محاولة للفصل ما بين الشأن القضائي والشأن الإداري في العملية القضائية على ضوء قرار المحكمة الدستورية 255/25 ذ/احمد اولادعيسى
- محاولة للفصل ما بين الشأن القضائي والشأن الإداري في العملية القضائية على ضوء قرار المحكمة الدستورية 255/25
بقلم : ذ/احمد اولادعيسى
باحث/ إطار بوزارة العدل
استطاع قانون التنظيم القضائي ان يؤسس لمفاهيم جديدة داخل المنظومة القضائية ( الإدارة القضائية ، المسؤول الإداري ، مكتب المحكمة ،لجنة الصعوبات ،،،)وغيرها من المفاهيم الأخرى التي تكرس بشكل واضح التحولات الكبرى داخل المنظومة القضائية من مختلف الجوانب، سواء كبنية مؤسساتية او وظيفية ،غير ان الامر لا يخلو من وجود بعض الاشكالات التي تحول دون السير بوثيرة اكثر تطورا ،للوصول الى منظومة قضائية حديثة ومؤهلة، مما قد ينعكس سلبا على النجاعة القضائية في بعدها السامي ،ومن جملة الإشكالات المطروحة في هذا الصدد، مسالة توزيع الأدوار وتحديد المهام داخل المنظومة القضائية ما بين السلطة القضائية بما تمثله ( القضاة) ووزارة العدل كسلطة تنفيذية بما تمثله ( كتابة الضبط ) ،هذه التركيبة أضحت اكثر تداخلا في ظل التطور المشهود في سياق الإصلاحات التي عرفتها منظومة العدالة، والتي دشنها الورش الكبير للإصلاح الشامل لمنظومة العدالة ،بحيث لا ينفصل هذا الأخير عن الإصلاحات التي باشرتها الدولة في مجال الإدارة العمومية بشكل عام . ومن هذا المنطلق ونظرا لخصوصية المرفق القضائي باعتباره رافدا مهما لتقديم الخدمة العمومية، هذه الاخيرة تتداخل في انتاجها عدة بنيات وظيفية (رجال القضاء) ،( اطر وموظفو كتابة الضبط)، (الخبراء) ،،، الشيء الذي يفرض إيجاد بنية تنظيمية محكمة، تحدد مجال تدخل كل جهاز في إطار من التعاون والانسجام، في احترام للمقتضيات الدستورية التي منحت للسلطة القضائية مكانة مهمة باعتبارها ضامنة للحقوق وحارسة للحريات.
وعلى هذا النحو سنحاول التطرق بشكل مفصل الى إشكالات التداخل وحدود الانفصال ما بين الشأن القضائي والشأن الإداري داخل المنظومة القضائية، وعلى وجه التحديد ما بين عمل القاضي وعمل موظفي كتابة الضبط على ضوء قرار المحكمة الدستورية 255/25 الصادر بتاريخ 04/08/2025 حول عدم دستورية بعض مواد قانون المسطرة المدنية وتحديدا المواد 624و628 .فالقاضي الدستوري وقف عند مقتضيات الفقرة الثانية من المادة 624 والفقرتين الثالثة والأخيرة من المادة 628 وتنص على التوالي على انه ” تتولى السلطة الحكومية المكلفة بالعدل تدبير هذا النظام المعلوماتي ومسك قاعدة المعطيات المتعلقة به بتنسيق مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة” وعلى انه ” تقيد القضايا حسب الترتيب التسلسلي لتلقيها في السجل الالكتروني المعد لهذه الغاية بالنظام المعلوماتي ،ويعين النظام المعلوماتي القاضي المكلف بالقضية او القاضي المقرر او المستشار المقرر ، حسب الحالة ،باعتباره مكلفا بتجهيز الملف المحال اليه فورا بطريقة الكترونية ” وعلى انه ” يمكن لرئيس المحكمة او من ينوب عنه ،عبر النظام المعلوماتي ،تغيير القاضي المكلف بالقضية او القاضي المقرر او المستشار المقرر حسب الحالة باعتباره مكلفا بتجهيز القضية والذي تم تعيينه وفق مقتضيات الفقرة الثالثة أعلاه” هذه المواد والتي اشارت الى ان تعيين قضاة الاحكام والقضاة المقررين ,,,,سيتولى النظام المعلوماتي saj القيام به بدلا من رئيس المحكمة او الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف ،حيث يندرج هذا التعديل في اطار رقمنة الإجراءات القضائية ،شانه شان باقي الإجراءات الأخرى كما هو الحال بالنسبة للتبليغ الالكتروني ،إيداع المقالات والمذكرات والطلبات وأداء الرسوم القضائية ،فالغاية من تبني هذه التدابير، هو إرساء معالم المحكمة الرقمية ونزع الصبغة المادية عن مجموعة من الإجراءات ،بيد ان المحكمة الدستورية تصدت لهذه المواد المشار اليها واعتبرت في تعليلها ان هذه الإجراءات تشكل مساسا باستقلال السلطة القضائية .
ان القراءة المتأنية للتعليل الذي تبناه القاضي الدستوري عبر هذا القرار، يقودنا الى الوقوف عند مستويين من الإشكالية: المستوى الأول والذي يفرض علينا تحديد مجموعة من المفاهيم التي تتطلب تدقيقا قد يسعف في كشف أماكن اللبس التي تعتري التعليل الذي أخذ به القاضي الدستوري.
ثم المستوى الثاني من الإشكالية: يرتبط بشكل وثيق بمدى التعارض الذي يمكن ان يحصل ما بين تدبير النظام المعلوماتي وكيفية اشتغاله واستقلال السلطة القضائية.
- تحديد مفهومي الشأن القضائي والإداري
غني عن البيان ان قانون المسطرة المدنية يعد الاطار الاجرائي الجامع لكل المهام التي تنظم العملية القضائية، ويحدد مجال تدخل كل طرف داخل المنظومة القضائية ،بيد ان الواقع الاجرائي تتداخل فيه مجموعة من الإجراءات التي تتخذ طابعا غير قضائي ولا حتى شبه قضائي، وهي بالمناسبة تدخل في سياق الاعمال الإدارية الصرفة ،سواء تلك الممارسة من قبل رئيس كتابة الضبط او من قبل رئيس المحكمة ويدخل في هذا الصدد ( تدبير الرخص الإدارية للقضاة ،وتحديد ساعات انعقاد الجلسات ،وتوزيع القضاة على الجلسات , تدبير الوضعية الوظيفية للقضاة,,,,) وكذلك الامر بالنسبة لرئيس كتابة الضبط ( الاشراف على الوضعية الإدارية للموظفين ،فضلا عن مهام حسابية من خلال اشرافه على الوضعية المحاسبية لصندوق المحكمة وإجراءات أخرى تدخل في هذا الباب) هذه الإجراءات تعد مهام إدارية صرفة وتدخل في اطار ما يصطلح عليه بالإدارة القضائية الذي يمارسها المسؤول القضائي والمسؤول الإداري على حد سواء ،وفق ما اكدته المحكمة الدستورية في قرارها عدد 19/89 م د بتاريخ 08/02/2029 ، وفي نفس المنحى هناك مهام قضائية بحتة يمارسها القضاة بشكل مستقل ( اصدار الاحكام ،اعمال وسائل تحقيق الدعوى / تعيين الخبراء. الاستماع الى الشهود. اليمين. الوقوف بعين المكان واجراء المعاينات. جلسات البحث،) هذه المهام حصرية، يختص بها القضاة ولا يمكن باي حال المساس بها، على اعتبار ان التحصين الدستوري لاستقلالية السلطة القضائية يكمن في سلطة القاضي في اصدار الاحكام بشكل مستقل، وفي نفس السياق هناك مهام شبه قضائية تمارس من قبل كتابة الضبط كما هو الحال بالنسبة للتبليغ والتنفيذ نظرا لارتباطهما بشكل وثيق بالمسار الاجرائي للدعوى، وما يترتب عنهما من أثر قانوني بالغ الاهمية.
هذه التوليفة الإجرائية لا تطرح أي اشكال من المنظور النظري، مادام ان النص القانوني حسم في الفصل ما بين هو قضائي خالص وشبه قضائي الذي يزاول من قبل كتابة الضبط، وعلى ضوء هذه الخصوصية التي تسم العملية القضائية ذات الطبيعة المركبة، اضحى القاضي الدستوري ملزما بالبحث عن مكامن التداخل الذي من شانه ان يمس باستقلال السلطة القضائية، فأمام التنصيص الدستوري على كون الاستقلالية مبدأ ثابت ،ولا يحق المساس به وهو متفق عليه بالأجماع ،غير ان استقراء نصوص الدستور وتحديدا الفصول 109و110 و115 توضح بشكل جلي ان المقصود بالاستقلالية كما تناوله الفصل 109 على وجه التحديد، هو حق القاضي في اصدار الاحكام وفق قناعته دون تدخل من أي جهة ،كما يتجسد مبدا الاستقلالية في تبعية القاضي من الناحية الإدارية والاعتبارية ،حيث ان المجلس الأعلى للسلطة القضائية وفق التركيبة التي اصبح عليها ( الفصل 115 من الدستور) لم تعد تضم عضوية وزير العدل، الذي كان وفق الدستور السابق يملك صلاحيات موسعة في هذا الجانب ، وهو ما يعتبر تجسيدا لمبدا الاستقلالية بشكل مؤسساتي وتنظيمي ،غير ان الاتجاه الذي نحاه القاضي الدستوري من خلال قراره المذكور اعلاه ، قد جانب الصواب، علما ان هذه التدابير الإجرائية ليس في شكلها الضاهر ولا الباطن ما يفسر ان هناك تدخل في عمل القاضي او تبعيته، ، وللتوضيح اكثر في هذا الباب، سنتولى ابراز طرق اشتغال النظام المعلوماتي وكيفية تدبيره، حتى يتسنى ابراز المقصود بالمساس باستقلالية السلطة القضائية .
- تعيين القضاة الحكم من قبل النظام المعلوماتي ما بين الاستقلالية والتدخل
دشنت وزارة العدل مشاريع تعديل القوانين الإجرائية في سياق املته مجموعة من الاعتبارات من أبرزها توصيات الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة الذي أولى لهذا الجانب أهمية بالغة على اعتبار ان إعادة النظر في المنظومة الإجرائية وخصوصا قانون المسطرة المدنية اضحى ضرورة انية بالنظر الى التحولات المتسارعة التي ترتبط في جوانب كبيرة بالثورة الرقمية ونتائج التطور التكنولوجي التي تستدعي رقمنة جميع الإجراءات القضائية في افق تحقيق مشروع المحكمة الرقمية بكل تجلياتها ،وعلى وجه الخصوص التقاضي الالكتروني، كما يندرج مراجعة قانون المسطرة المدنية في اطار الانخراط في المشروع الكبير المتعلق باستراتيجية المغرب الرقمي 2030 ،هذا الورش الهادف الى تأهيل البنية التحتية الرقمية وتحديث الإدارة العمومية، بشكل اكثر تطورا وانسجاما مع التقدم الحاصل في مجال التكنولوجيا، بما ينعكس ايجابا على جودة أداء الخدمة العمومية في علاقتها بالمرافق العمومية والمرتفق على حد سواء ،كما يأتي هذا المشروع في سياق تنزيل مضامين النموذج التنموي الجديد والتي تطرقت الى ضرورة تحسين أداء المحاكم والتقليص من بطء العدالة ،وعلى هدا النحو تضمن مشروع ق. م. م مجموعة من المقتضيات التي انصبت على نزع الصبغة المادية عن بعض الإجراءات بشكل قد يسهم في تسريع وثيرة المساطر والإجراءات ،مما ينعكس على جودة وفعالية الخدمة القضائية .ومن جملة هذه الإجراءات ما تضمنته المواد 624 و628 من مشروع قانون المسطرة المدنية الذي جعل تعيين القضاة المكلفين بالقضية والقضاة المقررين والمستشارين المقررين وتحديد تاريخ الجلسة يتم عن طريق البرمجية المعلوماتية saj،بغاية ربح الوقت والمساهمة في الحد من البطء الذي ينجم عن اعتماد الاليات المادية في هذا الاجراء كما هو الحال بالنسبة للقانون الحالي ،بيد ان هذا المقتضى تعرضت له المحكمة الدستورية واعتبرته شان قضائي صرف ،وبالتالي لا يمكن ان يتولى النظام المعلوماتي saj الذي تتولى وزارة العدل الاشراف عليه القيام بهكذا اجراءات. هذا الامر قد نتفق معه في الوضع الذي سيتولى موظفي كتابة الضبط المكلفين بفتح ملفات القضية وإدخال البيانات هم من يحددون القضاة او المستشارين المقررين وتاريخ انعقاد الجلسة عبر التطبيقية المعلوماتية saj،غير ان الامر ليس بالكيفية المذكورة ،حيث ان التنسيق ما بين المسؤول القضائي بصفته رئيس المحكمة او الرئيس الأول الذي سيعتمد جدول محدد يضم أسماء القضاة او المستشارين وذلك بالاعتماد على المعايير التي يرونها مناسبة (التخصص ،الكفاءة، الاقدمية ،،،،) والمسؤول الإداري رئيس كتابة الضبط باعتباره المسؤول عن تدبير النظام والذي يتحدد دوره في الاشراف على تضمين أسماء القضاة والمستشارين داخل بنية المعطيات بالبرمجية المعتمدة حتى يتسنى لهده الأخيرة بشكل الي وتلقائي القيام بمهام التعيين وتحديد تاريخ الجلسة بناء على المعطيات المحددة مسبقا من قبل المسؤولين القضائيين ،الذين لهم إمكانية المراقبة والمراجعة او التعديل بالشكل الذي يرونه مناسبا ،هذا الامر وفق هذه الصيغة لا يمكن فهمه تدخل في الشأن القضائي بقدر ما يمكن اعتباره الية تنسيق ما بين السلطة القضائية والسلطة التنفيدية من اجل تقديم خدمة عمومية بشكل تطبعه الفعالية والسرعة ،في اطار مأسسة الأرضية المناسبة لمشروع التقاضي الالكتروني، الذي ينزع كل اثر مادي عن الإجراءات بشكل كلي ،كما ان تولي وزارة العدل الاشراف على البرمجية المعلوماتية saj ينبغي فهمه في اطار الوسائل البشرية والمادية والتقنية المتاحة لهذه الأخيرة والتي تسهر على تطوير البرامج وحمايتها وصيانتها ،خصوصا في ظل الهجمات السيبريانية التي تستهدف هدا القطاع والتي تتولى هده الأخيرة التصدي له عبر ترسانة من الأطر والكفاءات بشكل مستمر