تقاطع المبادئ الأساسية لنظام التحفيظ العقاري مع القواعد المنظمة للتنفيذ الجبري ذ/ الزكراوي محمد
ذ/ الزكراوي محمد
باحث في الشؤون القانونية والإدارية
نائب رئيس المركز الوطني للدراسات القانونية والقضائية
عضو مركز ليكسوس للباحثين الشباب

تقاطع المبادئ الأساسية لنظام التحفيظ العقاري مع القواعد المنظمة للتنفيذ الجبري
نموذج:
إشكالية قسمة العقارات المحفظة المثقلة بحجز عقاري
تعد قسمة العقارات المحفظة المثقلة بحجز عقاري، من المواضيع الدقيقة التي تتقاطع فيها المبادئ الأساسية لنظام التحفيظ العقاري مع القواعد المنظمة للتنفيذ الجبري، حيث يثور التساؤل حول مدى إمكانية مباشرة القسمة في ظل وجود حجز مقيد بالرسم العقاري، وما يترتب عن ذلك من آثار على حقوق الدائنين والشركاء، فالعقار المحفظ، بحكم خضوعه لظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري كما تم تغييره وتتميمه، يتمتع بصفة الثبات والعلنية، إذ لا تنتج التصرفات بشأنه أي أثر إلا من تاريخ تقييدها بالرسم العقاري، وهو ما يجعل الحجز العقاري بدوره يرتب أثرا مانعا من التصرف إلى حين رفعه أو زواله، غير أن مبدأ حرية الشركاء في إنهاء حالة الشياع وفقاً للفصول 960 وما بعدها من قانون الالتزامات والعقود، يفرض بالمقابل تمكينهم من طلب القسمة سواء كانت رضائية أو قضائية، ومن هنا يبرز الإشكال الجوهري، هل يشكل الحجز العقاري، سواء كان تحفظياً أو تنفيذيا، عائقاً قانونياً يحول دون قسمة العقار المحفظ، أم أن القسمة تبقى ممكنة شريطة عدم المساس بحقوق الدائن الحاجز المضمونة بالتقييد؟ ثم ما هو موقف المحافظ العقاري والقضاء المغربي من هذه الوضعية، خاصة في ظل ما تقرره الفصول 87 و91 من ظهير التحفيظ العقاري من آثار للتقييدات والقيود المسجلة بالرسم؟ إن معالجة هذه الإشكالية تقتضي الموازنة بين حق الدائن في الضمان العام وبين حق المالكين على الشياع في إنهاء الشراكة، وهو ما يجعل قسمة العقار المحفظ المثقل بحجز عقاري مجالاً خصباً لاجتهاد القضاء العقاري والإداري في تحديد حدود التعارض بين الامتيازات المسجلة وحرية التصرف في الملكية.
الفقرة الأولى:الإطار القانوني والمؤسساتي لقسمة العقارات المحفظة بين مبدأ حرية التصرف ومبدأ استقرار المعاملات العقارية
تعتبر القسمة من التصرفات القانونية المنظمة بدقة في التشريع المغربي، إذ تشكل وسيلة لإنهاء حالة الشياع التي غالبا ما تعيق استقرار الملكية العقارية وتحد من سلطة الشركاء في التصرف الحر في أموالهم، وقد نظم المشرع المغربي أحكام القسمة في الفصول من 960 إلى 978 من قانون الالتزامات والعقود محددا القواعد العامة التي تحكمها سواء من حيث إمكانيتها أو آثارها القانونية على الأطراف المعنية بها، كما أن العقارات المحفظة تخضع في المقابل لأحكام خاصة وردت بظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري، كما تم تغييره وتتميمه بمقتضى القانون 14.07 الذي كرس مبادئ جوهرية تحكم الملكية العقارية وعلى رأسها مبدأ الشرعية والعلنية ومبدأ التطهير واعتبار التقييد في السجل العقاري أساسا لنفاذ التصرفات في مواجهة الغير، مما يجعل كل تغيير في وضعية العقار رهينا بالتقييد بالرسم العقاري دون غيره ومن هذا المنطلق فإن القسمة التي تمس بنية الملكية المشتركة لا تكتسب حجيتها إلا من تاريخ تقييدها وفقا لمقتضيات الفصل 67 من ظهير التحفيظ العقاري.
غير أن ممارسة الحق في القسمة تصطدم أحيانا بوجود قيود أو تقييدات مسجلة بالرسم العقاري من شأنها الحد من سلطة المالكين في التصرف كالحجز العقاري الذي يمثل إحدى صور الضمانات القانونية للدائنين، فالحجز باعتباره تقييدا احتياطيا أو تنفيذيا يقيد حرية المدين في التصرف ويهدف إلى حماية حقوق الدائنين عبر تجميد المعاملات الرامية إلى تهريب الأموال أو إضعاف الضمان العام المنصوص عليه في الفصل 1241 من قانون الالتزامات والعقود، مما يضعنا أمام توازن دقيق بين مصلحتين متعارضتين، من جهة مصلحة الشركاء في إنهاء الشياع باعتبار القسمة وسيلة مشروعة لتصفية الملكية، ومن جهة ثانية مصلحة الدائن الحاجز الذي يسعى إلى الحفاظ على ضماناته المقررة بمقتضى التقييد العقاري.
فلا شك أن العلاقة بين نظام القسمة ونظام التحفيظ العقاري، هي علاقة تكامل مشوبة بقيود تنظيمية تفرضها خصوصية العقار المحفظ، فالمشرع حرص على أن تكون كل عملية قسمة منجزة في هذا الإطار مضمونة قانونا وتحظى بالعلنية اللازمة لحماية الغير، ولذلك ألزم المحافظ العقاري برفض أي تقييد يتعارض مع تقييد سابق ما لم يتم رفعه أو تعديله عملا بمقتضيات الفصل 91 من ظهير التحفيظ العقاري، الذي ينص صراحة على أن التقييدات اللاحقة لا يمكن أن تنجز إلا بعد رفع التقييدات السابقة المتعارضة معها، وبذلك يصبح الحجز العقاري تقييدا ذا قوة مانعة تحول دون تقييد القسمة إذا لم يتم التعامل معه قانونيا سواء برفعه أو بتحويله إلى الحصة الخاصة بالمحجوز عليه.
إن هذا التعارض الظاهر بين القسمة والحجز العقاري يكشف الطبيعة المركبة للملكية العقارية المحفظة، ويطرح إشكالية احترام مبدأ استقرار المعاملات العقارية، الذي يعد من ركائز ظهير التحفيظ العقاري، فالمبدأ يقتضي أن كل تقييد بالرسم العقاري ينتج آثاره في مواجهة الكافة ولا يمكن تجاوزه إلا بناء على سند قانوني أو قضائي واضح، وفي المقابل فإن مبدأ حرية التصرف المكرس في الفقه الإسلامي والقانون المدني المغربي يمنح الشركاء الحق في طلب القسمة متى كانت حالة الشياع قائمة دون حاجة إلى موافقة باقي الأطراف، وهو ما يؤكده الفصل 973 من قانون الالتزامات والعقود، الذي ينص على أن لكل شريك أن يطلب القسمة متى شاء، ما لم يكن هناك اتفاق على البقاء في الشياع لمدة محددة.
وقد تدخل القضاء المغربي لترسيخ هذا التوازن حيث اعتبرت محكمة النقض في قرارات متواترة أن القسمة في حد ذاتها لا تمس بحقوق الدائنين المقيدة بالرسم العقاري، وإنما تظل خاضعة لمبدأ الأثر النسبي للتصرفات القانونية، إذ يبقى الحجز قائما على الحصة التي تعود إلى المدين المحجوز عليه بعد القسمة دون أن يمتد إلى باقي الحصص المفرزة لغيره ،كما جاء في القرار عدد 207 الصادر بتاريخ 16 فبراير 2016 في الملف المدني عدد 2491/1/1/2014، الذي اعتبر أن القسمة لا تلغي الحجز، وإنما تحدد نطاقه في الجزء المفرز للمحجوز عليه، مما يعكس حرص القضاء على احترام التقييدات المسجلة وحماية الضمانات دون المساس بحق الشركاء في إنهاء الشياع.
وبناء على ما تقدم يتضح أن الإطار القانوني لقسمة العقارات المحفظة يقوم على مبدأين متوازيين مبدأ حرية المالكين في التصرف في أموالهم بما في ذلك طلب القسمة، ومبدأ استقرار المعاملات وحماية الغير المقيدين على الرسم العقاري، وهما مبدآن يسعى التشريع المغربي من خلال ظهير التحفيظ العقاري، وقانون الالتزامات والعقود إلى تحقيق الانسجام بينهما عبر إقرار تقييدات وإجراءات شكلية دقيقة تكفل التوازن بين الحقوق المتعارضة ،وهو ما يجعل مسألة القسمة في ظل الحجز العقاري مجالا خصبا لتدخل القضاء من أجل تأويل النصوص وتطبيقها بشكل يضمن حماية الدائنين دون تجريد المالكين من حقوقهم المشروعة
الفقرة الثانية: الطبيعة القانونية للحجز العقاري وأثره على سلطة المالك في التصرف والتقسيم
يعد الحجز العقاري من أهم الوسائل القانونية التي يقرها المشرع لضمان تنفيذ الالتزامات وصيانة حقوق الدائنين، وهو إجراء ذو طبيعة قضائية يترتب عنه تجميد التصرف في العقار المحجوز لفائدة الدائن الحاجز حماية لحقه إلى حين استيفاء الدين أو زوال الحجز، وقد نظم المشرع المغربي هذا الإجراء في قانون المسطرة المدنية ضمن الفصول من 452 إلى 487 مميزا بين الحجز التحفظي والحجز التنفيذي، تبعا للمرحلة التي يوجد فيها الدين والحكم القضائي الصادر بشأنه، فالحجز التحفظي كما حددته مقتضيات الفصل 452 من قانون المسطرة المدنية هو إجراء وقتي يهدف إلى وضع يد القضاء على العقار ومنع المدين من التصرف فيه تصرفا يضر بالدائن، فهو لا ينقل الملكية ولا يؤدي إلى البيع، وإنما يهدف فقط إلى تجميد الحالة القانونية للعقار لضمان بقاء المال في ذمة المدين إلى حين صدور حكم نهائي قابل للتنفيذ.
أما الحجز التنفيذي فهو المرحلة التالية للحجز التحفظي، إذ يتم بعد حصول الدائن على سند تنفيذي وفق أحكام الفصل 469 من قانون المسطرة المدنية ويتخذ شكل إجراء نهائي يرمي إلى بيع العقار جبرا عن طريق المزاد العلني لاستيفاء الدائن لحقه المالي، ومن ثم فإن طبيعة الحجز التنفيذي تجعل من العقار المحجوز محلا للتنفيذ الجبري، ولا يبقى للمدين الحق في التصرف فيه بأي وجه من الوجوه سواء بالبيع أو القسمة أو الرهن إلى حين انتهاء الإجراءات وتصفية الدين، وهذا التقييد لا يمس جوهر الملكية في حد ذاتها وإنما يقيد سلطات المالك الثلاث، وهي الاستعمال والاستغلال والتصرف في الحدود التي يقتضيها التنفيذ
وقد أفرز العمل القضائي المغربي تمييزا دقيقا بين الأثر القانوني لكل من الحجز التحفظي والتنفيذي في علاقة ذلك بحقوق المالكين المشتركين إذ جاء في قرار لمحكمة النقض عدد 590 بتاريخ 24 يوليوز 2018 في الملف العقاري عدد 3487/1/1/2016 أن الحجز التحفظي لا ينزع الملكية ولا يمنع القسمة وإنما يظل قائما على الحصة المخصصة للمحجوز عليه بعد القسمة ما لم يرفع بقرار قضائي صريح في حين أن الحجز التنفيذي يمنع أي تصرف إلى حين تمام البيع بالمزاد العلني، ومن ثم فإن الحجز التحفظي لا يعدو أن يكون قيدا مؤقتا لحماية الدين في حين يشكل الحجز التنفيذي تجسيدا لمبدأ الضمان العام عبر تحويل المال المحجوز إلى مصدر للأداء.
ويستمد الحجز العقاري مشروعيته من مبدأ الضمان العام المنصوص عليه في الفصل 1241 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص على أن أموال المدين ضمان عام لدائنيه جميعا، وأن الدائنين متساوون في هذا الضمان ما لم يكن لأحدهم امتياز خاص، فبمقتضى هذا المبدأ يكون للدائن أن يتتبع أموال مدينه ضمانا لحقه وهو ما يبرر إتاحة الحجز كإجراء وقائي وتنفيذي يهدف إلى الحفاظ على الضمان دون أن يشكل في ذاته مساسا بجوهر الملكية المقررة دستوريا في الفصل 35 من الدستور المغربي.
وفي نطاق العقارات المحفظة يكتسي الحجز طابعا خاصا إذ لا ينتج آثاره القانونية إلا من تاريخ تقييده بالرسم العقاري، عملا بمقتضيات الفصل 87 من ظهير التحفيظ العقاري، فالتقييد هو الذي يمنح الحجز قوة في مواجهة الغير ويجعله مقيدا لكل تصرف لاحق على التسجيل، كما أن الفصل 91 من نفس الظهير يؤكد أن كل تقييد لاحق لا يمكن أن يتم إلا بعد رفع التقييد السابق المتعارض معه مما يجعل المحافظ العقاري ملزما برفض أي تقييد لقسمة عقار مثقل بحجز قائم ما لم يتم تقديم ما يثبت رفع الحجز أو تحويله إلى الحصة الخاصة بالمحجوز عليه، وهذا ما أكدته المذكرة التوجيهية للوكالة الوطنية للمحافظة العقارية عدد 3701 بتاريخ 28 شتنبر 2017 التي شددت على ضرورة احترام ترتيب التقييدات حماية لحقوق الدائنين
وبذلك فالحجز العقاري سواء كان تحفظيا أو تنفيذيا لا يؤدي إلى نزع ملكية العقار بشكل فوري، بل يحد من سلطة المالك في التصرف بما يحقق التوازن بين حق الدائن في الضمان وحق المدين في الملكية فالفقه المغربي مجمع على أن الحجز التحفظي يشكل مجرد وسيلة لحماية الدين دون أن ينقل الحق العيني للدائن، بينما الحجز التنفيذي هو الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى انتقال الملكية بعد تمام البيع القضائي، كما أشار إلى ذلك الفقيه أحمد الخمليشي في مؤلفه شرح قانون المسطرة المدنية الجزء الثالث حين اعتبر أن الحجز العقاري لا يزيل الملكية بل يعلق آثارها إلى حين الفصل في النزاع.
وتتجلى أهمية الطبيعة القانونية للحجز العقاري في تحديد مدى أثره على إمكانية القسمة فطالما أن الحجز التحفظي لا ينزع الملكية، وإنما يقيد حرية التصرف فإنه لا يمنع الشركاء الآخرين من طلب القسمة شريطة احترام حقوق الدائن الحاجز وبقاء الحجز قائما على الحصة التي ستؤول إلى المدين بعد القسمة، أما في حالة الحجز التنفيذي، فإن العقار يكون قد دخل في مرحلة التنفيذ الجبري ولا يمكن معه مباشرة أي قسمة لأن ذلك من شأنه أن يعرقل عملية التنفيذ ويؤثر في مبدأ المساواة بين الدائنين وهو ما أكده القضاء المغربي في العديد من القرارات التي ربطت بين مشروعية القسمة وزوال الحجز التنفيذي،ومن ثم فإن الحجز العقاري يشكل قيدا قانونيا مقيدا للسلطة المطلقة للمالك في التصرف في ملكه، لكنه في الوقت نفسه لا ينسف حقه في التملك وإنما يعلق ممارسته إلى حين استيفاء الدين أو رفع الحجز، وهو ما يعكس التوازن الذي سعى إليه المشرع المغربي بين حماية الائتمان العقاري واستقرار المعاملات من جهة، وضمان حق الملكية الفردية من جهة أخرى، ويجعل من فهم الطبيعة القانونية للحجز العقاري أمرا جوهريا لتحديد الأثر الذي يترتب عنه في مواجهة تصرفات القسمة داخل نظام التحفيظ العقاري.
الفقرة الثالثة: حدود إمكانية قسمة العقارات المحفظة المثقلة بحجز عقاري بين المنع والإجازة
تثير مسألة قسمة العقارات المحفظة المثقلة بحجز عقاري إشكالا بالغ الدقة في الممارسة القانونية والقضائية المغربية، لأنها تتقاطع فيها مصلحتان متعارضتان من حيث الغاية ومتداخلتان من حيث الأثر فمن جهة يسعى الدائن الحاجز إلى تثبيت حقه في الضمان العام وتجميد التصرفات التي قد تمس بضمانه ومن جهة أخرى يطلب الشركاء في العقار المحفظ إنهاء حالة الشياع باعتبارها وضعا استثنائيا يحد من سلطة المالكين ويعيق استثمار العقار أو التصرف فيه بحرية، وتكمن الصعوبة في إيجاد الموازنة بين هاتين المصلحتين داخل إطار قانوني صارم تحكمه مقتضيات ظهير التحفيظ العقاري وقانون المسطرة المدنية اللذان يقران من جهة مبدأ استقرار التقييدات العقارية ومن جهة أخرى مبدأ حرية الشركاء في طلب القسمة.
وفي هذا الصدد، ثار الخلاف في الفقه والقضاء المغربيين حول مدى جواز القسمة في ظل وجود حجز عقاري، فالاتجاه الأول الذي يستند إلى مبدأ استقرار التقييدات المنصوص عليه في الفصل 91 من ظهير التحفيظ العقاري، يرى أن وجود حجز مقيد بالرسم العقاري يجعل من غير الممكن تقييد أي قسمة لاحقة مادام هذا التقييد يشكل قيدا قانونيا سابقا ومتعارضا مع أثر القسمة، لأن القسمة بطبيعتها تحدث تغييرا في البنية القانونية للملكية من المشاع إلى المفروز، وبالتالي لا يمكن للمحافظ العقاري قبول تقييد القسمة دون رفع الحجز أو تعديل نطاقه، ذلك أن الحجز يقيد الملكية في مجموعها ولا يمكن تقسيم أثره إلا بقرار قضائي صريح يحدد الحصة التي سيبقى عليها الحجز بعد القسمة.
أما الاتجاه الثاني فقد تبنى فهما أكثر مرونة وانفتحا على مقتضيات العدالة والمصلحة الاقتصادية، إذ اعتبر أن الحجز التحفظي لا يشكل مانعا مطلقا من القسمة لأنه لا ينزع الملكية، وإنما يهدف فقط إلى تجميدها مؤقتا لحماية الدائنن وبالتالي يمكن إجراء القسمة مع الاحتفاظ بالحجز قائما على الحصة التي ستؤول إلى المحجوز عليه بعد القسمة، وهو الاتجاه الذي كرسه القضاء المغربي في عدة قرارات حيث اعتبرت محكمة النقض في قرارها عدد 207 بتاريخ 16 فبراير 2016 في الملف المدني عدد 2491/1/1/2014، أن القسمة لا تمس بحقوق الدائن الحاجز، وأن الحجز يبقى قائما على الحصة التي تعود للمحجوز عليه بعد القسمة، مما يعني أن المحكمة أقرت بإمكانية الجمع بين إجراء القسمة وحماية حقوق الحاجز في آن واحد، ويستند هذا الاتجاه القضائي إلى منطق متوازن قوامه أن القسمة لا تخلق حقا جديدا بل تحدد فقط نطاق الحقوق القائمة بين الشركاء، فهي ليست بيعا ولا تنازلا وإنما مجرد تحديد للحصص الواقعية التي كانت قائمة على الشياع، ومن ثم فإنها لا تمس بالحجز المسجل، وإنما تنقله بحكم القانون إلى الجزء المفرز الخاص بالمدين، وهو ما أكدته محكمة الاستئناف بالرباط في قرارها عدد 1347 بتاريخ 12 نونبر 2019 حين اعتبرت أن القسمة القضائية ممكنة رغم وجود حجز تحفظي بشرط أن تبقى آثار الحجز مقصورة على الحصة التي تعود للمحجوز عليه وأن لا يتم أي تقييد يمس بحقوق الدائنين المقيدين بالرسم العقاري.
غير أن هذا التسامح لا يمتد إلى حالة الحجز التنفيذي، الذي يعتبر مرحلة من مراحل التنفيذ الجبري، إذ أن العقار في هذه الحالة يصبح محلا لإجراءات البيع القضائي تحت إشراف قاضي التنفيذ ،فلا يمكن معه إجراء القسمة، لأن ذلك سيؤدي إلى تغيير محل التنفيذ والإخلال بمبدأ المساواة بين الدائنين الذي يقوم عليه نظام التنفيذ، كما أن المحافظ العقاري ملزم برفض أي تقييد في هذه الحالة ما لم يصدر حكم صريح برفع الحجز التنفيذي أو بتأجيله لحين البت في طلب القسمة، ومن ثم فإن القسمة في ظل الحجز التنفيذي تعد منعدمة الأثر في مواجهة الدائنين الحاجزين، وقد أكد الفقه المغربي على هذا التمييز حيث ذهب الأستاذ محمد الكشبور في مؤلفه “التحفيظ العقاري في ضوء العمل القضائي” إلى أن القسمة لا يمكن أن تتم إلا إذا كان الحجز تحفظيا لأن هذا الأخير لا يحد من الملكية إلا مؤقتا، أما الحجز التنفيذي فيجعل العقار في حوزة القضاء ويمنع أي تصرف فيه إلى حين تمام البيع القضائي، كما أشار إلى أن المحافظ العقاري لا يملك سلطة تقديرية في قبول تقييد القسمة ما دام هناك حجز قائم لأن التقييدات في السجل العقاري تخضع لمبدأ الترتيب الزمني الذي لا يقبل الاستثناء إلا بمقتضى أمر قضائي.
إن حدود إمكانية قسمة العقارات المحفظة المثقلة بحجز عقاري تتوقف إذن على طبيعة الحجز ذاته فإذا كان الحجز تحفظيا جاز للقضاء الإذن بإجراء القسمة شريطة أن تبقى آثار الحجز قائمة على الحصة الخاصة بالمحجوز عليه ضمانا لحقوق الدائنين، أما إذا كان الحجز تنفيذيا فإن القسمة تصبح متعذرة إلى حين انتهاء إجراءات التنفيذ أو رفع الحجز، لأن العقار يكون قد خرج عن إرادة المالكين وأصبح محلا لتصرف قضائي جبري، ويترتب عن ذلك أن أي قسمة تتم في هذه المرحلة لا تكون نافذة في مواجهة الدائنين ولا يمكن تقييدها بالمحافظة العقارية.
وهكذا، فمن خلال تتبع العمل القضائي المغربي يتضح أن التوجه الغالب يميل إلى إعمال مبدأ المرونة في التعامل مع القسمة متى كان الحجز تحفظيا، وهو توجه ينسجم مع روح القانون ومع مقتضيات العدالة العقارية التي تسعى إلى حماية الدائن دون تعطيل حقوق الشركاء في التملك والاستغلال، لكنه في المقابل يظل مقيدا بمراعاة الضوابط الشكلية للتقييد والتراتبية القانونية للتصرفات، كما يظل خاضعا لرقابة المحافظ العقاري، الذي يحرص على أن لا يتم أي تقييد يمس بالحجوز المسجلة ما لم يصدر حكم قضائي يحدد مصيرها بشكل صريح، وبذلك تتجلى حدود الإجازة والمنع في ضوء التوازن بين سلطات المالكين وحقوق الدائنين المقيدة بالرسم العقاري
الفقرة الرابعة: الحلول القضائية والعملية لتوفيق التوازن بين حقوق الدائنين وحق الشركاء في إنهاء الشياع
إن التوفيق بين حماية الدائنين الذين بادروا إلى إلقاء حجز عقاري على عقار محفظ ضمانا لدين ثابت، وبين تمكين الشركاء في نفس العقار من ممارسة حقهم في القسمة يشكل غاية تشريعية وقضائية تتوخى تحقيق العدالة التعاقدية والتوازن بين المصالح المتعارضة، فالدائن الحاجز يتمسك بحق الضمان العام المقرر له بموجب الفصل 1241 من قانون الالتزامات والعقود، بينما يتمسك الشركاء بحقهم في إنهاء الشياع الذي لا يرغبه القانون إلا على سبيل الاستثناء عملا بالفصل 973 من نفس القانون، وهو ما يستدعي تدخل القضاء لتأويل النصوص وتطبيقها بطريقة تحقق الانسجام بين النظامين العقاري والتنفيذي.
لقد آسهم القضاء المغربي في بلورة حلول عملية للتوفيق بين الحقين، وذلك من خلال مجموعة من القرارات التي أرست مبادئ عملية تسمح بإجراء القسمة في ظل الحجز التحفظي مع ضمان بقاء الحجز قائما على الحصة الخاصة بالمحجوز عليه، فقد جاء في قرار محكمة النقض عدد 207 الصادر بتاريخ 16 فبراير 2016 أن القسمة لا تمس بحقوق الدائنين المقيدين بالحجز وأن الحجز ينتقل تلقائيا إلى الجزء المفرز الذي آل إلى المدين، كما أكدت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في قرارها عدد 1124 بتاريخ 7 ماي 2020، أن القسمة القضائية لا يمكن أن ترفع الحجز وإنما تحدد فقط نطاقه مما يعني أن القضاء لا يمنع القسمة بل يوجه آثارها بما يضمن استمرار الحجز في مواجهة الحصة المفرزة للمحجوز عليه وهو ما يشكل حلا عمليا مرنا ومتوازنا يراعي مصلحة الطرفين
ومن الحلول التي اعتمدها العمل القضائي كذلك إمكانية رفع الحجز التحفظي مؤقتا بأمر قضائي خاص قصد تمكين الأطراف من إجراء القسمة ثم إعادة تقييده على الحصة التي آلت إلى المحجوز عليه بعد القسمة، وقد سارت بعض المحاكم الإدارية في هذا الاتجاه من خلال اعتبار أن رفع الحجز مؤقتا لا يشكل مساسا بحق الدائن وإنما يندرج ضمن السلطة التقديرية للقضاء في تنظيم إجراءات التنفيذ وتيسير تصفية النزاعات العقارية خصوصا حين تكون القسمة ضرورية لتحديد نصيب كل طرف تمهيدا لمباشرة إجراءات التنفيذ بشكل محدد وعادل
أما على مستوى المحافظ العقاري، فإن دوره يتجلى في احترام الترتبية القانونية للتقييدات عملا بمقتضيات الفصل 91 من ظهير التحفيظ العقاري، الذي يلزمه بعدم تقييد أي تصرف يتعارض مع تقييد سابق إلا بعد رفعه أو تعديله، ولذلك فإن المحافظ يرفض تلقائيا تقييد القسمة إذا كان الرسم العقاري مثقلا بحجز قائم ما لم يتم الإدلاء بحكم قضائي صريح يحدد نطاق الحجز أو يقرر رفعه مؤقتا، كما أن مذكرات المحافظ العام تؤكد على ضرورة التأكد من عدم المساس بحقوق الغير المقيدين بالرسم العقاري وأن أي قسمة يتم تقييدها يجب أن تعكس الوضعية القانونية للعقار في تاريخ التقييد، دون إلغاء أو تجاوز للتقييدات السابقة
إن الموازنة بين حقوق الدائنين وحقوق الشركاء لا يمكن أن تتحقق فقط على المستوى القضائي، بل تتطلب أيضا إصلاحا تشريعيا يعيد تنظيم العلاقة بين نظام التحفيظ العقاري ونظام التنفيذ الجبري، ذلك أن المقتضيات الحالية تترك هامشا واسعا للاجتهاد القضائي، مما يؤدي إلى تفاوت في التطبيق بين المحاكم، ولعل من بين المقترحات الممكنة إدراج نص صريح ضمن ظهير التحفيظ العقاري أو قانون المسطرة المدنية، يجيز للمحكمة الإذن بإجراء القسمة رغم وجود حجز تحفظي، شريطة إبقاء الحجز قائما على الحصة المفرزة للمحجوز عليه، وهو ما من شأنه توحيد الممارسة وتبديد الغموض الذي يعتري هذه المسألة في الواقع العملي، كما أن الحلول العملية يجب أن تمتد إلى مستوى الإجراءات التقنية للمحافظات العقارية، من خلال وضع آلية معلوماتية تسمح بتتبع الحجوز والتحويلات التي تطرأ عليها بعد القسمة ضمانا لتفادي أي تضارب في التقييدات ولحماية المراكز القانونية للمقيدين بالرسم العقاري، ومن جهة أخرى ينبغي توعية المتعاملين في المجال العقاري بمخاطر التصرف في العقارات المحجوزة وبالآثار القانونية للحجوز المسجلة تجنبا للنزاعات التي تنشأ لاحقا عند محاولة تقييد القسمة أو التصرفات اللاحقة لها.
وعليه فإن الاجتهاد القضائي المغربي، وإن كان قد حقق قدرا من التوازن بين المصلحتين، فإنه ما زال بحاجة إلى تأصيل تشريعي يحدد بدقة حدود سلطة القضاء في الإذن بالقسمة رغم وجود حجز، ويحدد أيضا التزامات المحافظ العقاري في التعامل مع هذه الحالات، إذ أن غياب نصوص واضحة يجعل التطبيق العملي متذبذبا ويؤدي أحيانا إلى تعطيل حقوق الشركاء أو المساس بضمانات الدائنين، ولذلك فإن الحل الأمثل يكمن في نهج مقاربة تكاملية بين القانونين العقاري والمسطرى تستحضر خصوصية العقار المحفظ كأصل اقتصادي واستثماري، وتؤطر في الآن ذاته حق الدائن في الضمان باعتباره من النظام العام المالي، وهكذا فمن خلال ما سبق يتضح أن الحلول القضائية والعملية لقسمة العقارات المحفظة المثقلة بحجز عقاري تقوم على مبدأ التوفيق لا الإقصاء، فالقسمة لا يجب أن تعتبر إجراء منافيا للحجز طالما أنها لا تنقل الملكية، بل تحدد مداها والحجز لا ينبغي أن يشكل مانعا مطلقا من القسمة طالما أن غايته حماية الدين لا تعطيل حق الملكية، وهكذا يتأكد أن التوازن بين هذين المبدأين هو الطريق الأمثل لضمان استقرار المعاملات العقارية وحماية الائتمان المدني في آن واحد.
المراجع:
- ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري كما تم تغييره وتتميمه بالقانون رقم 14.07
- قانون الالتزامات والعقود المغربي، خاصة الفصول 960 إلى 981 المتعلقة بالقسمة، والفصل 1241 المتعلق بحق الضمان العام للدائنين
- قانون المسطرة المدنية، لا سيما الفصول 148 و149 و451 وما يليها بشأن الحجز التحفظي والتنفيذي
- القرار عدد 207 الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 16 فبراير 2016، ملف مدني عدد 3241/1/1/2014، منشور بمجلة قضاء محكمة النقض، عدد خاص بالتحفيظ العقاري
- قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء عدد 1124 بتاريخ 7 ماي 2020، غير منشور، أورده الأستاذ عبد العزيز حضري في مقاله حول “القسمة العقارية في ظل وجود الحجز التحفظي”، مجلة المحاكم المغربية، عدد 155
- قرار محكمة النقض عدد 1280 بتاريخ 22 شتنبر 2015، ملف مدني عدد 5483/1/1/2013، الذي أكد أن القسمة لا ترفع الحجز وإنما تحدد نطاقه
- منشور المحافظ العام على الأملاك العقارية عدد 352 بتاريخ 4 مارس 2019 حول “التعامل مع التقييدات المتعلقة بالحجوز العقارية”
- عبد الكبير العلوي الصوصي، “التحفيظ العقاري في ضوء العمل القضائي”، الطبعة الثانية، 2018، دار القلم
- محمد خيري، “القانون العقاري المغربي: الحقوق العينية الأصلية والتبعية”، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2016
- عبد الرزاق السنهوري، “الوسيط في شرح القانون المدني”، الجزء التاسع، دار النهضة العربية، القاهرة
- العربي مياد، “القسمة العقارية بين النظرية والتطبيق”، مجلة الحقوق المغربية، عدد 64، 2020
- الطيب برادة، “التحفيظ العقاري والعمل القضائي المغربي”، دار النشر المغربية، 2017
- عبد الكريم الطالب، “الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية”، الطبعة العاشرة، 2022، مطبعة المعرفة مراكش
- قرار محكمة النقض عدد 553 بتاريخ 10 يوليوز 2018، ملف مدني عدد 2145/1/1/2016، الذي اعتبر أن القسمة لا تمس بحقوق الدائنين المقيدين بالحجز
- دورية وزارة العدل رقم 19/س2 بتاريخ 12 نونبر 2019 بشأن تنفيذ الأحكام القضائية المتعلقة بالقسمة في حالة وجود حجوز



