في الواجهةمقالات قانونية

الضابطة القضائية و إكراهات واقع الممارسة

                     لاشك أن الضابطة القضائية تلعب أدوارا حيوية فيما يتعلق بالوقاية من الجريمة وجزر مرتكبيها ضمانا لسلامة الأشخاص وحماية للممتلكات العامة والخاصة، وحفاظا على النظام العام، لكن وهي تباشر مهامها المخولة لها قانونا على المستوى الزجري كما على المستوى الوقائي، تصطــدم هذه الضابطة القضائية بجملة من الإكراهات والمعوقات التي تعرقل عملها الاعتيــادي وتنزع عنه رداء الجودة والفاعلية ، وعليه سنرصد بعض جوانب هذه الإكراهات والصعوبات ( جهاز الشرطة نموذجا) التي يرتبــط بعضها بازدواجية السلطة التي تخضع لها (قضائية، إدارية) والبعض الثاني  يلامس قنوات التواصل بينها وبين النيابة العامة (التعليمات الشفوية أساسا) وبعضها الآخر يتقاطع مع طبيعة الاختصاص النوعي الذي يحدد نوعية القضايا التي تبث فيها دوائر الشرطة وتلك التي تنظر فيها مصالح أو فرق الشرطة القضائية ، وكذا بعض الإكراهات ذات الصلة بضعف الحصيص ومحدودية التكوين ، على أن نقوم بإبــداء بعـض التصورات والاقتراحات التي من شأنها تصحيح الاختلالات الحاصلة على مستوى واقع الممارسة العملية .

– ازدواجية الشرطة :

على مستوى هيكلة المصالح اللاممركزة، تلعب مصالح أو فرق الشرطة القضائية ودوائر الشرطة دورا محوريـا في الوقاية من الجريمة وجزر مرتكبيها، فمصالح أو فرق الشرطة القضائية تبقى مصالح قائمة الذات وهي تابعة مركزيا إلى مديرية الشرطة القضائية، أما دوائر الشرطة فهي تابعة للأمن العمومي ومركزيا لمديرية الأمن العمومي ، وغــم هذا الاختلاف الهيكلي ، فإن الخيط الناظم بين المصلحتين هو ” عمل الضابطة القضائية” ، بمعى أن المصلحتين تتقاطعان في المهــام والاختصاصات التي يخولها قانون المسطــرة الجنائية لضباط الشرطة القضائية من قبيل التثبت من وقـــوع الجرائم وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيهــا، وتنفيـذ أوامر و إنابات قضــاة التحقيق وأوامر النيابة العامة وتلقي الشكايات والوشايـات وإجراء الأبحاث التمهيدية ، واعتبارا للصفة المشتركة بين المصلحتين (الصفة الضبطية)، فـــإن ضباط الشرطة القضائيـــة سواء الممارسين بمصالح أو فرق الشرطة القضائيـة أو بدوائر الشرطة، يخضعــــون في إطار ممارسة مهامهم الاعتيادية إلى سلطتين اثنتيـــن : سلطة قضائية و سلطة إداريــة ، وهذه الازدواجيـــة تطرح جملــة من المعوقــات العملية ، بحكم أن ضابط الشرطــة القضائيــة لما يضــــع اليــد على قضية من القضايا (جنح أو جنايات) سواء في إطار عمله اليومي أو في إطار الإشراف على الديمومة، يجــد نفسه مجبرا على سلك مسلكين إثنيــن في نفـــس الآن :

– إشعار النيابة العامة هاتفيا بظروف وملابسات الواقعة المعروضة عليه في حينه، وتلقي تعليمات فوريـــة بشأنها ، خصوصا فيما يتعلق بإخضاع المشتبه فيه رهن تدبير الحراسة النظرية أو عدمه .

– إشعار الرؤساء المباشرين/الإدرييين (رئيس الدائرة ، رئيس الشرطة القضائية ، العميد المركزي ، رئيس المنطقة ) حول القضية المعروضة عليه ، وتلقي عند الضرورة تعليماتهم أو توجيهاتهم بشأنها .

ورغم أن الكفة تميل بشكل لا نقاش فيه إلى السلطة القضائية بحكم القانون، فإنه لا مفر من القــول أن التداخل بين”القضائي” و’الإداري” يجعل ضابط الشرطة القضائية إن صح التعبير يتواجد في حالات كثيــرة بين “مطرقة القضاء” و”سندان الإدارة” ،وهذا ينعكس سلبا على مردوديته ويحــد من إمكانية تصرفه بأريحية وفــق ما ينص عليه التشريــع المسطري (المسطرة الجنائية) وما يمليه عليه ضميره المهني .

– ضعف آليات التواصل بين النيابة العامة والضابطة القضائية :

على مستوى واقع الممارسة، فإن العلاقة التواصلية بين النيابة العامة والضابطة القضائية ، تتم في مجملها إما عن طريق التعليمات الكتابية ، أو عبر قناة التعليمات الشفوية عن طريق الهاتف الذي يمرر عبره “الإشعار” أو “الإخبـار” (من جانب الضابطة القضائية) و”الأوامر” أو “التعليمات” (من جانب النيابة العامة) ، وفي هذا الصدد، فإذا كانت “التعليمات الكتابية”  تتميز بالدقة والوضوح والحجية ، ولا تطرح أي فرصة لسوء الفهم أو سوء التأويل ، فـــإن” التعليمات الشفوية” تطـــــرح إشكال “الحجيـة” على اعتبار أنها تعليمات”شفوية” و”غير موثقة” ، وما دامت كذلك فمن يتحمل المسؤوليـة في حالة “سوء فهم ” ، فهل ضابط الشرطة القضائية الذي لـــم يتثبت من فحوى التعليمات الشفوية المقدمة إليـه ؟ أم النيابة العامة التي أصدرت تعليمات فضفاضة وغير مدققــة؟ ثــــم ماذا لو أساء ضابط الشرطة القضائية فهم مضمون تعليمات النيابة العامة ونفذهــا بشكل غير مطلوب ؟ ماذا لو لم يحســــن شرح ملابسات الواقعة المعروضة عليه للنيابة العامة ؟ وبناء عليها أصدرت هذه الأخيـــرة تعليمات شفوية مجانبة للصواب والواقـــــــــــع ، ثم ما مــدى واقعية وقانونية هذه التعليمات ؟هل تستند في روحها على المرجعية القانونية بشكل مطلـــق ؟ أم تتحكم فيها اعتبـــارات ذاتيـة مرتبطة بشخـص الوكيل أو النائب الذي أصدرها ؟  بل أكثـــر من ذلك كيف يمكن إصدار”فتــوى” أو على الأصح “تعليمات شفويــة” عن بعــد ، أي بعيدا عن واقـــع القضايا والنوازل ؟ ثـــم إلى أي حــد ضابط الشرطة القضائية يكون أمينا ودقيقــا في نقل ظروف وملابسات القضية المعروضة عليه إلى النيابة العامــة ؟ ماذا لو تعمــد تبسيط معطيات الواقعـة من أجل دفـــع النيابة العامة إلى اتخاد قرار إخلاء سبيل شخص أو عدم وضعه رهن الحراسة النظرية أو تقديمه في حالة ســـراح ؟ وماذا أيضـــا لو تعمد تضخيم القضية المعروضة عليه وإعطائها أكثر ما تستحق ونقلها بهذه الصورة للنيابة العامة ؟ فسواء تعلق الأمر بالحالة الأولى أو بالحالة الثانية ، فهــذا يطرح سؤال “التعليمات الشفوية” التي توجهها النيابة العامة لضباط الشرطة القضائية ، بناء على المعلومات والمعطيات التي قدمها ضابط الشرطة القضائية وليس بناء على المعاينة المباشرة للواقعة ، نقطــــة أخرى ذات الصلة بالجانب التواصلي ، ويتعلق الأمر ب”فوريــــة التبليغ” ، ذلك أن ضابط الشرطة القضائية أحيانــا، ينقل إلى النيابة العامة معطيات أولية بشأن قضية معروضة عليه بشكل فوري بدون أن يتثبت من ظروفها وحيثياتها ودون التأكد من صحتها أو عـــدم صحتها ، والنيابــة العامة بنفــس “الفوريـــة” تصدر تعليماتها الشفويــة التي يمكن أن تكــون صائبة تارة ويمكن أن يشوبهــــا التسرع وســـوء التقدير تــــارة أخــرى ، خاصـــة فيما يتعلــــق بتدبيــر الوضع تحت الحراسة النظريــة .

– الاختصاص النوعي :

على مستوى واقع الممارسة، فإن الضابطة القضائية سواء بمصالح أو فرق الشرطة القضائية أو بدوائر الشرطة، تباشر مهامها حسب الاختصاص النوعي ، أي حسب نوعية الجرائم المرتبكة ، فدوائر الشرطة عموما تباشر البحث في القضايا البسيطة من قبيل السكر العلني البين، التخدير،السب ولشتم والإهانة والتسول والتشرد والبيع بالتجوال والسرقات البسيطة والضرب والجرح وغيرها ، وتباشر الإجراءات المسطرية الجزئية بشأن القضايا المعروضة عليها قبل إحالتها على الشرطة القضائية ،أما فرق أو مصالح الشرطة القضائية فهي تتولى مهمة النظر في القضايا الجنحية أو الجنائية التي تستدعي تعميق الأبحاث والتحريات ، وقد أبانت التجربة المهنية أن هذا الاختصاص النوعي يطــرح جملة من المشاكل نوجز بعضها فيما يلي :

– دوائر الشرطة تباشر الإجراءات الأوليـــة بشأن بعــض القضايا (انتقالات،معاينات،حجز،استماع إلى للضحيــة،الإستماع إلى الشهود … إلخ) وتحيل المسطرة الجزئيـــة المنجزة – رفقة الظنين – على مصلحة أو فرقة الشرطة القضائيـة من أجل تعميــق البحث عنــه .

– دوائر الشرطة في حالات كثيــرة تباشر معظم الإجراءات ، وتحيل القضية برمتهــا على الشرطـة القضائيـــة ، وقــد تبقــى منها الاستماع إلى الظنيــن فقط .

– هذه الوضعية تجعلنا نقــف أمام ضابطة قضائيــة واحدة بمستويين : واحدة تباشر الإجراءات الأولية ، والثانيــة تعمــق البحث وتكملـه .

– ضابط قضائية تستمع إلى الضحية وضابط قضائية تستمع إلى الجاني .

– أحيانــا لما تتوصل دائرة الشرطة بقضية ما ، يتم استعجال  الإستماع إلى الطرف الشاكي والتخلص من القضية ككل برميها في مرمــى الشرطة القضائية بدعـــــوى تعميق البحــث ، ولما يتبيــن أن القضية تبقى من اختصاص دائرة الشرطة ، أو أنها مكتملة الأطراف (ضحية ، شهود ، جاني)  لا يتـــم قبول تسلمها ، وبالتالي ترجع القضية وأطرافها الى دائرة الشرطــة ، وهذا من شأنه أن يكرس الإحساس بانعدام الثقـة في عمل الشرطــة ، فضــلا  عن تضييــع وقت مهم كان بالإمكــان استغلاله في البحــث.

– في حالات كثيــرة تحيل دوائر الشرطـة بعض القضايا على الشرطـة القضائية في ساعات متأخــرة من النهار ، ولا تترك للشرطة القضائية أي وقـــت من أجــل تعميــق البحــث مـع الطرف الجانــي وكذا مباشــرة ما يقتضيــه البحث من انتقالات وتحريات وغيرهـــا ، وفي ظل هذا الوضــــع وأمام ضغط مدة الوضع رهن الحراسة النظريــــة ، يتم فقط الاستماع إلى المعني بالأمر ، وإنجاز المسطرة بشأنه من أجل إحالته على العدالة في اليـــوم الموالي .

– ضعف الحصيص ومحدودية التكوين :

– إكراه آخر يواجه الشرطة عموما والشرطة القضائية خصوصا ، يتعلق بضعــف الحصيص سواء على مستوى ضباط الشرطة أو على مستوى مفتشي الشرطة ، وهــذا ينعكس سلبا على أدائها، خصوصا وأن عملها يتخد عدة مستويات من قبيل إنجاز المحاضر والمساطر بشأن القضايا التلبسية و الإشراف على الأبحاث التمهيدية و القيام بالحملات التطهيريـــة و المشاركة في الأعمـــال النظامية (مسيرات، وقفات، احتجاجات، تظاهرات رياضية، ديمــومــة …) ، وهــذه المهام المتعددة الأوجــه، ينتــــــج عنها تكــدس في الملفــات والقضايــــا الجاريـة ســــواء كان موضوعها شكايــات مواطنيــن أو تعليمات النيابــة العامـة ، وعادة ما يتم تصريف القضايــا إن لم نقل التخلص منها عن طريق مخرج ” البحث غير المجدي” ، وفي ذلك- شئنا أم أبينا- تكديـــــــس لمصالح المواطنين، ممــا ينعكـــس سلبـــا على معاييــر الجــــودة والسرعـــة والفعاليــة والقرب وتلبيـــــة الحاجيات الأمنية للمواطنين .

– على مستوى التكوين، تبدل المديرية العامة للأمن الوطنــي مجهودات مهمة ، إن على مستوى التكوينات الأساسية أو التكوينات التي تدخل في نطــاق التكوين المستمـــر في سبيل تأهيل ضباط الشرطة القضائيــة وجعلهم يسايرون المستجدات الحاصلة في العلوم القانونية والحقوقية والأمنية واللغات وغيرهــا ، لكــن يلاحظ على مستوى واقــع الممارسة ، أن معارف بعض ضباط الشرطة القضائيــــــة تتميز بنوع من القصور والمحدوديـــة خصوصا على المستوى القانوني ، لإن البحث على سبيل المثال لا الحصـر في قضية موضوعها شركة تجاريـــة ، أو ذات صلة بالملكيــة الفكرية ، لا يمكن للضابط تناولها والإحاطة بجميع تفاصيلهـا ، دون الإلمــام بقانون الشركـات وقانون الملكية الفكريــــة ، ودون الإحاطة بالقانون الموضوعي (القانون الجنائي) والقانون الشكلي(المسطرة الجنائية)  ـ لذلك وحرصــا على جـــودة عمل الضابطة القضائية ، لابــد من المزيد من التكويــن المستمـــر لسد كل الثغرات المعرفية التي يعاني منها ضابط الشرطة القضائيــة.

– تصورات واقتراحات :

ضرورة إعادة النظر في ازدواجية السلطة التي تخضع لها الضابطة القضائية .

– التفكير في صيغ تواصلية جديدة وفاعلة وناجعة بين الضابطة القضائية والنيابة العامة عوض قنوات الهاتف.

– لابد للنيابة العامة أن تنزل إلى الميدان (مصالح/فرق الشرطة الفضائية ، دوائر الشرطة) لتقف عن كثب عند مشاكل وإكراهات ضباط الشرطة القضائية ، والإصغاء إلى اقتراحاتهم ووجهات نظرهم .

– إعطاء ضباط الشرطة القضائية هامشا للتصرف في بعض القضايا ومعالجتها والتي لا تشكل خطرا على النظام العام (سكر، تشرد، سرقات بسيطة، ضرب وجرح …) وهذا النوع من القضايا يثقل كاهل الشرطة القضائية والنيابة العامة على حد سواء.

– ضرورة توضيح العلاقات العملية بين الشرطة القضائية ودوائر الشرطة ووضع حدود واضحة للاختصاص النوعي، من خلال حصر القضايا التي تبث فيها دائرة الشرطة والقضايا التي تبقى من صميم اختصاص الشرطة القضائية ، وتحديد الاختصاص بين المصلحتين ، من شأنه أن يحد من مظاهر العشوائية والالتبـــاس والتداخل في الاختصاصات ، ويحــقق السرعة والفعالية التي تقتضيها الأبحاث والتحريات ، وهذا التحديد يسمــح بآليات التقييم والمساءلة .

– ضبط وتأطير عمل المصلحتين من شأنه أيضا أن يؤسس لعلاقة جديدة مبنة على التكامل والتعاون لا على التنافر والتصــادم .

– الرفع من الحصيص، وتمكين الضابطة القضائية من الوسائل والمعدات اللوجستية ، والتفكير في صيغ لتحفيزها من الناحية المادية، وذلك لضمان الفاعلية والمردودية المتوخاة من عملها .

-إخضاع ضباط الشرطة القضائية إلى تكوين أساسي عصري منفتح على العلوم القانونية والأمنية وحقوق الأنسان وتقنيات البحث واللغات الحية ، وتفعيل التكوين المستمر الذي يجب أن يشمل أيضا  مفتشي الشرطة ، باعتبارهم مشاريع ضباط شرطة قضائية .

– خلق شراكات مع مؤسسات ذات صلة بالعمل القانوني والأمني ، كالمعهد العالي للقضاء، والمدرسة الوطنية للإدارة والمعهد اللكي للإدارة الترابيــــة ، جامعات … من أجل تمكين ضابط الشرطة القضائية من الانفتاح على محيطه العلمي .

أخيرا وليس آخرا ، لايمكن أن نؤسس لحكامة قضائية وأمنية جيدة دون ضابطة قضائيــة فاعلة ومتجــددة ومتفتحــة على محيطهــا المجتمعي بكل مكوناتـــه ، مع الإشــارة إلى أن النيابة العامة تعاني بــدورها من مجموعة من الإكراهات المادية واللوجستية ، وفي مقدمتها ضعــف الحصيص وتراكم القضايـــا ، مما يتعذر معه النزول إلـى مصالح الشرطة القضائية (شرطة قضائية ، دوائر الشرطة) وتحقيق التواصل المطلوب معهــا، ورغـــــم الإكراهات التي يعاني منهــا كل جهـــاز،فلا بــد من التفكيـــــر في خارطة طريــق جديــدة بين الجهازين ، مبنيــــة على قيــــم التواصــل والتعاون والتكامل والإصغــاء والإنصـات ، لا علــــى الخضوع والتحكم ، وذلك خدمـة للعدالة وضمانــا للمحاكمة العادلـــة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى