في الواجهةمقالات قانونية

“نحو مفهوم جديد للغرامة اليومية كبديل للعقوبة الحبسية بين التشريع المغربي والتشريع الفرنسي.” (دراسة في ضوء القانون 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة) – الباحث: حسين تبلي

“نحو مفهوم جديد للغرامة اليومية كبديل للعقوبة الحبسية بين التشريع المغربي والتشريع الفرنسي.” (دراسة في ضوء القانون 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة)

الباحث: حسين تبلي

باحث بسلك الدكتوراه كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية.

أستاذ زائر بكلية الحقوق المحمدية

هذا البحث منشور في مجلة القانون والأعمال الدولية الإصدار رقم 60 الخاص بشهر أكتوبر/ نونبر 2025
رابط تسجيل الاصدار في DOI


https://doi.org/10.63585/EJTM3163

للنشر و الاستعلام
mforki22@gmail.com
الواتساب 00212687407665

“نحو مفهوم جديد للغرامة اليومية كبديل للعقوبة الحبسية بين التشريع المغربي والتشريع الفرنسي.” (دراسة في ضوء القانون 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة)

الباحث: حسين تبلي

باحث بسلك الدكتوراه كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية.

أستاذ زائر بكلية الحقوق المحمدية

ملخص:

يشكل النقاش حول الغرامة اليومية أحد أهم المداخل لإعادة النظر في السياسة الجنائية الحديثة، إذ يطرح التساؤل حول مدى قدرتها على تقليص الاعتماد المفرط على العقوبة الحبسية قصيرة المدة. فقد أبرزت التجربة الفرنسية نجاح هذا النظام في التخفيف من ظاهرة الاكتظاظ السجني وإدماج العقوبة المالية ضمن بدائل الحرمان من الحرية، بما يحقق الردع العام والخاص دون المساس بمبادئ العدالة.

أما في التشريع المغربي، فما زالت الغرامة اليومية حديثة على النصوص الإجرائية، خصوصا أمام محدودية العقوبات السالبة للحرية في تحقيق الإصلاح وإعادة الإدماج، من هنا تتجلى أهمية التفكير في تكييف هذا النظام مع الخصوصيات القانونية والاجتماعية المغربية، بما يسمح بتكريس عدالة جنائية أكثر توازنًا بين الزجر والإنسانية. ويظل الرهان الأساسي هو إيجاد صيغة تشريعية تنسجم مع المبادئ الدستورية والالتزامات الدولية، وتضمن فعالية التطبيق مع مراعاة القدرة الاقتصادية للمحكوم عليه.

الكلمات المفتاحية: الغرامة اليومية، العقوبات البديلة، المغرب، فرنسا.

« Towards a New Concept of Daily Fines as an Alternative to Prison Sentences : Moroccan and French Legislation » – A Study in Light of Law 43.22 on Alternative Penalties

Houceine Tabli

is a doctoral researcher at the Faculty of Legal, Economic, and Social Sciences in Mohammedia. He is also a visiting professor at the Faculty of Law in Mohammedia.

Abstract:

The debate over the daily fine represents one of the most important entry points for reconsidering modern criminal policy, raising questions about its ability to reduce the excessive reliance on short-term imprisonment. The French experience has demonstrated the success of this system in alleviating prison overcrowding and integrating financial penalties into alternatives to deprivation of liberty, thus achieving general and specific deterrence without compromising the principles of justice.

In Moroccan legislation, the daily fine remains a novelty in procedural texts, particularly given the limited capacity of custodial sentences to achieve reform and reintegration. Hence, the importance of considering adapting this system to Moroccan legal and social specificities, allowing for a more balanced criminal justice system that combines deterrence with humanity. The primary challenge remains finding a legislative formula that is consistent with constitutional principles and international obligations and ensures effective implementation while taking into account the economic capacity of the convict.

Keywords: Financial fine, alternative penalties, Morocco, France.

تقديم:

عرفت السياسة الجنائية المغربية تحولا بارزا من خلال إصدار القانون رقم 43.22 الذي أدخل منظومة جديدة للعقوبات البديلة عن العقوبات السالبة للحرية في بعض الجرائم البسيطة، ويأتي هذا التوجه في إطار الاستجابة لمطالب قضائية وحقوقية تروم تجاوز إشكالية الاكتظاظ السجني وتحقيق عدالة زجرية فعالة وإنسانية في أن واحد ومن بين أهم هذه البدائل المعتمدة الغرامة اليومية كألية عقابية مالية حديثة[1].

وتعد الغرامة اليومية أحد المفاهيم العقابية التي لم تكن معروفة ضمن النظام الجنائي المغربي بصيغتها الحديثة قبل صدور القانون الجديد حيث ظلت الغرامة التقليدية مرتبطة بحدود مالية ثابتة دون ارتباط بزمن العقوبة، بينما جاءت الغرامة اليومية لتربط مبلغ الغرامة بعدد الأيام التي تعوض فيها العقوبة الحبسية ما يجعلها أكثر تدرجا ومرونة في تحقيق التوازن بين الردع والتأهيل.

واستند المشرع المغربي في صياغة هذه العقوبة البديلة على النموذج الفرنسي الذي راكم تجربة مهمة في العقوبات البديلة حيث تم اعتماد الغرامة اليومية كبديل أصيل للعقوبات القصيرة الأمد، فساهمت في الحد من اللجوء غير المجدي إلى السجن في الجنح التي لا تشكل تهديدا مباشرا للنظام العام وكرست وظيفة جديدة للعقوبة تقوم على المسؤولية المالية بدل الحرمان من الحرية.

وقد جاء القانون المغربي الجديد ليدرج الغرامة اليومية ضمن العقوبات البديلة التي يجوز للقاضي الجنحي الحكم بها في حالة توفر شروط موضوعية وشخصية محددة تتعلق بمدى خطورة الجريمة ووضعية المتهم واستعداده للامتثال للقانون وهو ما يظهر انتقال العقوبة من طابعها العقابي التقليدي نحو مفهوم وظيفي يعزز الفعالية دون المساس بالحقوق الجوهرية للمحكوم عليه.

وتكمن أهمية هذا المفهوم في قدرته على ضمان تنفيذ العقوبة بطريقة أقل تكلفة للمجتمع وأكثر انسجاما مع مبدأ تفريد العقاب، حيث يتحمل المحكوم عليه عبء الغرامة المالية اليومية عن كل يوم كان سيقضيه في الحبس دون أن يفرغ العقوبة من مدلولها الزجري مما يجعلها وسيلة فعالة لإصلاح الجاني دون عزله اجتماعيا أو إنتاج عوامل العود.

وتثير هذه العقوبة تساؤلات قانونية وعملية تتعلق بتكييفها القانوني وما إذا كانت تعد عقوبة أصلية أم بديلة مشروطة ومدى خضوعها لقواعد التنفيذ الجنائي وإمكانية تحصيلها جبريا وكيفية التعامل مع حالات الإعسار ومدى تأثيرها على باقي الحقوق المالية للمحكوم عليه خاصة في ظل غياب تجربة عملية واسعة لتطبيقها بالمغرب.

كما أن دراسة هذا المفهوم تستدعي المقارنة بالتجربة الفرنسية التي تعتبر مرجعا تشريعيا للمغرب في مجال العقوبات، حيث يمكن رصد أوجه التوافق والاختلاف والاطلاع على آثار الغرامة اليومية في الواقع القضائي الفرنسي وكيف تعاملت المحاكم مع حالات الإخلال بها أو طلب استبدالها مما يغني الرؤية المغربية ويوجه التطبيق القضائي نحو الفعالية المطلوبة.

ويعد موضوع الغرامة اليومية مدخلا لتحديث المنظومة الجنائية المغربية لأنه يعيد التفكير في مفهوم العقوبة ذاته ويطرح بديلا أكثر عقلانية في الجرائم ذات الخطورة المحدودة ويبرز دور القاضي في التفريد الحقيقي للعقوبة بدل اعتماد نماذج جاهزة قائمة على الحبس وحده وهو ما ينسجم مع التوجه الدولي الرامي إلى تقليص العقوبات السالبة للحرية غير الضرورية.

وتبرز قراءة هذا الموضوع من زاوية قانون 43.22 مدى إرادة المشرع في إحداث قطيعة مع النموذج العقابي التقليدي وتكريس دور العقوبة في التأهيل أكثر من العقاب مما يتطلب من القاضي الجنحي تطوير فهمه للغرامة اليومية كأداة جديدة تتطلب حكمة في التقدير وصرامة في التنفيذ، وفق معايير واضحة تراعي العدالة وحماية المجتمع في أن واحد، وسيتم في هذا المقال دراسة الإطار القانوني للغرامة اليومية من خلال تحليل المفهوم وشروط الحكم بها وخصائصها، ثم الانتقال إلى نطاق تطبيقها والقيود العملية المحيطة بها، على أن يخصص الجزء الثاني لدراسة أليات تنفيذها والأجهزة المتدخلة في ذلك، وكذا الآثار القانونية المترتبة عنها وفق القانون المغربي والمقارن الفرنسي، بالعملية المنهجية التالية:

المطلب الأول: التنظيم القانوني لعقوبة الغرامة اليومية.

المطلب الثاني: التدابير القانونية لتنفيذ الغرامة اليومية.

المطلب الأول: التنظيم القانوني لعقوبة الغرامة اليومية.

يشكل تنظيم الغرامة اليومية كعقوبة بديلة واحدة من أبرز مظاهر التحديث التي جاء بها القانون 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة حيث أقر المشرع المغربي إمكانية استبدال العقوبة الحبسية في الجنح بغرامة مالية تحتسب على أساس يومي وفق ضوابط قانونية محددة تراعي خطورة الجريمة ووضعية المحكوم عليه واستعداده للامتثال للقانون.

ويلاحظ من خلال قراءة النصوص المنظمة لهذه العقوبة أن المشرع لم يكتف بتكرار النموذج الفرنسي بل حاول تكييفه مع خصوصيات الواقع المغربي من حيث شروط التطبيق وسلطات القاضي وإجراءات التنفيذ وهو ما يستوجب دراسة دقيقة لمفهوم الغرامة اليومية وتحديد خصائصها القانونية والفنية مقارنة بالتشريع الفرنسي.

وقد أدرجت الغرامة اليومية ضمن بدائل الحبس التي يمكن الحكم بها ابتداء في الحالات التي لا تتجاوز فيها العقوبة الحبسية سنة واحدة مما يجعلها خيارا قاضيا خالصا يستوجب تعليلا موضوعيا يراعي مصلحة المجتمع والعدالة ويستند إلى معطيات ملف الدعوى وسوابق المحكوم عليه ومدى استعداده لتحمل العقوبة البديلة، وتندرج هذه العقوبة ضمن منطق إعادة التأهيل الجنائي وتعزيز الطابع الإصلاحي للعقوبة حيث يفرض على الجاني أداء مبلغ مالي عن كل يوم حبس تم استبداله مما يجعله يتحمل مسؤولية مالية حقيقية تعادل الحرمان من الحرية دون أن يزج به في بيئة سجنية قد تزيد من احتمالات العود أو التهميش[2].

وانطلاقا من هذه الاعتبارات سنقوم بتحليل هذه العقوبة من خلال فقرتين اثنتين؛ تخصص أولاهما لتحديد مفهوم الغرامة اليومية وخصائصها وشروط الحكم بها في النظامين المغربي والفرنسي، بينما تخصص الفقرة الثانية لتحديد نطاق تفعيل هذه العقوبة ومجالات تطبيقها والقيود المرتبطة بذلك قانونا وقضائيا.

الفقرة الأولى: نحو فهم مفهوم الغرامة اليومية بين القانون المغربي والفرنسي.

تبنى المشرع المغربي بموجب القانون رقم 43.22 مفهوم الغرامة اليومية كإحدى صور العقوبات البديلة عن الحبس، حيث نصت المادة[3] 1-35 من القانون الجنائي كما تم تعديلها على أنه يمكن للمحكمة كلما كانت العقوبة الحبسية المحكوم بها لا تتجاوز سنة أن تستبدلها بغرامة مالية تحدد عن كل يوم من مدة العقوبة المحكوم بها وهو ما يشكل نقلة نوعية في الفلسفة العقابية من الردع السالب للحرية إلى الردع المالي القائم على تحمل المسؤولية الشخصية، ويقابل هذا التنظيم في القانون الفرنسي مقتضيات المادة[4] 131-5 من القانون الجنائي الفرنسي التي تنص على الغرامة اليومية (amende à exécution fractionnée ou quotidienne) كبديل للعقوبة الحبسية في الجنح على ألا تتجاوز المدة القصوى سنة مع إمكانية تقدير مبلغ مالي عن كل يوم يتراوح غالبا بين 10 و300 يورو ويراعى في ذلك دخل الجاني ووضعه الاجتماعي ومدى مساهمته في ارتكاب الفعل.

ويلاحظ أن المشرع المغربي لم يحدد في النص مبلغ الغرامة اليومية أو حدها الأدنى والأقصى بخلاف التشريع الفرنسي الذي حدد هوامش مالية دقيقة مما يجعل القاضي المغربي يتمتع بسلطة تقديرية واسعة تتطلب تعليلا صارما وقد يثير ذلك إشكالا في توحيد الاجتهاد القضائي ما لم تصدر مذكرات تفسيرية أو قرارات قضائية مرجعية لتأطير التقدير المالي.

من حيث الطبيعة القانونية، تعتبر الغرامة اليومية في كلا النظامين عقوبة أصلية بديلة أي أنها لا تضاف إلى الحبس بل تستبدل به في النطق بالحكم وتبقى مستقلة عن الغرامة الجنحية العادية التي قد تصاحب العقوبة وهي بذلك تعد ألية بديلة قائمة الذات لا مجرد تخفيف للعقوبة وترتب أثارا قانونية كاملة بمجرد صيرورة الحكم نهائيا[5].

أما من حيث الخصائص، فتتسم الغرامة اليومية في التشريعين المغربي والفرنسي بكونها:

  • عقوبة بديلة لا تكميلية؛
  • تنفذ ماليا وتستبدل بالحجز أو الإكراه في حالة عدم الأداء؛
  • تخضع لمبدأ تفريد العقوبة بناء على ظروف المتهم؛
  • مرتبطة مباشرة بمدة العقوبة الحبسية المستبدلة؛
  • قابلة للتعديل أو الاستبدال إذا ثبت الإعسار أو الإخلال بشروط الأداء.

غير أن المشرع الفرنسي نظم بشكل أكثر تفصيلا شروط التحصيل والإعفاء وإمكانية مراجعة الحكم في حال ثبت تعذر التنفيذ، بينما لم يتطرق القانون المغربي في صيغته الحالية إلى هذه المسائل وهو ما يفتح المجال أمام القاضي الجنحي للتوسع في التأويل أو تقييده بمنطق جزائي صرف.

أما عن شروط الحكم بها، فالمشرع الفرنسي اشترط:

  • أن لا يتجاوز الحكم الأصلي سنة حبسا؛
  • أن لا يكون الجاني عائدا أو متورطا في جريمة خطيرة؛
  • أن تُراعى حالته المالية والاجتماعية؛
  • أن يُبرر الحكم بالمنفعة الإصلاحية للعقوبة البديلة.

بينما اكتفى المشرع المغربي في الفصل 1-35 الجديد بإقرارها دون تفصيل الشروط الشكلية والموضوعية مما يفرض على القاضي الرجوع إلى مبادئ تفريد العقوبة وإلى الاجتهادات المستقرة للتمييز بين الحالات التي يمكن فيها الحكم بالغرامة اليومية وتلك التي تستوجب العقوبة السالبة للحرية[6].

وفي مقارنة بين سلطة القاضي في التقدير يتضح أن القاضي الفرنسي يخضع لإطار مرجعي واضح من حيث مبلغ الغرامة اليومية وعدد الأيام والمسطرة المرافقة بينما القاضي المغربي يتمتع بسلطة أوسع لكنها أكثر حساسية وتستلزم تعليلا دقيقا قد يخضع للنقض إن لم يكن مبنيا على معايير موضوعية كافية تضمن التناسب والعدالة، وعلى مستوى المراقبة القضائية لهذه العقوبة ينص القانون الفرنسي على أن النيابة العامة والمصالح الاجتماعية يمكنها تتبع تنفيذ الغرامة اليومية ويمكن فتح مسطرة مراجعة في حال الإخلال أو الإعسار، أما في المغرب فلا يزال التنظيم الإداري والقضائي المرافق لهذه العقوبة في طور التفعيل ما يستدعي إصدار دوريات ومذكرات تفصيلية لتأطير التنفيذ وتوضيح مسؤولية كل جهة[7].

وتجدر الإشارة إلى أن النظام الفرنسي يعتبر الغرامة اليومية أداة فعالة لمواجهة الجرائم المرتكبة من طرف ذوي الدخل المتوسط والمرتفع الذين لا يتأثرون بالعقوبات القصيرة الحبسية فيفرض عليهم التزام مالي يومي يوازي حدة العقوبة الأصلية وهو ما يجب استلهامه في التجربة المغربية لتفادي استخفاف بعض الفئات بالعقوبة الحبسية القصيرة.

يظهر هذا التحليل أن مفهوم الغرامة اليومية في القانون المغربي يسير في اتجاه بناء تصور وظيفي حديث للعقوبة يقوم على الردع المالي وتفادي العقوبات الحبسية غير المجدية لكنه لا يزال في حاجة إلى تقنين أكثر تفصيلا سواء من حيث مبلغ الغرامة أو شروط تخفيضها أو استبدالها أو ضمانات التنفيذ الفعلي لها كما هو معمول به في النظام الفرنسي.

الفقرة الثانية: نطاق تفعيل الغرامة اليومية بين القانون المغربي والفرنسي.

يشكل نطاق تفعيل الغرامة اليومية أحد المؤشرات الجوهرية لقياس فعالية العقوبات البديلة في السياسة الجنائية إذ لا يكفي التنصيص التشريعي عليها بل لا بد من شروط واقعية وقضائية تسمح بتطبيقها في الممارسة وهو ما يحتم دراسة حدود تفعيل هذه العقوبة في التشريعين المغربي والفرنسي من حيث نوع الجرائم التي تطبق فيها وفئة المستفيدين ومعايير التقدير والتنفيذ.

في النظام المغربي، حصر القانون 43.22 تفعيل الغرامة اليومية في الجنح التي لا تتجاوز العقوبة الحبسية فيها سنة واحدة وهو ما ورد في المادة 1-35 من القانون الجنائي، وبالتالي فإن جميع الجنح التي تفوق هذا الحد غير مشمولة بهذا البديل بما في ذلك الجنح ذات الخطورة المتوسطة أو المرتبطة بأحداث عنف أو اعتداءات متكررة وهو ما يضيق من نطاق الاستفادة بينما في القانون الفرنسي فإن التفعيل أكثر مرونة حيث يتم التوسع في الغرامة اليومية ليس فقط في الجنح القصيرة بل أيضا في بعض الجنح المتكررة إذا كان الجاني لا يشكل تهديدا فعليا للمجتمع شريطة أن تكون مصلحته في التأهيل راجحة على الطابع العقابي البحت مما يمكن القاضي من اعتماد بدائل مرنة تخضع لتقدير شخصي دقيق[8].

وفي حين أن التشريع المغربي لم يحدد مجالات تطبيق الغرامة اليومية بدقة فإن الممارسة القضائية الفرنسية توسعت فيها في الجنح المالية وحالات عدم تنفيذ الأحكام والامتناع عن تنفيذ الالتزامات المدنية بل واعتمدتها حتى في حالات المخالفات الجسيمة للقانون الإداري التي تقترن بعناد أو تهرب من تنفيذ الأوامر القضائية، أما من حيث نوع المحكوم عليهم فالمشرع المغربي لم يستثن صراحة فئات معينة من الاستفادة من الغرامة اليومية لكنه ربطها ضمنيا بضرورة ألا يكون المحكوم عليه في حالة عود أو في وضعية قانونية معقدة بينما القانون الفرنسي يستثني مرتكبي الجنح المتكررة والأحداث والمواطنين الأجانب في وضعية غير مستقرة باعتبار أن تطبيق العقوبة البديلة في هذه الحالات لا يحقق أهدافها[9].

وبخصوص معايير الاختيار بين الغرامة اليومية والعقوبة الحبسية فإن المشرع المغربي لم ينص على ضوابط واضحة مما يضع القاضي أمام مسؤولية تقديرية كبيرة أما في فرنسا فتم تطوير شبكات تقييم قضائي تعتمد على الوضعية الاجتماعية والمالية للمحكوم عليه ومدى قابليته للاندماج وسوابقه القضائية مما يوجه القاضي نحو قرار متوازن يستند إلى معطيات واقعية.

وعلى مستوى المسطرة يلاحظ أن القانون المغربي جعل الغرامة اليومية خيارا يمكن للمحكمة أن تحكم به من تلقاء نفسها دون طلب لكن لم يحدد نموذجا مسطريا خاصا بها في حين أن التشريع الفرنسي فرض مسطرة واضحة تتضمن إشعار النيابة العامة وتقرير اجتماعي وملف شخصي مع تعليل دقيق لحجية اعتماد العقوبة البديلة، وفيما يخص جهة التنفيذ والمتابعة فإن القانون المغربي لم يحدد الأجهزة المسؤولة عن تتبع تنفيذ الغرامة اليومية أو المراقبة القضائية لمدى التزام المحكوم عليه بينما أسند التشريع الفرنسي هذه المهام إلى القاضي المكلف بتنفيذ العقوبات (juge de l’application des peines) الذي يراقب الأداء المالي ويتخذ قرارات الاستبدال أو الإعفاء أو الإكراه البدني[10].

من جهة أخرى فإن تنفيذ الغرامة اليومية في فرنسا لا يتوقف على الإرادة الفردية للمحكوم عليه بل يمكن تحصيلها جبريا عن طريق الحجز المالي أو الإكراه البدني المقنن مع مراعاة شروط الإعسار، أما في المغرب فلا يزال الغموض يكتنف كيفية التنفيذ في حالة الإخلال وما إذا كانت النيابة العامة ستلجأ مباشرة إلى الإكراه البدني أو إلى إعادة تفعيل الحبس الأصلي، وفي بعض القضايا الجنحية ذات الطبيعة الاقتصادية مثل مخالفات التعمير أو التأخير في تنفيذ القرارات القضائية اعتمد القضاء الفرنسي الغرامة اليومية كوسيلة ضغط فعالة دون الحاجة إلى سلب الحرية مما ساعد على احترام سلطة القضاء واسترجاع هيبته بينما في المغرب لا تزال هذه الممارسات نادرة بانتظار رسوخ الثقافة القضائية الجديدة للعقوبات البديلة[11].

كما أن التشريع المغربي لم يوضح ما إذا كانت الغرامة اليومية تدمج مع الغرامات الأصلية أو التكميلية وهل تخصم من أي غرامة سابقة أو لاحقة، بينما في فرنسا فالنصوص صريحة في أنها غرامة مستقلة تنفذ لوحدها ولا تدمج في أية عقوبة أخرى ويراعى فيها سقف الإنهاك المالي للمحكوم عليه، ويلاحظ أيضا أن القانون الفرنسي أجاز تحويل الغرامة اليومية إلى أشغال ذات منفعة عامة أو عقوبة أخرى ملائمة في حالة الإخلال مما يمنح القضاء مرونة كبيرة في تكييف رد الفعل العقابي بينما يظل النظام المغربي محدودا في هذا المجال ما لم تتدخل السلطة التشريعية أو القضائية لإقرار قواعد تنفيذ مرنة بديلة عن الحبس أو الغرامة في حال الإخلال[12].

ويطرح إشكال إضافي في التشريع المغربي يتعلق بالإعسار المالي للمحكوم عليه حيث لم تحدد النصوص أثر هذا الإعسار على تنفيذ الغرامة اليومية وهل يستبدل بالعقوبة الأصلية أم يتم تعليق التنفيذ، بينما في فرنسا يتم اللجوء إلى تخفيض المبلغ أو منح مهلة للأداء أو تحويلها إلى نشاط إصلاحي غير مدفوع ويستنتج من المقارنة أن نطاق تفعيل الغرامة اليومية في فرنسا أوسع وأدق تنظيما ويرتبط بجهاز قضائي إداري مواكب في حين أن التشريع المغربي لا يزال في طور التجريب القضائي ويحتاج إلى إصدار دوريات توضيحية ومذكرات توجيهية تمكن القضاة من التطبيق الموحد المنضبط لهذه العقوبة، كما أن تفعيل الغرامة اليومية في المغرب سيظل مرهونا بتغيير الثقافة القضائية الزجرية التي لا تزال تميل إلى الحبس كعقوبة أصلية رغم التحولات التي تعرفها السياسة الجنائية مما يفرض تكوينا مستمرا للقضاة حول التقنيات الجديدة لتنفيذ الأحكام العقابية البديلة[13].

المطلب الثاني: التدابير القانونية لتنفيذ الغرامة اليومية.

إن سن الغرامة اليومية كعقوبة بديلة لن يحقق هدفه في تخفيف العقوبات السالبة للحرية ما لم يواكب بمنظومة تنفيذية محكمة تضمن الفعالية والصرامة في التحصيل وتمنع تحول هذا البديل إلى مجرد إجراء شكلي، إذ إن جوهر الغرامة اليومية يكمن في قابليتها للتنفيذ السريع والعادل في نفس الوقت وهو ما يتطلب تحديد الجهات المتدخلة في المراقبة والتنفيذ والمساطر المرافقة لذلك.

ويلاحظ أن القانون المغربي رقم 43.22 لم يفصل بشكل دقيق في كيفية تنفيذ الغرامة اليومية ولم يحدد الجهاز القضائي أو الإداري المخول بالسهر على تنفيذها مما يفتح الباب أمام الاجتهاد القضائي وقد يؤدي إلى تباين في الممارسة بين المحاكم بخلاف ما هو عليه الحال في فرنسا حيث تتولى جهات محددة هذه المهام تحت رقابة القاضي المختص بتنفيذ العقوبة، كما أن تفعيل الغرامة اليومية في الواقع العملي يثير إشكاليات ذات طابع مالي ومسطري خاصة فيما يتعلق بكيفية الأداء والحجز والتحصيل الجبري وكذا تحديد موقف القضاء في حال الإخلال أو التعذر أو الإعسار ما يتطلب بناء منظومة دقيقة تنسجم مع الطابع الزجري للعقوبة دون أن تتحول إلى إجراء رمزي غير منتج، وتبرز التجربة المقارنة أن فعالية هذه العقوبة ترتبط بوجود قواعد تفصيلية للتنفيذ وإجراءات واضحة تحدد الأدوار وتُجنب تنازع الاختصاص بين الجهات القضائية والإدارية لذلك فإن أي قصور في هذا الجانب قد يفقد الغرامة اليومية فعاليتها ويعرقل تحقيق أهدافها في تخفيف الضغط على السجون وتقوية بدائل الحبس[14].

وانطلاقا من هذه المعطيات، سنخصص الفقرة الأولى لتحليل الجهات المتدخلة في تنفيذ الغرامة اليومية ومهامها في كلا النظامين المغربي والفرنسي، ثم نخصص الفقرة الثانية لبحث الآثار القانونية المترتبة عن التنفيذ والإخلال، ومدى إمكانية الاستبدال أو الإعفاء أو تحويل العقوبة إلى صيغة أخرى عند عدم التنفيذ.

الفقرة الأولى: الأجهزة المتدخلة في تنفيذ الغرامة اليومية بين القانون المغربي والفرنسي.

يعتبر تنفيذ الغرامة اليومية كعقوبة بديلة مرحلة أساسية لتحقيق الغاية الزجرية والإصلاحية التي من أجلها تم إقرار هذا النوع من العقوبات إذ لا يكتمل أثر الحكم بها ما لم تفعل إجراءات تنفيذ دقيقة تسند إلى جهات واضحة بمسؤوليات مضبوطة سواء على المستوى القضائي أو الإداري وهو ما يظهر بجلاء في التنظيم الفرنسي ويظل بحاجة إلى بلورة تشريعية أو تنظيمية في السياق المغربي.

في فرنسا أسند تنفيذ الغرامة اليومية إلى جهاز متخصص وهو قاضي تنفيذ العقوبات (Juge de l’application des peines – JAP) الذي يتولى الإشراف القضائي على تنفيذ جميع العقوبات البديلة من ضمنها الغرامة اليومية، حيث يقوم بتحديد طرق الأداء والإذن بالتحصيل الجبري والنظر في طلبات التأجيل أو الإعفاء وهو ما يمنح التنفيذ طابعا قضائيا محضا مؤطرا بضمانات المسطرة الجنائية، في المقابل لم يحدد القانون المغربي رقم 43.22 بوضوح الجهة القضائية المختصة بالإشراف على تنفيذ الغرامة اليومية وهو ما يُثير إشكالا عمليا إذ من غير الواضح ما إذا كانت النيابة العامة أو رئيس كتابة الضبط أو قاضي تطبيق العقوبة هو من يتحمل مسؤولية المتابعة والتنفيذ خاصة في ظل غياب نصوص تنظيمية مكملة مما قد يؤدي إلى ارتباك إداري وتضارب في الممارسة[15].

وفي القانون الفرنسي يتم تنفيذ الغرامة اليومية عبر مديرية الضرائب العامة (Direction générale des Finances publiques) التي تتلقى من المحكمة الأمر بالتحصيل بعد صدور الحكم النهائي حيث تنفذ الغرامة بصفتها دينا عموميا ويمكن اللجوء إلى إجراءات الحجز على الممتلكات أو الأجور مما يعطي طابعا جبريا حقيقيا لهذه العقوبة المالية، بينما في المغرب لم ينظم لحد الآن كيفية إحالة الحكم بالغرامة اليومية على الجهات الجبائية أو التنفيذية المختصة ولا توجد مسطرة واضحة تحدد كيف يتم الأداء وهل يفتح ملف تنفيذ مستقل أو يدمج ضمن ملفات الغرامات العادية وما هي الوثائق المطلوبة من النيابة العامة أو كتابة الضبط لتحريك مسطرة التحصيل الجبري.

ويستفيد النظام الفرنسي من وجود منصة إلكترونية وطنية موحدة لتنفيذ العقوبات حيث يسجل فيها المحكوم عليه مباشرة بعد الحكم وتحدد تواريخ الأداء وترسل له إشعارات قانونية ويمكن متابعة أدائه إلكترونيا وهو ما يسهل الرقابة القضائية ويمنع التأخير أو الإخلال في حين يفتقر النظام المغربي إلى بنية مماثلة مما قد يعيق التفعيل السلس.

وتسند في فرنسا متابعة تنفيذ الغرامة اليومية إلى مصلحة تنفيذ العقوبات داخل السجون (SPIP) حتى في الحالات التي لا ينفذ فيها الحبس فعليا حيث يتم تسجيل الغرامة ومراقبة أدائها ضمن السجل الجنائي بينما في المغرب لا توجد آلية حتى الآن لتقييد الغرامة اليومية داخل ملف التنفيذ أو ربطها بالسجل العدلي بالشكل الذي يسمح بتتبع تطورها أو أثرها على العود، وفي حالات الإخلال يمنح القانون الفرنسي لقاضي تنفيذ العقوبة صلاحية فورية لتحويل الغرامة اليومية إلى عقوبة سالبة للحرية أو استبدالها بنشاط ذي منفعة عامة وذلك بعد جلسة استماع للمحكوم عليه مع مراعاة وضعه الاجتماعي، أما في القانون المغربي فلا يزال غامضًا ما إذا كان القاضي يمكنه مباشرة هذا الإجراء دون نص تنظيمي محدد[16].

ومن حيث الجانب الإداري تستند فرنسا إلى منظومة متكاملة بين القضاء وإدارة الضرائب والشرطة القضائية في تنفيذ الغرامات بما فيها اليومية وتعتبر بمثابة ديون عمومية يطبق بشأنها القانون المالي في التحصيل، بينما في المغرب تعامل الغرامات الجنحية كديون عمومية حسب القانون المالي لكن لا يوجد نص خاص يتعلق بالغرامة اليومية كبديل للحبس يحدد إجراءات التحصيل ومراحله، وفيما يخص الإعسار يوجب القانون الفرنسي على المحكوم عليه أن يُثبت عجزه عن الأداء أمام قاضي تنفيذ العقوبة الذي يمكنه بعد ذلك اتخاذ قرار الإعفاء أو تخفيض المبلغ أو تمديد مدة الأداء ويحرر بذلك محضرا قضائيا يبلغ لإدارة التحصيل، أما في النظام المغربي فلا توجد مسطرة واضحة لطلب الإعفاء من الغرامة اليومية في حالة العجز المالي ولا جهة مختصة بقبول الطلب أو البت فيه.

ويعد تدخل القضاء الفرنسي في كل مراحل تنفيذ الغرامة اليومية عنصرا جوهريا لحماية حقوق المحكوم عليه وضمان جدية العقوبة، بينما في المغرب قد ترك التنفيذ للإدارة وحدها في غياب قاض مختص بالتنفيذ وهو ما قد يترتب عنه إهمال أو تأخير أو حتى سقوط العقوبة دون أن تنفذ وهو ما يتطلب إصدار دورية رسمية تنظم هذه الجوانب بدقة وتنشر تفاصيل تنفيذ العقوبة في السجل الوطني للعقوبات مما يمكن المحاكم من تتبع مدى التزام المحكوم عليه، بينما في المغرب لا يوجد سجل جنائي خاص بالعقوبات البديلة مما يجعل تتبع آثار الغرامة اليومية محدودا خاصة في حالات العود أو التكرار ويفقد النظام آلية الرقابة المؤسساتية[17].

ويلاحظ أيضا أن فرنسا تعتمد دوريات قضائية داخلية لتوجيه المحاكم بشأن كيفية تنفيذ الغرامة اليومية والتنسيق بين الجهات المتدخلة مما يقلل من تباين الاجتهادات في حين أن المغرب لم يصدر بعد أي مذكرات تفسيرية بشأن تطبيق الغرامة اليومية وهو ما قد يؤدي إلى تفاوت كبير في التعامل مع هذه العقوبة من محكمة إلى أخرى، وتبرز التجربة الفرنسية كمرجع تنظيمي متكامل حيث تتوزع الأدوار بين القضاء والنيابة العامة والإدارة المالية بشكل دقيق ويخضع الجميع لرقابة القاضي المختص، بينما في المغرب لا يزال الأمر يتطلب إصدار نص تنظيمي تطبيقي يحدد كيفية التنفيذ والجهات المكلفة وآليات الرقابة وشروط الإعفاء أو الاستبدال[18].

الفقرة الثانية: الأثار القانونية لتنفيذ الغرامة اليومية بين القانون المغربي والفرنسي.

إن تنفيذ الغرامة اليومية كعقوبة بديلة لا يقتصر على مجرد أداء مالي من طرف المحكوم عليه بل ينتج آثارا قانونية متعددة تمتد إلى وضعية المحكوم عليه القانونية ووضعه الاجتماعي وسجله العدلي وحقوقه المالية، كما تؤثر بشكل مباشر في السياسة العقابية العامة للدولة لذلك من الضروري دراسة هذه الآثار كما نظمها القانونان المغربي والفرنسي والوقوف على نقاط التقاطع والاختلاف.

في التشريع الفرنسي يعتبر أداء الغرامة اليومية بمثابة تنفيذ نهائي للعقوبة البديلة ويترتب عن ذلك اعتبار المحكوم عليه قد نفذ الحكم الجنائي الصادر في حقه، وبالتالي يغلق الملف القضائي وتسجل العقوبة في السجل العدلي مع بيان أنها نفذت عن طريق الغرامة وليس الحبس وهو ما يؤثر في تقييم القضاء لمدى خطورة الشخص في حالات العود، أما في التشريع المغربي فالقانون 43.22 لم يحدد طبيعة الأثر المترتب عن تنفيذ الغرامة اليومية ولم يبين ما إذا كان ذلك يعادل تنفيذ العقوبة الحبسية في سجل السوابق القضائية وهو فراغ تشريعي يمكن أن يؤدي إلى اختلاف الممارسة بين المحاكم إذ قد يعتبر البعض أن المحكوم عليه أدى العقوبة كاملة بينما قد يعتبر البعض الآخر أن التنفيذ المالي لا يحمل نفس القيمة القانونية للحبس[19].

في فرنسا، فإن التأخير في تنفيذ الغرامة اليومية أو التوقف عن الأداء، يؤدي إلى تفعيل إجراءات قانونية واضحة حيث يمكن تحويل ما تبقى من العقوبة إلى حبس فعلي أو تحويلها إلى نشاط ذي منفعة عامة وذلك بناء على قرار من قاضي تنفيذ العقوبة الذي يراعي ظروف المحكوم عليه وقدرته على الوفاء، أما في المغرب فإن القانون لم يوضح ما هو مصير العقوبة إذا أخل المحكوم عليه بالوفاء بالغرامة اليومية وما إذا كان القاضي المختص يعيد تفعيل العقوبة الأصلية تلقائيا أو أن النيابة العامة تطلب ذلك وما هي المسطرة التي تعتمد لإعادة احتساب مدة الحبس أو المبلغ المتبقي مما يضع القاضي أمام فراغ تشريعي قد يضعف تنفيذ هذه الآلية[20].

ويؤكد المشرع الفرنسي من خلال تنظيم دقيق، أن الغرامة اليومية ليست مجرد غرامة بل عقوبة ذات أثر زجري كامل حيث يؤدي عدم تنفيذها إلى مسؤولية جنائية جديدة وقد ترتب قيودا على الحقوق المدنية للمحكوم عليه وهو ما يعطي لهذه العقوبة مصداقية واقعية ويمنع التعامل معها كإجراء رمزي أو ثانوي، في المقابل يلاحظ أن المشرع المغربي لم يربط عدم تنفيذ الغرامة اليومية بأي جزاء مستقل أو أثر جنائي إضافي مما قد يشجع بعض المحكوم عليهم على المماطلة خصوصا في غياب مبدأ التدرج في الردع المالي وعدم وجود هيئة متابعة صارمة وهو ما يتطلب إقرار جزاءات إضافية في النص التنظيمي تحفز التنفيذ وتعزز هيبة الحكم[21].

كما أن التشريع الفرنسي يمنح المحكوم عليه حق طلب تخفيض الغرامة أو تقسيطها أو حتى طلب الاستبدال إذا تغيرت ظروفه المالية ويقدم هذا الطلب لقاضي تنفيذ العقوبة الذي يجري تقييما شاملا للوضعية في حين لا يوجد في القانون المغربي الحالي ما يشير إلى هذه الإمكانية مما قد يؤدي إلى تعسّف في التنفيذ أو تحميل المحكوم عليه عبئا يفوق قدرته.

وتظهر التجربة الفرنسية أن أثر الغرامة اليومية يمتد أيضا إلى التأطير الإداري حيث يتم تضمينها في النظام الوطني للإحصاءات الجنائية وتستخدم في تقييم فعالية العقوبات البديلة ويبنى عليها جزء من السياسات العقابية، أما في المغرب فلا تزال الآلية في بداياتها ولم تدمج بعد في نظام تتبع التنفيذ أو تقارير السياسة الجنائية، كما أن القانون الفرنسي يعامل الغرامة اليومية بمثابة دين عمومي ينفذ بوسائل الدولة الجبائية وترتب عنه آثار مشابهة للديون المالية الأخرى بما في ذلك الحجز والاقتطاع من الأجور، بينما في المغرب لم يحدد النص القانوني الآثار المالية في حالة عدم الأداء ولا كيف يتعامل مع هذه الغرامة ضمن منطق الديون العمومية ولا ما إذا كانت قابلة للتقادم[22].

ووجهة نظري في هذا الباب أن المشرع المغربي أحسن صنعا حين فتح باب الغرامة اليومية كبديل عن الحبس لكنه لم يواكب ذلك بنصوص تنظيمية كافية، فالغرامة اليومية إن لم تكن قابلة للتنفيذ الفعلي ستتحول إلى عبء إضافي على القاضي، وذريعة للتهرب من العقوبة بدل أن تكون أداة فعالة للإدماج والردع، ولعل أهم أثر قانوني يجب التأكيد عليه هو ضرورة اعتبار تنفيذ الغرامة اليومية مساو في الأثر لتنفيذ الحبس سواء فيما يتعلق بالسجل العدلي أو بشروط العود أو الحق في العفو لأن أي تمييز سيفرغ العقوبة البديلة من قيمتها ويجعلها دون مستوى العقوبة الأصلية وهو أمر يتنافى مع مبدأ التوازن والتفريد في العقوبة.

خاتمة:

يتضح من خلال دراسة الغرامة اليومية كعقوبة بديلة في ضوء القانون المغربي 43.22 والتشريع الفرنسي، أن هذا النموذج العقابي يمثل انتقالا نوعيا في فلسفة التجريم والعقاب يهدف إلى إعادة التوازن بين ضرورة الردع وحماية الحريات الفردية إذ لم يعد الحبس هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الردع بل أصبحت العقوبة المالية اليومية وسيلة عملية لها قوة تنفيذية وتأثير نفسي وواقعي لا يستهان به.

وقد بين التحليل المقارن أن القانون المغربي وإن كان قد أقر مبدأ الغرامة اليومية كبديل عن العقوبة الحبسية فإنه لا يزال في حاجة إلى منظومة تطبيقية واضحة ومتكاملة تحدد بدقة شروط التنفيذ والجهات المكلفة به والآثار القانونية المترتبة عن الإخلال بما يضمن لهذه العقوبة البديلة فعاليتها على أرض الواقع ويُجنبها الانزلاق إلى مجرد إجراء رمزي.

كما أظهرت التجربة الفرنسية تفوقا واضحا على مستوى التفاصيل المسطرية والبنية المؤسسية من خلال تحديد دور قاضي تنفيذ العقوبات وتوفير أدوات المراقبة وآليات التحصيل وتكييف العقوبة مع الوضع الاجتماعي للمحكوم عليه وهي عناصر لا تزال غائبة أو غير مفعلة في التجربة المغربية مما قد يحد من نجاعة هذه الآلية رغم أهميتها التشريعية.

ومن أبرز النقاط التي ينبغي على المشرع المغربي استدراكها، التنصيص الصريح على طرق تنفيذ الغرامة اليومية والإجراءات الجبرية الممكنة وشروط الإعفاء أو التأجيل وكذا أثر تنفيذ الغرامة على الوضع القانوني للمحكوم عليه سواء من حيث السوابق القضائية أو شروط العود أو أثرها على باقي الحقوق المدنية.

لائحة المراجع:

المراجع بالعربية:

  • كوثر بوعسرية، السياسة الجنائية في مواجهة جرائم الفساد، الدار المغربية للنشر والتوزيع، 2021.
  • محمود سليمان موسى، السياسة الجنائية وتطبيقاتها التشريعية، دار الفكر الجامعي، 2018.
  • محمود طه جلال، أصول التجريم والعقاب في السياسة الجنائية المعاصرة، دار النهضة العربية، 2004.
  • محمد علي سويلم، السياسة الجنائية في مكافحة الفساد. المصرية للنشر والتوزيع (كوميت)، 2018.
  • أكرم نشأت إبراهيم، السياسة الجنائية: دراسة مقارنة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2011.
  • عبد الفتاح بيومي حجازي، السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، دار الفكر العربي، 2005.
  • علي عبد القادر القهوجي، السياسة الجنائية في القانون الجنائي العام، دار النهضة العربية، 2007.
  • محمد عبد العظيم، السياسة الجنائية في مواجهة الجرائم الإلكترونية، دار الجامعة الجديدة، 2010.
  • أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، 2006.

المراجع الأجنبية:

  • Delmas-Marty, Mireille. Les grands systèmes de politique criminelle. Paris: PUF, 1992.
  • Delmas-Marty, Mireille. Modèles et mouvements de politique criminelle. Paris: Economica, 1983.
  • Cusson, Maurice. Pourquoi punir?. Paris: Dalloz, 1987.
  • Cusson, Maurice. Criminologie actuelle. Paris: PUF, 1998.
  • Robert, Philippe. La question pénale. Genève: Droz, 1984.
  • Robert, Philippe. Sociologie du crime. Paris: La Découverte, 2005.
  • Zauberman, René, et Philippe Robert. Du côté des victimes: un autre regard sur la délinquance. Paris: L’Harmattan, 1995.
  • Faugeron, Claude, et Philippe Robert. Les forces cachées de la justice: la crise de la justice pénale. Paris: Centurion, 1980.
  • Delmas-Marty, Mireille. Punir sans juger. Paris: Economica, 1992.
  • Delmas-Marty, Mireille. Le flou du droit: du code pénal aux droits de l’homme. Paris: PUF, 2004.
  1. عرف لنا المشرع المغربي العقوبات البديلة من خلال الفصل1-35 من مشروع القانون الجنائي بأنها” العقوبات التي يحكم بها بديلا للعقوبات السالبة للحرية في الجنح التي لا تتجاوز العقوبة المحكوم بها من أجلها خمس سنوات حبسا نافذا”، واستثناء لهته القاعدة فلا يحكم بالعقوبات البديلة في حالة معاودة ارتكاب المجرم لنفس الفعل، “لا يحكم بالعقوبات البديلة في حالة العود”، كما لا يحكم بالعقوبات البديلة في حالة ارتكاب الجاني لإحدى الأفعال المنصوص عليها في الفصل 3-35، والمتمثلة في:

    – الجرائم المتعلقة بأمن الدولة والإرهاب، الاختلاس أو الغدر أو الرشوة، غسل الأموال، الجرائم العسكرية، الإتجار الدولي في المخدرات، الإتجار في المؤثرات العقلية، الإتجار في الأعضاء البشرية، الاستغلال الجنسي للقاصرين أو الأشخاص في وضعية إعاقة.

  2. Article 131-5 – Code pénal :

    « Lorsqu’un délit est puni d’une peine d’emprisonnement, la juridiction peut prononcer une peine de jours-amende consistant pour le condamné à verser au Trésor une somme dont le montant global résulte de la fixation par le juge d’une contribution quotidienne pendant un certain nombre de jours. Le montant de chaque jour-amende est déterminé en tenant compte des ressources et des charges du prévenu ; il ne peut excéder 1 000 euros. Le nombre de jours-amende est déterminé en tenant compte des circonstances de l’infraction ; il ne peut excéder trois cent soixante. »

  3. Faugeron Claude, et Philippe Robert. Les forces cachées de la justice : la crise de la justice pénale. Paris : Centurion, 1980.p55
  4. محمد عبد العظيم، السياسة الجنائية في مواجهة الجرائم الإلكترونية، دار الجامعة الجديدة، 2010، ص 55.
  5. عبد الفتاح بيومي حجازي، السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، دار الفكر العربي، 2005، ص 66.
  6. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، 2006، ص27.
  7. Delmas-Marty, Mireille. Le flou du droit : du code pénal aux droits de l’homme. Paris : PUF, 2004.p87.
  8. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، مرجع سابق، ص33
  9. عبد الفتاح بيومي حجازي، السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، مرجع سابق، ص 72
  10. Faugeron Claude, et Philippe Robert. Les forces cachées de la justice : la crise de la justice pénale, p73
  11. وفي المجال العملي، فقد ساهمت الغرامة اليومية في فرنسا في تخفيض عدد المحكومين بعقوبات سالبة للحرية عما يزيد من 15٪ سنويا منذ 2015 وأثبتت فعاليتها في الجرائم البسيطة، بينما في المغرب لا يزال الرهان مفتوحا على مدى تقبل القضاة لهذه الآلية وتفعيلها خاصة في ظل ضغط الملفات وتعدد قضايا العود.
  12. محمد علي سويلم، السياسة الجنائية في مكافحة الفساد. المصرية للنشر والتوزيع (كوميت)، 2018، ص104.
  13. محمود طه جلال، أصول التجريم والعقاب في السياسة الجنائية المعاصرة، دار النهضة العربية، 2004، ص 53.
  14. أكرم نشأت إبراهيم، السياسة الجنائية: دراسة مقارنة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2011، ص 76.
  15. Robert, Philippe. Sociologie du crime. Paris : La Découverte, 2005.p22
  16. أكرم نشأت إبراهيم، السياسة الجنائية: دراسة مقارنة، مرجع سابق، ص 80.
  17. كوثر بوعسرية، السياسة الجنائية في مواجهة جرائم الفساد، الدار المغربية للنشر والتوزيع، 2021، ص14.
  18. Zauberman, René, et Philippe Robert. Du côté des victimes : un autre regard sur la délinquance. Paris : Le Harmattan, 1995. P76.
  19. كوثر بوعسرية، السياسة الجنائية في مواجهة جرائم الفساد، مرجع سابق، ص 33.
  20. كوثر بوعسرية، السياسة الجنائية في مواجهة جرائم الفساد، مرجع سابق، ص 40.
  21. -Marta Peguera Poch, Le travail en prison à Nancy au XIX siècle, Le colloque international qui s’est tenu à L’Universitaires de STRASBOURG les 7 et 8 janvier 2014, Le travail en prison, Mise en perspective d’une problématique contemporaine, Presses universitaires de STRASBOURG. 2015, p 129.
  22. -البحث في أسباب الجريمة بدأ في أول الأمر متجردا من الطابع العلمي وغير مبني على أسس منطقية. ذلك أن الإنسان القديم كان ينسب الجريمة إلى أرواح شريرة تتقمص شخص المجرم وتدفعه إلى الجريمة دفعا. كما أن الفلاسفة الإغريق كانون يرجعوا الجريمة وأسبابها إلى فساد نفس المجرم، الذي يرجع إلى عيوب خلقية جسيمة فيه. وفي المعنى ذاته عزى بعض الفلاسفة، الجريمة إلى نقص في الوازع الديني لدى مرتكبها أو ضعف تمسكه بالقيم الأخلاقية، بل أن سوفوكلس يرى أن الجريمة هي نتيجة قرار صادر عن الآلهة لا يملك الإنسان رفضه.( راجع في هذا الصدد، فتوح عبد الله الشادلي، علم الإجرام وعلم العقاب، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، ط غ م، سنة 2009، ص 29 وما بعدها).

    -وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من تعدد محاولات تفسير الجريمة وتحديد أسبابها منذ القرن السادس عشر، إلا أن الدراسة العلمية لشخص المجرم لم تبدأ إلا في منتصف القرن التاسع عشر مع نشأة علم البيولوجيا الجنائية أو علم طبائع المجرم، عن طريق المدرسة الوضعية التي من أهم روادها ” Lombroso”و “Enrico ferri” و “Garofalo” وبعد ذلك “Grispiani” وغيره، فضلا عن التيارات الفكرية الأخرى التي نادت بضرورة الإصلاح العقابي، منها الإتحاد الدولي لقانون العقوبات وبعض المدارس الوسطية. وحركة الدفاع الاجتماعي الحديث بجناحيها المتطرف والمعتدل في محاولة لرسم صورة جديدة وإنسانية لحماية المجتمع من الجريمة والمجرمين والعمل على إصلاحهم وعدم اليأس من تأهيلهم. أنظر بهذا الخصوص:

    -عمار عباس الحسيني، الردع الخاص العقابي ونظم المعاملة الإصلاحية، دراسة مقارنة في فلسفة الإصلاح العقابي ونظم الوقاية من الجريمة، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الأولى، سنة 2013، ص 17 وما بعدها.

    -فتوح عبد الله الشادلي، علم الإجرام والعقاب، مرجع سابق، ص 29.

    -عبد السلام بنحدو، مبادئ علم الإجرام دراسة في الشخصية الإجرائية، المطبعة والوراقة الوطنية، الطبعة الثانية، سنة 1999، ص 90 وما بعدها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى