سلسلة الابحاث الجامعية و الأكاديميةفي الواجهةمقالات قانونية

نظام التصدي في قانون المسطرة المدنية – سلسلة الابحاث الجامعية و الاكاديمية الاصدار رقم 49 لسنة 2023 –

نظام التصدي في قانون المسطرة المدنية - سلسلة الابحاث الجامعية و الاكاديمية الاصدار رقم 49 لسنة 2023 -

 

 

مقدمة

تنتهي الخصومات والدعاوى في الأحوال العادية بصدور أحكام فاصلة في النزاع، ولذلك تعتبر الأحكام القضائية، الخاتمة الطبيعية للتقاضي، وهي الهدف الذي يسعى إليه المتقاضون من مباشرة الدعوى، وبصدور الحكم في الدعوى تكون المحكمة قد أنهت مهمتها وفصلت في النزاع[1].

 ولا شك أن نفوس المتقاضين قد لا تسلم من الضغائن والأحقاد، فلا يتصور أن يصدر القضاء مطابقا لحقيقة الواقع، كما أن الشعور بعدم الثقة هو شعور طبيعي لذى المحكوم عليه[2].

فالأحكام من أعمال القضاة الذين يعدون بطبعهم بشرا معرضين للخطأ، إذ يمكن أن يخطئ القاضي في تطبيق القانون على ما ثبت من وقائع، أو في تقدير الوقائع واستخلاص النتائج منها، كما يمكن أن يتعلق الخطأ بالإجراءات التي ينبني عليها الحكم والأوضاع التي لابست صدوره أو بالحكم ذاته. لهذا فإنه من العدل أن تعطى للمتقاضين وسيلة تمكنهم من تفادي الأخطاء والعيوب التي قد تشوب الأحكام الصادرة عنهم، وهذه الوسيلة هي ما يصطلح عليها بطرق الطعن[3]، التي يقصد بها الوسائل التي يضعها المشرع في متناول الأطراف في النزاع أو في متناول الغير للتظلم من حكم أضر بحقوقهم أو بمصالحهم، وذلك ابتغاء إزالة أو تخفيف الضرر الذي ألحقه بهم الحكم المطعون فيه[4].

 وعليه، تظل طرق الطعن الملاذ القانوني المشروع الذي يلجأ إليه المحكوم عليهم لبسط نزاعهم من جديد أمام القضاء، في محاولة منهم لتدارك ما فاتهم أمام محكمة الحكم المطعون فيه، أو لتقديم وثائق، أو دفوعات جديدة علها تحمل محكمة الطعن على مراجعة المواقف غير القانونية التي اتخذتها من النزاع المحاكم المطعون في حكمها[5].

لهذا السبب أوجدت التشريعات المسطرية مند قديم الزمان طرقا للطعن في الأحكام وعمدت إلى تنويعها، مراعية في ذلك تدرج مراتب القضاة واختلاف أنواع تجربتهم، وتبيان أوضاع المتظلمين من أحكامها، كما تصورت لكل طعن غاية محددة، ووضعت له شروطا وقواعد وإجراءات بما يخدم غايته المفترضة[6]، وأهم تصنيف يرد عليها هو تقسيمها إلى طرق طعن عادية وأخرى غير عادية.

هكذا ويعتبر نظام الطعن بالاستئناف طريقا من طرق الطعن العادية، تختص به محكمة أعلى درجة، للنظر في الأحكام الصادرة عن المحاكم الابتدائية[7]، قصد البت فيها من جديد، وإصلاح العيوب والأخطاء التي تكون قد شابت هذه الأخيرة. وهو الوسيلة القانونية التي يطبق بها المشرع مبدأ التقاضي على درجتين، بمنح الفرصة أمام المتقاضين للحصول على حكم أكثر عدالة وذلك بهدف تعديله، أو إلغائه، وفقا لما يقرره القانون، حيث لا يجوز إلا مرة واحدة، تجنبا لإطالة أمد التقاضي ووضع حد للنزاعات[8].

وعليه فإنه يترتب عن تقديم الطعن بالاستئناف مجموعة من الآثار من بينها، الأثر الناقل للاستئناف، والذي يعتبر من بين الأدوات الفنية التي ينتقل بموجبها النزاع إلى محكمة الدرجة الثانية بجميع ما يتضمنه من عناصر قانونية وموضوعية، لتعيد بحثه من جديد في جميع جوانبه القانونية والواقعية، وما يترتب عن ذلك من خروج النزاع عن ولاية محكمة الدرجة الأولى[9].

وإذا كان الأثر الناقل للاستئناف هو الأصل، والذي يسمح لمحكمة الدرجة الثانية بإعادة فحص النزاع من جميع الجوانب وبنفس السلطات التي كانت لقضاة الدرجة الأولى، فإن التشريعات اهتدت إلى سن تقنية أخرى إلى جانب الأثر الناقل للاستئناف، من أجل إنهاء النزاع وتجنب العودة من جديد أمام محكمة الدرجة الأولى، خاصة في الحالة التي لا يتعلق الأمر فيها سوى بتظلم من دفع شكلي لم تقبله محكمة الدرجة الأولى، واعتبرته محكمة الدرجة الثانية موجبا لإلغاء حكمها. وهو ما يسمى “بنظام التصدي“، وهو ما يشكل موضوع بحث رسالتنا هذه.

وقد نشأ نظام التصدي في القانون الفرنسي القديم كوسيلة لزيادة نفوذ المحاكم الملكية التي كانت تستأنف أمامها أحكام المحاكم الأخرى[10]. حيث كان معمولا به في إطار القانون الكنسي مند سنة 1213 من قبل أساقفة لا تران le concile de Latran ومنه انتقل إلى القوانين الفرنسية، وكان يسمي بالتصدي المتعلق بالقانون، تميزا له عن التصدي المتعلق بالعفو المترتب عن الرسائل المسماة رسائل الكوميتيموس commitimus الذي كان يخول أصحاب النفوذ إبعاد خصومهم من محكمتهم العادية إلى محكمة أخرى أكثر قربا منها في القيمة والدرجة. وعليه فجذوره التاريخية تعود إلى التشريع الفرنسي، ومنه التشريعات المقارنة، بما فيها التشريع المغربي[11].

هكذا، فالتشريع المغربي، عرف هذا النظام منذ وضع أول قانون مدني إجرائي سنة 1913[12]، إلا أنه لم يحظى بتنظيم محكم من طرف المشرع، الشيء الذي دفع بهذا الأخير إلى تعديل المقتضيات القانونية المنظمة له، بل وإلغائها، وهو ما قام به فعلا بمقتضى مسطرة 1974[13]، والتي غيرت من طبيعته من رخصة إلى واجب[14].

أهمية الموضوع:

يحظى موضوع نظام التصدي بأهمية أساسية على مستوى عدة جوانب منها:

الأهمية الاقتصادية: وتتجلى في تحقيق الاقتصاد الإجرائي وتقليص النفقات على المتقاضين، خاصة بعد تمكين محكمة التصدي من سلطة البت في جوهر النزاع، دون حاجة لإعادة الأطراف إلى المرحلة الابتدائية، وهذا ما من شأنه تحقيق ما يسمى بالزمانة القضائية.

الأهمية القانونية: وتتجلى في الثغرات والتنظيم غير المحكم الذي يعرفه هذا النظام على مستوى القوانين الإجرائية، وهو ما سيساعد المشرع بالنهوض من أجل سن تنظيم من شأنه سد هذه الثغرات التي يطرحها هذا الموضوع.

الأهمية الاجتماعية: للتصدي أهمية اجتماعية تتمثل في تقوية ثقة المتقاضين في مرفق القضاء، خاصة عند اللجوء للمحاكم من أجل الحصول على الحماية القضائية لحقوقهم، وكذلك من شأن هذا النظام تحقيق ما يسمى بالنجاعة القضائية.

 

دوافع اختيار الموضوع:

يعتبر نظام التصدي من المواضيع التي تتسم بالبساطة ظاهريا، وهي البساطة التي تخفي من ورائها أسئلة جوهرية تتسم بالتعقيد، وتطرح قضايا عملية غامضة.

وعلى هذا الأساس فإن لا من دواعي اختيارنا لهذا الموضوع، هو القصور التشريعي الذي يحظى به هذا النظام من طرف المشرع في قانون المسطرة المدنية، بالإضافة إلى ما يطرحه من نقاش وإشكالات كبيرة على مستوى الواقع العملي للمحاكم.

وعلى هذا الأساس فإننا اخترنا البحث في موضوع نظام التصدي، من أجل تسليط الضوء على جميع جوانبه وكذلك الاطلاع على الإشكالات والثغرات التي يطرحها هذا الموضوع على مستوى القانون والقضاء.

إشكالية الموضوع:

يطرح هذا الموضوع إشكالية أساسية مفادها، إلى أي حد استطاع المشرع المغربي النجاح في وضع تنظيم محكم لنظام التصدي بالكيفية التي من شأنها سد الثغرات القانونية، وتجاوز الإشكالات التي يطرحها هذا النظام على مستوى الاجتهاد القضائي؟

وتتفرع عن هذه الإشكالية المحورية مجموعة من الإشكاليات الجزئية:

  • ما هو هدف وغاية المشرع المغربي من وضعه لنظام التصدي؟
  • هل الأثر الناقل للاستئناف ونظام التصدي يشكلان نفس المعنى؟ أم لكل واحد منهما مجال تطبيقه؟
  • ما الفرق بين الإبطال والإلغاء الوارد في الفصل 146 من ق م م المنظم لشروط التصدي؟
  • متى تكون الدعوى جاهزة للبت فيها؟ ومن له السلطة التقديرية في جاهزيتها؟
  • ما هي الآثار التي يرتبها نظام التصدي على سلطات المحكمة والأطراف؟

مناهج البحث:

من أجل الإجابة عن الإشكالية التي يطرحها موضوع التصدي، فقد اعتمدنا على كل من المنهج التحليلي والمقارن، وذلك من خلا استعراض أهم النصوص القانونية التي تنظم هذا الأخير، والاجتهادات القضائية وتحليل مضمونها ومقارنتها بالتشريعات الأخرى، وذلك من خلال التصميم الآتي:

الفصل الأول: مفهوم نظام التصدي

الفصل الثاني: نطاق التصدي وآثاره

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى