قانون المالية 2026: هندسة ملكية لتعزيز قوة المغرب الصاعد – الدكتور : البشير الحداد الكبير
قانون المالية 2026: هندسة ملكية لتعزيز قوة المغرب الصاعد
البشير الحداد الكبير، دكتور في القانون العام.
إن أهم موضوع راهني الآن هو مستجدات قانون المالية 2026، فكما هو معلوم أن المشرع الدستوري المغربي نص في الباب الرابع من دستور 2011 على المراحل التي يمر منها مشروع قانون المالية بدءا من الفصل 75 ثم 76 و77، دون أن ننسى القانون التنظيمي 130.13 الذي جاء يكرس لنا ميزانية الأهداف والنتائج وليس ميزانية الوسائل، لكن ما يهمنا في هذا المقال ما جاء به مشروع قانون المالية 2026، بمعنى أننا سنتحدث عن هذا المشروع ليس من الجانب الدستوري أو القانوني، وإنما كسياسة عمومية.
إن مشروع قانون المالية ما هو إلا عقد إجتماعي يتم تجديده كل سنة ما بين الدولة والمجتمع، تحدد فيه خارطة الطريق للسنة المقبلة، يحمل العديد من الإلتزامات التي يتم تنزيلها من طرف الحكومة.
إن مشروع قانون المالية 2026 جاء ترجمة حقيقية وفعلية لمضامين خطابي العرش وافتتاح البرلمان لهذه السنة، ويؤكد بالملموس العناية الملكية الفائقة بالمصلحة العليا للوطن والمواطن.
إن مشروع قانون المالية للسنة المقبلة يؤكد أننا لسنا أمام مغرب الشعارات وإنما أمام مغرب العمل والتنمية، مغرب المشاريع والمخططات.
ما يميز المؤسسة الملكية أنها تقوم بتشخيص دقيق للأوضاع وتقدم الحلول عبر البرامج التي تحدد لها الإمكانيات والوسائل لتنزيلها مع تأطيرها بمدة زمنية وتتبع تنفيذها على أرض الواقع، بمعنى أننا أمام ملكية الأوراش والنتائج، ملكية القول والعمل .
إن ما يميز دستور 2011 والقانون التنظيمي للمالية العمومية رغم إعطاءهما الصلاحية للحكومة في إعداد مشروع قانون المالية والمصادقة عليه من طرف البرلمان، إلا أنه لابد من تطعيمه بالتوجيهات الملكية السامية، من خلال الفصل 49 من الدستور الجديد، بمعنى الإشراف الملكي على الحكومة ، بإعتبار أن النظام الدستوري المغربي يقوم على ثنائية السلطة التنفيذية.
لقد سبق لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده في الخطابين المشار إليهما أعلاه بأن شدد بأنه لا يريد مغربا يسير بسرعتين، وبإعداد جيل جديد من المخططات والبرامج التنموية تحقيقا للعدالة الإجتماعية والمجالية، فمشروع قانون المالية يؤكد لنا بالملموس بأننا أمام دولة إجتماعية بإمتياز تضع المواطن المغربي في صلب أولوياتها.
إن مشروع قانون المالية للسنة المقبلة يدل على القيادة الرشيدة والرؤية الحكيمة والمتبصرة للمؤسسة الملكية، فجلالة الملك حفظه الله ورعاه يريد مغربا يجمع ما بين التنمية الإقتصادية والإجتماعية، فهذا المشروع المالي ليس مجرد أرقام وإنما خارطة طريق واضحة المعالم تهدف إلى تحسين ظروف عيش المواطنين، يتمتع فيه الجميع بالشغل، الصحة، التعليم، السكن، والدعم الإجتماعي، بمعنى تكريس العدالة الإجتماعية والمجالية، وقد سبق لجلالته أسماه الله وأعز أمره في خطاب العرش 2019 أن أكد بأن المغرب وطننا وبيتنا المشترك.
سنتطرق لمشروع قانون المالية وفق ثلاثة محاور أساسية:
+ “المحور الأول: الإستثمار محفز للتنمية الإقتصادية “
من بين النقط التي جاء بها مشروع قانون المالية تشجيع الإستثمارات الوطنية والأجنبية، فكما هو معلوم أن المغرب منذ الإستقلال نهج سياسية تشجيع الإستثمارات من خلال التشريعات والمؤسسات، ميثاق الاستثمار لسنة 1995 والذي تم نسخه بميثاق الإستثمار الجديد (القانون الإطار 03.22)، ثم إحداث المراكز الجهوية للإستثمار سنة 2002 وإخراج إطار تشريعي خاص بها (القانون 47.18)، ومن النقط الأخرى التي تضمنها المشروع المالي للسنة المقبلة، تشجيع الطاقات المتجددة لاسيما الهيدروجين الأخضر وبالضبط برنامج “عرض المغرب ” الذي سبق أن أكد عليه جلالة الملك حفظه الله ورعاه في خطاب العرش سنة 2023، وهذا يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة.
ولكي نكون أمام إستثمار جيد سواء وطني أو أجنبي فلابد من تحسين مناخ الأعمال وقد سبق لجلالته نصره الله وأيده في خطاب افتتاح البرلمان سنة 2022 أن أكد على هذا المعطى مع تشجيع آليات الوساطة والتحكيم وتبسيط المساطر الإدارية…إلخ.
ومن النقط الأخرى التي جاء بها مشروع قانون المالية نجد الشراكة بين القطاعين العام والخاص، إذ تعتبر من أهم آليات التدبير العمومي الجديد، فإذا عدنا لجائحة كورونا، نجد أن صندوق محمد السادس للإستثمار المحدث بموجب التعليمات الملكية في خطابي العرش وافتتاح البرلمان سنة 2020، يشتغل في نفس الإتجاه، ففي السابق كنا أمام شركات الإقتصاد المختلط، أما الآن فقد أصبحنا نتكلم في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية عن شركات التنمية الجهوية والمحلية، وهي من الطرق الفعالة لتحقيق العدالة الإجتماعية والمجالية.
من الأمور المهمة التي جاء بها هذا المشروع مسألة تنويع مصادر التمويل، فجلالة الملك نصره الله وأيده أكد في خطاب افتتاح البرلمان سنة 2019 أنه مهما بلغ جودة المشاريع المبرمجة وصواب القرارات المتخذة فإن تنفيذها يحتاج إلى التمويل، وهي رسالة ملكية واضحة للعقل السياسي الحكومي بأن يبحث عن مصادر تمويل تضمن تنفيذ المخططات والبرامج على أرض الواقع وتضمن استدامتها واستمراريتها، وهذه النقطة أشار إليها جلالته حفظه الله ورعاه أيضا في خطاب افتتاح البرلمان سنة 2023.
+ “المحور الثاني: الدولة الإجتماعية في صلب أولويات القانون المالي”
يوما بعد يوم يؤكد المغرب للعالم بأنه دولة إجتماعية حقيقية، وهي قناعة متجذرة فيه، ففي العهد الجديد رأينا سياسات إجتماعية عديدة، سنتناول أهم ما جاء به مشروع قانون المالية في الشق الإجتماعي من خلال ما يلي:
* اقتصاد إجتماعي تضامني: من خلال دعم المقاولات الصغيرة جدا والصغرى والمتوسطة مما يساهم في خلق مناصب الشغل ومحاربة البطالة، فجلالة الملك دعا في خطاب افتتاح البرلمان سنتي 2019 و2022 القطاع الخاص البنكي لتشجيع الشباب على خلق المقاولات، وهذا ما كنا رأينا من خلال برنامج انطلاقة وفرصة.
* دعم تشغيل الشباب لاسيما بالعالم القروي، إن ما يميز المؤسسة الملكية أن لديها رؤية ثاقبة تخطط على المدى البعيد، ففي خطاب افتتاح البرلمان سنتي 2018 و2020 وكذا خطاب ثورة الملك والشعب سنة 2019 دعا جلالته حفظه الله ورعاه إلى التكوين المهني لشباب العالم القروي وفق تخصصات تناسب سوق الشغل، حتى نستطيع تكوين طبقة متوسطة بالعالم القروي، فجلالته لا يريد مغربا يسير بسرعتين، يريد مغربا لا تكون فيه الفوارق المجالية، وهذا هو المغزى من الجهوية المتقدمة التي سيُعتمد عليها في تنزيل الجيل الجديد من المخططات تراعى فيه الخصوصيات الترابية لكل منطقة.
* دعم قطاع الماشية وإعادة تشكيل القطيع الوطني تكريسا للأمن الفلاحي والغذائي وتخفيفا لآثار الجفاف.
* التركيز على الصحة والتعليم بإعتبارهما ركيزتين أساسيتين في أي عملية تنموية، إذ ستصل ميزانية الإستثمار العمومي إلى 140 مليار درهم مع إحداث أكثر من 27 ألف منصب شغل، هنا نلاحظ أن ميزانية الإنفاق الإجتماعي تفوق فيها المغرب على عدد من الدول، ففي العصر الحالي نرى بأن العديد من دول العالم تحاول التركيز فقط على التنمية الإقتصادية وتقلص من النفقات في الشق الإجتماعي، إلا أن المغرب يعطي دروسا للعالم بأن الإستثمار في الرأسمال البشري أهم شيء، إذ سيتم استكمال المراكز الإستشفائية الجامعية وتأهيل وتحديث البنيات التحتية الطبية بمعنى تأهيل وتحديث العرض الصحي، كما سيتم مواصلة تنزيل إصلاح الورش التعليمي حتى تكون هناك فعالية ونجاعة ومردودية.
* مواصلة تنزيل الورش الملكي المتعلق بتعميم الحماية الإجتماعية من خلال الدعم الإجتماعي المباشر وتنزيل المرتكز الثالث والرابع المنصوص عليهما في قانون الإطار 09.21 والمتعلقين بتعميم التعويض عن فقدان الشغل وتوسيع الإنخراط في أنظمة التقاعد، بمعنى هيكلة القطاع غير المهيكل وتسريع إدماجه في النسيج الإقتصادي والإجتماعي.
* مواصلة تنزيل الورش الملكي المتعلق بالدعم المباشر لاقتناء السكن وهو استكمال للورش الملكي مدن بدون صفيح.
+” المحور الثالث: آليات تنزيل مضامين القانون المالي”
إن ما يميز المؤسسة الملكية أنها تضع التصورات والبرامج والمخططات كسياسات عمومية ثم تضع الآليات لضمان تنزيلها على أحسن وجه، فنجاح الأوراش السالفة الذكر رهين بالإعتماد على مبادئ الحكامة الجيدة المنصوص عليها في الباب 12 من الدستور ثم الميثاق الجديد للمرافق العمومي(القانون 54.19)، ثم الإعتماد على سياسة الأهداف والنتائج، وهي مقاربة جديدة في التدبير العمومي، بمعنى تحديد الأهداف وتقييم الحصيلة المنجزة، دون أن ننسى ميثاق اللاتمركز الإداري(المرسوم 2.17.618 )الذي يضمن لنا الإلتقائية والتجانس والفعالية والنجاعة في تنفيذ المشاريع والبرامج العمومية.
كما هو معلوم أن نجاح أي مخطط رهين بالإدارة العمومية، لهذا السبب بادر المغرب إلى نهج سياسة الإصلاحات المؤسساتية من قبيل إصلاح المؤسسات والمقاولات العمومية (القانون الإطار 50.21)، بالإضافة إلى إصلاح المنظومة القضائية لتعزيز جاذبية مناخ الأعمال وتقريب مرفق العدالة من المواطنات والمواطنين.
وسنختم بمقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح البرلمان هذه السنة، حيث قال جلالة الملك أسماه الله وأعز أمره:”…إن السنة التي نحن مقبلون عليها، حافلة بالمشاريع والتحديات.
وإننا ننتظر منكم جميعا، حكومة وبرلمانا، أغلبية ومعارضة، تعبئة كل الطاقات والإمكانات، وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين.
فكونوا رعاكم الله، في مستوى الثقة الموضوعة فيكم، وفي مستوى الأمانة الملقاة على عاتقكم، وما تتطلبه خدمة الوطن، من نزاهة والتزام ونكران ذات.
قال تعالى: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”. صدق الله العظيم.”.