقا للنصوص القانونية تنفيذ العمل محل الوكالة في الحدود المسموح بها والتي رسمها الموكل، أي القيام بما كلف به بدقة، وإلا التزم بالتعويض كجزاء مما قد ينشأ من ضرر إذا ما قصر بتنفيذ ما تعهد به[8]، أو خالف الحدود التي تقتضيها طبيعة العمل الموكل به أو طريقة تنفيذه[9]، فإذا اشتملت الوكالة على ألفاظ عامة، ولم يرد بها نص يعين التصرف الذي خول به الوكيل فلا يمكن قبول تصرفه الذي لم يعين في الوكالة لأن التصرفات العقارية تستوجب أن تكون الوكالة فيها وكالة خاصة لخطورتها، لما يترتب على ذلك من ضياع للحقوق، الأمر الذي يفرض ضرورة تدخل القضاء لحماية حقوق ومصالح الأطراف في حالة وقع خطأ أثناء تنفيذ عقد الوكالة من طرف الوكيل في البيوعات العقارية.

ومن خلال القرار الذي نحن قيد دراسته، والذي قام فيه الوكيل ببيع العقار موضوع النزاع، تكون المحكمة ملزمة قبل أن تقوم بتكييف موضوع النزاع، لا بد أن تطلع على مضمون عقد الوكالة ومدى احترام الوكيل لتعليمات الموكل وارتسماته، والتي كانت محصورة حسب مضمون الوكالة في التجهيز وإقامة التصميم وإدخال الماء والكهرباء والواد الحار، دون ذكر لأي عبارة تفيد حق الوكيل في التصرف في العقار أو تفويته للغير، وبعد تمحيصها لبنود الوكالة ودراستها ومن خلال طلبات الأطراف وحيثيات النزاع، قضت المحكمة في حكمها كالتالي: ” بأن عقد الوكالة لا يتضمن إذنا صريحا ببيع العقار المدعى فيه، وإبطال عقد البيع المبرم من طرف الوكيل، امرت السيد المحافظ على الأملاك العقارية بسلا الجديدة بالتشطيب على المدعية من الرسم العقاري وإرجاعه في رسم مالكه أي الموكل “.

وحيث استأنفت المدعية الحكم الابتدائي، وبعد استنفاد جميع أوجه الدفع والدفاع أصدرت محكمة الاستئناف قرارها بتأييد الحكم الابتدائي المستأنف.

وبعد صدور القرار الاستئنافي المؤيد للحكم الابتدائي، قامت المدعية بالطعن فيه بالنقض، بمقال تضمن ثلاث وسائل، وهي أن وسلة النقض هي عدم ارتكاز الحكم الابتدائي والاستئنافي على أساس قانوني، وخرقت أحكام الفصلين [10]230 و[11]461 من قانون الالتزامات والعقود، وتحريف الواقع المؤثر على اتجاه الحكم وعدم الجواب على الوسيلة وخرق حقوق الدفاع، وان الوكيل لم يدل بما يفيد أن المطلوب في النقض استفاد من ثمن البيع، مما يشكل خرقا لأحكام الفصول 894 و895 و927 من قانون الالتزامات والعقود، في حين أن عقد الوكالة يتضمن إذنا صريحا بتفويت العقار المدعى فيه، والقول بخلاف ذلك فيه تحريف للواقع، وذلك باعتبار الوكيل قد تصرف في حدود الوكالة الممنوحة له.

وأن هذه الحقائق سبق للطاعنة أن اشارت غليها في كتاباتها أمام المحكمة الابتدائية، وركزت عليها أيضا في مقالها الاستئنافي، وما عللت به المحكمة الابتدائية حكمها بخصوص الوكالة التي أسس عليها البيع على كونها لا تتضمن إذنا صريحا بالبيع للوكيل، لا يستقيم وما تضمنته تلك الوكالة، وبعيدا عن مقتضيات الفصلين 894 و895 من قانون الالتزامات والعقود.

ومن خلال تصفح عقد الوكالة والقرار المطعون فيه نجده لم يتعرض لكل ما ذكر رغم ما له من أهمية قصوى في الموضوع، مما ينبغي معه نقضه.

ومن خلال ما تقدم، جاء في قرار محكمة النقض بعد دراستها لملف القضية وأطواره أمام المحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف والوسائل التي اعتمدتهما في تعليل أحكامهما أيدت ما عابته الطاعنة في مقالها بالطعن بالنقض ما يلي: ” أن المحكمة التي بنت قرارها على علل من بينها أن الوكالة لم تتضمن إذنا صريحا ببيع العقار في حين أنه بالاطلاع على نص الوكالة يتبين أنها تضمنت إذنا صريحا ببيع العقار المدعى فيه، وما أشار إليه القرار المطعون فيه، من عدم إدلاء الوكيل بما يفيد أن الموكل (المطلوب في النقض) قد استفاد من ثمن البيع، وأن تاريخ المصادقة على التوقيع صادف يوم أحد، تكون قد عللت قرارها تعليلا فاسدا وهو بمثابة انعدام التعليل، مما يعرضه للنقض والإبطال “.

في خضم ما سبق، وبعد الاطلاع على أطوار القضية ومراحلها الابتدائية والاستئنافية والنقض، يمكن القول بعد تفحص الحكم الابتدائي الذي بعد تمحيصه لمضمون عقد الوكالة استنتج أنها لا تتضمن إذنا صريحا للوكيل ببيع العقار موضوع النزاع، وقضت في حكمها على هذا الأساس، وهو نفس النهج الذي تبنته محكمة الاستئناف في تأييدها للحكم الابتدائي، إلا أن محكمة النقض كانت لها قراءة مغايرة لنص عقد الوكالة، حيث اقرت بوجود إذنا صريحا للوكيل ببيع العقار المدعى فيه على عكس المحكمتين الدرجة الأولى والثانية، وبه تكون قد وفرة حماية لحقوق المشترية  من اكتسابها لملكية القطعة الأرضية المتنازع بشأنها وتسجيلها بالرسم العقاري لدى المحافظة العقارية، بعدما كانت المحكمة الابتدائية قد قضت بالتشطيب عليها من الرسم العقاري ورجاعه في رسم مالكه الذي استفاد من ثمن البيع.

الفقرة الثانية: مسؤولية الوكيل أثناء تجاوزه حدود الوكالة وأثاره على عقد البيع

الوكالة إما ان تكون عامة[12] حيث يكون للوكيل فيها مطلق الحرية في التصرف مع الالتزام بتعليمات وتوجيهات الأصيل أو الموكل بطبيعة الحال، وقد تكون وكالة خاصة بحيث تنحصر حرية تصرف الوكيل في الحدود المنصوص عليها في عقد الوكالة، حيث ينص الفصل 895 من قانون الالتزامات والعقود على ما يلي: ” على الوكيل أن ينفذ بالضبط المهمة التي كلف بها، فلا يسوغ أن يجري أي عمل يتجاوز أو يخرج عن حدود الوكالة “، وإذا حصل وأن تجاوز الوكيل حدود الوكالة الممنوحة له، فإن آثار التصرفات التي أجراها لا تلزم الموكل كمبدأ عام.

أن الوكيل قد يتجاوز تعليمات الموكل المتعلقة بالوكالة، سواء المتعلقة بحدود الوكالة، أو تلك الخاصة بطريقة تنفيذها، فهنا تنعقد مسؤولية الوكيل تجاه الموكل والغير إذا ما اصابهما ضرر بسبب ذلك، والغالب أن يكون المتضرر من هذا التجاوز هو الموكل، ولكن قد يحدث أن يكون المضرور من تجاوز حدود الوكالة الغير الذي تعاقد معه الوكيل وهو ما سوف نبحثه بشيء من التفصيل في ضوء دراسة تقدير خطأ الوكيل والذي تترتب عليه مسؤوليته.

أما بالنسبة لمجاوزة الوكيل حدود الوكالة يعد في الواقع خطأ من قبله في مواجهة الغير الذي تعاقد معه يتمثل، كما يرم بعض الفقه، في أنه بهذا التجاوز يصور الوكيل لهذا الغير تمتعه بسلطات لا يملكها في الواقع، وأن هذا الخطأ يعد مصدرا للضرر الذي يصيب الغير نتيجة عدم انصراف آثار التصرف الذي تجاوز حدود الوكالة، كلياً أو جزئياً، في مواجهة الموكل، وذلك إذا لم تتوفر حالة من الحالات السابق بيانها والتي يمكن فيها، رغم هذه المجاوزة، انصراف آثار التصرف إلى الموكل، فإذا تجاوز الوكيل حدود الوكالة، بالمخالفة لتعليمات الموكل، فإنه يكون مسؤولاً مسؤولية عقدية في مواجهة الغير الذي تعاقد معه وذلك في حالة ما إذا كان قد تعهد له_ وبعد إ خباره بتجاوز حدود الوكالة_ بالحصول على إقرار الموكل على التصرف الذي أجراه بالمخالفة لحدود الوكالة[13].

ويكون الوكيل في مثل هذا الفرض، متعهداً عن الغير، ويكون مسؤولاً في مواجهة المتعاقد معه، في حال عدم حصوله على إقرار الموكل للتصرف الذي ابرمه بالمخالفة لتعليماته، وبالتالي يكون مسؤولاً عن تعويض الضرر الذي أصاب الغير الذي تعاقد معه طبقاً للقواعد العامة في التعهد عن الغير، وأن هذه المسؤولية التقصيرية للوكيل في مواجهة الغير المتعاقد معه في حالة مجاوزته حدود الوكالة أو مخالفة تعليمات الموكل مشروطة بانتفاء علم الغير المتعاقد معه بالمخالفة التي ارتكبها الوكيل، أي بتجاوز الوكيل حدود وكالته، فلا يكون الوكيل مسؤولاً إذا جاوز حدود وكالته وكان الغير الذي تعاقد معه على علم بذلك، فعل الغير بحقيقة الواقع ينتفي معه مبرر حمايته بتحميل الوكيل مسؤولية ما.

وهو ما أقرته المحكمة الابتدائية في القرار الذي نحن بصدد دراسته، عندما قضت: ” في الشكل برفض الدعوى الأصلية وتحميل رافعا الصائر وبقبول الدعوى المضادة وفي موضوع هذه الدعوى الأخيرة، الحكم بإبطال عقد البيع المبرم من طرف الوكيل الذي تجاوز حدود الوكالة، وأمرت السيد المحافظ على الأملاك العقارية بسلا الجديدة بالتشطيب على المدعية من الرسم العقاري وإرجاعه في رسم مالكه الأصلي، ألا وهو الموكل البائع، وحيث عللت حكمها على أساس ان عقد الوكالة لم يتضمن إذنا صريحا للوكيل ببيع العقار.

ومن خلال حكم المحكمة يتبين لنا بأنها اعتمدت في تكييفها لموضوع النزاع على الفصول 894 و895 و927 من قانون الالتزامات والعقود حيث ينص الفصل 894 على ما يلي: ” لا يجوز للوكيل، أيا كان مدى صلاحياته، بغير إذن صريح من الموكل، … تفويت عقار أو حق عقاري، ولا انشاء الرهن، رسميا كان أم حيازيا، ولا شطب الرهن أو التنازل عن الضمان ما لم يكن ذلك في مقابل الوفاء بالدين، …”.

وفي نفس الصدد، نجد الفصل 927 من نفس القانون ينص على ما يلي: ” لا يلتزم الموكل بما يجريه الوكيل خارج حدود وكالته، أو متجاوزا إياها، إلا في الحالات الأتية:

*إذا أقره ولو دلالة.

*إذا استفاد منه.

*إذا أبرم الوكيل التصرف بشروط أفضل مما تتضمنه تعليمات الموكل.

*وحتى إذا أبرم الوكيل التصرف بشروط أقسى مما تضمنته تعليمات الموكل، ما دام الفرق يسيرا أو كان مما يتسامح به في التجارة أو في مكان إبرام العقد “.

ومن خلال هذين الفصلين وحكم المحكمة، فإنه يتبين أن الوكيل تجاوز حدود الوكالة عندما قام بتفويت العقار إلى الغير والتي لم تتضمن إذنا صريحا ببيع العقار موضوع النزاع، وأن مضمون عقد الوكالة حسب ما تم التصريح به في وقائع الدعوى، أنه اقتصر على تكليف الوكيل بمهمة التجهيز وإقامة التصميم وإدخال الماء والكهرباء والواد الحار ولا شيء غير ذلك، وهو ما جاء بصريح العبارة في الفصل 894 الذي لم يجز للوكيل تجاوز نطاق عقد الوكالة دون إذن صريح من الموكل، بتفويت العقار أو أي حق عقاري، ونجد أيضا ان القانون لا يحمل الموكل أية مسؤولية في حالة تجاوز الوكيل حدود وكالته وهو نص الفصل 927 من ق ل ع، هذا إذا كان الموكل لا يعلم بتصرفات الوكيل ولم يستفد منها ولم يقر بها، إلا أنه يتحمل مسؤولية وتبعات ما يقوم به الوكيل إذا كان يعلم بتصرفاته أو أقر ما قام به الوكيل من تصرفات أو استفاد من المهمة التي أنجزها ولو تجاوز الوكيل حدود الوكالة وهو ما تضمنه الفصلين 906 و907 من قانون الالتزامات والعقود[14].

ويعد التزام الوكيل بالعمل الموكل به والتعليمات المتعلقة بالوكالة من الأمور المهمة جداً والتي يفرضها القانون على الوكيل بعدم تخطي الحدود المرسومة له في صك الوكالة سواء كانت حدود الوكالة من حيث الموضوع، أو من حيث الاشخاص، فعلى الوكيل ألا يتجاوز تلك التعليمات، بل عليه أن يطبقها حتى لا يعرض نفسه للمسؤولية.[15]

وفي هذا الإطار، نجد أن المحكمة عندما أمرت بإبطال عقد بيع العقار المبرم من طرف الوكيل والتشطيب على تقييد هذا البيع في الرسم العقاري، فإنها تكون قد بنت قرارها على هذا الأساس، ولم تحمل الموكل اية مسؤولية تجاه تصرفات الوكيل الذي لم يحترم صلاحياته المحددة بمقتضى عقد الوكالة في التجهيز وإقامة التصميم وإدخال الماء والكهرباء والواد الحار فقط، ولعدم إقرار الموكل لهذا التصرف وعلمه به وعدم استفادته منه. وعليه يكون الوكيل قد خالف مقتضيات الوكالة وبه يتحمل مسؤوليته تجاه الغير وتبعات تصرفه.

 

 

 

 

 

 

 

 

المطلب الثاني: أية حماية لحقوق الغير في البيع المبرم من طرف الوكيل

تنشئ الوكالة مجموعة من الآثار فيما بين طرفيها الموكل والوكيل، وتنشئ كذلك آثار بالنسبة للغير الذي يتعامل مع الوكيل، وهكذا سنتناول في هذا المطلب، مدى صلاحية الموكل في مواجهة الغير بعدم صلاحية الوكيل بالتفويت وفسخ عقد البيع في (الفقرة الأولى)، بينما سنتطرق في (الفقرة الثانية)، إلى حقوق الغير في اكتساب ملكية العقار وكيفية تعامل القضاء مع الوكالة في البيوعات العقارية.

الفقرة الأولى: مدى صلاحية الموكل في مواجهة الغير بعدم صلاحية الوكيل بالتفويت وفسخ عقد البيع

إن مدى سعة الوكالة يضيق ويتسع حسب اتفاق الطرفين، فقد يقيد الموكل حرية الوكيل إلى حد يحرمه فيه من كل تقدير، فلا يبقى لهذا الأخير سوى تنفيذ تعليمات الأول حرفيا، وقد يوسع الموكل في سلطة الوكيل فيقيده في بعض الأمور بالشروط التي يعمل بمقتضاها، ويترك له حرية التقدير في غيرها من الأمور، وهنا يكون وكيلا بمعنى الكلمة.

وعلى ذلك فإن الاتساع أو التضييق في سلطات الوكيل يمكن أن يكون في الوكالة الخاصة أو في الوكالة العامة.

ويتعين على الوكيل الالتزام بالمهمة التي كلف بها ولا يجوز له أن يخرج عن الحدود المرسومة للوكالة، بمعنى أن الوكيل ملزم بالقيام بالتصرفات القانونية التي أسندت إليه مهمة إنجازها في الحدود المرسومة بمقتضى العقد أو القانون أو العرف، وإذا تجاوز الوكيل حدود المهمة التي كلف بها كان مسؤولا عن تعويض الموكل عما لحقه من أضرار نتيجة فعله[16].

وفي هذا الإطار، فإنه غالبا ما يفضل الوكيل العمل باسم موكله لكي لا يقع على عاتقه عبء الالتزامات الناتجة عن تنفيذه للوكالة مع الغير الذي يتعامل معه، الأمر الذي يجعل هذه الالتزامات تقع مباشرة على الموكل خلافا للحالة التي يتصرف فيها الوكيل باسمه[17].

إن الوكيل الذي يعمل في حدود وكالته باسم موكله، يكون نائبا عنه، فلا تنصرف إلى ذمته آثار التصرف، وإنما تترتب مباشرة في ذمة الأصيل بمعنى أن الوكيل ما دام يعمل باسم الموكل فلا تنصرف إليه اثار التصرف، بل تنصرف إلى ذمة الأصيل ويصبح الموكل بعد تنفيذه الوكالة هو الدائن أو المدين أو الإثنين معا، حسب الأحوال، الشيء الذي يمنح للمتعاقد مع الوكيل الحق في رفع دعواه مباشرة ضد الموكل، بمعنى أن الغير الذي تعاقد مع الوكيل ولو تجاوز هذا الأخير حدود الوكالة له الحق في أن يقيم دعواه ضد الموكل وليس له أن يرفعها على الوكيل إلا إذا تعاقد باسمه الشخصي وعدم علم الغير بوجود الوكالة.

وفي هذا السياق، يطرح التساؤل الذي يعتبر محور هذه الفقرة ألا وهو “هل يجوز للموكل مواجهة الغير بعدم صلاحية الوكيل بتفويت العقار وفسخه لتصرف هذا الأخير مع الغير”؟

وللإجابة عن هذا التساؤل، نستحضر القرار الذي بين أيدينا، حيث نجد أن المحكمة الابتدائية وبعد تمحيصها لمضمون عقد الوكالة، قضت بأن الوكالة لا تتضمن إذنا صريحا بتفويت العقار المدعى فيه، وبإبطال عقد البيع المبرم بين الوكيل وبين المدعية (المشترية)، وأمرت السيد المحافظ على الأملاك العقارية بسلا الجديدة بالتشطيب على المدعية من الرسم العقاري عدد (xxxx)، وإرجاعه في رسم مالكه (الموكل).

ومن خلال الحكم الابتدائي، يتبين أن المحكمة سايرت الاتجاه الذي يقر بصلاحية الموكل في مواجهة الغير بعدم صلاحية الوكيل في تفويت العقار، وكذا حقه في فسخ العقد المبرم بين الوكيل والغير المتعاقد معه، إلا ان حكم المحكمة الابتدائية لم يكن مقنعا للمدعية، حيث قامت باستئنافه، وبعد استنفاد جميع أوجه الدفع والدفاع أصدرت محكمة الاستئناف قرارها بتأييد الحكم الابتدائي، لتكون هي أيضا سايرت نفس النهج الذي انتهجته المحكمة الابتدائية، ألا وهو حماية حقوق الموكل في حالة تجاوز الوكيل حدود عقد الوكالة.

وزيادة في التوضيح واتباعا لأطوار القضية ومجراها، حيث قامت المدعية بالطعن في القرار الاستئنافي بالنقض، حيث أصدرت محكمة النقض قرارها كالتالي: ” حيث صح ما عابته الطاعنة على القرار في الوسيلة الثالثة، وذلك أنها تمسكت أما المحكمة مصدرته بأن عقد الوكالة يتضمن إذنا صريحا بتفويت العقار المدعى فيه. إلا أن هذا القرار لم يتعرض لكل ما ذكرته المدعية في مقالها رغم ما له من أهمية قصوى في الموضوع.

والمحكمة التي بنت قرارها على علل من بينها أن الوكالة لم تتضمن إذنا صريحا ببيع العقار المدعى فيه، والحال أنه بالاطلاع على نص الوكالة المدرجة ضمن وثائق الملف يتبين أنها تضمنت إذنا صريحا ببيع العقار.

وما أشار إليه القرار المطعون فيه، من عدم إدلاء الوكيل بما يفيد أن المطلوب في النقض قد استفاد من ثمن البيع، وأن تاريخ المصادقة على التوقيع صادف يوم أحد، لا آثر له على انعقاد البيع بصورة صحيحة، وبالتالي فإنها لما استبعدت إعمال مقتضيات الوكالة وقضت على النحو المذكور، تكون قد عللت قرارها تعليلا فاسدا وهو بمثابة انعدام التعليل مما يعرضه للنقض والإبطال “.

وأخيرا يمكن القول بأن محكمة النقض فاجئة توجهات محاكم الدرجة الأولى والثانية، وكذا طموحات الموكل الذي سعد كثيرا بالحكم الابتدائي وتأييده من طرف محكمة الاستئناف، إلا ان محكمة النقض كانت لها رؤية مغايرة تماما، وقضت على نحو تقديم مصلحة الغير المتعاقد مع الوكيل وحماية حقوقه من الضياع، وتطبيقا للفصول القانونية المؤطرة للقضية موضوع النزاع، والتي تحمل الموكل مسؤولية تبعات تصرف الوكيل ولو تجاوز نطاق عقد الوكالة دون علمه بذلك، حيث يبقى الموكل هو المسؤول الوحيد والمباشر تجاه الغير، إلا أنه يبقى له حق مطالبة الوكيل بالتعويض عما لحقه من ضرر جراء أخطاء هذا الأخير في إطار المسؤولية العقدية.

الفقرة الثانية: الغير حسن النية بين حقه في اكتساب ملكية العقار وتكييف المحكمة لموضوع النزاع 

كقاعدة عامة، لا يجوز للوكيل القيام بتفويت عقار للغير بدون إذن خاص من الموكل طبقا للفصل 894 من قانون الالتزامات والعقود، وقيام الوكيل ببيع عقار موكله بدون إذن صريح منه يجعل البيع من طرف الوكيل نيابة عن الموكل باطلا غير منتج لأي آثر.

وباعتبار الغير المتعاقد مع الوكيل حسن النية، وعدم علمه بتجاوز الوكيل لحدود وكالته، يجعله حسب القاعدة العامة الطرف المتضرر من هذا التعاقد، وخصوصا في حالة بطلان العقد من طرف القضاء، وهو ما جاء في قرار للمجلس الأعلى الذي قضى بما يلي: ” أن الوكالة الممنوحة للوكيلة لم تتضمن أي إذن صريح للموكل من أجل نصيبه في العقار موضوع البيع، مما تكون معه قد تجاوزت حدود الوكالة، وبالتالي فإن البيع المنجز من طرف الوكيلة نيابة عن الموكل يبقى باطلا غير منتج لأي أثر.

وعليه تكون قد عللت حكمها تعليلا سليما ما دام الفصل 894 المدعى خرقه ينص على أنه لا يجوز للوكيل أيا كان مدى صلاحياته بغير إذن صريح من الموكل … ولا تفويت عقار أو حق عقاري … وأن الإذن الصريح المقصود في الفصل المذكور هو النص في الوكالة على بيع عقار معين بالذات مع التحديد بدقة “[18].

ومن خلال هذا القرار، يمكن القول بأن تجاوز الوكيل لحدود الوكالة دون إذن الموكل أو علمه، يجعل من تصرفاته باطلة ولا تنتج أي أثر، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن مصير حقوق الغير في اكتساب الملكية العقارية في حالة تعاقده مع الوكيل الذي تجاوز حدود وكالته؟ وهل يمكن أن نعتبر الوكالة التي لم تتضمن إذنا صريحا ببيع العقار ولا شرطا يمنع هذا البيع، باستعمال مفردات فضفاضة ذات معاني متعددة، وكالة عامة؟

وللإجابة عن هذه الفرضيات نستحضر القرار الذي بين أيدينا، والذي يقضي على النحو التالي في هذه النقطة: ” أن المحكمة التي بنت قرارها على علل من بينها أن الوكالة لم تتضمن إذنا صريحا ببيع العقار في حين أنه بالاطلاع على نص الوكالة يتبين أنها تضمنت إذنا صريحا ببيع العقار المدعى فيه، وما أشار إليه القرار المطعون فيه، من عدم إدلاء الوكيل بما يفيد أن الموكل (المطلوب في النقض) قد استفاد من ثمن البيع، وأن تاريخ المصادقة على التوقيع صادف يوم أحد، تكون قد عللت قرارها تعليلا فاسدا وهو بمثابة انعدام التعليل، مما يعرضه للنقض والإبطال “.

وفي هذا الصدد، فإن محكمة النقض وبعد اطلاعها على نص الوكالة استشفت أنها تتضمن إذنا صريحا ببيع العقار موضوع النزاع، وذلك رغم التنصيص على هذا الإذن صراحة وبألفاظ وضاحة تفيد البيع، إلا أن دلالة مفردات الوكالة وطبيعة العمل المكلف به الوكيل تفيد أنها تتضمن الإذن بالبيع أيضا وهو ما لم تستنتجه المحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف اللذان قضتا بعكس ذلك، وحيث أن هذا القرار سار على عكس ما قضى به المجلس الأعلى في قراره أعلاه.

ومما سبق، يمكن القول بأن للغير حسن النية الذي يتعاقد مع الوكيل والذي يتصرف في نطاق وكالته وهو ما نصت عليه الفصول 893 و921 و922 من قانون الالتزامات والعقود[19]، يكتسب الحق في ملكية الشيء المتعاقد عليه، ولو تمت مواجهته من طرف الموكل بكون الوكيل تجاوز حدود الوكالة، وأن التصرف الذي أبرمه معه باطل بقوة القانون، وانه لم يأذن له في ذلك ولم يقر بتصرفه، إلا ان للقضاء سلطة تقديرية في تحديد مصالح الأطراف وحقوقهم وحمايتها عن طريق القانون والواقع المنشئ لتلك الحقوق، وهو ما نستشفه من القرار الذي قمنا بدراسته، حيث أقر بحق الغير المتعاقد مع الوكيل في ملكية العقار المتنازع بشأنه وتقييده بالرسم العقاري والتصرف فيه.

خاتمة:

من خلال تعليقنا على القرار القضائي موضوع الوكالة في بيع العقار، يمكن تلخيص محاور البحث في أن المحكمة الابتدائية حكمت في الشكل بعدم قبول الدعوى الأصلية وتحميل رافعها الصائر وبقبول الدعوى المضادة، وفي موضوع الدعوى المضادة الحكم بإبطال عقد البيع، وأمر السيد المحافظ على الأملاك العقارية بالتشطيب على المدعية من الرسم العقاري وإرجاعه برسم مالكه، وحيث أن المدعية قامت بالاستئناف الحكم الابتدائي وأن محكمة الاستئناف قامت بتأييد الحكم الابتدائي، وحيث قامت المدعية بالطعن في الحكم الاستئنافي بالنقض، حيث قضت محكمة النقض على النحو التالي: ” أن المحكمة التي بنت قرارها على علل من بينها أن الوكالة لم تتضمن إذنا صريحا ببيع العقار في حين أنه بالاطلاع على نص الوكالة يتبين أنها تضمنت إذنا صريحا ببيع العقار المدعى فيه، تكون قد عللت قرارها تعليلا فاسدا وهو بمثابة انعدام التعليل، مما يعرضه للنقض والإبطال “.

وأخيرا يمكن القول، أنه يجب على المشرع والقضاء أن يكونوا أكثر حزما وخصوصا فيما يتعلق بالوكالات في البيوعات العقارية، وذلك لما للعقار من أهمية في حياة الفرد والمجتمع، وتفاديا للتلاعبات والتحايل الذي يقع من طرف الوكلاء في استغلال عجز أو جهل أو طيش الموكلين في قيامهم بإدارتهم لأموالهم العقارية بأنفسهم.

 

 

 

 

 

 

 

لائحة المراجع:

الكتب العامة

  • الطيب الفصايلي: ” النظرية العامة للالتزامات “، الجزء الأول، مصادر الالتزام، مطبعة النجاح الجديدة، طبعة 1996.
  • عبد القادر العرعاري: ” مصادر الالتزامات، نظرية العقد “، الطبعة الثانية 2005.
  • نزهة الخلدي: ” الموجز في النظرية العامة للالتزامات “، الكتاب الأول مصادر الالتزام، مطبعة تطوان، الطبعة الثانية 2015، ص 57.

الرسائل الجامعية

  • إدير سعاد: ” تجاوز الوكيل الحدود المرسومة للوكالة “، مذكرة لنيل شهادة الماستر في الحقوق قسم القانون الخاص تخصص القانون الخاص الشامل، جامعة عبد الرحمن ميرة-بجاية، السنة الجامعية 2015/2016.
  • علاء فاهم حسن شلاش الجبوري: ” الإطار القانوني لعقد الوكالة المدنية “، دراسة مقارنة، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير، كلية القانون، جامعة بابل، سنة 2012.
  • محمد شهيب: ” الادعاء بسوء نية في قضايا التحفيظ وفق مستجدات القانون 07-14 “، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص تخصص العقود والعقار بجامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بوجدة، السنة الجامعية 2017/2018.
  • هبة بوذراع: ” النظام القانوني لعقد الوكالة “، مذكرة تكميلية لنيل شهادة الماستر، شعبة الحقوق تخصص قانون الأعمال، جامعة العربي بن مهيدي، أم البواقي، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم الحقوق، السنة الجامعية 2015/2016.

 

[1]  / إدير سعاد: ” تجاوز الوكيل الحدود المرسومة للوكالة “، مذكرة لنيل شهادة الماستر في الحقوق قسم القانون الخاص تخصص القانون الخاص الشامل، جامعة عبد الرحمن ميرة-بجاية، السنة الجامعية 2015/2016، ص 11.

[2]  / ينص الفصل 879 من قانون الالتزامات على تعريف الوكالة كالتالي: ” الوكالة عقد بمقتضاه يكلف شخص شخصا آخر بإجراء عمل مشروع لحسابه … “.

[3]  / محمد شهيب: ” الادعاء بسوء نية في قضايا التحفيظ وفق مستجدات القانون 07-14 “، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص تخصص العقود والعقار بجامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بوجدة، السنة الجامعية 2017/2018، ص 1.

[4]  / قرار صادر عن محكمة النقض عدد 259/7، المؤرخ في 03/05/2016، ملف مدني بغرفتين عدد 301/1/4/2013، منشور بمجلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ص 399.

[5]  / عبد القادر العرعاري: ” مصادر الالتزامات، نظرية العقد “، الطبعة الثانية 2005، ص 87.

[6]  / هبة بوذراع: ” النظام القانوني لعقد الوكالة “، مذكرة تكميلية لنيل شهادة الماستر، شعبة الحقوق تخصص قانون الأعمال، جامعة العربي بن مهيدي، أم البواقي، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم الحقوق، السنة الجامعية 2015/2016، ص 6.

[7]  / الطيب الفصايلي: ” النظرية العامة للالتزامات “، الجزء الأول، مصادر الالتزام، مطبعة النجاح الجديدة، طبعة 1996، ص 65.

[8]  / نزهة الخلدي: ” الموجز في النظرية العامة للالتزامات “، الكتاب الأول مصادر الالتزام، مطبعة تطوان، الطبعة الثانية 2015، ص 57.

[9]  / علاء فاهم حسن شلاش الجبوري: ” الإطار القانوني لعقد الوكالة المدنية “، دراسة مقارنة، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير، كلية القانون، جامعة بابل، سنة 2012، ص 156.

[10]  / ينص الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود على ما يلي: ” الالتزامات الناشئة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات التي يقررها القانون “.

[11]  / ينص الفصل 461 من قانون الالتزامات والعقود على ما يلي: ” إذا كانت ألفاظ العقد صريحة، امتنع البحث عن قصد صاحبها “.

[12]  / ينص الفصل 893 من قانون الالتزامات والعقود على ما يلي: ” الوكالة العامة هي التي تمنح الوكيل صلاحية غير مقيدة لإدارة كل مصالح الموكل، أو هي التي تمنحه صلاحيات عامة غير مقيدة في قضية معينة “.

[13]  / عماد صالح الحمام: مرجع سابق، ص 361.

[14]  / -ينص الفصل 906 من قانون الالتزامات والعقود على ما يلي: ” على الوكيل أن يعلم الموكل بكل الظروف التي قد يكون من شأنها أن تحمله على إلغاء الوكالة أو تعديلها “.

-ينص الفصل 907 من قانون الالتزامات والعقود على ما يلي: ” على الوكيل بمجرد إنهاء مهمته، أن يبادر بإخطار الموكل بها مع إضافة كل التفاصيل اللازمة التي تمكن هذا الأخير من أن يتبين، على نحو مضبوط الطريقة التي أنجز بها الوكيل تلك المهمة …”.

[15]  / عماد صالح الحمام: ” حدود الوكالة بالنسبة للوكيل “، مجلة جامعة تكريت للحقوق، المجلد الخامس، العدد 2، الجزء الأول، سنة 2020، ص 340.

[16]  / قرار عدد 170 صادر عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء بتاريخ 13/02/1990، ملف رقم 312/1/1990، الذي جاء فيه:” حيث إن من الوصل الذي أدلى به الطاعن والمسلم إليه من السمسار إن إتمام البيع معلق على موافقة المالك، وأن المالك ينفي أن يكون أعطى موافقة على البيع، كما ان الطاعن لم يثبت هذه الموافقة، وأن وجود بيوع أخرى قد وافق عليها المالك لا يلزم منه موافقة على هذا البيع، إذا الموافقة على البيع كأي تصرف ناقل للملكية يجب أن تكون صريحة وواضحة ولا يمكن استنتاجها من وقوع عمليات مماثلة على فرض وجودها “.

[17]  / ينص الفصل 920 من قانون الالتزامات والعقود على ما يلي: ” إذا أبرم الوكيل العقد باسمه الشخصي، كسب الحقوق الناشئة عنه وظل ملتزما مباشرة تجاه من تعاقد معهم كما لو كانت الصفقة لحسابه ولو كان هؤلاء قد علموا بأنه معير اسمه أو أنه وكيل بالعمولة “.

[18]  /قرار المجلس الأعلى عدد 146، المؤرخ في 15/01/2003، ملف مدني عدد 1822/1/2/2002، غير منشور.

[19]  / ينص الفصل 893 من قانون الالتزامات والعقود على ما يلي: ” الوكالة العامة هي التي تمنح الوكيل صلاحية غير مقيدة إرادة كل مصالح الموكل، أو هي التي تمنحه صلاحيات عامة غير مقيدة في قضية معينة.

وهي تمنح الصلاحية لإجراء كل ما تقتضيه مصلحة الموكل وفقا لطبيعة المعاملة وعرف التجارة، … “.

-ينص الفصل 921 من قانون الالتزامات والعقود على ما يلي: ” الوكيل الذي يتعاقد بصفته وكيلا وفي حدود وكالته، لا يتحمل شخصيا أي التزام تجاه من يتعاقد معهم، ولا يسوغ لهؤلاء الرجوع إلا على الموكل “.

-ينص الفصل 922 من قانون الالتزامات على ما يلي: ” ليس للغير أية دعوى على الوكيل، بوصفه هذا من أجل إلزامه بتنفيذ الوكالة ما لم تكن الوكالة قد أعطيت له لمصلحتهم أيضا “.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى