في الواجهةمقالات قانونية

مفهوم الأمن الطاقي: أبعاده وتجلياته واستراتـيجــيات تعزيزه

مفهوم الأمن الطاقي: أبعاده وتجلياته واستراتـيجــيات تعزيزه

من إعداد: جميلة مرابط

 

الأمن مسألة هامة ورئيسية في حياة الدول والشعوب والأفراد والمؤسسات على حد سواء، يحتل موقع الصدارة في استراتيجيات الدول وتفكيرها السياسي وداخل دوائر صناع القرار، لارتباطه بالمصالح الأمم والشعوب في جميع مجالات حياتها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية. فانعدام الأمن يعني فناء الأمة ومكتسباتها وبالتالي القضاء على كيانها واختفاءها من قائمة الوجود بسبب ما سوف يصيبها من فوضى تؤدي إلى التفكك ثم الانهيار.

لذا يعتبر مفهوم الأمن بكل أبعاده ومراميه أولوية يتصدر توجهات السياسة الخارجية لأي إدارة، ونجذ على القائمة السياسات الأمنية قضية الأمن الطاقي الذي أصبح يدرج ضمن الأجندة السياسية للدول من أجل ضمان أمن إمدادها. فمنذ الثورة الصناعية واعتماد الطاقة المركزة في المحرك البخاري نقلت الإنسان إلى عالم جديد لم يكن يحلم به، مست جميع ركائز الحضارة، شكلت العمود الفقري للاقتصاد، وأصبحت سلعة استراتيجية تأثر بشكل كبير في السياسة الدولية، ومحورا اهتمت به مؤسسات الفكر والرأي الغربية والمؤسسات الأكاديمية في كافة دول العالم.

فالتاريخ البشري القديم والحديث، كان شاهدا على أن غالبية الصراعات الدولية كان وسيكون محوره الطاقة وإن أخذ ألونة وأشكال وذرائع خفية.[1] خاصة النفط، فهو المنتوج الوحيد المدرج في مادة الأمن الوطني “فهو قوة في زمن السلم على تطوير مؤسسات صناعية عظيمة، ولنقبل البضائع والناس برا وبحرا وجوا. وقوة في زمن الحرب على توسيع الصناعة وممارسة القوة عبر مسافات شاسعة”.[2]

لذا غالبية الصراعات التي شهدها القرن العشرين كانت بسبب الأمن مصادر الطاقة والتحكم بها، لأن أي خلل في إمدادات يؤثر سلبا على الاقتصاد العالمي خاصة الدول العظمى؛ التي سعت بكل الطرق على فرض سيطرتها على هذه المصادر، تارة بالقوة العسكرية وسياسات عدوانية وتارة أخرى دبلوماسية سلمية تسعى من ورائها تحقيق المصالح حسب التطورات الدولية[3].

 وفي هذا الصدد، بدأت تطرح الكتابات الأكاديمية تعاريف لمفهوم الأمن الطاقي، ويعتبر تشرشل أول من طرح تعريفا لأمن الطاقة، إذ أشار إلى أن “أمن الطاقة يكمن في التنوع والتنوع فقط”،[4] ومنذ ذلك الوقت حتى الآن فمازال التنوع هو المبدأ الحاكم لقضية أمن الطاقة؛ فالتعريف التقليدي لأمن الطاقة، ارتكز في البداية على تجنب أزمات الطاقة. إلا أن العقود القليلة الأخيرة شهدت مجموعة من التحولات التي كشفت عن عدم كفاية المقترب التقليدي لأمن الطاقة. ودفعت باتجاه طرح تعريفات جديدة، جعلت الأمني الطاقي يتجاوز إطاره التقليدي المنحصر في تأمين وضمان مصادر الطاقة، إلى ضرورة تقديم استراتيجية أمن الطاقة جديدة تستجيب لمتطلبات البيئية وتحقيق تنمية شاملة تراعي أهداف الدول الصاعدة التنموية.

تسعى هذه الدراسة إلى ربط مدى التأثير الذي تمارسه الاجراءات الأمنية المتخذة لضمان الأمن الطاقي على السياسة العالمية وعلى العلاقات الدولية بصفة عامة في ظل عدم التوازن في التوزيع. وفي هذا السياق سنعمل على تأطير مفهوم الأمن الطاقي ووضعه في قالبه الكرونولوجي، بتحديد التطور التاريخي للمفهوم من حيث طبيعته ومجالاته والاتجاهات الحديثة، بينما نستعرض في الشق الثاني من هذه الدراسة المبادئ الحاكمة والاستراتيجيات المعززة لأمن الطاقة ووسائل ضمانه.

ولتوضيح الأمر وبأسلوب هندسي، وبطريقة تحليلية واستنباطية، تم الاعتماد على المنهج التاريخي فمن المؤكد في هذا الإطار، أن البعد التاريخي يعد جزءا هاما في أي دراسة علمية جادة تتناول أي واقع معاش، فدون هذا العمق التاريخي، تصبح الأحداث المتعلقة بهذا الواقع القائم مجرد أحداث مفتعلة، لا تخضع لأي تحليل علمي، دون أن ننسى المنهج التحليلي لتبيان السياسات والإستراتيجيات المتخذة من طرف الأطراف الدولية لضمان أمنها الطاقي وطرق صياغتها.

المــبــحث الأول: مرامي وأبعاد مفهوم الأمــن الطاقي وتطوره التاريخي

  رغم أن بداية استخدام مفهوم الأمن الطاقي يعود إلى فترة الحرب العالمية الأولى، إلا أن الفكر السياسي منذ القدم وحتى وقتنا الحاضر لم يغفل عن التطرق لموضوع الأمن كغيره من المفاهيم المتداولة في العلاقات الدولیة.

  فنجد أن الفكر السياسي اليوناني متمثلا بأرسطو يتحدث عن قوه الدولة وكيفية المحافظة عليها وعلى أمنها واستقرارها ويحدد الأخطار التي قد تهددها. كذلك الفكر السياسي المعاصر والحديثة اهتم بالأمن وحدد أنواعه وبين جوانبه.[5]

وفي السنوات الأخيرة طرحت الكتابات الأكاديمية مجموعة جديدة من المفاهيم الأمنية في محاولة لتوسيع وتعميق مفهوم الأمن، ومنها مفهوم الأمن البيئي، والأمن الإنساني، والأمن المجتمعي، والأمن الغذائي، الأمن الطاقي. فهذا الأخير، اتسمت الدراسات التي تناولته بالتمايز فيما بينها، لأنه مفهوم محير خاصة في ظل صعوبة الاتفاق على تعريف محدد له، فغالبية مؤسسات الفكر تناولت المفهوم من وجهة نظر وموقف دولها، وركزت مناقشة موقف الأدبيات المختلفة من قضية أمن الطاقة، والتي انقسمت إلى فريقين: الأول تعامل مع أمن الطاقة كقضية حقيقية، بينما تعاملت المجموعة الثانية مع أمن الطاقة كمفهوم وهمي لا يرتبط بواقع محدد.[6]

كما نسجل في هذا الإطار، وحسب التوصيات التي أصدرتها المؤسسات الدولية كالبنك الدولي والأمم المتحدة أن تحقيق أمن الطاقة يتطلب منا تبني اقترابات تعاونية على المستوى الدولي، وكذلك عدة مبادرات محلية ودولية. وبالتالي فإن تحديد طبيعة هذا المفهوم تفرض علينا تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين، الأول نستعرض فيه المقاربات التقليدية السائدة في المراحل الأولى من ظهور المفهوم حسب تطورها التاريخي، على أمل أن نتناول في مطلب ثاني الإتجاهات الحديثة التي فرضتها التطورات الدولية.

المـــطـــلب الأول: المــقاربــات التــقلــيدية للأمـــن الطــــاقــــي

 أصل كلمة الأمن في اللغة “طمأنینة النفس و زوال الخوف”. أما اصطلاحا: فحسب دائرة المعارف البریطانیة هو”حمایة الأمة من خطر القهر على ید أجنبیة”؛[7] فالمصطلح ارتبط أكثر بحالة اللاأمن الناتجة عن التهديد العسكري، لكون الدراسات الأمنية في فترة الحربين العالميتين من اختصاص العسكريين والاستراتيجيين، بالإضاقة إلى سيطرة المدرسة الواقعية في تفسير العلاقات الدولية خلال هذه المرحلة وما بعد الحرب الباردة، حيث اتفق الواقعيين على أن الأمن هو الهدف الدائم للسياسة الخارجية للدول المتمثل في حماية مصالح الدولة الوطنية من التهديدات الخارجية التي تحول دون تحقيقها باستخدام القوة كوسيلة نهائية لاستئصال مصادر التهديد وضمان استمرارية تحقيق تلك المصالح.[8]

 وفي هذه الفترة(ما بين الحربين العالميتين) ارتبطت المصالح الحيوية لأي موقع قوة بتدفق الطاقة المركزة في النفط، فالسيطرة عليه تعني ضمان استمرار عمل الآلة الصناعية والآلة العسكرية معًا، أي الرخاء والقوة، عامل مهم في تحديد ميزان القوى في الحرب. هذه الأهمية تعيد لنا إلى الأذهان مقولة اللورد “كرزون” خلال الحرب العالمية الأولى في{ أن الحلفاء عاموا إلى النصر على موجة من النفط وأن الافتقار إلى النفط كان من العوامل المهمة في هزيمة الألمان}[9] وفي نفس الاتجاه يقول الدكتور “هربرت فيز” رئيس اللجنة الحكومية المشتركة للنفط أثناء الحرب العالمية الثانية {عادت تجربتنا لتأكد مدى الحاجة إلى كميات كبرى من النفط لخوض الحرب، وكيف أنه عنصر حاسم في النصر والهزيمة}.[10]وهذه الأهمية التي اكتسبتها الطاقة خاصة النفط انعكست بدورها على مناطق تواجده المحصور بشكل عام في مناطق محددة (بالشرق الأوسط، والخليج العربي، وبعض الدول أمريكا اللاتينية، وإفريقيا). ومن هنا جاء إعلان ونستون تشرشل قائد أول للبحرية البريطانية أن الأمان والثقة في النفط تكمن في التنوع وحده. بالتالي ارتكز المقترب التقليدي في التعامل مع قضية أمن الطاقة، على أمن العرض من خلال التركيز على توافر الإنتاج الكافي في تأمين الدخول للنفط والمصادر الأخرى من الطاقة بكميات كافية للحيلولة دون وقوع أزمات الطاقة.

بالتالي فإن هذا التعريف يرتكز على أمن العرض. مما يثير عدة إشكاليات متعلقة بمدى استقرار أسواق الطاقة، وإشكالية السعر المناسب. أضف إلى هذا التحولات التي عرفها العالم ما بعد الحرب الباردة، وأثر بشكل كبير على قضايا الطاقة حيث لم يعد غياب أمن الطاقة مرتبطا بوقف الإمدادات كمصدر وحيد للتهديد، بل هناك معطيات دفعت بالدوائر البحث العلمي والأكاديمية على تجاوز المحددات التقليدية نحو تبني تعريفات واسعة تمتد لتشمل التطور التكنولوجي وعمليات النقل ومع الأخذ بالأبعاد البيئية والاجتماعية والتنموية والأوضاع السياسية للدول المنتجة… وغير من الاعتبارات.

المـــطـــلب الثــانـــي: الاتجاهات الحديثة المحددة للأمن الطاقي

ثمة تحديات جديد بارزة في الآونة الأخير أكثر اتساعا وتنوعا وأهمية وتعقيدا لأمن الطاقة، مما يستدعي وضع المفهوم في إطار يساعد على خلق استراتيجية متعددة الأوجه لمعالجة هذه الأخطار المتعددة.

فقد بدأت تطرح بعض الدراسات، قائمة طويلة من التهديدات لأمن الطاقة؛ ومن بينها النزاعات المسلحة والقرصنة وحتى الكوارث الطبيعية. ومن ناحية أخرى، وبالنظر إلى توزيع الطاقة الهيدروكربونية عالميا، توضح لنا أن النسبة الأكبر من احتياطات عالميا ترتكز في مناطق تعاني من عدم الاستقرار السياسي[11] ثمة أيضا مخاطر بيئية التي يطرحها التسخين العالمي والتغير المناخي.

بالإضافة إلى ذلك، الخوف العام من كابوس أمن الطاقة الأقصى: أن تقع مواد نووية في أيدي المنظمات الإرهابية. تستطيع هذه المنظمات أن تنفذ هجمات لشبكات نقل مجمع الطاقة وأن تكون أهدافا مغرية لهؤلاء الذين يركزون على الاضطراب المجتمعي…

كافة تلك المتغيرات دفعت الباحثين والساسة إلى إعادة النظر في المفهوم التقليدي لأمن الطاقة، لكن الغريب في الأمر أننا لا نجد اتفاق حتى الآن بشأن تعريف محدد للمفهوم، والصلة بينه وبين مفاهيم الأمن الوطني والعالمي. ما رد ذلك إلى تباين بين الدول المستهلكة والمنتجة في تحديد المفهوم، إضافة إلى إتجاه يميل أن قضية أمن الطاقي تتطلب تعاملا فوق العادة تتجاوز البعد الإقتصادي إلى قضايا أخرى.

وما يمكن استنتاجه مما سبق أن مفهوم أمن الطاقة يغير شكله وأبعاده المختلفة من فترة للأخرى ومن دولة لأخرى. ومن أهم التعاريف الحديثة والشاملة لكل للأبعاد السابق تعريف الذي قدمته المؤسسات الدولية كالبنك الدولي[12] والوكالة الدولية للطاقة[13] والأمم المتحدة.

وكباحثة متخصصة في مجال الدراسات الطاقية بكل أنواعها، وعلى ضوء التحولات التي شهدتها قضايا الطاقة يمكن القول أن الأمن الطاقي يشير “إلى تلك أنظمة مرنة للطاقة، هذا النظام المرن سوف يكون قادرا على تحمل التهديدات عبر مجموعة من التدابير الأمنية المباشرة-مثل المراقبة والحراسة- وغير المباشرة مثل تنويع مصادر الطاقة والاعتماد على بنى تحتية أكثر أمنا وأقل تعرضا للمخاطر.

 

 

 

 

المبحث الثاني: استراتيجيات تعزيــز أمــن الطـــــاقة ووســائــل ضمانــه

مند الثورة الصناعية أصبح للطاقة دورا أساسيا وحاسما في الاقتصاد العالمي، فمعظم الصراعات كانت حول التزويد والسيطرة على الموارد الطاقية، وكذا التحكم في المناطق التي تتوفر فيها هذه المادة، حتى تتمكن من توفير إمداداتها في ظل تزايد الطلب عليها، ومن تم أصبح أمن الطاقة أحد محددات السياسة الخارجية والدفاعية للدول لاسيما القوى الصاعدة، ببروز لاعبين جدد على الساحة الدولية والإقليمية أحدثت تحولات في خريطة الطاقة على المستوى العالمي.

أصبح التوتر والخوف من نقص الإمدادات الطاقية، من مواضيع الساعة ومحورا رئيسيا في نقاشات السياسة الدولية، وخصوصا لدى الدول الرئيسية المستهلكة للطاقة الأحفورية، فأي خلل في إمدادات الطاقة إلى السواق العالمية أو الارتفاع في أسعار الطاقة، يؤثر بالسلب على الاقتصاد. فلا أحد يستطيع إنكار ما خلفته أزمة الطاقة 1973 من رعب توقف المصانع وتدني مستويات الإنتاج والنمو الإقتصادي، خاصة للولايات المتحدة الأمريكية الشيء الذي دفع بالرئيس جيمي كارتر في يناير 1980 أن يصدر ما عرف بـ” مبدأ كارتر” الذي جاء فيه:” ليكن موقفنا مطلق الوضوح، إن أي محاولة من قبل أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج الفارسي سيعتبر هجوما على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، وسيتم صد ذلك الهجوم بكل السبل اللازمة من ضمنها القوة العسكرية[14].

وهو ما أدى إلى تبني وصياغة استراتيجيات وسياسات لتعزيز الأمن الطاقي، تتراوح بين التهديد والشدة والنعومة، أو اعتماد برامج شراكات تعاونية وانفتاحية بما يخدم المصالح كل طرف. إلا أن التطورات التي عرفها العالم نقلت قضايا الطاقة وضمان أمن الحصول عليها من المفاضلة بين الاقتصاد والبيئة خاصة بالنسبة للدول الأسيوية، التي تنظر إلى الطاقة باعتبارها ضرورية من  أجل تحقيق التنمية. والطلب المتزايد عليها سيؤدي إلى حدوث مجموعة كبيرة من الآثار الاقتصادية والإستراتيجية وكذا البيئية والاجتماعية، مما سيزيد من تكلفة تأمينها فأصبحنا أمام معطيات جديدة تفرض إجراءات جديدة تتلاءم معها.

وبناءا على ما سبق، سنبين في المطلب الأول من هذا المبحث الأساليب والاستراتيجيات التي لجأت إليها الدول العظمى المسيطرة على النظام الدولي قبل وبعد الحربين العالميتين لتعزيز أمنها الطاقي، وفي المطلب الثاني وحسب التحولات التي عرفها العالم فرضت حلول إجرائية تتلاءم مع القضايا التي صاحب الطاقة من تلوث والتنمية…

المطلب الأول: السياسات الجيواسراتيجية لفرض الأمن الطاقي

يعتبر التزود بالطاقة النفطية الهدف الأول والوحيد الذي اهتم به جميع أقطار العالم فقيرها وغنيها، المتقدم منها أو النامي. فلم يمر يوم على العالم، لم يكن فيه النفط أو تأثيراته المختلفة الاقتصادية والسياسية، والاجتماعية مجتمعة أو منفردة، موضوع نشرة جديدة، أو مقال جديد في الدوريات والكتب المتخصصة أو غيرها.

فقد كان سببا في إشعال الحروب التي عاشتها الإنسانية خلال القرن العشرين، وغير من السمات الجيوسياسية للعلاقات الدولية. فقد شهد مطلع القرن التاسع عشر تنافسا حاد  بين القوى العظمى لسيطرة على المنابع التزود، خاصة الإمبراطورية البريطانية التي سارعت إلى اعتماد عدة استراتيجيات ومن أبرزها استراتيجية وضع اليد الخفية، ولو من بعيد. ولنا نماذج فيما يعرف باتفاقيات ترسيم الحدود[15] التي فرضتها على مستعمراتها حتى تكرس نوعا من التفرقة وعدم الاستقرار الداخلي بين مناطق نفوذها، وجاء هذا الترسيم حسب ما يخدم مصالحها عند الانسحاب من المنطقة ووضع اليد على المنابع النفطية لضمان أمنها الطاقي.

 وفي نفس الإتجاه نجد ميثاق كوينسي الذي أبرم في 14 فبراير 1945، رمز للإستراتيجية الأمريكية الأمنية الداعية للتواجد في المنطقة العربية، حيث اقترحت واشنطن على المملكة العربية السعودية ضمان الدفاع عن أراضيها في حالة تعرضها لاعتداء خارجي، في المقابل تستفيد واشنطن من الأفضلية في مجال الامتيازات النفطية السعودية.[16]

ومن بين الأهم الاستراتيجيات المعتمدة لضمان لأمن إمدادات الطاقية، السيطرة على المناطق الجيوبوليتيكية خاصة ممرات أو المنافذ المائية كالبحار والمحيطات والخليجان. فهذه المناطق تعتبر اختزالا مثاليا لتاريخ العلاقات الدولية، خاصة الشرق الأوسط فبسبب وفرة النفط والغاز، شكل مركز انجذاب، وأصبح ضمن الأجندة السياسية الخارجية للدول العظمى، وأيضا منطقة بحر قزوين، وهذه المواقع تدخل في إطار إستراتيجية التنوع الجغرافي للمصادر. هذه الإستراتيجية تتخلص بتجنب الاعتماد على عدد محدود من نقاط الإمداد، أي أنها لا تعتمد على بلد واحد من اجل الإمداد بالنفط، بل تكون معتمدة على عدة بلدان حتى تكون لها بدائل في حالة ما وقع نزاع أو ارتفاع أو نقص في الإمدادات من جهة أخرى.[17]

 وجل هذه المناطق وللأسف الشديد تعاني إلى يومنا هذا عدم الاستقرار السياسي بسبب المصادر الطاقية وإذا لم يكن هدفا معلنا يظل هدف خفي يصعب إنكاره.[18]

المطلب الثاني: الوسائل الإجرائية لضمان الأمن الطاقي

في الحقيقة أخذ مفهوم أمن الطاقة عند بداية القرن الحالي أبعاد أكثر اتساعا، فلم يعد يشمل مجرد تدفق النقط، لأن الدول المستهلكة الرئيسية في العالم استطاعت تجاوز الأمر من خلال إنشاء مخزونات النفطية الاحتياطية، والذي يعد المخزون الاستراتيجي الأمريكي من أهمها. بالإضافة إلى اعتماد سياسات ترشيد استخدام الطاقة، خاصة مقترح هجران المصادر الهيدروكربونية نحو المصادر طبيعية متجددة عبر سياسات الانتقال التدريجي.

فرغم ما تتميز به مصادر الطاقات المتجدد من خصائص المختلفة، إلا أن مثل هذه الخصائص تعتريها معوقات من الصعب بمكان تجاوزها؛ فالأمر لم يعد مرتبط بالصعوبات مالية أو تقنية، بل تجاوزته إلى معوقات مرتبطة بالتغيرات المناخية كالغبار والغيوم ومشاكل المياه والرياح مما له تأثير على الإمكانية الفنية المستقبلية لهذه الطاقات وعن مدى نجاعتها في تلبية الطلب المتزايد للطاقة، خاصة النتائج التي جاءت متضمنة في تقرير التقييم الرابع للهيئة (IPCC)حيث تأكد أن معظم الزيادة الملحوظة في متوسط درجة الحرارة عالمياً ترجع إلى النشاط البشري.[19]

المسألة أصبحت لها ارتباط بتطبيق الأسلوب الأنجع والتقنية الكفؤة، وفي إيجاد نموذج يربط بين الاقتصاد والمجتمع والبيئة، ويعزز عنصر الأمن وتحقيق درجة عالية من السلام والتوافق بأسلوب ناجع وكفؤ.

لذا نجد من الوسائل الإجرائية المقترح على الصعيد الدولي، وأصبحت الدول مطالبة باعتمادها ما يعرف بالتنجيع الطاقي والنظم الهجينة، كإستراتيجية لتنظيم طريقة العمل والتي تتطلب توفير مجموعة من المستلزمات، وجملة من الوسائل وكذلك التحكم في المجهودات. وهذا يتطلب التخطيط المتكامل والترشيد لقطاع الطاقة لتحقيق أقصى كفاءة، بتطوير أنظمة الدمج بين أكثر من مصدر طاقة كأسلوب تأمين للطاقة وخدماتها وتمديدها عبر الشبكات اللامركزية حتى للمناطق النائية.[20]

خـــــــاتـــــــــــــمــــــــة

كانت قضايا الطاقة وسياستها موضوع جدل شديد وطويل، حول من يتحكم بهذه الموارد ومن يستفيد من استغلالها وعن النتائج البيئية لهذا الاستغلال، وهذه القضايا مازالت إلى يومنا هذا، بل وأصبحت جزءا من نسيجنا التاريخي. خاصة الجانب الأمني المتعلق بالتزود بها وبتكلفة مناسبة مع مراعات الأبعاد البيئية والتنموية. لهذا نجد العديد من المعاهد والمؤسسات التي انصبت بالدراسة والتحليل على كل ما يهم الطاقة لكونها عصب الحياة.

ومن أهم هذه المعاهد التي اهتمت بالجانب الأمني للطاقة نجد، مركز بروكنجز الخاص بالدراسات الأمنية الذي يوجد مقره في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، مركز الدراسات الطاقة والتنمية في جامعة كولورادو- بولدر، معهد دراسات الطاقة في جامعة أكسفورد… فقد نتج عن هذه المراكز وغيرها في الدول العربية ظهور العديد من الدراسات التي تناولت جانبا أو أكثر من التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للقوة التي تحملها الطاقة وتأثيرها على مسار العلاقات الدولية والنظام العالمي الحالي والمستقبلي.

فالطاقة أصبحت تلعب دورا مهما على الصعيد الدولي فهي التي تقرر ما إذا كانت مصابيحنا ستبقى مضاءة أو ستنطفي، وما إذا كانت زراعتنا وصناعتنا تمضي قدما إلى الأمام أو تتراجع، وفي الواقع ما إذا كنا نستطيع الدفاع عن أنفسنا أو لا نستطيع، ولهذا السبب البسيط يجب أن تكون سياسة الطاقة واحدة من الأولويات العليا بالنسبة لأي إدارة، لأنها ذات أهمية عظيمة في برامج التطوير في ما يتعلق بتطور مستقبل أمتنا.

[1] ألان غرينسبان: عصر الاضطراب، مجلة النفط والتعاون العربي (عرض كتاب) العدد 129 السنة 2009، ص262.

[2] محمد الرميحي: العلاقات الدولية والنفط مجلة عالم المعرفة، العدد 52، أبريل 1982، ص 11.

[3] وفي محاولة لدراسة العلاقة بين أمن الطاقة والصراع الدولي، ودفعها الدول لتبني سياسات تدخلية والانخراط في صراعات خارجية، نشرت دورية “رؤى إستراتيجية”، تحليلا تحت عنوان: “النفط والصراع، جاذبية قاتلة… العلاقة الارتباطية بين النفط والصراع”، بقلم جيمس ماكنيلي، حيث سعى في هذا التحليل، إلى تقييم فرضية أن وفرة الاحتياطات النفطية قد تكون دافعا لصراع عسكري، أو أن نذرة تلك الاحتياطات، هي أحد العوامل المشجعة على المشاركة في صراعات عسكرية خارجية… . وخلص “ماكنيلي” أن الدول ذات الوفرة النفطية أو التي تعاني نقصا في ذلك المورد الإستراتيجي تكون هدفا أو مشاركا في صراع عسكري.( للمزيد من التفاصيل انظر:

James E. McGinley: Oil and Conflict: Fatal Attraction? A Correlational Examination of Oil Resources and Armed Conflict, Strategic Insights, Volume VIII, Issue 5 (December 2009(.

[4] خديجة عرفة محمد: أمن الطاقة وآثاره الإستراتيجية.جامعة نايف للعلوم الأمنية، الرياض الطبعة الأولى 2014، ص 52.

[5] صليحة كبابي: الدراسات الأمنية بين الإتجاهين التقليدي والحديث، مجلة العلوم الإنسانية، عدد 38 ديسمبر 2012، ص:230

[6] لا بد من الإشارة في هذا الإطار أن هناك العديد من الدراسات الجانبية التي تناولت أمن الطاقة، كدراسة مستقبل أمن الطاقة والتي تركز على حالات أربع دول من منظور العرض والطلب، ودراسة التغيرات المناخية والتحول في عرض الطاقة العالمي، والدراسات التي ناقشت قضية أمن الطاقة في كبريات الدول، كدراسة أمن الطاقة الأمريكي، وأمن الطاقة في الصين والهند، والدراسات التي تناولت الناتو وأمن الطاقة… يعاب على هذه الدراسات أنها أحادية الجانب حيث تناولت قضية الأمن الطاقي من زاوية واحدة دون الأخذ بالعوامل الأخرى المؤثرة خاصة التطورات والتغيرات الدولية التي عرفها المجتمع الدولي.

[7] صليحة كبابي: الدراسات الأمنية بين الإتجاهين التقليدي والحديث، مرجع سابق، ص: 231.

[8] تامر كامل الخزرجي: العلاقات السیاسیة الدولیة وإستراتیجیة إدارة الأزمات، ط 1،2005 ، ص 319

[9] عبد العزيز سعيد: النظام العالمي الجديد حاضر والمستقبل.اتحاد الكتاب العرب ، دمشق 1990، ص.99

[10] كيغن بول ليمتد: السيطرة على النفط صراع بين الشرق و الغرب في الخليج(ترجمة علوي درويش كيال) عشتار للترجمة والطباعة–لندن 2001، ص28.

[11] توضح الخريطة عن أكثر المناطق في العالم غنا بالطاقة الأحفورية، حسب الإحصائيات الوكالة الألمانية للطاقة:    www.renewables-madz-in-germany.com

[12] عرفت دراسة للبنك الدولي المفهوم بأنه: “التأكد من أن الدولة يمكنها أن تنتج وتستخدم الطاقة باستدامة وبسعر مناسب؛ بما يسهم في تحقيق النمو الاقتصادي من خلال تقليل الفقر، وتحسين مستوى معيشة الأفراد، من خلال تسهيل الدخول الخدمات الطاقة الحديثة”. كانت هذه الدراسة بعنوان قضايا أمن الطاقة، للمزيد أنظر:

 the world bank, energy security issues, Moscow – washington.dc, December, 2005.

[13] لقد حددت وكالة الطاقة الدولية والدول الأعضاء فيها كفاءة الطاقة كالوسيلة الأسرع والأقل تكلفة لمعالجة أمن الطاقة والتحديات البيئية والاقتصادية، حيث وضعت الوكالة مجموعة من خمسة وعشرون توصية لسياسات كفاءة الطاقة، والتي أثبتت أنها وسيلة فعالة لزيادة الوعي والحصول على دعم سياسي رفيع المستوى… للمزيد يمكن الاطلاع على التقرير الصادر عن الوكالة بعنوان “توصيات للسياسات الإقليمية لكفاءة الطاقة”، سنة 2014.  9 rue de la Fédération, 75739 Paris Cedex 15, France.

[14] سني محمد أمين: أهمية النفط في صياغة الآمن القومي الأمريكي. الفضاء الثقافي، 6 يونيو2008، ص5.

[15] ذلك أن شبه  الجزيرة العربية عبارة عن صحراء شاسعة دون حدود سياسية كما هو معروف في الغرب، ومن هنا قامت ابريطانيا بترسيم حدود دول وتسوية الخلافات بين المشيخات المتصالحة، والتي مازالت إلى يومنا هذا أحد أسباب النزاعات بين الدول العربية. والمثال الأوضح في هذا الإطار العراق، إذ يعتبر أهم كيان خلقته سلطة الانتداب البريطانية، فقد رسم المتفاوضون في باريس حدوده بالمسطرة خالقين بذالك دولة تضم مختلف الأجناس، ففي الجنوب يقطن ما يسمى بعرب الأهوار الذين يرون أن طهران الشيعية أقرب إليهم من بغداد السنية وفي الشمال يسكن الأكراد في حزام جبلي يربط تركيا بإيران وكانت مطالبهم قد أهملت أيضا في إعادة رسم الحدود الأمر الذي أدى إلى نشأة النزاع الذي أصبح يهدد استقرار المنطقة حتى يومنا هذا… للمزيد في هذا الإطار أنظر، علوي درويش كيال: السيطرة على النفط صراع بين الشرق والغرب في الخليج، عشتار للترجمة والطباعة، الطبعة الأولى2003، ص 48.

[16] براء ميكائيل: السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط (ترجمة: رندة بعث)، دار المركز الثقافي للطباعة النشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى 2007.ص12.

[17] جوليا أولمستيد “الشركات الأمريكية تعمل في كولومبيا”، 5 يوليوز/2002/www.americas.org/

[18] Daniel Yergin, « The Epic Quest For Oil, Money and Power : Simon and Schuter , New York, 1991,P14

[19] التقرير الصادر عن الهيئة المعنية بتغير المناخ IPCC: مصادر الطاقة المتجددة والتخفيف من آثار تغير المناخ، الفريق الثالث، دار النشر combridge university priss  2014. ص9.

[20]Pierre Kohler: L’imposture verte, Paris, Albin Michel. (2007). p378.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى