في الواجهةمقالات قانونية

الثابت والمتغير في المنظومة القانونية للملكية الصناعية والفكرية بالمغرب. (المستنبطات النباتية نموذجا) الباحثة : مرية الفرنيني

الثابت والمتغير في المنظومة القانونية للملكية الصناعية والفكرية بالمغرب.

(المستنبطات النباتية نموذجا)

الباحثة : مرية الفرنيني

باحثة بسلك الدكتوراه كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية.

هذا البحث منشور في مجلة القانون والأعمال الدولية الإصدار رقم 60 الخاص بشهر أكتوبر/ نونبر 2025
رابط تسجيل الاصدار في DOI


https://doi.org/10.63585/EJTM3163

للنشر و الاستعلام
mforki22@gmail.com
الواتساب 00212687407665

الثابت والمتغير في المنظومة القانونية للملكية الصناعية والفكرية بالمغرب.

(المستنبطات النباتية نموذجا)

الباحثة : مرية الفرنيني

باحثة بسلك الدكتوراه كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية.

ملخص:

يهدف هذا المقال إلى تحليل جدلية الثابت والمتغير في المنظومة القانونية المغربية للملكية الصناعية والفكرية، من خلال تسليط الضوء على الإطار القانوني المنظم لحماية المستنبطات النباتية كنموذج تطبيقي. ويستعرض تطور التشريع المغربي في هذا المجال، في ضوء التزامات المغرب الدولية، لا سيما اتفاقيات التجارة الحرة واتفاقية الجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية (TRIPS). كما يناقش المقال مدى فعالية الإطار القانوني الحالي في تحقيق التوازن بين تشجيع الابتكار وحماية الحقوق، وبين متطلبات التنمية الزراعية والحفاظ على السيادة الغذائية. ويخلص البحث إلى ضرورة تعزيز الدينامية التشريعية بما ينسجم مع الخصوصيات الوطنية والتحديات البيئية والاقتصادية المستجدة.

الكلمات المفتاحية: الملكية الفكرية – المستنبطات النباتية – القانون المغربي.

Constants and variables in the legal system for industrial and intellectual property in Morocco.

(Plant varieties as a model)

Maria El-Farnini,

PhD researcher, Faculty of Legal, Economic and Social Sciences, Mohammedia.

Abstract :

This article aims to analyze the dialectic of constants and variables in the Moroccan legal system for industrial and intellectual property, highlighting the legal framework governing the protection of plant varieties as a practical model. It reviews the development of Moroccan legislation in this area, in light of Morocco’s international commitments, particularly free trade agreements and the Agreement on Trade-Related Aspects of Intellectual Property Rights (TRIPS).

The article also discusses the effectiveness of the current legal framework in achieving a balance between encouraging innovation and protecting rights, and the requirements of agricultural development and preserving food sovereignty. The research concludes with the need to enhance legislative dynamism in line with national specificities and emerging environmental and economic challenges.

Keywords : Intellectual property – plant varieties – Moroccan law.

تقديم:

تعتبر الملكية الصناعية والفكرية إحدى الركائز الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد المعاصر، إذ تشكل الأداة القانونية التي تضمن حماية الإبداعات والابتكارات وتحفز على الاستثمار في البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وفي السياق المغربي برز الاهتمام بهذا المجال بشكل متزايد خلال العقود الأخيرة، مدفوعا بانخراط المملكة في النظام التجاري العالمي وتوقيعها على مجموعة من الاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها اتفاقية تريبس TRIPS واتفاقية الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية UPOV، وهو ما انعكس على تطور التشريعات الوطنية ذات الصلة، ومنها القانون رقم 17.97 المتعلق بحماية الملكية الصناعية كما تم تغييره وتتميمه، والذي يشكل الإطار المرجعي العام لهذا المجال.

وتعد المستنبطات النباتية من أبرز مكونات الملكية الصناعية في بعدها الزراعي، حيث تشكل نقطة التقاء بين اعتبارات اقتصادية مرتبطة بإنتاج أصناف جديدة أكثر مقاومة وأعلى مردودية وبين اعتبارات بيئية تتعلق بالحفاظ على التنوع البيولوجي وتحقيق الأمن الغذائي، ويطرح موضوع حمايتها مجموعة من الإشكالات القانونية التي تتقاطع فيها الثوابت التي تحكم المنظومة القانونية للملكية الصناعية والفكرية، مع المتغيرات التي تفرضها التحولات العلمية والتكنولوجية، وكذا المتغيرات التي يفرضها الواقع العملي للمزارعين والشركات الزراعية.

إن الثابت في هذه المنظومة يتمثل في المبادئ العامة التي لا تتغير بتغير الظروف، مثل الاعتراف بحقوق المبتكرين والمستنبطين، وضمان الحماية القانونية لمنتجاتهم، وتكريس مبدأ الموازنة بين حقوق الملكية الفردية ومتطلبات المصلحة العامة، أما المتغيرات فتتجلى في التعديلات التشريعية التي تستجيب للتطورات التكنولوجية والتجارية، وكذا في الممارسات التطبيقية التي تفرضها ظروف السوق والمنافسة الدولية وهو ما يجعل الإطار القانوني في حالة تطور دائم.

وإذا كانت حماية المستنبطات النباتية قد حظيت باهتمام المشرع المغربي من خلال انضمام المغرب إلى اتفاقية UPOV سنة 2006 وسن القانون رقم 9.02 الذي عدل وتمم القانون رقم 17.97، فإن الممارسة أظهرت أن هناك حاجة مستمرة لتطوير هذه الحماية بما يواكب المستجدات العلمية، خصوصا في ظل بروز تحديات جديدة مرتبطة بالتغيرات المناخية واستعمال التقنيات الحيوية وتزايد الطلب العالمي على الأغذية ذات الجودة العالية، فهذه التحولات تفرض على المنظومة القانونية أن تكون مرنة وقابلة للتكيف مع المستجدات دون التفريط في الثوابت التي تشكل أساسها.

ومن هنا تأتي أهمية تناول موضوع الثابت والمتغير في المنظومة القانونية للملكية الصناعية والفكرية بالمغرب، مع التركيز على حالة المستنبطات النباتية كنموذج لما يتيحه ذلك من فهم أعمق لمدى قدرة التشريع المغربي على التوفيق بين متطلبات حماية الحقوق الفردية وتشجيع الابتكار من جهة، ومتطلبات المصلحة العامة وحماية البيئة من جهة أخر، خاصة وأن هذا المجال أصبح اليوم في صميم النقاشات حول التنمية المستدامة والسيادة الغذائية.

كما أن دراسة هذا الموضوع تتيح تقييم مدى انسجام الإطار القانوني المغربي مع التزاماته الدولية، ومدى فعاليته في التطبيق العملي، من خلال رصد مكامن القوة التي تمثل الثوابت في هذه المنظومة، ومكامن القصور التي تستدعي إدخال تغييرات أو إصلاحات، وهو ما يجعل هذه الدراسة ذات بعد تحليلي نقدي يزاوج بين التأصيل القانوني والمعاينة الواقعية، من خلال التقسيم المنهجي التالي:

المطلب الأول: الثوابت في المنظومة القانونية للملكية الصناعية والفكرية.

المطلب الثاني: التحديات المتغيرة في حماية المستنبطات النباتية.

المطلب الأول: الثوابت في المنظومة القانونية للملكية الصناعية والفكرية.

عند تناول موضوع الثابت في المنظومة القانونية للملكية الصناعية والفكرية بالمغرب، تبرز الحاجة إلى استحضار الإطار المرجعي الذي لا يتغير رغم التحولات الاقتصادية أو التكنولوجية وهو ما يجعلنا أمام مزيج من القواعد الدستورية والالتزامات الدولية، والمبادئ العامة التي شكلت الأساس الذي انبنت عليه النصوص القانونية الوطنية، وقد عمل المشرع المغربي من خلال القانون رقم 17.97 المتعلق بحماية الملكية الصناعية كما تم تغييره وتتميمه بالقانونين 23.13 و31.05 على وضع قواعد واضحة لحماية الحقوق المترتبة على الابتكارات الصناعية، ومن بينها المستنبطات النباتية مع تحديد شروط اكتساب هذه الحقوق وآليات حمايتها وهو ما يعكس رؤية تشريعية ثابتة تقوم على تكريس الحماية القانونية للمبتكرين وضمان الاستفادة العادلة من منافع الابتكار[1].

ويعتبر التزام المغرب بالاتفاقيات الدولية ذات الصلة، وخاصة اتفاقية تريبس واتفاقية الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية UPOV، من أبرز الثوابت التي تفرض نفسها على التشريع الوطني إذ ألزمت هذه الاتفاقيات المملكة بسن تشريعات تحترم الحد الأدنى من معايير الحماية وضمان آليات فعالة للإنفاذ القضائي والإداري، كما أن الدستور المغربي لسنة 2011 وإن لم يشر صراحة إلى الملكية الصناعية فقد كرس في فصله الخامس والثلاثين حماية حق الملكية بصفة عامة، وهو ما يشمل الملكية الفكرية والصناعية مما يمنح هذا الحق أساسا دستوريا راسخا.

وإلى جانب المرجعيات الدستورية والدولية، يندرج ضمن الثوابت أيضا مبدأ التوازن بين المصلحة الخاصة للمبتكر والمصلحة العامة للمجتمع، وهو ما يتجسد في النصوص التي تحدد مدة الحماية وتضع استثناءات على الحقوق الممنوحة، كالسماح بالاستخدام لأغراض البحث أو التعليم أو الأمن الغذائي، وهو ما يظهر في المواد 56 وما يليها من القانون 17.97 فيما يخص حقوق المستنبط النباتي[2].

إن هذه الثوابت القانونية تمثل الإطار الذي يضبط حركة المتغيرات، حيث إنها تضمن أن أي تعديل أو تحديث يطرأ على النصوص القانونية يبقى منسجما مع المبادئ الأساسية التي تحكم حماية الملكية الصناعية والفكرية (الفقرة الأولى)، وبذلك فإن الحديث عن الثابت لا يعني الجمود، بل يعني الحفاظ على القواعد الجوهرية التي تشكل الضمانة الأساسية لاستقرار المعاملات وحماية الحقوق، وهو ما يشكل شرطا ضروريا لنجاح أي إصلاح تشريعي أو إداري في هذا المجال (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: الإطار القانوني لحماية المستنبطات النباتية في التشريع المغربي.

يشكل القانون رقم 17.97 المتعلق بحماية الملكية الصناعية كما تم تغييره وتتميمه المرجع الأساسي الذي يحدد القواعد المنظمة لحماية المستنبطات النباتية في المغرب، حيث خصص المشرع الباب السادس من هذا القانون المكون من المواد من 53 إلى 72 لتأطير حقوق المستنبط النباتي وشروط اكتسابها وحدودها، ويظهر من صياغة هذه المواد أن المشرع اعتمد مقاربة متقدمة تزاوج بين متطلبات حماية الابتكار الزراعي وتشجيع الاستثمار في البحث الزراعي، وبين الالتزام بالمصالح الوطنية المرتبطة بحماية الموارد الوراثية وضمان الأمن الغذائي[3].

وقد نصت المادة 53 من القانون على أن الحماية تمنح لكل صنف نباتي جديد ومميز ومتجانس وثابت، وهو ما ينسجم مع المعايير الدولية المنصوص عليها في اتفاقية الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية UPOV التي انضم إليها المغرب سنة 2006. كما نصت المادة 54 على أن الحق في الحماية يثبت للمستنبط أو لخلفه أو لمن انتقلت إليه الحقوق، مما يمنح هذا الحق صبغة ملكية خاصة قابلة للتفويت أو الترخيص للغير باستغلالها وفق ضوابط محددة.

ومن بين أهم المقتضيات التي تعكس الطابع الثابت في المنظومة، اشتراط تسجيل الصنف النباتي في السجل الوطني للمستنبطات النباتية للحصول على الحماية وهو ما ورد في المادة 55، حيث لا يمكن اكتساب أي حق من حقوق المستنبط إلا بعد القيام بإجراءات التقييد المنصوص عليها في النصوص التنظيمية الأمر الذي يضمن توثيق هذه الحقوق بشكل رسمي وييسر إثباتها في حالة النزاع، كما أن المادة 56 حددت بدقة حقوق المستنبط، بما في ذلك إنتاج أو إعادة إنتاج الصنف وعرضه للبيع وتسويقه وتصديره واستيراده[4].

ورغم أن القانون حدد حقوق المستنبط بشكل واسع، إلا أنه أقر استثناءات لضمان التوازن مع المصلحة العامة مثل السماح للمزارعين باستخدام جزء من المحصول كبذور في مواسم لاحقة دون إذن المستنبط وفق ما نصت عليه المادة 57، وهو استثناء يهدف إلى حماية الزراعة التقليدية وضمان استمرارية النشاط الفلاحي خاصة لدى صغار الفلاحين، كما نصت المادة 58 على إمكانية الترخيص الإجباري باستغلال الصنف في حالة الضرورة الوطنية، وهو ما يعكس الطبيعة الخاصة للموارد النباتية وارتباطها المباشر بالأمن الغذائي.

إن هذا الإطار القانوني، بمقتضياته الدستورية والدولية والوطنية يشكل أحد الثوابت التي تؤطر حماية المستنبطات النباتية في المغرب، إذ يضع قواعد واضحة ومحددة تحدد الحقوق والالتزامات ويؤسس لآليات فعالة لتسجيل هذه الحقوق وحمايتها مع مراعاة خصوصية المجال الزراعي وحاجاته الاستراتيجية.

الفقرة الثانية: دور الالتزامات الدولية في تكريس حماية المستنبطات النباتية.

إن موقع المغرب في المنظومة الاقتصادية والتجارية الدولية جعله ملتزما بتبني معايير حماية الملكية الصناعية والفكرية كما هي منصوص عليها في أهم الاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها اتفاقية تريبس التي فرضت على الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية إرساء حماية فعالة للأصناف النباتية سواء عن طريق نظام براءات الاختراع أو عن طريق نظام خاص بحماية هذه الأصناف أو بمزيج من النظامين، وهو ما دفع المشرع المغربي إلى تبني نظام متكامل لحماية المستنبطات النباتية عبر القانون رقم 17.97 وما تلاه من تعديلات، مع إلحاق هذا النظام بآليات التسجيل والاعتراف القانوني على المستوى الوطني[5].

كما أن انضمام المغرب إلى اتفاقية الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية المعروفة اختصارا بـ UPOV قد شكل منعطفا أساسيا في توطيد هذه الحماية، حيث ألزمت هذه الاتفاقية المملكة بتطبيق معايير دقيقة في تعريف الصنف النباتي الجديد والمتميز والمتجانس والثابت، وأقرت حق المستنبط في الاستغلال الحصري للصنف مدة زمنية محددة، وهو ما ترجمته النصوص الوطنية التي اعتمدت نفس المعايير مع مراعاة بعض الاستثناءات التي تراعي خصوصيات الفلاحة الوطنية وحاجات الأمن الغذائي.

وتتجلى أهمية هذه الالتزامات الدولية في كونها تفرض على المشرع الوطني الاستمرار في تحديث الترسانة القانونية لمواكبة المستجدات العلمية والتقنية، كما تلزمه بملاءمة الإجراءات الإدارية والقضائية مع المعايير الدولية لضمان نفاذ الحماية خارج الحدود الوطنية، وهو ما يشكل عنصرا جوهريا لجذب الاستثمار في البحث الزراعي وتطوير أصناف نباتية جديدة تتلاءم مع التحديات المناخية والبيئية التي يعرفها المغرب[6].

إلى جانب ذلك فإن هذه الاتفاقيات الدولية تمنح للمغرب فرصة الاستفادة من خبرات وتجارب الدول الأعضاء في مجال التكوين ونقل التكنولوجيا، وهو ما يعزز قدراته الوطنية في مجال تسيير وحماية المستنبطات النباتية ويضمن اندماج الفاعلين المغاربة في سلاسل القيمة العالمية، ومن ثم فإن الالتزامات الدولية ليست مجرد إطار شكلي بل هي رافعة استراتيجية لترسيخ الحماية القانونية وتعزيز الابتكار الزراعي وضمان استفادة الاقتصاد الوطني من هذه الحماية في المدى البعيد[7].

المطلب الثاني: التحديات المتغيرة في حماية المستنبطات النباتية.

رغم أن الإطار القانوني المغربي لحماية المستنبطات النباتية يقوم على أسس واضحة ومتماسكة ويستند إلى التزامات دولية ومعايير وطنية صارمة، فإن الواقع العملي يكشف عن مجموعة من التحديات المتغيرة التي تؤثر على فعالية هذه الحماية وتضعها أمام رهانات جديدة، بعضها ذو طبيعة تقنية وإجرائية وبعضها الآخر يرتبط بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي يعرفها المغرب والمنطقة بصفة عامة.

إن حماية المستنبطات النباتية ليست غاية في حد ذاتها، بل هي وسيلة لضمان تطوير الإنتاج الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي، غير أن هذه الغاية تصطدم أحيانا بمحدودية الوعي لدى بعض الفاعلين في القطاع الفلاحي بأهمية الحماية القانونية وأثرها على تشجيع الابتكار، وهو ما يؤدي إلى انتشار ممارسات غير مشروعة مثل إعادة إنتاج أصناف محمية أو تسويقها دون ترخيص، الأمر الذي يفرغ الحماية من محتواها العملي ويؤثر على جاذبية الاستثمار في هذا المجال.

كما أن التطور السريع للتقنيات الزراعية، خاصة في مجالات الهندسة الوراثية والتعديل الجيني يفرض على المنظومة القانونية أن تكون قادرة على استيعاب هذه المستجدات ووضع قواعد واضحة لتمييز ما يدخل ضمن الحماية القانونية وما يظل خارجها، وهو تحدٍ يكتسي طابعا متغيرا لأن الابتكار في المجال الزراعي لم يعد يقتصر على استنباط أصناف جديدة عبر الطرق التقليدية بل أصبح يشمل عمليات معقدة قد يصعب تكييفها قانونيا ضمن الإطار الحالي[8].

ولا يمكن إغفال أن هذه التحديات ترتبط أيضا بمتغيرات بيئية من قبيل تغير المناخ وندرة المياه وانتشار الآفات الزراعية، وهي عوامل تدفع إلى البحث عن أصناف نباتية أكثر مقاومة وأعلى إنتاجية، وهو ما يضع المنظومة القانونية أمام ضرورة تشجيع الأبحاث في هذا الاتجاه وتسهيل إجراءات الحماية لتشجيع المبتكرين مع الحفاظ على التوازن بين مصالحهم ومصالح المزارعين الصغار والمستهلكين، وبالتالي فإن هذا المطلب سيتناول الفقرات التي تبرز هذه التحديات(الفقرة الأولى) وتوضح كيف يمكن معالجتها ضمن مقاربة قانونية متجددة تراعي التغيرات الحاصلة دون المساس بالثوابت التي تقوم عليها حماية المستنبطات النباتية(الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: قصور الإطار القانوني أمام التطورات التقنية.

إن القانون المغربي لحماية المستنبطات النباتية رغم أنه يستند إلى مقتضيات القانون رقم 17.97 المتعلق بحماية الملكية الصناعية وإلى النصوص التنظيمية المتممة له، إلا أنه في صورته الحالية يعاني من بعض أوجه القصور حين يتعلق الأمر بمواكبة التطورات التقنية السريعة التي يعرفها مجال استنباط الأصناف النباتية، حيث إن أغلب مواده قد وضعت في سياق تقني وزمني كانت فيه أساليب التحسين الوراثي تقليدية وتعتمد على التهجين والانتخاب الطبيعي أكثر من اعتمادها على التعديل الجيني الدقيق[9].

ومع دخول تقنيات الهندسة الوراثية والبيوتكنولوجيا الزراعية إلى الميدان، أصبحت الحدود بين ما يعد صنفا نباتيا جديدا محميا وما يعد منتجا للتقنيات البيولوجية غير المشمولة بالحماية غامضة في بعض الأحيان الأمر الذي يخلق تباينا في التفسير بين الإدارات المكلفة بالحماية وبين الممارسين في الميدان، وهذا الوضع قد يؤدي إلى نزاعات معقدة بين مستنبطي الأصناف والمستثمرين الزراعيين خاصة عندما يتعلق الأمر بأصناف تحمل خصائص محسنة وراثيا يصعب إثبات مصدرها أو طريقة تطويرها[10].

كما أن التعريفات المعتمدة في النصوص الحالية للمصطلحات الأساسية مثل “الجدة” و”التميز” و”التجانس” و”الثبات” قد لا تكون كافية لضبط المستجدات التقنية، إذ إن الابتكارات الحديثة قد تستوفي هذه الشروط من الناحية الظاهرية لكنها تكون نتيجة عمليات تعديل جيني تشمل مواد وراثية من خارج الجنس النباتي، وهو ما يثير إشكالا قانونيا حول مدى أحقيتها في الحماية وفق النظام الحالي[11].

إلى جانب ذلك فإن الإجراءات الإدارية للتسجيل والحصول على شهادة الحماية ما زالت تتطلب آجالا ومعايير فحص قد لا تتلاءم مع وتيرة الابتكار في القطاع الزراعي، مما قد يدفع بعض المستنبطين إلى عدم طلب الحماية أصلا أو إلى اللجوء إلى تسجيل أصنافهم في دول أخرى توفر حماية أسرع وأكثر مرونة، وهذا الوضع يؤثر على تنافسية المغرب في استقطاب الابتكار الزراعي.

إن معالجة هذا القصور تتطلب تعديلا تشريعيا يدمج مفاهيم وتقنيات جديدة في التعاريف والمعايير المعتمدة، مع تعزيز التنسيق بين المشرع والباحثين والممارسين في الميدان الزراعي، حتى تظل الحماية القانونية مواكبة للتحولات التي يعرفها المجال وتضمن في الوقت نفسه الحفاظ على الثوابت التي يقوم عليها نظام حماية المستنبطات النباتية بالمغرب.

الفقرة الثانية: التحديات الإجرائية والمؤسساتية في تطبيق الحماية.

رغم وضوح الإطار القانوني لحماية المستنبطات النباتية كما ورد في القانون رقم 17.97 المتعلق بحماية الملكية الصناعية والمراسيم التنظيمية المكملة له، إلا أن التطبيق العملي لهذا الإطار يواجه عدة صعوبات إجرائية ومؤسساتية تحد من فعاليته وتقلل من أثره في تشجيع الابتكار الزراعي، فالمؤسسات المكلفة بتلقي طلبات الحماية وفحصها مثل المكتب المغربي لحماية الملكية الصناعية والتجارية، رغم الجهود المبذولة في رقمنة الخدمات وتبسيط المساطر لا تزال تواجه ضغطا متزايدا نتيجة ارتفاع عدد الطلبات وتنوعها، وهو ما يبطئ من وتيرة البت في الملفات ويؤثر على سرعة تمتيع المستنبطين بحقوقهم[12].

كما أن عملية الفحص الفني للأصناف النباتية الجديدة، التي تهدف إلى التأكد من استيفاء شروط الجدة والتميز والتجانس والثبات، تتطلب إمكانيات تقنية وبشرية عالية المستوى، غير أن عدد الخبراء المؤهلين في هذا المجال يظل محدودا، كما أن البنية التحتية اللازمة لإجراء التجارب الحقلية أو الفحوص المخبرية قد لا تكون متاحة دائما بالسرعة والكفاءة المطلوبة، مما يفتح المجال أمام التأخير وربما حتى أمام الأخطاء في تقييم الأصناف.

إضافة إلى ذلك فإن التنسيق بين مختلف المتدخلين في حماية المستنبطات النباتية، من إدارات عمومية وهيئات بحث علمي وجامعات ومختبرات لا يبلغ دائما المستوى المطلوب، حيث إن غياب قاعدة بيانات وطنية شاملة ومحدثة بانتظام للأصناف المحمية والمستنبطة يجعل من الصعب تتبع وضعية هذه الأصناف على المدى الطويل، ويخلق فراغات قد تستغل في تسويق أو إنتاج أصناف محمية دون إذن أصحاب الحقوق[13].

من الناحية الإجرائية أيضا، فإن الوعي المحدود لدى بعض الفلاحين والمستثمرين بحقوق الملكية الصناعية في المجال الزراعي يجعلهم غير مدركين لأهمية احترام حقوق الحماية، الأمر الذي يفرض على المشرع والمؤسسات المعنية تعزيز جهود التوعية والتكوين، حتى تتحول الحماية القانونية إلى واقع عملي يلمسه الفاعلون في الميدان.

ولعل تجاوز هذه التحديات يتطلب مقاربة شمولية تقوم على تحديث البنية التحتية للمؤسسات المكلفة بالحماية، وتكوين مزيد من الكفاءات التقنية والقانونية، وتعزيز التنسيق المؤسسي مع مراجعة بعض المساطر لتقليص آجال البت وتسريع منح الحماية، بما يضمن تحقيق التوازن بين حماية حقوق المستنبطين وتشجيع تداول الابتكارات الزراعية بشكل قانوني ومنظم.

خاتمة:

يتضح من خلال تحليل الإطار القانوني للمستنبطات النباتية في المغرب واستعراض أوجه القصور والتحديات التي تعترض تفعيله أن المنظومة الحالية تمثل خطوة مهمة في اتجاه حماية الابتكار الزراعي وضمان حقوق المبدعين في هذا المجال، غير أنها في الوقت نفسه تحتاج إلى مراجعة وتطوير حتى تواكب وتيرة التحولات العلمية والتقنية المتسارعة التي يعرفها العالم، فالقانون رقم 17.97 وإن كان قد أرسى قواعد أساسية لحماية الملكية الصناعية بما في ذلك المستنبطات النباتية، إلا أن التطورات الحديثة في تقنيات الاستنباط، خصوصا المرتبطة بالهندسة الوراثية والبيوتكنولوجيا، تفرض على المشرع إعادة النظر في التعاريف والمعايير والإجراءات التي يعتمدها لضمان ملاءمتها مع المستجدات.

إن تحقيق الحماية الفعلية للمستنبطات النباتية لا يقتصر على النصوص القانونية وحدها، بل يتطلب أيضا توفير بنية مؤسساتية قوية قادرة على استيعاب الطلبات المتزايدة ومعالجتها بسرعة وكفاءة وتكوين خبراء متخصصين في الفحص الفني والتقني، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية محينة تسهل تتبع الأصناف المحمية وضمان عدم الاعتداء على الحقوق المرتبطة بها، كما أن الوعي المجتمعي بأهمية هذه الحماية يعد شرطا أساسيا لنجاحها وهو ما يقتضي تعزيز برامج التوعية والتكوين للفلاحين والمستثمرين والباحثين، حتى يدركوا أن احترام الملكية الصناعية في المجال الزراعي ليس مجرد التزام قانوني، بل هو رافعة للتنمية المستدامة وتحفيز الابتكار.

وعلى المستوى الاستراتيجي، فإن إدماج حماية المستنبطات النباتية ضمن رؤية شاملة للاقتصاد الأخضر بالمغرب يمكن أن يشكل نقطة تحول، إذ إن الابتكارات الزراعية المحمية قانونا تساهم في تحسين الإنتاجية والحفاظ على الموارد الطبيعية وتطوير أصناف مقاومة للتغيرات المناخية، وهو ما ينسجم مع التزامات المغرب الدولية في مجال حماية البيئة والتنمية المستدامة، ومن هنا فإن مراجعة الإطار القانوني الحالي وإدخال تعديلات تراعي التطور التقني وتعزيز القدرات المؤسسية، يمكن أن يجعل المغرب في موقع ريادي إقليميا في مجال حماية الابتكار الزراعي واستثماره لخدمة الاقتصاد والمجتمع.

لائحة المراجع:

1.محمد الطيب، الشرح العملي لقانون حماية الملكية الصناعية المغربي، الطبعة الثانية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2021.

2.عبد القادر برقوق، حقوق الملكية الفكرية والصناعية في القانون المغربي والمقارن، مطبعة الأمنية، الرباط، 2020.

3.محمد بنعليلو، التطبيقات القضائية لقوانين الملكية الصناعية في المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2019.

4.عبد العزيز خالد، حماية الابتكارات الزراعية في التشريع اللبناني، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2018.

5. حسن أيت إيدر، الملكية الصناعية بين القانون المغربي والاتفاقيات الدولية: دراسة مقارنة، رسالة لنيل الماستر، كلية الحقوق، جامعة الحسن الأول، سطات، 2019.

6. اتفاقية الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية الجديدة (UPOV)، جنيف 1991.

 

الهاجس الاقتصادي وتكريس الطرف الضعيف في عقود التجارة الدولية

الباحث : طارق وعدي

باحث في سلك الدكتوراه، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي، جامعة محمد الخامس الرباط.

الملخص :

يشهد مجال عقود التجارة الدولية تداخل مجموعة من العوامل والهواجس العامة والخاصة المؤثرة في منطق سريان منطقها التعاقدي.

ومن ثم يعد الهاجس الاقتصادي أحد أهم هذه الهواجس على الإطلاق ذلك لما له من تأثير مباشر وغير مباشر على الأطراف التعاقدية في عقود التجارة الدولية.

وعليه تبرز إشكالية تحقق العدالة التعاقدية في هذه العقود، ما ينتج معه في المعاملة القانونية والواقعية ظهور نوع من الضعف لدى أحد الأطراف المتعاقدة بمناسبتها.

عموما، إن التغلب على هذا الضعف يستوجب الحد ما أمكن من هذا الهاجس خدمة للفاعلين المتعاقدين بوجه خاص وخدمة للتجارة الدولية على وجه الخصوص.

Economic obsession and the perpetuation of the weak party in international trade contracts

OUADDI TARIK

PhD candidate at the Faculty of Legal, Economic and Social Sciences – Souissi, Mohammed V University in Rabat.

Abstract

The field of international trade contracts is characterized by the interplay of a number of general and specific factors and concerns that influence the logic of their contractual application.

Thus, the economic concern is one of the most important of these concerns, given its direct and indirect impact on the contracting parties in international trade contracts.

Thus, the problem of achieving contractual justice in these contracts arises, resulting in a degree of weakness on the part of one of the contracting parties in the legal and practical context.

In general, overcoming this weakness requires limiting this concern as much as possible, in order to serve the contracting parties in particular and international trade in particular.

المقدمة :

إن الكلام عن الهاجس الاقتصادي في عقود التجارة الدولية هو نفسه الكلام عن تكريس الطرف الضعيف في هذه العقود.

فتكريس الطرف الضعيف في عقود التجارة الدولية هو نتاج أساسي ورئيسي لتفعيل وبلورة هواجس اقتصادية، هواجس أساسها خدمة طرف على طرف بل تغليب طرف عن طرف.

ومن هذا المنطلق، يتبين أن للهواجس الاقتصادية تأثير كبير على عقود التجارة الدولية، ذلك في كل النواحي سواء المرتبطة منها بالتأسيس أو الإبرام أو المرتبطة منها بالتنفيذ أو الإنهاء.

فالهاجس الاقتصادي ووفق ما سبق، إنما يؤثر على عقود التجارة الدولية تأثيرا قائما وفق أساسين اثنين؛ الأول يكون بصياغة نصوص قانونية منتجة لمنطق الطرف الضعيف في هذه العقود (الفقرة الأول)، أما الثاني فيكون ناتجا عن المشاكل التي يطرحها توحيد قواعد القانون التجاري الدولي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى :

صياغة نصوص قانونية منتجة لمنطق الطرف الضعيف

بداية يجب الإشارة إلى نقطة في غاية الأهمية وهي المرتبطة بنطاق تحديد النصوص القانونية المنتجة لمنطق الطرف الضعيف في عقود التجارة الدولية، فهذه العقود ولو أنها دولية إلا أنه لا ضرر في الكلام عنها موازاة مع القوانين الداخلية للدولة وهذا الأمر لسببين أولهما موضوعي والثاني واقعي.

أما عن السبب الأول فيتمثل في العلاقة القائمة بين القانون الداخلي والقانون الدولي، فلهذين القانونين علاقة قائمة ومؤسسة وفق منطق التعاون والتلاؤم، ومن هذا الأمر يجب السعي أو على الأقل محاولة السعي إلى توحيد هذان القانونين عن طريق الربط والمزج بينهما.

فأساس المزج والجمع بين القانونين وبغض النظر عن معرفة نطاق كل منهما، هو أساس خادم في حقيقته للتاجر والاقتصاد، سواء كان هذا النطاق خارجيا دوليا أو داخليا فقط، وذلك استحضارا للعلاقة القائمة بينهما كما سبق الإشارة إليه فيما سبق، فالأول إذا هو أساس الثاني والعكس بالعكس صحيح.

أما عن السبب الثاني، فيتمثل فيما عرفه الاقتصاد نفسه من تطور سريع ملحوظ، تطور غير معه أساس قيام التفرقة بين القانون التجاري الداخلي والقانون التجاري الدولي.

ومن ذلك أصبحت الغاية مبررة للنتيجة، هذه النتيجة القائمة على منطق توحيد هذان القانونان والسعي ما أمكن إلى المزج بينهما.

وقبل الإشارة والكلام وكذا التطرق لمجموع الإشكالات التي يثيرها مجال صياغة النصوص القانونية المنتجة للطرف الضعيف في عقود التجارة الدولية، يجب الإشارة إلى نقطة في غاية الأهمية أيضا وهي المرتبطة بغياب الإطار القانوني الدولي المخصص لتنظيم بعض العقود التجارية الدولية.

ومن هذا نجد أن هناك بعض العقود التجارية الدولية التي لم يأتي التشريع لتنظيمها تنظيما قانونيا منظم وفق قواعد متخصصة مستقلة بذاتها[14]، إنما كان الأمر فقط بالإشارة إلى بعض العقود التجارية الدولية في خضم التنصيص أو في خضم تنظيم عقد معين محدد من هذه العقود الدولية للتجارة[15].

وهذا الأمر ما شكل ولازال يشكل معه صعوبة للأطراف في هذه العقود وما يمكن أن يقعوا فيه من عدم الوضوح أثناء إبرام العقد وتنفيذه أو إنهائه.

وهذا الأمر الأخير الذي ثم الإشارة إليه، هو ولو لم يكن ينصب مباشرة في موضوع صياغة النصوص القانونية المنتجة للطرف الضعيف، إلا أنه يلامس الموضوع ملامسة غير مباشرة، ذلك كون أن عدم التنصيص أو عدم صياغة نصوص قانونية منظمة لكل عقد من عقود التجارة الدولية هو في حد ذاته نتاج مباشر للطرف الضعيف فيها.

كما أنه تستوي في الوقت نفسه مسألة صياغة نصوص قانونية معيبة منتجة للطرف الضعيف مع عدم التنصيص عليها أصلا، فأحكام التنصيص المعيب هي نفس الأحكام المرتبطة بعدم التنصيص.

ورجوعا إلى محور الإشكال المرتبط بهذه الفقرة والمتعلق بإنتاج النصوص القانونية لمنطق الطرف الضعيف في عقود التجارة الدولية، فتحليل هذا الأمر يستوجب الوقوف على أمرين أساسين أولهما يرتبط بتحليل الأسباب أما ثانيهما فيتمثل في تحديد الحلول.

أما عن الأول فالكلام هنا يمكن أن يقتصر فقط في سبب أساسي جوهري واحد وهو المرتبط بضعف التشريع أو عجزه على الأقل في صياغة نصوص قانونية شاملة تحمي كل أطراف العقد.

ومن هذا الأمر، يتضح أن الصعوبة القائمة في الصياغة القانونية المنتجة للطرف الضعيف في العقد التجاري الدولي إنما هي صعوبة قائمة على من صاغ النص القانوني نفسه.

فالمشرع عموما ولتراكم مجموعة من الأسباب الرئيسية والجوهرية منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، كل هذه الأسباب جعلت معها الوقوع في إنتاج الطرف الضعيف في العقد التجاري الدولي أمرا حتميا.

فالأسباب التي جعلت المشرع يقع في إنتاج هذا الطرف هي كما ثم الإشارة إلى ذلك أسباب داخلية وأسباب خارجية.

ومن جملت الأسباب الداخلية التي أثرت على التشريع التجاري عموما، هي المرتبطة بضعف التكوين وكذا بتأثير الهاجس. فضعف التكوين العلمي والأكاديمي القانوني والاقتصادي والاجتماعي عموما هو من أحد أهم الأسباب الأساسية التي جعلت المشرع يقع في هذا الأمر، أي في إنتاج نصوص قانونية غير عادلة وغير شاملة لكل المقتضيات الحمائية الخاصة بكل عقد من هذه العقود عقود التجارة الدولية. أما عن تأثير الهاجس فهو أيضا من بين أهم الأسباب الأساسية بل قد يكون أكثر الأسباب الرئيسية التي قد تنتج هذا الطرف الضعيف، والمقصود بتأثير الهاجس هنا هو التأثير الذي يتعرض إليه المشرع أثناء وعقب تنصيصه أو دراسته أو مصادقته على نص قانوني منظم لعقد معين من عقود التجارة الدولية[16].

وعليه فالتأثير يكون مباشر وغير مباشر، بل يكون مصدره الأساسي متعدد ومتنوع في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل حتى الثقافية منها والبيئية والصحية.

أما عن الأمر الثاني والمتمثل في تحديد الحلول، فهذا التحديد إنما أساسه هو تحليل ودراسة مجموعة الأسباب السابقة على نحو معالج لها.

ومن ثم فمجموع الحلول البيّنة لهذه الأسباب يمكن تحديدها في نقطتين اثنتين، نقطة مرتبطة أساسا بأهمية النهوض بتكوين المشرع نفسه، أما عن الثانية منها فهي المرتبطة بوقف زحف الهواجس المأثرة على النصوص القانونية.

فأهمية النهوض بتكوين المشرع عموما يتجلى بالتحديد في التشريع الداخلي للدولة[17]، لما لهذا التشريع من ضعف عميق من الناحية القانونية ومنها إلى جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية.

فالنهوض بالمعرفة العلمية للمشرع عموما له من الدور المهم في التقليل من إنتاج ضعف تعاقدي للأطراف، وله أيضا من الدور الواقعي الكبير في التقليل من خرق قواعد العدالة التعاقدية في كل مراحل العقد التجاري الدولي ابتداء من التأسيس إلى التنفيذ والإنهاء.

ومما سبق إذا، سيكون للمشرع السبق في معرفة الأساس المنطقي لتشريع نص قانوني معين، كما أنه سيكون له كامل الوعي في مدى تعديل وتتميم هذا النص وتحيينه أو نسخه، كلما لمس الحاجة إلى ذلك.

كما أن وقف زحف الهواجس المؤثرة على جودة النصوص القانونية لها الدور الكبير في الحد من إنتاج منطق الطرف الضعيف في عقود التجارة الدولية، فالوقف ولو أنه لن يكون بنفس الوجه السليم أو الصحيح للمعنى الدقيق الذي تحمله كلمة الوقف، ذلك لعدة اعتبارات متمثلة في طبيعة التدخل نفسه الذي يمس الجانب السياسي وحتى الاقتصادي، فهذان الاعتبارين يصعب كبح زحفهما وتأثيرهما على القواعد القانونية، وهذا لما يمتلكان من وسائل تفرض وتستوجب ذلك. إلا أنه على الأقل يجب فرض وسائل قانونية تقلل من هذا الزحف خدمة لأطراف العقد، وخدمة أيضا لمصالحهم ولغاياتهم اتجاه إبرامهم لهذه العقود.

الفقرة الثانية :

توحيد قواعد القانون التجاري الدولي والمشاكل التي يطرحها

يقصد بتوحيد قواعد القانون التجاري الدولي، تجميع مجموع القواعد المرتبطة بالتجارة لكل دولة على حدة في شكل موحد بين مجموع هذه الدول[18]، وذلك على نحو تكون الغاية الأساسية فيه هي المساهمة في ضبط العملية التجارية الدولية.

فالتوحيد وفق هذا المفهوم إذا، يطال القواعد القانونية الخاصة بكل دولة، ذلك بغية توحيدها وتجميعها خدمة للتجارة الدولية[19]، وخدمة كذلك للفاعلين فيها.

فخدمة الفاعلين في التجارة الدولية هو أساس قيام فكرة التوحيد لما لها من غاية أساسها التوازن التعاقدي بغية الحد من بروز مسألة الطرف الضعيف فيها.

وعليه، فخدمة التوحيد للتجارة الدولية وللفاعلين فيها على السواء يكون وفق أسس معينة أهمها إلزامية الدول بتعديل قوانينها التجارية الداخلية، والابتعاد عن الرجوع إلى الإحالة على القوانين الوطنية[20]، وتبسيط القوانين وطرق الإثبات[21]، وفي توحيد وسائل الأداء في عقود التجارة الدولية، وكذا في حل مشكلة تنازع القوانين.

عموما، بقدر ما لمسألة توحيد القواعد القانونية التجارية الدولية من أهمية واضحة في مسألة تساوي وتوازن مصالح أطراف العقد التجاري الدولي، بقدر ما لها من مشاكل ومعيقات تحول دون الوصول إلى هذه الغاية، فيصعب معها إتمام التوحيد الكامل لهذه القواعد الدولية، ومنه إلى عدم إضفاء الحماية على كل مصالح الأطراف المبرمة لعقد من هذه العقود.

ومن أبرز هذه المشاكل والمعيقات التي يطرحها توحيد قواعد القانون التجاري الدولي، مسألة اللغة والترجمة (أولا)، ومشكل التفسير (ثانيا).

أولا :

اللغة والترجمة

دائما ما يكون هناك ترابط جوهري ما بين اللغة والترجمة، وهذا الترابط غالبا ما يكون راجع لطبيعة المادة ولأساس الفعل المغير لها.

فالمادة هنا هي اللغة، وأساس الفعل المغير لهذه اللغة هو فعل الترجمة الذي ينقلها من طبيعة جامدة لصيقة وحبيسة لمنطق معين إلى أساس منفتح على مدارك متعددة ومتنوعة للّغة التي ترجمة لها.

فالترجمة من بين أهم ما تسعى إليه إذا، هو نقل العلم والمعرفة إلى مدارك ومعالم أخرى لا تفهم اللغة الأصلية المكتوب به ذلك النص، وعليه فهي الرابط الأساسي بين تلاقح الثقافات، بل هي أساس انتشار المعرفة في شتى بقاع العالم.

وهذا الأمر نفسه هو المطبق في ترجمة النصوص القانونية الخاصة بالتجارة الدولية، فالترجمة في هذا الباب تفتح المجال للتاجر في معرفة ضوابط وأسس النص القانوني التجاري الدولي.

صحيح أن للترجمة العديد من المميزات، لكن ولاستحضار الواقع العملي من خلال ترجمة العديد من النصوص، وخاصة في ترجمة مجموعة من القواعد القانونية المرتبطة بالتجارة الدولية يتضح أن لها بعض الإشكالات والعيوب الواقعية، عيوب وإشكالات غالبا ما تكون في صعوبة إيصال المعنى الدقيق المراد من النص موضوع الترجمة، مما يشكل معه هذا الأمر تغييرا في المعنى الصحيح للنص القانوني المترجم، وفي بروز إشكالية الزيادة أو النقصان في القاعدة القانونية موضوع الترجمة.

وعن هذه الإشكالات والصعوبات التي تعتري ترجمة النصوص القانونية على وجه الخصوص يتضح أنها منتجة لعدة نتائج منها ما يدخل غالبا في التأثير على إرادة الأطراف المتعاقدة أي التغيير في المراكز القانونية لهم، وكذا في تغيير شروط وقواعد الانعقاد أو التنفيذ وكذا في مسألة الإنهاء، مشكلا معه هذا الأمر بروز إخلال تعاقدي لدى هؤلاء الأطراف منتج معه ذلك لتشكل منطق الطرف الضعيف.

ثانيا :

مشكلة التفسير

تشهد مسألة تفسير النصوص القانونية التجارية الدولية الموحدة بعض الإشكالات والمعيقات التي تحول دون إتمام الغاية الأولى التي جاءت إليها مسألة التوحيد المرتبطة بالنصوص القانونية للتجارة الدولية.

فتفسير النصوص القانونية شهد ولا زال يشهد العديد من الصعوبات يمكن إجمالها في مسألتين أساسيتين. تتمثل الأولى في غموض بعض النصوص أو القواعد القانونية، أما المسألة الثانية فتتمثل في كيفية التعامل مع هذا الغموض.

أما عن مسألة الغموض الذي تطرحه بعض النصوص والقواعد القانونية، فهذا غالبا ما يواجه القاضي أو المحكم أثناء التعامل مع النصوص الموحدة، فبعض النصوص والقواعد القانونية تغفل على تحديد المعنى الكامل والدقيق لبعض الكلمات والعبر بل تغفل على تحديد نطاقها، وكمثال على هذا الأمر الإغفال على تحديد مفهوم الضرر المراد معالجته أو جبره في النص القانوني[22] حين يكون مضمون القاعدة أو المادة غير ذاكر لنوع هذا الضرر، مشكلا ذلك للقاضي أو المحكم صعوبة في تحديد النوع المقصود في النص قصد الأخذ به، هل المقصود به هنا هو الضرر المادي أم الضرر المعنوي أم أن القاضي أو المحكم سيمدد التعويض إليها معا.

وهذا الأمر ما يجعل تعارضا واضحا في الأحكام والقرارات القضائية وكذا في أحكام التحكيم التجاري الدولي، جاعلا معه التاجر في نوع من الغموض في التعامل مع النص أو القاعدة القانونية التجارية الدولية الموحدة، وجاعلا مرتكب الفعل الضار في حيف وفي عدم توازن أثناء تعويض المتضرر[23].

أما عن المسألة المرتبطة بكيفية التعامل مع هذا الغموض فالحل العملي له، يستوجب السعي ما أمكن إلى صياغة مُحكمة لنصوص القانون التجاري الدولي الموحدة، ذلك عن طريق العمل على تحديد كل المفاهيم الأساسية والثانوية الغامضة وتوضيحها للقاضي أو المحكم خدمة لأطراف عقود التجارة الدولية

لائحة المراجع :

1- الكتب باللغة العربية :

– موسى خليل متري : توحيد القواعد القانونية للتجارة الدولية، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، م28، العدد 2، 2012.

– خليل إبراهيم محمد : القانون الواجب التطبيق على عقد البيع الدولي للبضائع وفقا لاتفاقية فيينا لعام 1980، مجلة الرافدين للحقوق، م 10، العدد 35، 2008.

طالب حسن موسى : الموجز في قانون التجارة الدولية، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الأولى، 2001.

2- الكتب باللغة الإنجليزية :

– Philippes MALAURIE : loi uniforme et conflits de lois, Travaux du Comité français de droit international privé, 1964-1966. Séance du 2 avril 1965. p 83-109. publie au site web :

http://www.persee.fr

visité le 2022/05/10 à 09:43

  1. حسن أيت إيدر، الملكية الصناعية بين القانون المغربي والاتفاقيات الدولية: دراسة مقارنة، رسالة لنيل الماستر، كلية الحقوق، جامعة الحسن الأول، سطات، 2019، ص66.
  2. ياسين بلمليح، “التحديات القانونية لحماية الملكية الصناعية في المغرب”، المجلة المغربية للعلوم القانونية والقضائية، العدد 12، 2019، ص14.
  3. حسن أيت إيدر، الملكية الصناعية بين القانون المغربي والاتفاقيات الدولية: دراسة مقارنة، مرجع سابق، ص68.
  4. عبد القادر برقوق، حقوق الملكية الفكرية والصناعية في القانون المغربي والمقارن، مطبعة الأمنية، الرباط، 2020، ص54.
  5. محمد بنعليلو، التطبيقات القضائية لقوانين الملكية الصناعية في المغرب، مرجع سابق، ص25.
  6. حسن أيت إيدر، الملكية الصناعية بين القانون المغربي والاتفاقيات الدولية: دراسة مقارنة، مرجع سابق، ص72.
  7. ياسين بلمليح، “التحديات القانونية لحماية الملكية الصناعية في المغرب”، مرجع سابق، ص55.
  8. عبد العزيز خالد، حماية الابتكارات الزراعية في التشريع اللبناني، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2018، ص66.
  9. اتفاقية الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية الجديدة (UPOV)، جنيف 1991، ص7.
  10. محمد الطيب، الشرح العملي لقانون حماية الملكية الصناعية المغربي، الطبعة الثانية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2021، ص43.
  11. اتفاقية الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية الجديدة (UPOV)، مرجع سابق، ص21.
  12. عبد العزيز خالد، حماية الابتكارات الزراعية في التشريع اللبناني، مرجع سابق، ص84.
  13. – من بين عقود التجارة الدولية التي لم يرد التنصيص عليها في اتفاقية مستقل بذاته :

    – عقد الامتياز التجاري الدولي.

    – عقد التخصيص التجاري الدولي.

    – عقد نقل التكنولوجيا.

  14. – مثال على هذا الأمر الاكتفاء فقط بالتنصيص على عقد الامتياز التجاري الدولي في خضم تنظيم عقد البيع الدولي للبضائع وذلك في الاتفاقية المنظمة لها وهي اتفاقية الأمم المتحدة للبيع الدولي للبضائع.
  15. – جدير بالذكر هنا أن هذا التأثير غالبا ما يتعرض إليه المشرع عموما أثناء تنصيصه أو دراسته أو إخراجه لنص من نصوص القانون على وجه العموم ونصوص القانون المرتبطة بالمجال الاقتصادي والمالي على وجه الخصوص.
  16. – هذا وإن كان فإنه لا يمكن الاعتداد على عموميته، كون أنه حتى التشريع الدولي نفسه أحيانا يعاني من ضعف من ناحية تكوين أطره خاصة منهم غير المتخصصين في المادة التجارية الدولية.
  17. – طالب حسن موسى : الموجز في قانون التجارة الدولية، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الأولى، 2001، ص26.
  18. – يجب الإشارة في هذا الصدد إلى أن فكرة التوحيد هذه لاقت تأييدا وفي نفس الوقت معارضة من بعض الفقه. فالاتجاه المؤيد لهذه الفكرة كان سبب تأييده ذلك راجع إلى اعتبار أن المشرع الداخلي لكل دولة على حدة غالبا ما يكون تفكيره محدودا في التشريع الداخلي للدولة فقط حيث أنه يصعب عليه التشريع في مجالات لها نطاق اقتصادي دولي، ومن جملة هذه المجالات مجال التجارة الالكترونية، راجع في هذا الأمر :

    – موسى خليل متري : توحيد القواعد القانونية للتجارة الدولية، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، م28، ع2، 2012، ص159.

    أما عن الاتجاه الرافض من الفقه لهذه الفكرة فسبب رفضهم هذا راجع إلى اعتبارهم أن الأخذ بمسألة التوحيد سيكون من ورائه تعارض لإرادة أطراف العقد التجاري الدولي في اختيار أحد القوانين الداخلية المعروفة بينهم للاحتكام إليها، وكذا في صعوبة توحيد كل المسائل المرتبطة بالعقد التجاري الدولي من أهلية ومحل وسبب، راجع في هذا الأمر:

    – خليل إبراهيم محمد : القانون الواجب التطبيق على عقد البيع الدولي للبضائع وفقا لاتفاقية فيينا لعام 1980، مجلة الرافدين للحقوق، م 10، ع 35، 2008، ص88.

  19. – طالب حسن موسى : م س، ص39 وما بعدها.
  20. – طالب حسن موسى : م ن، ص72 وما بعدها.

    – Philippes MALAURIE : loi uniforme et conflits de lois, Travaux du Comité français de droit international privé, 1964-1966. Séance du 2 avril 1965. p 83-109. publie au site web :

    http://www.persee.fr

    visité le 2022/05/10 à 09:43

  21. – على سبيل المثال ما جاءت به اتفاقية وارسو لسنة 1929 في المادة 17 منها على أنه : “يكون الناقل مسؤولا عن الضرر الذي يقع في حالة وفاة أو جرح أو أي أذى بدني آخر يلحق الراكب إذا كانت الحادثة التي تولد منها الضرر قد وقعت على متن الطائرة أو أثناء أية عملية من عمليات الصعود والنزول”، فالاتفاقية لم تحدد بالضبط هل الضرر المعنوي يمكن أن يؤخذ به في تطبيق هذه المادة.
  22. – في هذا الأمر من القضاة أو المحكمين من سيبت بالضرر المادي فقط ومنهم من سيبت في التعامل مع نفس القاعدة أو المادة بالضرر المعنوي فقط، ومنهم من سيبت بالضررين معا، مشكلا معه هذا الأمر نوعا من عدم العدالة القضائية (المؤسساتية أو التوافقية بحسب) اتجاه صاحب الفعل الضار أثناء جبر الضرر أي أثناء تعويض المتضرر.
  23. محمد محبوبي، محاضرات في القانون التجاري المغربي، الطبعة الثانية مكتبة أبو الرقراق للطباعة والنشر، الرباط، سنة 2009م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى