
ما فوق “الانتماء”-Méta- appartenance
ذ. محمد المنصوري
استحضارا لمقولة كانط الذي يربط فيها الإنسان بما فوقه وما في داخله عبر عبارة، “شيئان يملآن قلبي دوما بالإعجاب: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقي في داخلي.”
ومن منطلق هذا الانبهار بالسماء والضمير، سأبدأ بدوري متطفلا على قوله، حسب فهمي المتواضع جدا، بالتفكير في الإنسان قبل أي انتماء، وقبل كل عنوان، وسأختار أن أكون إنسانا، كائنا يلقى في هذا العالم محاطا بأسئلة المعنى قبل أن يتعرف إلى أسماء الجماعات وانحيازاها.
وفي لحظات الامتحان الحقيقي، حين تتقاطع دروب القيم مع امتحانات الموقف، أخلع عن كتفي كل الهويات الطارئة، وأتخفف من أثقال التصنيف والانتماء الضيق، لأصغي فقط إلى ذلك الصوت العميق الذي يسكن في باطن كل إنسان، صوت الإنسانية التي تشكل جوهر وجودنا قبل أن تشكلنا العناوين.
وبما أن الإنسان، في العمق، ليس مجموع انتماءاته، ولا انعكاسا لمحيطه وحده، بل هو قدرة على الارتقاء فوق ما يربطه بالمكان والفكرة، نحو ما يمنح وجوده معنى. وحين يكون الموقف إنسانيا، تتراجع حدود الانتماء، وينحسر سلطان الثنائية، ليتقدم الواجب الأخلاقي بوصفه البيت الأعلى الذي لا يختزل ولا ينازع.
ولا أدري، وقد اخترت هذه المسافة الفلسفية، إن كان في ذلك ما ألام عليه ممن آثروا “التموقع” الى حدود الانكماش هنا أو هناك، أو ممن استجابوا لنداء الانتماء قبل نداء الإنسان، فلكل واحد مساره الداخلي، وتأويله الوجودي، وخوفه الذي يعيد تشكيل رؤيته.
وفي الوقت نفسه، أدرك أن ادعاء الإنسانية قد يؤخذ بطابع من النفاق، فكم من موقف تخفى خلف الكلمات، وكم من روح تلجأ إلى الشعارات كي تغطي هشاشتها. لكن الحكم على النوايا أمر عسير، إذ لا تظهر الصدق إلا الممارسة، ولا تكشف الادعاء إلا لحظات الاحتكاك الحقيقي بالواقع. لكل تقديره وميزانه، وهذا هو تقديري الذي أضعه أمامكم بصدق وهدوء.
أما أنا، فأعتقد أن الإنسان لا يقاس بما يلوذ به، بل بما يتجرأ على مواجهته، وأن الطريق نحو الحرية الأخلاقية يبدأ حين نعلي من شأن الإنسان فوق الانتماء، ونقدم الضمير على الاصطفاف، ونبحث عن الحقيقة بما يتجاوز ما وجدناه جاهزا.
ومن هذا الأفق الواسع الذي لا يزاحم أحدا ولا يصادر اختيار أحد، أحييكم بتحية تحمل أزكى معاني السلام، سلام لا تصنعه العناوين، بل يولد من صفاء الإنسان حين يرتقي لمرتبة الانسان كإنسان.


