في الواجهةمقالات قانونية

نقديات مثمرة في البحث العلمي – عبد الصمد نيت أكني

نقديات مثمرة في البحث العلمي

عبد الصمد نيت أكني

يعد النقد أعلى درجة في البحث العلمي، يختص بممارسته نخبة من الدارسين ممن لهم مسار طويل في ميدان الإنتاج العلمي، والمعرفي، مكنهم -فيما بعد- من اكتساب الملكة النقدية القائمة على التحليل، والتمييز، والتقويم.

هذا الدارس الناقد يتدخل في موضوعات معينة تدخلا وقائيا، وتدخلا علاجيا.

فأما التدخل الوقائي فيكون حينما يحصل لديه حدس -بمعناه عند برغسون- بالٱثار السلبية المحتملة لبعض المقاربات التي نُظر إليها نظرة فوكويامية على أنها نهاية المقاربات، فيشرع في التنبيه على هذه الٱثار، مستصحبا أدلة علمية تمنح الشرعية لحدسه، ومقترحا سيناريوهات بديلة تجفف منابع هذه المٱلات السلبية، متوسلا في ذلك بما يعرف في علم النفس بالتفكير المضاد للواقع، الذي يضفي على تلك المقاربات طابعا نسبيا، يزعزع استقرار السيادة النهائية لها.

وأما التدخل العلاجي فيحصل حينما يقف -عيانا- عند نقائص المقاربة السائدة لموضوع ما، فيصف لذلك وصفة علمية وعملية تمنع معاودة ظهور أعراض هذه المقاربة، بتشريح بنية التفكير المفضية إليها، ثم إجراء محاورة جدلية دياليكتيكية تتغيا جعل المتشيع لتلك المقاربة الذائعة طبيبَ نفسه، بحيث يقتنع -في الأخير- بأهمية تغيير بنية التفكير لديه، واستبدالها بأنماط معرفية ضامنة لمنع ما يسمى في الطب النفسي بالانتكاس.

قد تبدو وظيفة الناقد هذه ميسَّرة لمن دونه من الدارسين، والحالُ أن تملك حاسة النقد مفتقر إلى عُدة معرفية ومنهجية خاصة، هي التي تعطي للنقد مصداقية براجماتية، وتدفع صاحبها إلى تثمير نتائج تستهدف ما سماه الجابري بنظم المعرفة، ولا يقوم بهذه الوظيفة إلا ثلة من الأنتلجينسيا التي تحفظ للنقد حقيقته النفعية، بعيدا عن نمط مبتذل من النقديات التي لا نصيب لها من حقيقة النقد في شيء، وإنما هي مجرد زعم وادعاء، كالحادي وليس له بعير، وكعاطٍ بغير أنواط، ومجردُ نظرة أولية مشوشة، ومعلومٌ أن النظرة الأُولى حمقاء كما يقال.

إن أهم معيار به نصف إنتاجا ما بوصف النقدي يتعلق بنفعيته في المجال الذي ينتمي الموضوع إليه، وتظهر هذه النفعية في أمثلة تختلف صورها باختلاف الموضوع، والجامعُ بينها هدف واحد، هو: إعادة بناء تصور جديد لموضوع ما، بتجديد البنى المعرفية، وتنويع الأسس النظرية، عند التيقن بابتذاليتها، وسطحيتها، رغم ما سيثيره هذا التجديد من ردات فعل تكون في الأغلب عاطفية تعبر عن نفسية نوستاليجيا إحيائية تحنّ إلى الماضي، وترتبط به، نظرا لأهميته بماضويته، لا بمعرفيته.

وليس كل تجديد نافعا، وليس كل تثوير تجديدا، وإنما التجديد تابع لطبيعة الطرح الذي قدمه الناقد، فإن استند إلى مبررات معرفية خالصة من أي نزعة إيديولوجية ضيقة، وكان توّاقا إلى نفع الإنسانية بما يحقق لها الأمن بمختلف أنواعه، وأشكاله، فأحسبُ ذلك من جنس التجديد الذي له نظائر قديما، وحديثا.

وتلك وظيفة المثقف عند جان بول سارتر، فهو عالِم وزيادة، لا بد أن يستثير التفكير بأدوات معرفية محضة، طلبا للنفع، وخدمة للصالح العام، لذلك غالبا ما “يلام على تجاوز مصالحه”[1]، وأما الاستثارة بقصد الإغراب والتفرد فهي نزعة بوهيمية تستبطن تفكيرا ترنسندنتاليا، وشاذا، لايُلتفت إليه، ولا يُعول عليه.

إن إشكالية النقد تتجاوز الناقد أحيانا لتشمل المتلقي كذلك؛ إذ هذا الأخير يستقبل المنتوج النقدي بقراءات متعددة بحسب نوع القارئ، وأفق توقعه، منها ما يستسيغ فكرة النقد ابتداء، ومنها ما يثير إشكالات، كتلك التي تدعو إلى إغلاق باب النقد ابتداء، بدل أن يسعى إلى التفاعل معها بطريق معرفي قائم على مقارعة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، ولا يخفى ما في هذه الدعوة من حساسية انفعالية يعبر أصحابها عن عدم قدرتهم على التكيف مع النقد، وافتقارهم إلى النضج الانفعالي.

فالنقد فعل نخبوي، وبابه مفتوح بشروط معرفية لا يغلقه إلا ذوو التفكير الكارثي.

نعم، قد يطعن بعض الدارسين في نتائج بعض النقدة من جهة ابستيمية، وهذه حالة طبيعية، ولكن الإشكال في إصدار أحكام باتة تقضي بتحريم النقد في مجالات معينة، بناء على حيثيات معيارية هي في واقع الأمر صيحة في واد، ونفخة في رماد؛ إذ النقد كان وسيظل كائنا وفي جميع المجالات، سواء نادى بعضهم بتحريمه أم بتحليله، والأولى صرف الجهد إلى نقد النقود بناء على معيار النفعية، والقابلية للتنزيل، عوض الانشغال بأمور كالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع.

والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] دفاع عن المثقفين، لجان بول سارتر، ترجمة: جورج طرابيشي، منشورات دار الٱداب- بيروت، ط:1/ 1993م، ص: 13.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى