في الواجهةمقالات قانونية

الدكتورة هبة العوادي : البناء الدستوري في الجزائر

البناء الدستوري في الجزائر

                                                      

                                                    الدكتورة   : هبة العوادي

                                                  أستاذة القانون الدستوري

                                                           جامعة ورقلة 

الملخص :

شهدت مسارات البناء الدستوري في الجزائر محطات متعددة ارتبطت في الغالب بالتطورات السياسية والاقتصادية التي تعيشها البلاد ، ولعل أهم سمة تميز البناء الدستوري في الجزائر أن ظروف عمليات البناء غلبا ما تكون تفرضها الظروف الداخلية ، وان النظام السياسي  يحتكر حق  المبادرة بها مما يجعل هذه الدساتير تبعد عن التوافقية ، وبذلك تكون اقرب للتعديلات من عمليات البناء .

مقدمة :

تشير عبارة البناء الدستوري إلى عمليات التفاوض بشأن وضع الدساتير وصياغاتها وتنفيذها ، ويجري عادة تشكيل أطر العديد من الدساتير في أعقاب الصراعات والخلافات الداخلية خصوصا1 ، كما قد يكون إعادة البناء الدستوري نتيجة التدخل الدولي في حل الصراعات المدنية ،وقد شهدت المنطقة العربية عموما والمغاربية حركية كبيرة في أعقاب الحراك الذي شهدته المنطقة ، أين سارعت اغلب هذه الدول إلى محاولة بناء دساتير توافقية تؤسس فعلا لبناء دولة  الحق والقانون ،كما حدث في تونس و والى حد ما المغرب.

وقد شهدت الجزائر حركية دستورية وقانونية بعد ورشات الإصلاح التي دعا إليها النظام السياسي في بداية 2011 ، فإلى أي مدى ساهمت هذه النقاشات في تعزيز مسارات البناء الدستوري في الجزائر ؟

المحور الأول: في مفهوم البناء الدستوري .

لقد ازدهرت عملية البناء الدستوري بشكل غير مسبوق عقب نهاية الحرب الباردة في عام 1989 ، ففي أمريكا الجنوبية جاءت عملية بناء الدستور التي قامت بها البرازيل عام 1988 ،متبوعة بسرعة في كل من كولومبيا سنة 1990، والأرجنتين سنة 1994 ،  والبيرو سنة 1993 ، وفي إفريقيا تقريبا من إجمالي 52 مرت 23 دولة نتيجة صراعات داخلية سنة 1994 ، وبعد هذه الصراعات تمت عمليات البناء الدستوري الذي تبع عمليات أحلال السلام فيها2 ،وفي أوروبا الشرقية نشأت العديد من الدول الجديدة كما مس الدول القائمة تعديلات وتمت إعادة بناء دساتيرها الحديثة ، وكانت السمة التي صبغت مسارات البناء الدساتير في هذه الدول أنها جرت ضمن تحولات أوسع ديمقراطية ،كما يمكن اعتبار الصومال أيضا من ضمن الدول التي مستها عمليات البناء الدستوري3

وبعد عام 1990 كانت القوة الرئيسية وراء عمليات البناء الدستوري، هي بالتحديد إضفاء الطابع الدولي عليها تكمن في البعد المعني في الصراع والحاجة إلى تلك الدبلوماسية الدولية لإحلال السلام.

كما كان لموجات الاحتجاج التي اجتاحت أجزاء من شمال إفريقيا والشرق الأوسط، في بداية 2011 والتنازلات التي قدمتها الأنظمة الديكتاتورية ، وهي أمثلة واضحة نحو التحول السياسي المجهول الذي يولد عمليات البناء الدستوري ، فالفقر والتهميش وعدم المساواة والمطالبة بتقرير المصير ، هي من ضمن أهم العوامل المعروفة التي تولد موجات البناء الدستوري الحديثة ، فأي عملية بناء للدساتير يجب ترافقها جهود توافقية للخروج بعمل دستوري جديد أو إصلاحي4 .

لا يوجد تعريف جامع مانع للبناء الدستوري ،أو إجماع على ما يجب أن يتضمنه ، يجب الوصول إلى مفهوم مقبول ومحدد بشكل واضح لحقل البناء الدستوري إلا وهو توجيه النقاش أكثر نحو تقديم النقاش أكثر مع مختلف الفاعلين من ساسة ومفكرين وأحزاب وجمعيات، مما يخلق نوعا من التوافق في عمليات البناء الدستوري .

تعد عملية بناء الدساتير من أهم العمليات التي تمهد الطريق نحو الانتقال إلى نظام ديمقراطي، فالدستور هو الذي يضع الأسس التي يقوم عليها كيان الدولة، يحدد حقوق المواطنين وواجباتهم، ويضع ضمانات حماية هذه الحقوق وكفالتها، كما انه يحدد طريقة توزيع السلطات في المجتمع سواء بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية أو بين العاصمة والمحليات عبر نظام اللامركزية أو بين نظام الحكم بمؤسساته المختلفة من ناحية والمجتمع المدني بمنظماته المتنوعة من ناحية أخرى5. وكلما نجح الدستور في نشر مراكز السلطة عبر كل هذه المستويات كلما كانت احتمالات الانتقال السلس لنظام ديمقراطي وضمان استمراريته . كما أنه على أساس هذا الدستور، تتم صياغة القوانين اللاحقة المنظمة لمسارات عديدة في المجتمع سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. والحقيقة بقدر ما تضمن النظم الديمقراطية التداول السلمي للسلطة، بقدر ما تضع الدساتير حدودا على ممارسة الأغلبية للسلطة.6

اختلفت منهجية صنع الدساتير في الـ25 سنة الأخيرة اختلافا جذريا عن السنوات التي قبلها. فعلى حين كانت عملية صنع الدستور على مدار القرنين الماضيين عملية قانونية بحتة، لا تخص سوى النخبة وفقهاء القانون الدستوري، ويتم إجراؤها بمعزل عن المواطنين في كافة مراحلها، وتقتصر مشاركة المواطنين فيها على المرحلة الأخيرة وهى الاستفتاء على الدستور، فإن الوضع في السنوات الأخيرة كان مختلفا تماما، فقد ظهر مصطلح صناعة الدستور بالمشاركة، هذا المصطلح الذي عكس دلالات ديمقراطية واضحة ارتبطت بالموجة الثالثة للديمقراطية، والتي عمت العالم منذ منتصف السبعينيات والتي على إثرها انهارت كثير من النظم السياسية السلطوية في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا والمنطقة العربية لتحل محلها نظم ديمقراطية أو في طريقها إلى الديمقراطية.7

إن عملية بناء الدستور بالمشاركة كأحد العمليات الأساسية المرتبطة بتجارب التحول الديمقراطي في جميع أنحاء العالم ليست عملية يسيرة ، ولكنها عملية في غاية التعقيد وتطرح عديد من الأسئلة والإشكاليات مما يستدعى السعي للاستفادة من الدروس السابقة واستخلاص العبر.

يطرح استعراض تجارب وضع الدساتير في تجارب أخرى مثل البرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها من بلدان قد تتشابه ظروفهم في قواسم منها مع ظروف الحالة المصرية ضرورة الاهتمام بقضيتين أساسيتين عند وضع الدساتير: الأولى قضية منهجية وضع الدستور، بمعنى كيف يتم البدء في عملية صنع الدستور؟ وما هي خطوات العملية؟ وإلى أي نتائج يؤدى الالتزام بعملية ديمقراطية تشاركية في عملية صنع الدستور؟. والقضية الثانية تتعلق بمحتوى الدستور، وإلى أي مدى يحقق الأهداف العليا للمجتمع؟ ويضع المصلحة الوطنية لجموع المواطنين في المقدمة، وأيضا إلى أي مدى يضع الأساس لعملية تحول ديمقراطي مستقرة8 .

لا تقل أهمية عملية بناء الدستور عن محتوى الدستور، بل على العكس فإنجاز عملية ديمقراطية تشاركية في صنع الدستور يضفى شرعية كبيرة على محتوى الدستور. من ضمن الأهداف التي تحققها عملية صنع الدستور بالمشاركة الأتي :

ــ إن توسيع عدد الجماعات المشاركة في عملية صنع الدستور يؤدى لتهدئة كثير من الصراعات فى المجتمع ويساعد على بناء التوافق، في حين أن استبعاد فاعلين أو جماعات ما من عملية صياغة الدستور يؤدى إلى تقويض شرعية الناتج النهائي، بل قد يؤدى إلى تقويض عملية التحول الديمقراطي ككل. كما أن هذه المشاركة تؤدى إلى خلق ثقافة سياسية ديمقراطية.

ــ إن ضمان مشاركة وطنية واسعة النطاق في عملية وضع الدستور في كافة المراحل من بداية وضع الأجندة الجماهيرية المعبرة عن طموحات المواطنين مرورا بمناقشة المسودات المختلفة وانتهاء بالاستفتاء، يؤدى إلى حدوث تحول ديمقراطي سلس وهادئ بدون منعطفات حادة.9

ــ تعزيز شرعية الحكومة الانتقالية.

ــ إحداث قطيعة مع الماضي السلطوي الذي يستند إلى استبعاد المواطنين وتهميشهم وقمعهم.

المحور الثاني  : مسارات البناء الدستوري في الجزائر .

بعد التعرض   لأساليب  بناء وصناعة  الدساتير بصفة عامة، سوف نعرج عن تطور عمليات بناء  الدساتير في الجزائر وظروف نشأتها والتي بدأت مراحلها عقب جلاء المستعمر الفرنسي ، وغداة الاستقلال عرفت الجزائر حركية دستورية تراوحت بين المشروعية والشرعية ازدادت تأزما بعد الثمانينات، ففكرة إنشاء المجلس الدستوري الجزائري تعود إلى ما بعد الاستقلال ، حيث تبناها المؤسس الدستوري في أول دستور للجمهورية الجزائرية، وهو الدستور الصادر في 08 سبتمبر 1963  تأثرا بالنظام القانوني الفرنسي، الذي يتبنى نظام الرقابة على دستورية القوانين عن طريق المجلس الدستوري10. أما في الجزائر فقد عرفت دستورين برامج مشحونين بالإيديولوجية الاشتراكية سنة ( 1963 – 1976  ودستور قانون سنة ( 1989 ) وتعديل سنة ( 1996 )، ودستور 2016 ،ويرجع ذلك إلى تباين الأوضاع السياسية والاقتصادية والقانونية لكل مرحلة من مراحل بناء  الدساتير في  الجزائر، وخصوصا بعد تبني التعددية سنة 1989  سنحاول التعرض لأهم محطات البناء الدستوري في الجزائر .

أ .البناء الدستوري في  08 سبتمبر 1963:
دستور 1963 كان دستور برنامج، أي ذلك الدستور الذي يغلب عليه الطابع الإيديولوجي على الجانب القانوني، ويعرف في الأنظمة الاشتراكية، فالدستور في هذه الحالة يكرس الاشتراكية ويحددها هدفا ينبغي تحقيقه، كما يحدد وسائل تحقيقها ويكرس أيضا هيمنة الحزب الحاكم، ومع ذلك كله فإنه يتناول الجوانب القانونية المتعلقة بتنظيم السلطة كما يبين حقوق وحريات الأفراد ومجالاتها .
تمت عملية البناء الدستوري لسنة  1963 كان من اختصاصات المجلس التأسيسي المنشئ بحكم اتفاقية افيان، إلا أن الرئيس “أحمد بن بلة” تملص عن هدا المبدأ بإعطاء الضوء الأخضر للمكتب السياسي في مناقشة وتقويم مشروع دستور في جويلية 1963 ، وعرضه على المجلس التأسيسي للتصويت عليه، ثم تقديمه للاستفتاء الشعبي في سبتمبر 1963 ، وإصداره في 08 سبتمبر 1963، فرغم أن المشرع الجزائري أخذ بالطريقة الديمقراطية (الجمعية التأسيسية والاستفتاء) إلا أن هذه الطريقة يشوبها العديد من المخالفات، كمناقشة الدستور على المستوى الحزبي، مما تبعه سلسلة من الاستقالات على مستوى المجلس التأسيسي فرحات عباس، حسين آيت أحمد11
بالرجوع إلى دستور 1963 نجد أن المادة 63 منه تنص على مايلي: “يتألف المجلس الدستوري من الرئيس الأول للمحكمة العليا ورئيس الغرفتين المدنية والإدارية في المحكمة العليا وثلاث نواب يعينهم المجلس الوطني الشعبي وعضو يعينه رئيس الجمهورية”. ومن المعلوم أن هذا المجلس لم يشكل ليمارس نشاطه، وذلك نظرا لما عرفته الجزائر آنذاك من أحداث وعدم الاستقرار، حيث أن الصراع من أجل السلطة كان على أشده مما لم يسمح بتشكيل هذا المجلس، وما أحداث الانقلاب الذي عرفته الجزائر في 19 جوان 1965 والذي أطلق عليه اسم التصحيح الثوري، حيث جمد الدستور فور استيلاء الثورة على السلطة وحل محله أمر: 10 جويلية 1965 ، وما ينبغي معرفته من خلال نص المادة السالفة الذكر هو طريقة التشكيل العضوي لهذا المجلس، حيث نلاحظ أنه مزيج بين رجال السياسة ورجال القانون، أي أن المجلس الدستوري الجزائري آنذاك كان ذو طبيعة مختلطة قضائية وسياسية، تضم رجالا تابعين لسلك القضاء وأعضاء آخرين بالتمثيل السياسي13.

ب . البناء الدستوري في  22 نوفمبر 1976:
حاولت جماعة 19 جوان 1965 تأسيس نظام سياسي دستوري ، فأصدرت نصين، إحداهما ذو طابع سياسي إيديولوجي هو “الميثاق الوطني”-أعتبر بمثابة عقد بين الحاكم والمحكومين، إذ تضمن المحاور الكبرى لبناء المجتمع الاشتراكي وحدد الحزب الواحد، ووحدة القيادة السياسية للحزب والدولة- والثاني يعتبر تكريسا قانونيا للأول وهو “الدستور” (1) . وضع دستور 1976 جاء بعد إصدار القيادة في الجريدة الرسمية رقم 58 والمؤرخة في 13 جويلية 1965 – عزمها على استصدار دستور فتشكلت لجنة حكومية لصياغة نص الدستور وتقديمه للاستفتاء الدستوري يوم 19 نوفمبر 1976 ، وتمت الموافقة عليه و أصدر في 22 نوفمبر 1976 . وكان إقرار الميثاق الوطني سابق له، فقد تم إعداد المشروع التمهيدي على مستوى مجلس الثورة والحكومة، وفتحت المناقشة العامة خلال شهري ماي وجوان.
إن الرقابة على دستورية القوانين تعد أهم وسيلة لضمان احترام الدستور14، غير أن دستور 1976 لم يعتمد على هذا النظام بالرغم من المطالب العديدة أثناء مناقشته الدستور والميثاق الوطني، وإثرائه في مؤتمرات حزب جبهة التحرير الوطني بشأن إحداث هيئة دستورية تتولى السهر على احترام أحكام الدستور، إلا أن البعض قد رأى عدم إنشاء تلك الهيئة وهذا تجنبا للإكثار من مؤسسات الرقابة حتى يمكن تفادي تداخل اختصاصاتها وعدم فاعليتها، كما أن وجودها قد يؤدي لا محالة إلى عرقلة أعمال السلطة في ذلك الوقت لم يكن يؤخذ بمبدأ الفصل بين السلطات، وإنما بوحدة السلطة ولذلك فإنشاء مثل هذه الهيئة يحد من حرية المشروع وينازعه في أعماله، كما أن هناك من لا يعترف بوجود هذه الهيئة للاختفاء وراء السلطة الثورية لتبرير تصرفاتهم غير الشرعية وهذا ما يجعل من القانون أداة في يد فئة تستخدمه لتغطية تصرفاتها15.

ج.البناء  الدستوري 23فيفري1989:
بالنسبة لهذا الدستور فإنه لم يكن وليد ظروف عادية، وإنما لتلبية مطالب عديدة جسدتها أحداث أكتوبر التي جاءت كرد فعل لأوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية مزرية، أدت فقد أغلبية الشعب الثقة في السلطة ولأجل ذلك وحفاظا على مؤسسات الدولة ف قام رئيس الجمهورية بفتح باب الحوار وطرح القضايا الأساسية على الشعب للفصل بكل ديمقراطية كما وعد بالقيام بإصلاحات سياسية ودستورية، ومنها دستور 23 فيفري 1989 الذي كرس مبدأ التعددية الحزبية، واقتصر على ذكر الجوانب القانونية المتعلقة بتنظيم السلطة وتحديد صلاحياتها وتكريس نظام الحريات وحقوق الأفراد، هذا الدستور الذي تبنى فكرة الرقابة بعد أن أهملها الدستور السابق أي 1976وهوبذلك يتفق م مع دستور1963 .
تم الإعلان عن المشروع الدستوري، مما تبعته مناقشات على مستوى الإعلام المكتوب والمرئي، وتحضير العديد من الموائد المستديرة بمشاركة مختلف الاتجاهات (الإسلاميين، الأحرار، الديمقراطيين، أعضاء جبهة التحرير الوطني)، وقد تم إقرار الدستور من خلال استفتاء دستوري يوم 23 فيفري 1989 وكانت النتائج نعم 78.98 % ، وهكذا فإن الدستور أقر عن طريق الاستفتاء16.

د .  البناء الدستوري في  28 فيفري 1996:
إن هذا الدستور الأخير ما هو إلا نتيجة للظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد و الأوضاع المزرية على كل الأصعدة، خاصة منذ استقالة رئيس الجمهورية السابق وتعطيل المسار الانتخابي وما ترتب عن ذلك من أعمال هددت الأمن العام والاستقرار السياسي والمؤسساتي للبلاد، وهذا مما دفع إلى إنشاء بعض المؤسسات وصفت بالمؤسسات الانتقالية منها المجلس الأعلى للدولة انتهت مهامه بتنظيم ندوة الوفاق الوطني في جانفي 1994 17. ثم أول انتخابات رئاسية تعددية شهدتها الجزائر، وذلك في 16 أفريل 1995 ، كما تم إنشاء المجلس الوطني الانتقالي والذي تولى مهام السلطة التشريعية منذ 18 ماي 1994 إلى غاية تنظيم الانتخابات التشريعية في جوان 1997 ، حيث ضم هذا المجلس ممثلي بعض الأحزاب بالإضافة إلى أغلبية ممثلي الحركة الجمعوية وبعض المنظمات الوطنية والنقابات التي لها ثقل على المستوى الوطني. كما كان هذا الهدف من هذا الدستور سد مجموعة من الثغرات التي تضمنها دستور 1989 وخاصة فيما يخص حالة تزامن شغور منصب رئيس الجمهورية مع حل المجلس الشعبي الوطني كما كان الحال في جانفي 1992. ونظرا للأسباب السالفة الذكر تم اقتراح تعديل الدستور بمشاركة مجموع الطبقة السياسية بمختلف تياراتها وخاصة في مرحلة إعداد الوثيقة المعدلة للدستور التي تمت المصادقة عليها من طرف الأمة في استفتاء 28 نوفمبر 1996. وقد جاء هذا الدستور بعدة تعديلات كإنشاء مجموعة من المؤسسات الدستورية منها مجلس الأمة والمحكمة العليا للدولة، ومجلس الدولة، كما كرس الرقابة الدستورية وذلك من خلال الدور الفعال للمجلس الدستوري، هذا الأخير الذي ارتفع عدد أعضائه إلى تسعة كما جاء في نص المادة 164 من دستور 1996، أما مدة العضوية فلم تتغير أي ست سنوات غير قابلة للتجديد ولا يمكن لأي عضو أن يمارس أية وظيفة أو تكليف آخرى18

ه. البناء الدستوري لسنة 2008

على الرغم من أن التعديلات الدستورية التي أدخلت على دستور 1996 لم تكن بذلك العمق الذي كان منتظرا، على اعتبار أنها كانت مستعجلة، إلا أن أهم ما يميزها محاولتها إعادة تنظيم السلطة التنفيذية من الداخل، بعد مرور عشرون سنة على تبني ازدواجية الجهاز التنفيذي.

فمنذ تبني أول تعديل دستوري جوهري لدستور 1976 والذي تم فيه الأخذ بإزدواجية السلطة التنفيذية سنة 1988، كان السؤال الجوهري الذي يطرح بإلحاح، يتمثل في تحديد طبيعة العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، خاصة في ظل نص الدستور على إعداد وتنسيق وتنفيذ هذا الأخير لبرنامج حكومته. وإذا كانت معظم الحكومات لم تتردد في تبني برنامج رئيس الجمهورية، إلا أن لا شيء كان يحول دون بروز أغلبية برلمانية معارضة لرئيس الجمهورية، تتبنى برنامجا مناقضا لذلك الذي زكاه الشعب بمناسبة الانتخابات الرئاسية؛ ومن ثم سيزول هذا الغموض بنص التعديل الدستوري وتأكيده على أن البرنامج الواجب التطبيق هو برنامج رئيس الجمهورية، وما الوزير الأول سوى منسق للعمل الحكومي ومكلفا بإعداد مخطط عمل، غايته السهر على تجسيد برنامج رئيس الجمهورية.19

ورغم أهمية التعديلات المتعلقة بتنظيم السلطة التنفيذية، إلا أن ذلك لم يقلل من أهمية بقية التعديلات، فالسماح بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية لأكثر من مرة دون تحديد، ودسترة الحقوق السياسية للمرأة، وإضفاء طابع الثبات على رموز الثورة والجمهورية والمتمثلة في العلم الوطني والنشيد الوطني،كلها عوامل ستعزز الاستقرار السياسي، في ظل السيادة الشعبية، في انتظار تعديلات أوسع وأعمق تقضي على كثير من التناقضات الموجودة في دستور 1996.

 

و.   البناء  الدستوري لسنة 2016

 

بعد 5 سنوات كاملة ، تمت المصادقة  عن الدستور الجديد، حيث كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، قد أعلن، منذ أبريل 2011 عزمه طرح مسودة تعديل دستوري تتضمن إصلاحات سياسية عميقة، حيث كانت تلك الفترة تتميز بتفاعلات الربيع العربي الذي هز أركان أنظمة سياسية مارست القمع والتسلط على شعوبها طوال عقود .

سبق للرئيس بوتفليقة أن أقدم على تعديل الدستور في سنة ‏‏2001  من أجل ترقية اللغة الأمازيغية  إلى لغة وطنية ثانية إلى جانب اللغة العربية، كما قام بالتعديل الثاني للدستور ‏في نوفمبر 2008 لفتح العهدات الرئاسية، التي كانت محددة في عهدتين فقط، في الدستور الذي أقر في عهد الرئيس السابق اليمين زروال في 1996، ‏وهذا ‏التعديل سمح للرئيس بوتفليقة الفوز بولاية رئاسية ثالثة في سنة 2009 ،  ثم انتزع  عهدة رابعة ‏في أبريل 2014. ‏ وبذلك يكون الرئيس بوتفليقة قد مارس الحكم في ظل أربعة دساتير( 1996،2001،2008،ودستور  2016 في حالة إقراره ) على امتداد أربع عهدات رئاسية جعلته الرئيس الأطول حكما في تاريخ الجزائر المستقلة20.

وفي ماي2012 فتح الرئيس بوتفليقة باب المشاورات السياسية  مع 150 حزبا سياسيا وجمعية وطنية منها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وشخصيات وطنية حول الإصلاحات السياسية ثم أعقبتها في جوان2014 مشاورات حول وثيقة تعديل الدستور، وهي المشاورات التي قاطعتها أحزاب وقوى معارضة.

ورغم أن الوزير الأول عبد المالك سلال، كان قد أبلغ  في سنة 2013 بعض قادة الأحزاب السياسية الذين استقبلهم في إطار المشاورات التي باشرها مع ممثلي لطبقة الحزبية، أن وثيقة التعديل الدستوري ستعرض على نواب وأعضاء البرلمان بغرفتيه لمناقشتها وإثرائها، ثم تتم إحالتها على الشعب للاستفتاء عليها، إلا أن أحمد أويحيى، وزير الدولة مدير ديوان رئاسة الجمهورية، أكد في ندوته الصحفية الخاصة بعرض  النسخة النهائية للمشروع التمهيدي لمراجعة الدستور أن الوثيقة ستعرض على مجلس الوزراء في شهر جانفي كمشروع قانون للمصادقة عليه، ثم يخطر المجلس الدستوري لإبداء رأيه، وفرق أويحيى، بين عدة حالات للتعامل مع مشروع التعديل الدستوري، أولها أن يكون رأي المجلس الدستوري في هذا التعديل أنه لا يمس بتوازن السلطات وغيرها من القواعد المنصوص عليها في المادة 176 من الدستور الحالي، وفي هذه الحالة سيتم تمرير الدستور بتصويت ثلاثة أرباع البرلمان بغرفتيه، أما في حال كان رأي المجلس الدستوري أن هذا التعديل سيمس بمبادئ المادة 176، فإنه سيمر كمشروع قانون على كل غرفة بالبرلمان على حدة، وبعدها سيطرح على الاستفتاء الشعبي21.

أحمد أويحي دافع عن التعديل الدستوري  الذي غلق العهدات الرئاسية في سنة 2016بعهدتين غير قابلة للتجديد ،بنفس الحماس الذي أبداه لتمرير التعديل الدستوري لسنة 2008 الذي نص على فتح العهدات الرئاسية للسماح للرئيس بوتفليقة الترشح لعهدة ثالثة ،و رأى رغم ذلك أنه ليس في الأمر تناقض، لأن فتح العهدات الرئاسية في سنة 2008 كان استجابة للمطلب الشعبي الملح بضرورة ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في سنة 2009، كما اعتبر ترشح الرئيس بوتفليقة في سنة 2014 لعهدة رابعة بمثابة تضحية منه لإنقاذ الجزائر ولتجنيب البلاد مشاكل كبرى كانت ستحدث22.

لقد استقطبت قضية جعل اللغة الامازيغية لغة وطنية ورسمية إلى جانب اللغة العربية، اهتمام المتابعين لأن الرئيس بوتفليقة كان قد رد على بعض الشباب المطالبين بترقية الأمازيغية إلى لغة وطنية خلال زيارته لولاية تيزي وزو في بداية عهدته الرئاسية الأولى بأن الأمازيغية لن تكون لغة رسمية أبدا، ولكن هناك من يعتبر أن الرئيس بوتفليقة أراد من خلال اقتراحه ترقية الأمازيغية إلى لغة وطنية ورسمية  سحب هذه الورقة من مجال المتاجرة السياسية بها من طرف أحزاب ظلت تناصبه العداء في أغلب فترة حكمه23.

ولابد من الاعتراف بأن مشروع التعديل الدستوري الجديد يتضمن نقاطا إيجابية كثيرة منها ضمان الملكية العمومية لبطن الأرض، والمناجم، والطاقة، والنقل بالسكك الحديدية، والبريد، بالإضافة إلى الحفاظ على المكاسب الاجتماعية كمجانية التعليم ،وتوفير الصحة، ودسترة الضمان الاجتماعي لكل الجزائريين، وكذلك توسيع حق الإخطار الدستوري إلى المواطنين. وتعميق الفصل بين ‏السلطات ، وإنشاء لجنة مستقلة لمراقبة الانتخابات، وترقية حرية الصحافة. ومع ذلك فإن أكبر نقيصة تتربص بهذا التعديل الدستوري الجديد وغيره من النصوص الدستورية السابقة هو عدم احترام الدستور واستسهال الدوس عليه كلما تعارضت نصوصه مع مصالح  ومقاصد الفئة المسيطرة على الحكم

الخاتمة :

كانت  عمليات البناء الدستوري في الجزائر ترتبط في الغالب الظروف الجيوسياسية ،التي تميلها طبيعة الظروف السياسية التي تتم فيها عملية البناء الدستوري ، فجميع الدساتير الجزائرية تم بناءها في ظروف إيديولوجية  سياسية واقتصادية واجتماعية معينة، حيث ارتبطت دساتير ما قبل التعددية بالبعد الإيديولوجي الشمولي والدور التدخلي للدولة ، في حين الدساتير التي أعقبت دستوري 1989 تعد قطعا دراماتيكيا بين نظامين ومرحلتين تاريخيتين ، أين تم بمقتضى هذه الدساتير تكريس الطابع التعددي لنظام لحكم ، وأصبحت سمات التعددية تمس عمليات البناء الدستوري في الجزائر ، حيث كانت الحوارات والنقاشات موسعة في عملية بناء دستور 1989 وكذلك دستور 1996 وتعديل 2008 والتعديل الدستوري لسنة 2016، إلا أن الملاحظة التي يكمن التركيز عليها أن عمليات البناء الدستوري في الجزائر تمت في مجملها بهبة من الحاكم ، كون النظام السياسي يجزم بأنه صاحب الحق بالمبادرة  في مسارات البناء الدستوري ،وهذا يتعارض ومفاهيم ومبادئ الهندسة الدستورية الحديثة .

 

الهوامش والمراجع .

  • دون مؤلف ،بناء الدستور في  مراحل ما بعد الصراع ، تقرير صادر عن المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات حول عمليات وضع الدساتير ، السويد ،ماي 2011 ، ص،8 .
  • نفس المرجع السابق ، ص، 09 .
  • نفس المرجع السابق ، ص، 10 .
  • نفس المرجع السابق ، ص، 10 .
  • هويدا عدلي ، كيف تصنع الدساتير ، مقال منشور على الانترنت ، تاريخ التصفح : 08افريل 2016 ، http://sootbelady.shorouknews.com/columns/view.aspd=5b82df47-9ae9-45a1-bdc9-a906cf605e58
  • إبراهيم درويش ، الاتجاهات الحديثة في صناعة الدساتير ، مجلة الديمقراطية العدد 52 ، 2014 ، ص، 35.
  • هويدا عدلي ، المرجع السابق، ص، 03.
  • إبراهيم درويش المرجع السابق ، ص، 37.
  • هودا عدلي ، المرجع السابق، ص، 03.
  • سعيد بوشعير ، النظام السياسي الجزائري ، الطبعة الأولى دار الهدى ،الجزائر ، 1989 ، ص، 51.
  • فوزي اوصديق ، الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري*النظرية العامة للدساتير * القسم الثاني ، الطبعة الأولى ، ص، دار الكتاب الحديث ،2001 ، ص،ص45-49.
  • السعيد بوشعير ، المرجع السابق ،ص،51.
  • فوزي اوصديق المرجع السابق ، ص، 51
  • نفس المرجع ، ص، 53
  • الأمين شريط ، الوجيز في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية المقارنة ، الطبعة السادسة ، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر ،2006 ،ص121.
  • الأمين شريط ، المرجع السابق ، ص، 122 .
  • بوحنية قوي –بوطيب بن ناصر ،تجربة التعديلات الدستورية في الجزائر ، المجلة المغربية للسياسات العمومية ، العدد 8 ،2012 ، ص، 110
  • بوحنية قوي – بوطيب بن ناصر، المرجع السابق ، ص 112.
  • عمار عباس ، قراءة في التعديل الدستوري لسنة 2008 ، مقال منشور على الانترنت ، تاريخ التصفح ، 10افريل 2016، http://ammarabbes.blogspot.com/2012/04/2008-2009-20082009-1996-1.html
  • دون ناشر ، تعديل الدستور تتويج لمسار إصلاحات سياسية ، مقال منشور على الانترنت ، تاريخ التصفح ، 10افريل 2016،ص،02 ، http://www.aps.dz/ar/algerie/25660-%D8%AA%D8%B9%D8%AF%D9%8A%D9%84
  • نفس المرجع السابق ،ص، 05 .
  • بوحنية قوي ، التعديل الدستوري في الجزائر ، الحاجة الى بناء دستوري وحكامة اصلاحية لمرحلة ما بعد الرئاسة ، مجلة السياسات العمومية ، عدد خاص ، خريف 2015 ، ص، 83.
  • بوحنية قوي ، التعديل الدستوري في الجزائر ، الحاجة الى بناء دستوري وحكامة اصلاحية لمرحلة ما بعد الرئاسة، ص، 86.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى