بحوث قانونيةفي الواجهةمقالات قانونية

ضمانات تحقيق الجودة في النصوص التشريعية الوطنية – الباحث : علي لهنود



ضمانات تحقيق الجودة في النصوص التشريعية الوطنية

Guarantees of quality in national legislative texts

الباحث : علي لهنود

باحث في القانون العام

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ابن زهر أيت ملول

لتحميل عدد المجلة كاملة

مجلة القانون والأعمال الدولية : الاصدار رقم 49 لشهري دجنبر 2023 / يناير 2024

ملخص

تعتبر الصياغة التشريعية عنصرا مهما من عناصر تكوين القاعدة القانونية والذي يكسبها الشكل العملي الذي تصلح به للتطبيق، لدى فإن إعمال النص القانوني إعمالا صحيحا، رهين بجود العديد من الضمانات. لأن النص القانوني الجيد هو الذي تكون صناعته منظمة بدلائل علمية متطورة في الصياغة التشريعية، باعتبارها منهلا لأعضاء السلطة التشريعية، تعرفهم بأصول وقواعد الصياغة ومشكلاتها الأساسية والشروط المطلوبة لولادة طبيعية لتشريع جيد. كما أن ترسيخ المقاربة التشاركية من خلال توسيع دائرة المشاركة في سن القوانين، ومبدأ الشفافية التي يعبر عنها عبر آلية الأعمال التحضيرية، والتي تمكن المشرع من توضيح فكرة وحيثيات التشريع والتعبير عنها بأبسط الوسائل والطرق، إضافة إلى دراسة الأثر كآلية عملية ضرورية لتقييم قبلي لجدوى التشريع من الضمانات الهامة لتحقيق جودة النصوص القانونية.

الكلمات المفتاح: الصياغة التشريعية، جودة النص القانوني، دلائل الصياغة التشريعية، المقاربة التشاركية، الأعمال التحضيرية، دراسة أثر القوانين.

ABSTRACT

Legislative formulation is an important element of the formation of the rule of law, which is acquired by the practical form in which it is applicable, when the valid implementation of the legal text is subject to many guarantees. Because it is the good legal text whose industry is regulated by sophisticated scientific evidence of legislative drafting, as a debauchery of members of the legislative branch, that defines them with the origins, rules of drafting, its fundamental problems and the conditions required for natural birth of good legislation. Strengthening the participatory approach through broader participation in law-making and the principle of transparency expressed through the preparatory work mechanism, which enables legislators to clarify the idea and circumstances of legislation and to express it in the most basic means and methods, as well as examining the impact as a necessary practical mechanism for a pre-evaluation of the usefulness of legislation, are important safeguards for the quality of legal texts.

Keywords: legislative drafting, Quality of legal text, Legislative drafting guides, participatory approach, preparatory work, Study the impact of laws.

مقدمة :

لا يتصور تحقيق القانون لغايته المتمثلة في تنظيم سلوك الأفراد في المجتمع، إلا إذا تحققت خصائص القاعدة القانونية، ومن أهمها الإلزام الذي يقترن بالجزاء، ويعد أساس وجودها. وتتمثل باقي خصائص القانون في التجريد والعموم، فهو مجرد لأنه يخاطب الأشخاص بصفاتهم وليس بذواتهم، وهذا ما يضفي عليه صفة العموم حيث تنسحب أحكامه على كل الأشخاص الذين تثبت لهم الصفات المقررة. ومن مقتضيات صفة العموم العلم بوجود القانون وفهم مضمونه من قبل المخاطبين به حتى يستقيم تطبيقه. كما أن انطواء نصوص القانون على أحكام تدركها الأذهان، يصبح من ثم واجبا مفروضا على المشرع؛ حيث أن التكليف بما لا يفهم غير جائز شرعا ولا هو بالمشروع قانونا.

ونظرا لأهمية التشريع فقد سعى المشرع الدستوري المغربي إلى التأكيد على أن السيادة للأمة في مجال التشريع (الفصل الثاني)، وأن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة (الفصل السادس). تلك المقاصد النبيلة للتشريع شديدة الارتباط بجودة الصياغة، لأن هذه الأخيرة هي الأداة لتحويل المادة الأولية التي تتكون منها القاعدة القانونية إلى قواعد عملية صالحة للتطبيق الفعلي على نحو يحقق الغاية والأهداف التي يفصح عنها جوهرها، وبالتالي المساهمة بشكل أو بآخر في تضييق هامش الإشكالات وتوحيد التفسير القضائي وتحقيق الأمن القانوني والقضائي.

وقد تناول الأستاذ Lon Fuller في مؤلفه The Morality of law بعض المبادئ الي تشكل في نظره الأخلاق الداخلية للقانون، والتي هي معيار لقياس جودة صياغة هذه القوانين، ومن أهم هذه المبادئ: العمومية، عدم رجعية القوانين، الوضوح، التناسق، الاستمرارية، الاستقرار وقابلة للتنفيذ. هذه المبادئ اعتبرت أساس قيام الفقه القانوني البلجيكي في مجال سن التشريعات. وانطلاقا مما ذهب إليه Lon Fullerعرف الفقه القانوني الهولندي مند سبعينيات القرن الماضي نظريات خاصة بمبادئ التشريع الجيد؛ وأن أهمها يتجلى في تحديد غرض واضع القانون، ثم أن يكون القانون ضروريا وممكنا، والالتزام بمبدأ الاجماع، وضرورة الاستماع للأطراف المعنية بالقانون، ثم مراعاة مبدأي وضوح المصطلحات المستخدمة والتناسق، وقابلية فهم والتعرف على القانون.

ويعد البحث في موضوع صياغة التشريعات من أهم الدراسات القانونية التي اهتمت بها الأنظمة القانونية المقارنة، كما أن الإشكالات التي تعرفها التشريعات الوطنية في هذا الجانب؛ والمتمثلة بالخصوص في التضخم التشريعي، التعارض، الغموض وغيرها، تجعل البحث في موضوع ضمانات تحقيق الجودة في صناعة وصياغة النصوص القانونية من الضروريات الملحة التي ينبغي على الدولة والمؤسسات الجامعية التشجيع على خوضها، وذلك بهدف تحسين النظام القانوني الوطني وتنقيته من الشوائب وتخليصه من حالة عدم الاستقرار.

إن الجودة في التشريعات الحديثة تتحقق من خلال العديد من الضمانات المتعلقة باعتماد دلائل متطورة لصياغة القوانين، بدمقرطة التشريع من خلال توسيع دائرة المشاركة في سن القوانين، وباتباع المنهجية والأسلوب العلمي المبني على الأعمال التحضيرية ودراسة الأثر والجدوى من التشريع من مرتكزات تحقيق الجودة في النصوص القانونية. وفي هذا الصدد تطرح الإشكالية التالية: إلى أي حد يمكن لهذه الضمانات المذكورة أن تساهم في تحقيق جودة النصوص القانونية الوطنية؟

لتسهيل معالجة الموضوع بشكل جيد والتحكم في مجرى البحث والمساهمة في الجواب على الإشكال المطروح والتزاما بالمنهج المحدد للبحث، قسمت هذا البحث إلى مطلبين رئيسية:

  • المطلب الأول: أهمية اعتماد دلائل الصياغة التشريعية والمقاربة التشاركية في صياغة التشريعات؛
  • المطلب الثاني: مساهمة الأعمال التحضيرية وآلية دراسة الأثر في تجويد التشريعات.

    المطلب الأول: أهمية اعتماد دلائل الصياغة التشريعية والمقاربة التشاركية في صياغة التشريعات

    تعتبر الصياغة التشريعية طريقة قانونية يتم من خلالها إصدار كافة أنواع التشريعات وتعديلها وإلغائها بما يتناسب مع المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بغية تلبية احتياجات المجتمع ومتطلباته. ومن ثم تتحول المادة الأولية التي يتكون منها التشريع إلى قواعد قانونية عامة ومجردة صالحة للتطبيق الفعلي على الأشخاص المعنيين بها على قدم المساواة، وبذلك فهي تمكن من تحويل السياسات والأهداف العامة للدولة إلى قواعد قانونية متناسقة ومنسجمة. علما أن جودة صياغة هذه القواعد القانونية تمكن الأفراد لا محالة من الاحتجاج بها في مواجهة السلطات العامة في الدولة من جهة، وفي مواجهة بعضهم البعض من جهة أخرى، لذلك يتوقف نجاحها على دقة الصياغة ومدى ملاءمة أدواتها للتطبيق على أرض الواقع، وقد انتبهت معظم الدول ومن بينها المغرب إلى أهمية ضبط الصياغة التشريعية، وأصدرت بهذا الخصوص دلائل تشريعية لتطوير جودة قوانينها (أولا). كما أن تحقيق جودة القوانين يتطلب توسيع هامش المساهمة في إعدادها بهدف جعلها مشروعة ومقبولة من لذن جميع مكونات المجتمع، وبالتالي فالقانون يشكل ضمانة قوية لاحترام المواطن وحقوقه في الدولة الديمقراطية (ثانيا).

    أ. دليل الصياغة التشريعية آلية للرفع من جودة النصوص القانونية

    اثبت الواقع أن عملية الصياغة التشريعية تعترضها عدة مشاكل، مما يؤدي إلى صدور تشريعات تتسم بعدم الوضوح وغياب الدقة في صياغتها ومخالفتها أحيانا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، أو مساسها بالأمن القانوني. من هذا المنطلق، نشأت فكرة وضع دلائل لتحديد الأسس الرئيسية في كيفية صياغة التشريعات، لأن تحويل السياسات العامة إلى قوانين متخصصة تحتاج إلى خبرات عالية، ومعرفة في موضوعات متعددة. وإذا كان صحيحاً أن الصياغة التشريعية بمعناها الضيق هي عملية “تدوين”، فهي بالمعنى الأوسع تحديد للأهداف، ورسم للهيكلية، وبلورة للأفكار، واختيار للأسلوب المناسب، وتبرير للخيارات عن طريق قاعدة المعلومات المتوفرة (مثل الأسباب الموجبة، وجداول المقارنة…( ووضع كل هذه العناصر في نص تشريعي منسجم.

    وقد انتبهت الدول المتقدمة إلى أهمية ضبط الصياغة التشريعية، وأدركت أن مهمة الصياغة باتت أصعب وأكبر بكثير من أن تترك لمهارات وخبرات من يعمل في هذا المجال، مهما تميزت وتنوعت هذه المهارات والخبرات. فقامت العديد من الدول الأوربية بإصدار دلائل تشريعية لتطوير جودة قوانينها. ولم يقتصر الاهتمام بضبط الصياغة التشريعية على الدول، فقد اهتمت بذلك بعض المنظمات الدولية أيضا، ومن بينها الاتحاد الأوربي الذي أصدر سنة 2000 الطبعة الأولى من دليل الصياغة التشريعية، وتم اصدار طبعات أخرى لمسايرة التطور في هذا المجال. كما أصدرت الأمم المتحدة كتابا بعنوان “الصياغة التشريعية من أجل التغيير الاجتماعي الديموقراطي، دليل الصائغين”، وذلك سنة 2005 في اطار جهود المنظمة لتطوير مهارات الصياغة التشريعية عبر برنامج الأمم المتحدة الانمائي. وقد سارت الدول العربية ومن بينها المغرب في نفس الاتجاه وذلك لتجاوز الاختلالات التي تصيب صياغة تشريعاتهم

    يعتبر الدليل بمثابة منهل لأعضاء السلطة التشريعية يعرفهم بأصول وقواعد الصياغة التشريعية ومشكلاتها الأساسية والمراحل التي تقطعها والشروط المتطلبة من أجل تيسير ولادة طبيعية لتشريع جيد. علما أن عملية صياغة التشريع وإقراره والمصادقة عليه تختلف عن مشاريع ومقترحات القوانين أو مقترح التعديلات، لكون مشاريع القوانين تصاغ من قبل أجهزة تابعة للسلطة الحكومية، لكن مسؤولية دقة التشريع وجودته تقع على عاتق السلطة التشريعية. كما أن اتباع نهج موحد في بناء التشريعات الوطنية من شأنه أن يعزز قيم العدالة، والحكامة الجيدة وسيادة القانون، لأن الانسجام التشريعي يقوي دعائم البناء المؤسسي في الدولة ويشكل إحدى آليات تقييم جودة التشريع وقدرته على تحقيق الأهداف المنتظرة بمعايير موحدة.

    وإذا كان أعضاء البرلمان ليسوا كلهم من رجال القانون وليس من المفروض أن يكونوا كذلك، فإن التوفر على دليل يقدم القواعد العامة ويوضح أدوات الصياغة السليمة والمعايير الأساسية الواجبة الاتباع لبناء أي تشريع، ذلك سيكون لا محالة مدخلا للقطع مع هدر الزمن التشريعي وارتباك الصياغة التشريعية.

    فدليل الصياغة التشريعية هو السبيل لتوحيد الضوابط السليمة، أو ما يمكن أن يطلق عليه “أفضل الممارسات في مجال إعداد وصياغة التشريعات”. كما أن له أهمية كبيرة لمن هم في بدايات عملهم في مجال إعداد وصياغة التشريعات وللباحثين والمهتمين بهذا المجال. إذ يقدم لكل هؤلاء، ولغيرهم من المعنيين ما يسهم إسهاما كبيراً في إبراز ضوابط العمل في هذا المجال شديد الأهمية، وما يتعين الأخذ به وما يتعين اجتنابه، وصولاً إلى ضمان جودة المنتوج التشريعي. كما أنه يعد البدايات الأولى للتفكير في تدريس مادة الصياغة التشريعية في كليات القانون، أسوة ببعض الدول التي تنبهت إلى أهمية هذا الموضوع، كدولة كندا.

    بهذا الخصوص يرى الأستاذ والقانوني Denis Le MAY من جامعة “Laval” الكندية أن دليل الصياغة التشريعية يعتبر الذاكرة الجماعية والدائمة للمشرع والتي تساهم في تحقيق الترابط والثبات في العملية التشريعية، وتزداد الحاجة إلى تنسيق وتوحيد أساليب الصياغة مع الزيادة في عدد القوانين التي يتعين إعدادها وعدد الصائغِين الذين يعملون فيها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن استبدال أجيال من الخبراء القانونيين بآخرين أو وصول صاغة جدد يقنعنا بضرورة ضمان استيعاب ذكي وغير مرهق وآمن لعادات البيئة القانونية. ونلجأ إلى الدليل الذي أصبح الشاهد المخلص للتقاليد القانونية حتى لا نضطر إلى البدء من نقطة الصفر مع كل مشارك جديد في العملية التشريعية.

    يمكن أن أقول بأن الدليل هو من الآليات التي تساعد الصائغ على تطبيق معارفه النظرية حول الصياغة التشريعية، بالإضافة إلى تكوينه وخبرته وكفاءته، وهذا سيمكنه من صياغة نصوص قانونية تمتاز بالدقة والوضوح وسهلة الفهم من قبل المخاطبين بها، مما سيجعلها أقل لبسا وغموضا وأقل عرضة للمقاومة من قبل الأشخاص، وصديقة للقضاء.

    ويمكن أن ألخص الأهداف الأساسية التي تسعى العديد من الدول لتحقيقها من خلال اعتماد دليل الصياغة التشريعية، في ما يلي:

  • إيجاد مرجع عملي لآليات سن وصياغة ومراجعة التشريعات والانسجام التشريعي بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في النظام القانوني للدولة؛
  • توحيد المنهجيات والأسس لسن وصياغة ومراجعة التشريعات؛
  • توحيد المصطلحات المستخدمة في عملية سن وصياغة ومراجعة التشريعات؛
  • تحقيق الانسجام التشريعي؛
    • نشر المعرفة القانونيّة بين موظفي الجهات الحكومية وأفراد المجتمع؛
  • مساعدة الجهات الرسمية وغير الرسمية على تحسين جودة تشريعاتها ومواءمتها مع المعايير الدولية والممارسات الفضلى.

    ب. أليات تطوير دليل الصياغة التشريعية المغربي انطلاقا من التجارب المقارنة

    اشتغلت الأمانة العامة للحكومة مند سنوات على الرفع من جودة خدماتها، ومن بينها صناعة القوانين، وقد استفادت من تعاونها المكثف مع نظيراتها في دول الاتحاد الأوروبي، ومع بعض المنظمات الدولية. وذلك من أجل انتاج دلائل منهجية في صناعة النصوص القانونية تروم تنظيم وتسهيل مهمة رجال القانون في مرحلة أولى، وبلوغ الجودة المنشودة للنصوص القانونية في المراحل المقبلة، وذلك وفق مصطلحات عملية مستوحاة من المعايير الأوروبية مع ملاءمتها مع القواعد والممارسات المغربية. وهنا أود أن أشيد بالتجربة الكندية، وخصوصا منطقة “الكبيك”، التي استلهمت صياغة دليلها في صياغة النصوص القانونية من التجارب الأجنبية (فرانسا، وبلجيكا، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها)، خصوصا وطبيعة المنطقة التي تشهد ازدواجية اللغة؛ الفرنسية والانجليزية. واعتبر الأستاذ Denis Le May أن النموذجين البلجيكي والسويسري يعتبران مصدرين مهمين، بل ونموذجين مثالين وموثوقين يمكن الاعتماد عليهما لصياغة الدليل الكبيكي في الموضوع، ويتطلب ذلك بكل ببساطة –حسب رأيه- ترجمتها، وتكييف هذه النصوص مع السياق القانوني للمنطقة وخصوصياتها.

    وإلى حدود سنة 2015 أصدرت الأمانة العامة للحكومة ست دلائل مستقلة في الصياغة القانونية، ومن بينها؛ الدليل العام لمساطر معالجة مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية، ودليل التقارب القانوني بين المملكة المغربية والاتحاد الأوربي، ودليل صياغة النصوص القانونية، والدليل العام حول دراسة الأثر للنصوص التشريعية، …إلخ.

    وسيرا في نفس الاتجاه، أصدر مجلس النواب سنة 2017 دليلا عمليا لصياغة القوانين في إطار التوأمة المؤسساتية الممولة من الاتحاد الأوروبي، والتي تجمع مجلس النواب والجمعية الوطنية الفرنسية ومجلس العموم البريطاني وبدعم البوندستاغ الألماني ومجلس النواب البلجيكي والبرلمان اليوناني ومجلس الشيوخ الفرنسي. ويعد هذا الدليل آلية عملية لتوجيه وتسهيل وتيسير مهام أعضاء وموظفي مجلس النواب في صياغة القوانين. وقد رصد هذا الدليل أفضل الممارسات المعتمدة في مجال صياغة القوانين، لتحقيق وضوح النص القانوني وجودته وتسيير فهمه وضمان الأمن القانوني للنصوص التشريعية.

    ومن خلال الاطلاع على بعض دلائل الصياغة التشريعية في الأنظمة المقارنة؛ والتي سأحاول الإشارة إلى مميزات كل نموذج على حدة، ومحاولة تقيم تلك النماذج ومقارنتها بالنموذج المغربي.

    فدليل الصياغة القانونية الفرنسي “Guide de légistique”، في طبعته الثالثة والذي تم تحيينه سنة 2017، يعد ثمرة عمل مشترك بين مجلس الدولة الفرنسي والكتابة العامة للحكومة، وذلك في إطار توفير آلية عملية فعالة لتحسين جودة القوانين. ويعتبر هذا الدليل كتابا مرجعيا لكل المشاركين بشكل أو بآخر في عملية صياغة النصوص القانونية. ويضم مجموعة من المعلومات المتعلقة بالتصور العام للنصوص القانونية (أنواع وتراتبية النصوص القانونية وأهمية دراسة الأثر في تحديد أهمية مشاريع القوانين)، وبمراحل إعدادها، وبصياغتها، وبالقواعد الخاصة بملاءمة القانون الداخلي مع القوانين الدولية والأوروبية وبعض الاجراءات الخاصة، إضافة إلى تطبيقات عملية.

    خلاصة القول، أن هذا الدليل اعتمد في وضعه على اجتهادات القضاء الدستوري، وآراء مجلس الدولة، وآراء العديد من المتدخلين والمتخصصين في الصياغة القانونية، وذلك للإجابة على الأسئلة التي غالباً ما تصادف الصائغين أثناء ممارستهم لعملهم، مع تعزيز الدليل بالمعلومات النظرية حول الصياغة التشريعية والأمثلة أو الأمثلة المضادة.

    ومن الدلائل الحديثة في هذا الموضوع، الدليل الارشادي لإعداد التشريعات وصياغتها والذي أعدته اللجنة التحضرية لإعداد التشريعات القضائية بالمملكة العربية السعودية، ورغم أنه لا يعد مستندا رسميا في المملكة، إلا أنه يعد مرجعا مهما في صياغة التشريعات، وذلك بالنظر إلى ما يتضمنه من مضامين استرشادية متقدمة لمساندة المختصين والمعنيين بالمشروعات التشريعية.

    يتطرق هذا الدليل إلى مسار العملية التشريعية؛ ابتداء من المفاهيم التأسيسية في صناعة التشريعات، مرورا بالمراحل الرئيسية لعملية إعداد التشريعات وصياغتها، وانتهاء بتقييم التشريع. وذلك وفقا للمراحل التالية: إعداد التصور العام ودراسة الوضع الراهن، ثم إعداد السياسات والدراسة الفنية للتشريع المقترح، وجمع المعطيات واقتراح الحلول، وفرزها ودراسة آثارها المحتملة عند تطبيقها، والاطلاع على التجارب الاقليمية والدولية، واختيار القوانين المرجعية، ثم إعداد المضامين والهيكل العام للتشريع، ثم بيان القواعد والضوابط التي يعمل بها في صياغة مواد التشريع ونشره في الجريدة الرسمية، ومن ثم التحقق من جودة التشريع، واستخلاص النتائج.

    وبالتالي فهذا الدليل يمثل استعراضا لدورة العملية التشريعية مع استحضار ضوابط وأصول وقواعد الصياغة القانونية، والانفتاح على الأنظمة المقارنة عربيا ودوليا، وكذا الاعتماد على قواعد اللغة العربية من حيث سلامة اللغة ووضوح الأسلوب وجودة الصياغة.

    وخلاصة القول، فإن التجربة المغربية في صياغة دلائل الصياغة التشريعية رغم انفتاحها على بعض التجارب الدولية، خصوصا الأوروبية منها، إلا أنها لا ترقى إلى مستوى ما وصلت إليه بعض التجارب المقارنة في هذا الجانب، سواء من حيث مضمونها أو منهجية وضعها وصياغتها، أو ملاءمتها مع الخصوصيات الوطنية، فأغلبيتها تكتفي بذكر بعض المراجع الأجنبية التي يمكن الرجوع إليها من قبل الصائغين دون توضيح منهجية وطرق وحدود تلك العملية. كما أن دلائل الأمانة العامة للحكومة تحتاج إلى ضم بعضها ببعض، هذا من جهة، ومع تلك الصادرة عن البرلمان والمتعلقة بنفس الموضوع من جهة أخرى، وتدعيمها بالاجتهادات القضائية وآراء المتخصصين والقانونيين وكل الفاعلين في هذا المجال -على غرار النموذج الفرنسي كما ذكرته سابقا- مع الانفتاح على الحقل الأكاديمي والعلمي كآلية لتطوير العمل التشريعي. وبالنسبة لي فالتجربة الكندية في هذا المجال تعد مثالا يمكن الاقتداء به لصياغة دليل مرجعي أساسي معتمد في بناء وصياغة النصوص القانونية المغربية.

    وللتذكير فدليل المساطر التشريعية والتنظيمية المنصوص عليه بموجب المادة 20 من القانون التنظيمي 13-065 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها لم يصدر بعد، ومن شأن إعداده –حسب اعتقادي- وفق المنهجية التي ذكرناها سابقا أن يساعد في الرفع من جودة التشريعات الوطنية.

    ثانيا- المقاربة التشاركية آلية لدعم شفافية انتاج التشريعات

    ظهرت الفكرة السياسية للديموقراطية التشاركية في أواخر سنوات الستينيات من القرن الماضي في الدول الغربية ضمن النقاشات الدائرة آنذاك حول حدود الديموقراطية التمثيلية نتيجة للاحترافية السياسية والهيمنة العلمية للخبراء، فتجسدت هكذا ضرورة منح المواطنين وسائل المناقشة والتعبير عن آرائهم والتأثير في القرارات التي تعنيهم.

    إن الديموقراطية التشاركية (التساهمية) هي نقلة جديدة في العلاقة بين الحكام والمحكومين، من خلال مساهمة مباشرة للمواطنين بشكل أكبر في تقديم مقترحاتهم بشأن اهتمامات الدولة والمجتمع. ولن يكون ذلك ممكنا دون التقرب من المواطنين والاستماع إلى متطلباتهم والأخذ بمقترحاتهم لحل الكثير من المشاكل في شتى المجالات.

    وقد حققت هذه التجربة من الديموقراطية التشاركية نجاحات معتبرة في الكثير من البلدان مثل البرازيل والولايات المتحدة الأمريكية، وبعض بلدان أوربا مثل ألمانيا والدول الإسكندنافية وفرانسا.

    إذا انطلقنا من فكرة أن الديموقراطية التشاركية هي شكل من أشكال تقاسم وممارسة السلطة لأجل تدعيم مشاركة المواطنين في اتخاذ القرارات المتعلقة بشؤونهم العامة، وأحد أوجه الحكامة الجيدة أو الرشيدة في إدارة الشؤون العامة. فإن التساؤل المطروح في هذا الصدد يتعلق بوسائل وأهداف ممارسة هذا النوع من الديموقراطية خصوصا في مجال بناء وصياغة التشريعات؟

    أ. آليات المشاركة الديموقراطية في سن التشريعات

    على الرغم من أن بعض النماذج للتطبيق العملي في عدة بلدان لهذا الموضوع، قد سبق التنظير فيها، فإنه لا تزال هناك إشكاليات حول كيفيات السماح للمواطنين بالمشاركة في إدارة شؤونهم وفي أي مستوى محلي أو وطني تكون هذه المشاركة، وهل يملك المواطنون العاديون الكفاءات الضرورية لتقديم المقترحات الناجعة لإيجاد الحلول لمشاكلهم؟

    وفي هذا الصدد، تنبني الديمقراطية التشاركية على أسس تميز ماهية المشاركة في الحياة العامة، وتعطيها بعدا فلسفيا في الانفتاح على الإشكالات المجتمعية من خلال شرطي النقاش العام المفتوح، والاتفاق العام.

    إن الديمقراطية التشاركية ليست مبادئ تصورية فحسب، بل تتضمن آليات من أجل بلورة غاياتها وجعلها ذات هدف إيجابي يعمل على تبني المشكل ومعالجته عن طريق مجموعة من التدابير. ولهذا يمكن التساؤل حول قدرة المنظومة القانونية المغربية على أن تفسح المجال للمواطن للتفاعل الإيجابي في ظل هذا النموذج الديموقراطي، وما هي الوسائل والصيغ الكفيلة لفسح المجال أمام المشاركة الفعالة للمواطنين في العمل التشريعي؟

    وجوابا على ما سبق، حملت الوثيقة الدستورية لسنة 2011 العديد من المستجدات القانونية التي لم تكن موجودة في دساتير المملكة سابقا، من بين هذه المستجدات نجد التنصيص على ضرورة تبني المقاربة التشاركية كآلية لتوطيد وتقوية مؤسسات الدولة الحديثة (الديباجة، الفصل الأول والفصل 12). كما نص الفصل 14 من الدستور على حق تقديم ملتمسات في مجال التشريع، كآلية من آليات الديموقراطية التشاركية. وذلك وفق شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمي. ويراد بالملتمس حسب المادة الثانية من القانون التنظيمي 14-64 أنه كل مبادرة يتقدم بها مواطنات ومواطنون بهدف المشاركة في بناء النص التشريعي .

    ب. مساهمة الديموقراطية التشاركية في تجويد صياغة النصوص التشريعية

    لا تستقيم الحياة الاجتماعية إلا بوجود نصوص تشريعية عالية الجودة وفاعلة في ضبط سلوك الأفراد والجماعات. كما أن سن هذه النصوص لا يتم بشكل اعتباطي، بل لابد للسلطة التشريعية من استحضار المضامين الاجتماعية والسياق الواقعي المنظم لحدودها. وأي تباعد بين القانون كفكرة والواقع كحقل لتطبيق هذه الفكرة، سينتج عنه حتما خلل سيصيب القواعد القانونية بالشلل وعدم الفاعلية والنجاعة.

    من هذا المنطلق، فإن مقاربة أي موضوع يراد تقنينه ينبغي أن يطرح من خلال رؤية تلائم بين الفكر والواقع، وبين ما هو نظري وما هو واقعي، من خلال تبني نظرية تفاعلية وتشاركية وتشاورية تؤمن بالحوار والنقاش الفعال والبناء والعقلاني، وذلك في اطار الفعل التواصلي الذي بنى عليه “هابرماس” نظريته حول الديموقراطية التشاركية. هذا الحوار العقلاني سيؤدي إلى الملاءمة بين ما يسن من قوانين وما هو قائم داخل المجتمع من قيم وعادات وسلوكيات وتصورات ومواقف. فإذا لم يكن هناك انسجام بين القانون والواقع، سينتج عن ذلك نتائج وردود عكسية. فالقوانين التي لا تنبع من الواقع مآلها الفشل.

    ومن بين المعايير التي اعتمدها جانب من الفقه الفرنسي لقياس جودة القاعدة القانونية، نجد المعايير القانونية، والتي تتحدد في ديموقراطية التشريع والصنع، بمعنى أن النص القانوني الجيد هو الذي تكون صناعته تشاركية، وتتحلى بالشفافية، وتتيح له مقومات التطبيق السليم.

    ولذلك فتحقيق جودة القانون يتطلب توسيع هامش المساهمة في إعداد القوانين بهدف جعلها مشروعة ومقبولة من لذن جميع مكونات المجتمع، وبالتالي فالقانون يشكل ضمانة قوية لاحترام المواطن وحقوقه في الدولة الديمقراطية.

    وفي هذا الصدد جاء في تقرير فريق عمل وزاري فرنسي برئاسة “ديودوني ماندلكيرن” Dieudonné
    MANDELKERN من خلال تحديدهم تعريف جودة القاعدة القانونية انطلاقا من مقاربات عدة، ومن بينها أنه ينبغي الاهتمام والانتباه إلى آراء المواطنين حول القانون، وتسهيل كل الطرق أمامهم للوصول إليه على اعتبار أن قبول أي قاعدة قانونية يعتبر مفتاحا لاحترامها. وبمعنى آخر أن المقاربة التشاركية في صنع التشريعات من العوامل المساهمة في قبول القاعدة القانونية، وذلك من خلال منح المواطنين الحق في إبداء آرائهم وملاحظاتهم حول مشاريع القوانين، وبالتالي معرفة تطلعاتهم وانتظاراهم منه.

    وخلاصة القول أنه كلما اتسعت دائرة المشاركة في صنع القوانين إلا وكانت الصياغة التشريعية متفقة مع الأفكار والتصورات والأغراض التي سعى النص القانوني إلى تحقيقها، وزادت معه نسبة الوضوح والواقعية والقابلية للفهم من المخاطبين بأحكامها، وبالتالي لن تثير المشاكل عند التطبيق. الشيء الذي يؤدي لا محالة إلى استقرار القاعدة القانونية، وعلى نقيض من ذلك تؤدي الصياغة الرديئة والتي لا تعبر عن فكر الجماعة ولا تتفق مع إرادتها ولا تحقق تطلعاتها وطموحها إلى حدوث خلل تشريعي وبالتالي لا مجال للحديث عن الاستقرار في هذه الحالة.

    المطلب الثاني: مساهمة الأعمال التحضيرية وآلية دراسة الأثر في تجويد التشريعات

    وارتباطا بما سبق، فإن تحقيق الجودة في النصوص القانونية تحتم على المشرع توضيح فكرة وحيثيات التشريع والتعبير عنها بأبسط الوسائل والطرق، بما يمكن المواطن من معرفة وفهم أعمق لمضمون التشريع وليس فقط لألفاظه، وهنا يتبين الدور الهام للأعمال التحضيرية كآلية لترسيخ مبدأ الشفافية في أسلوب وضع وصياغة القوانين (أولا). كما يتحتم على المشرع أيضا استحضار الذكاء القانوني أو اليقظة القانونية وذلك باعتماد دراسة الأثر أو الجدوى كآلية عملية لتجويد القوانين (ثانيا).

    أولا- الأعمال التحضيرية كآلية لتجويد صياغة التشريعات

    مع نشأة الحاجة إلى سن التشريع تبدأ الدعوة لإجاده ثم يبدأ السير في خطوات إعداده، فيبدأ التشريع على سيرته الأولى، يتلو ذلك المرور بخطوات المراجعة والمناقشة حتى الإقرار أو المصادقة وأخيرا الإصدار ثم النشر. ويطلق على الأعمال التي تصاحب إعداد التشريع مند مولده وحتى إصداره: الأعمال التحضيرية أي الأعمال التي تهيئ أو تحضر لإصدار التشريع. ولتسليط الضوء على هذا الموضوع سأتطرق أولا إلى تناول مفهوم الأعمال التحضيرية ومختلف مراحلها (أ)، قبل أن أنتقل إلى الحديث عن دورها في تجويد الصياغة التشريعية للقوانين(ب).

    أ. مفهوم ومراحل الأعمال التحضيرية

    تأتي الأعمال التحضيرية في مرحلة إعداد التشريع، وما قيل في تبرير إصداره على النحو الذي صدر به. ومن ثم فهي تعد إحدى الوسائل المهمة لاستجلاء إرادة المشرع. وهي عبارة عن مجموعة الوثائق الرسمية التي تشمل المذكرات الإيضاحية، ومناقشات الهيئات التي قامت بطرح التشريع أو إعداده.

    وبمعنى آخر فالأعمال التحضيرية هي الوثائق التحضيرية المتعلقة بإعداد النصوص القانونية وصياغتها وهي أساس الانطلاق في إعداد أي مشروع قانون، فهناك وثائق ذات طابع سياسي وتوجيهي (الخطب والتوجيهات الملكية، توجيهات رئيس الحكومة، والبرنامج الحكومي) وهناك وثائق ذات طابع قانوني (المقتضيات الدستورية، الاتفاقيات الدولية، النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، والتشريعات المقارنة) وأيضا وثائق ذات طابع تقني (وبخصوص الوثائق ذات الطابع التقني نحن نتحدث عن الدراسات والأبحاث تقارير المعطيات الإحصائية وأعمال الخبرة). هذا الرصيد الوثائقي الذي يعتبر أساس أو ما يمكن أن أسميه ب”بنك المعلومات” الضرورية لإنتاج وصياغة النص القانوني. وكمثال بسيط يجسد نوعية وأهمية هذه الوثائق؛ المذكرة التقديمية لمشروع قانون المالية ومختلف الوثائق والتقارير الاقتصادية والمالية التي يتم إرفاقها به عند إيداعه بمكتب مجلس النواب. والتي تهدف من جهة إلى مساعدة الصائغ على بلورة صياغة جيدة للنص القانوني، ومن جهة أخرى تساعد القاضي في استجلاء إرادة المشرع في النص القانوني.

    إن الأعمال التحضيرية لإعداد القوانين هي سلسلة من الإجراءات والأنشطة التي تتم قبل صياغة وإقرار القوانين. تهدف إلى دراسة وتحليل القضايا والمسائل التي يهدف القانون إلى التعامل معها، وتجهيز الأسس والأدلة اللازمة لصياغة النص القانوني وضمان توافقه مع الأهداف المرجوة والمبادئ القانونية.

    تشمل الأعمال التحضيرية لإعداد القوانين عدة خطوات، من بينها:

  • إعداد التصور الأولي لمشروع القانون؛ حيث تنشأ فكرة مشروع القانون، في معظم البلدان، غالبا على أيدي المسؤولين التنفيذيين نتيجة اكتشافهم في أثناء تنفيذ القوانين القائمة لصعوبات معينة، ومن ثم يقترحون إدخال تحسينات إضافية على القانون القائم. وكثيرا ما يحدد القادة السياسيون مشكلة أو صعوبة معينة ويعلنون عن تبني سياسة عامة لمواجهة هذه الصعوبة أو المشكلة بهدف إحداث تحولات في المجتمع، لكنهم ناذرا ما يحددون منهجا يؤدي إلى تحقيق الهدف المعلن. وقد تنشأ فكرة مشروع القانون من مصادر أخرى؛ منها أعضاء البرلمان، والأحزاب السياسية، والمنظمات الغير الحكومية، بل والناخبين العاديين. ففي الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن يكون صاحب فكرة مشروع القانون أحد أعضاء البرلمان، أو مواطن عادي، أو جماعة عادية (مثل إحدى النقابات)، أو جماعات الضغط، أو مجموعة بحثية عامة (مثل إحدى اللجان التشريعية أو الحكومية)، أو أن يكون أحد الأجهزة الحكومية أو مسؤول حكومي. لكنه لا يمكن عرض مشروع القانون على مجلس النواب لإقراره إلا من خلال أحد أعضاء الهيئة التشريعية، وناذرا ما يكون ذلك العضو هو الشخص الذي يقوم بصياغة مشروع القانون. كما يجوز للسلطة التنفيذية أو عضو المجلس أو أية جماعة مصالح سياسية اقتراح مشروع القانون الفيدرالي وعرضه على مجلس النواب.

    وتبدأ هذه المرحلة التحضيرية بتحديد الأسباب الموجبة له، والتي لها أهمية كبرى في تهيئة الوقائع التي تظهر المصالح المرغوب في حمايتها أو تنظيمها بموجب تشريع، وعلى أساس هذه الوقائع تقوم مهمة المتخصصين في المراحل اللاحقة في تحويل الأسباب الموجبة إلى قواعد قانونية عامة ومجردة وملزمة. ومن أجل تحديد مختلف جوانب هذا التصور ينبغي الاعتماد على دراسات أو أفكار أو توجيهات أو مقترحات أو توصيات (توصيات الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، توصيات ومذكرات الهيئات الاستشارية؛ والتي لعبت دورا هاما في صياغة العديد من القوانين، وهنا أخص بالذكر المجلس الوطني لحقوق الانسان، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والمجلس الأعلى للحسابات…إلخ)، معطيات وخلاصات واستنتاجات منبثقة عن ندوات وطنية أو دولية، وحوارات وندوات وعروض ومحاضرات مع المجتمع المدني في إطار المقاربة التشاركية.

  • وضع تصور متكامل حول المشروع، يتم الاعتماد في هذه المرحلة على العديد من المرتكزات ومنها؛ إنجاز دراسة تقنية مركزة من أجل تقديم أفكار واضحة ومتسلسلة ومترابطة، وتقديم اقتراحات عملية محددة، وحلولا لمختلف الإشكالات التي يطرحها المشروع، وتنظيم ندوات وطنية أو دولية من أجل تبادل الأفكار والاستعانة بالخبرات الأجنبية حول الموضوع، واعتماد توصياتها كأرضية للمشروع.
  • صياغة التصور حول المشروع، من خلال صياغة الأفكار في شكل نقط متسلسلة، في بطاقات تهم كل محور من محاور المشروع، وإنجاز بطاقات لمختلف الحلول المرتبطة بالإشكالات التي يمكن أن يطرحها المشروع.
  • إعداد مسودة مشروع قانون؛ تبدأ في هذه المرحلة عملية التجسيد الواقعي لتلبية الاحتياج التشريعي وتحقيق الأغراض التي رمت إليها السياسة التشريعية، كما تم تحيدها في التصور الأولي للمشروع وهو عبارة عن أفكار مرجعية للمشروع، وذلك على شكل مسودة مشروع قانون، ونظرا لأهمية هذه المرحلة، فإن هذه المهمة يجب أن تسند إلى جهة متخصصة في الصياغة التشريعية. وفي المغرب تقوم الجهة المكلفة بالتشريع في القطاع الحكومي بإعداد صياغة مسودة أولية لمشروع النص، وتعتمد في ذلك على العديد من العناصر ومنها؛ صياغة الأفكار الواردة في التصور الأولي، بلغة قانونية محكمة، وملاءمتها مع أحكام الدستور والمبادئ القانونية العامة، والمنطق القانوني السليم، والتعاريف، ونطاق التطبيق، والآثار القانونية للمشروع، تأسيس لجنة تتكون من خبراء وأساتذة وقضاة لوضع مسودة المشروع.
  • مراجعة المشروع؛ حيث تتم مراجعة مختلف أبواب ومواد وفقرات ومقتضيات المشروع، من أجل استدراك الأخطاء، ثم إحالة المشروع إلى مديريات أخرى بعد ذلك لإبداء ملاحظاتها بشأنه، وأيضا جمع الملاحظات وتحديد الأحكام التي ينبغي مراجعتها، وإعادة صياغتها أو إضافتها، وأخيرا إعداد صياغة رسمية لمشروع القانون.
  • إعداد مذكرة تقديم المشروع؛ حيث أنه إلى جانب الصيغة الرسمية للمشروع يتم إعداد مذكرة تقديم المشروع تتضمن عناصر مهمة، من بينها: عرض الأسباب الداعية إلى سن مشروع القانون، وبيان الجدوى والفائدة من المشروع، وتحديد العناصر والتوجهات العامة المعتمدة في بلورة قواعد وأحكام المشروع، وتحديد عدد أبواب ومواد المشروع، ثم استعراض أهم أحكام وأهداف المشروع.

    ب. مساهمة الأعمال التحضيرية في تجويد الصياغة التشريعية

    من المهم أن يكون القانون مصوغا بلغة بسيطة ومألوفة من المخاطب بالنص القانوني، والأكثر أهمية أن يقوم المشرع والصائغ بتوضيح فكرة وحيثيات التشريع والتعبير عنها بأبسط الوسائل والطرق، بما يمكن المواطن من معرفة وفهم أعمق لمضمون التشريع وليس فقط لألفاظه. وهنا يتبين الدور الهام للأعمال التحضيرية كآلية ديموقراطية لترسيخ مبدأ الشفافية في أسلوب وضع وصياغة القوانين.

    وتهدف الأعمال التحضيرية إلى إرساء الدعائم الأساسية لاتخاذ القرار التشريعي السليم، والإلمام الواسع بخلفيات الموضوع والآثار والاشكالات التي يطرحها، ومدى الحاجة بالفعل إلى خلق هذا التشريع، بل أكثر من ذلك تعتبر الأعمال التحضيرية هي العمود الفقري لتحقيق جودة التشريع. فكلما كانت عملية صناعة التشريع مركزة ودقيقة، كلما كان التشريع واضحا وسهل الفهم والاستيعاب والتطبيق. من أجل ذلك تقوم الأعمال التحضيرية لإعداد النصوص على وضع تصور أولي يستند على بحث في الموضوع حول الجدوى من التقنين، بالاستعانة بالخلاصات والاستنتاجات والاقتراحات التي يمكن أن تساعد على بلورة هذا التصور وتحديد مختلف جوانبه؛ حيث يتم شرح الموضوع مع عرض تاريخ له، أو الافصاح عن محتواه، وحصر الإشكالات التي يطرحها والواجب معالجتها، للوصول إلى تحديد موقف المشرع وقناعاته الأساسية واختياراته، وطبيعة الحلول التي تبناها لمعالجة الاشكالات المطروحة. ثم نجد المرحلة الموالية للأعمال التحضيرية التي تهتم بدراسة الجوانب الاقتصادية والقانونية والاجتماعية، وفي الآونة الأخيرة أصبحت تضاف إليها البيئية إذا اقتضى الحال ذلك لكل مشروع أو مقترح قانون. ونظرا لأهمية دراسة الجدوى ضمن الأعمال التحضيرية، فإنني سأطرق إليها بالتفصيل كآلية من الآليات المهمة لتجويد التشريعات.

    نختتم هذا الجانب، بالقول أن النقل والاستنساخ من التجارب الدولية المتقدمة ليس هو الملاذ الوحيد لتستقيم الأعمال التحضيرية وبالتالي تحقيق جودة تشريعية، بل هي مجرد طريقة سهلة وسريعة تولد لنا إشكالات التطبيق على أرض الواقع في بعض الأحيان، مما ينبغي معه بدل مجهود أكبر و اعتماد التجارب الدولية على سبيل الاستئناس وليس للاستنساخ، ووضع خصوصية الدولة بعين الاعتبار في المرتبة الأولى من أجل صناعة تشريع محصن ورصين وقوي من حيث التنظيم وسهل في التطبيق.

    ثانيا- دراسة الجدوى أو الأثر آلية لتحقيق فعالية ونجاعة النص التشريعي

    تعرف دراسة الجدوى أو دراسة الأثر في مجال الاستثمارات الاقتصادية بأنها مجموع الدراسات العلمية والتي يتم إعدادها بدقة، لتقيم مدى صلاحية الاستثمار في مشروع معين، وتجنب الآثار السيئة له، من خلال الإحاطة بجميع العوامل المؤهلة لضمان النجاح والفاعلية؛ ومن الاقتصاد والمقاولة انتقل هذا المفهوم إلى العديد من المجالات ومنها مجال التشريع. حيث ترتبط الصياغة الحديثة للتشريعات بدراسة الجدوى من التشريع موضوع الصياغة، وذلك بهدف خلق نجاعة وفاعلية النصوص القانونية بصفة خاصة والوصول إلى تحقيق الحكامة التشريعية بصفة عامة. وسنطرق في البداية إلى منهجية وأهمية دراسة الجدوى أو الأثر (أ)، قبل الانتقال إلى دراسة تأثير آلية دراسة الجدوى أو الأثر على جودة صياغة النصوص التشريعية (ب).

    أ. منهجية دراسة الجدوى أو الأثر

    تعد منهجية قياس أثر التشريعات إحدى الآليات المستحدثة التي برزت خلال العقود الماضية كأداة رئيسية للحكم التشريعي الرشيد من خلال دعم السياسات المستندة إلى الأدلة وتحقيق الشفافية والمساءلة في دورة صنع السياسات العامة ووضع التشريعات، بما يسمح للمواطنين بالمشاركة، والبرلمان بفحص المقترحات أثناء وضع السياسات العامة، والسياسة التشريعية التي تعني الفلسفة التي تحكم عملية التشريع، بداية من اتخاذ قرار التصدي لموضوع أو قضية عن طريق التشريع أصلاً، ومروراً بتحليل الموضوع وتحديد أولويات المجتمع، ثم ترجمة مبادئ السياسة إلى نصوص قانونية وإصدارها.

    وبتعبير أدق، فإن دراسة الجدوى أو الأثر هي دراسة تقوم على الاستباق والتوقع ثم التبسيط. ولا ينبغي فهم التقييم المسبق على أنه تمرين صوري أو شكلي لتبرير حل محدد سلفا، بل على العكس من ذلك يعد منهجية للمساعدة على اتخاذ قرارات هدفها توضيح الخيارات الممكنة، من خلال تقديم عناصر التقييم اللازمة للسلطات المسؤولة على أسس دقيقة وموضوعية.

    وتناولت العديد من الدراسات مفهوم قياس أثر التشريعات وطرق تطبيقها، ويمكن تلخيصها ت في ما يلي:

    – أداة أو نظام لقياس وتحليل آثار تشريع جديد أو معدل على المجتمع؛ حيث تقوم الحكومة أو البرلمان بتحديد الأثر المطلوب قياسه بناء على أولويات المجتمع، وقد يتم ذلك بناء على استشارات المتخصصين واستطلاعات الرأي العام للمواطنين، أو التعرف على التأثيرات المحتملة من أصحاب المصالح/ المخاطبين بالتشريع وفى النهاية يتخذ البرلمان القرار ويحدد الشكل النهائي للتشريع.

    – أداة تستخدم لبحث البدائل المختلفة لمعالجة التحديات المتعلقة بإصدار أو تعديل القوانين، ويشمل قياس أثر التشريعات تحليلا تفصيليا للتأكد مما إذا كانت البدائل المختلفة – بما فيها التشريعي- ستحقق الأثر المطلوب أم لا، ويساعد على تحديد أي آثار جانبية محتملة أو أي تكاليف خفية مرتبطة بالتشريع وتحديد حجم تكاليف الالتزام بالنسبة للمواطن، كما يوضح تكاليف التطبيق بالنسبة للدولة.

    وترتكز منهجية قياس أثر التشريعات على أربعة أمور رئيسية، وهي:

  • طرح الأسئلة اللازمة أثناء البحث عن مدى الحاجة إلى التدخل التشريع؛
  • جمع المعلومات والبيانات اللازمة من مصادرها الأساسية؛
  • اتباع خطوات محددة وواضحة بطريقة علمية؛
  • تبادل المعلومات بين الجهة المعدة لوثيقة قياس الأثر التشريعي والفاعلين الرئيسيين وأصحاب المصالح، والفئات المتوقع تأثرها بالتدخل.

    وتكمن أهمية تطبيق منهجية قياس أثر التشريعات في الاعتبارات التالية:

  • تقدم المنهجية مجموعة من الخطوات التي تهيئ العملية التنظيمية والتشريعية، بالإضافة إلى تحليل التكلفة والعائد من القرار التشريعي، وتحديد الأدوار والاستشارة المجتمعية؛
  • إخضاع عملية صنع القرار التشريعي للمعرفة التجريبية فهي ليست استبدال القرارات السياسية بالحلول التكنوقراطية، من خلال تمكين صانع القرار من فهم أفضل للنتائج المتوقعة، وتحديد التكاليف والعوائد وتوزيع الآثار؛
  • تساعد المنهجية على التحول من أسلوب اتخاذ القرارات القائم على العناصر القانونية إلى أسلوب يرتكز أكثر على الدلائل، من خلال معرفة الآثار الناجمة عن التدخلات الإيجابية والسلبية؛
  • إضفاء مبادئ الشفافية والحوكمة والمسؤولية على العملية التنظيمية والإجراءات التشريعية، بما تتضمن من اختيار البديل المناسب وفقا لعملية القياس القبلي لآثار التشريع المحتملة، واستطلاع آراء المخاطبين بالتشريع؛
  • التقييم الكامل لأثر التشريعات على القضايا المحورية ) كبيئة ومناخ الأعمال والاستثمار، والفقر، وغيرها)، من خلال التأكد من التوازن بين التكلفة والعائد، والفوائد مع التكاليف، والمشاركة المجتمعية في تحديد الأولويات؛
  • متابعة وتقييم السياسات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وتفعيل مبادئ الشفافية والمساءلة في عملية صنع القرار.

    وتبنى المشرع المغربي دراسة الأثر على أساس المادة 19 من القانون التنظيمي رقم 13-065 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، التي تنص على أنه “يتعين كلما اقتضت الضرورة ذلك بموجب قرار لرئيس الحكومة، أن ترفق مشاريع القوانين الرامية إلى سن أي تشريع جديد أو مراجعة تشريع قائم بدراسة حول أثارها، تحدد كيفيات إعداد هذه الدراسة والمعطيات التي يجب أن تتضمنها بنص تنظيمي”. ويحدد المرسوم 585-17-2 الصادر بتاريخ 23 نونبر 2017 كيفيات إعداد الدراسة والمعطيات التي يجب أن تتضمنها ومن بينها تقييم انعكاساته الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والمالية والمؤسساتية والادارية المتوقعة.

    انطلاقا من تحليل مقتضيات المرسوم أعلاه، فإن خصوصيات هذه الدراسة تفرض التطرق إلى العديد من النقاط المهمة والمتعلقة بنطاق اللجوء إلى دراسة الأثر، آليات إعدادها، ثم خصوصيات مضمونها.

  • نطاق اللجوء إلى الدراسة: لا يعتبر إنجاز هذه الدراسة أمرا إلزاميا بالنسبة لجميع مشاريع القوانين المعدة من طرف الحكومة، وإنما فقط تلك التي تستدعي الأهمية والضرورة ذلك. ويمكن إنجاز هذه الدراسة سواء قبل الشروع في إعداد المشروع أو بعد ذلك. ويعود تقدير مدى توفر الأهمية والضرورة الموجبة لإعداد دراسة الأثر إلى رئيس الحكومة إما بمبادرة منه أو باقتراح من الأمين العام للحكومة أو بطلب من السلطة الحكومية صاحبة المشروع. كما أنه يستثنى من دراسة الأثر وفقا للمادة 3 من المرسوم أعلاه؛ مشاريع القوانين التنظيمية، ومشاريع القوانين المتعلقة بالمجال العسكري، ومشاريع قوانين المالية، ومشاريع القوانين التي تحيلها الحكومة قصد إبداء الرأي إلى المجلس الوطني للغات والثقافة الأمازيغية أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أو المجلس الأعلى للسلطة القضائية أو المؤسسات والهيئات المنصوص عليها في الفصول 161 إلى 170 من الدستور أو هيئات الضبط والحكامة الجيدة.
  • إعداد دراسة الأثر: وفقا لمقتضيات المواد 5 إلى 11 من المرسوم أعلاه، يتم إعدادها من قبل السلطة الحكومية صاحبة مشروع القانون موضوع الدراسة، إما من قبل المصالح التابعة لها أو بتنسيق مع سلطات وهيئات أخرى وعند الاقتضاء، عن طريق الاستعانة بخبراء متخصصين من أجل ذلك. كما أن هذه الدراسة يجب أن تنجز في أجل لا يتعدى شهرين، ابتداء من تاريخ قرار رئيس الحكومة القاضي بإنجاز الدراسة، كما يمكن بموجب قرار لرئيس الحكومة أيضا تمديد هذا الأجل لمدة أقصاها شهر واحد، وذلك بناء على طلب معلل من السلطة الحكومية صاحبة مشروع القانون. وفي حالة اعتماد تلك الدراسة من قبل لجنة دراسة أثر مشاريع القوانين، يتم احاطة أعضاء الحكومة علما بمضمونها وفقا لمقتضيات المواد 7 إلى 10 من المرسوم 2.17.585 الصادر بتاريخ 23 نونبر 2017. كما يرفق تقرير حول دراسة الأثر المنجزة بمشروع القانون بمناسبة إيداعه بمكتب أحد مجلسي البرلمان.
  • خصوصيات مضمون دراسة الأثر: نصت المادة الرابعة من المرسوم أعلاه على المعطيات والبيانات التي يتعين تضمينها في هذه الدراسة ومن أهمها: تحديد أهداف المبادرة التشريعية، وذلك من خلال الاجابة على الاشكالات العملية والقانونية التي تطرحها الحاجة أو الضرورة لهذا التدخل القانوني، تحديد كيفية مجابهة الحاجة التشريعية؛ من خلال تقييم مختلف القوانين السارية المفعول وذات الصلة بالموضوع، جرد وتقييم مختلف الالتزامات الدولية، ثم تقييم الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها، ثم بيان الاستشارات التي تم القيام بها أو المزمع القيام بها، ثم تحديد التكلفة أو الآثار المالية للمبادرة التشريعية، إضافة إلى تحديد الجدولة الزمنية لتنزيل مضامين المقترح التشريعي وكل المعنيين به.

    من خلال تحليل مضامين المادة 19 من القانون التنظيمي 13-65 ومقتضيات المرسوم 2.17.585 المذكورين سابقا، وبالنظر إلى أهمية إجراء دراسة الجدوى أو الأثر. يمكن القول أنه يجب أن تشمل هذه الدراسة كل المبادرات التشريعية المهمة سواء كانت مشروع أو مقترح قانون. بمعنى يجب النظر إلى أهمية المبادرة وليس إلى مصدرها. وأضيف أيضا ملاحظة من خلال استقراء مقتضيات المادة 4 من المرسوم المذكور، في ما يخص طلب الاستشارة أنها لم تحدد بشكل مباشر أو غير مباشر الطرق العملية لانطلاق هذه الاستشارات من حيث الجهة المؤهلة للمطالبة بها، والفترة المخصصة لها وامتدادها وطرق توظيفها، مع العلم أن مشاركة المواطنين ذات أهمية بالغة في معرفة ردود الأفعال المثارة بشأن آثار القرارات المتخذة. وأخيرا أظن أن تحديد آجل انجاز الدراسة في مدة لا تتجاوز شهرين مع امكانية التمديد لشهر واحد فقط، ليس كافيا حسب اعتقادي، خصوصا فيما يخص المبادرات التشريعية الهامة وذات طبيعة استراتيجية والتي تحتاج إلى دراسات ميدانية معمقة وتتطلب الوقت والمجهود والكفاءات العالية.

    ب. تأثير آلية دراسة الجدوى أو الأثر في جودة صياغة النصوص التشريعية

    أخدت معظم التشريعات الحديثة بدراسة أثر التشريعات، حيث قامت العديد من الدول بتقنين عملية قياس أثر التشريع ومأسسته، ليؤدي دوراً رئيسياً في كشف الحقائق لصانعي القرار بمصداقية ووضوح. وتمكيين السلطة التشريعية من فهم النص المقدم لها للمصادقة فهما دقيقا، وبالتالي المساهمة بشكل فعال في التقليل من المخاطر التي قد تتجاوز تكاليف التشريع وفوائده، وإزالة الآثار السلبية المحتملة التي قد يسببها تطبيق التشريع بعد دخوله حيز النفاذ.

    ومن الدول التي لها خبرة طويلة في مجال الاصلاح التشريعي، وتطبيق نماذج ناجحة لتقييم أثر التشريعات، والتي اعتبرت أن تقييم الأثر التشريعي يشكل جزء قانونياً ملزماً لا ينفصل عن عملية اقتراح التشريعات، نجد كل من الولايات المتحدة الأمريكية التي نهجت سياسة الإصلاح التشريعي، وكندا التي تبنت التشريعات الذكية منذ سنة 2003، والمملكة المتحدة التي عملت بالتشريعات الأفضل سنة 1998 ثم بعد ذلك نهجت سياسة خفض التشريعات سنة 2010، كما كانت أستراليا واحدة من أوائل الدول التي طلبت استخدام تحليل الأثر التشريعي منذ سنة 1985.

    كما تلعب دراسة الجدوى أو الأثر دورا هاما في إعداد وتجويد صياغة مشاريع القوانين، وذلك من خلال الذكاء القانوني واليقظة القانونية. والذي يتجلى من جهة، في تقييم جميع الآثار القانونية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والمؤسساتية والمهنية والبيئية، بل وحتى النفسية للمقتضيات المزمع تبنيها. ومن جهة أخرى، في ملاءمة مشاريع أو مقترحات هذه النصوص مع باقي مكونات المنظومة التشريعية الداخلية ومع الاتفاقيات الدولية المصادق عليها، وذلك تجنبا لكل تعارض وتضارب بين مختلف هذه النصوص السارية المفعول.

    وبالنظر إلى أهمية هذه الدراسة والمعطيات والمعلومات التي توفرها، والتي ستساعد لا محالة في توفير صورة وافية كاملة حول النص المقترح، وكذا الأرضية الجيدة لدراسة ومناقشة المبادرات التشريعية في مختلف مراحل مسطرة التشريع، وخصوصا على مستوى تحديد أهدافه وغاياته والوسائل المقترحة لتحقيق تلك الأهداف، إضافة إلى الآثار التي يمكن أن تترتب عن تبني هذا النص القانوني وتنزيل مقتضياته على أرض الواقع في جميع المجالات. وكلما كانت هذه الدراسة دقيقة وصادقة وشاملة لكافة العناصر والإجابات الضرورية، كلما أعطت صورة واضحة وصادقة عن النص المقترح، وكلما كانت الجهات التي ستتولى دراسته ومناقشته على علم ووعي بالأهداف الحقيقة من تبنيه ووسائل تحقيقها وترجمتها على أرض الواقع، وبالتالي يمكنها ذلك من اتخاذ موقف معقول ومنطقي وملائم من هذا النص.
    وكل ذلك سيساهم بكل تأكيد في تحقيق المتطلبات الأساسية للوصول إلى نصوص قانونية تستجيب لمعايير جودة الصياغة التشريعية.

    وفيما يخص دراسة جدوى أو أثر التشريعات وعلاقته بالأمن القانوني، فإنه وللإشارة ففكرة الأمن القانوني – في مفهومها الضيق- لم تعد كفكرة دستورية نشأت من حاجة المجتمع إلى توفير الأمن وحماية أصحاب المراكز القانونية، من خلال إصدار تشريعات متطابقة مع الدستور ومتوافقة مع مبدأ القانون والعدالة فقط، بل تطورت فكرة الأمن القانوني لتصبح مرتبطة بشكل أكبر بثبات واستقرار القوانين وعدم تضخمها، وإشعاع الثقة والطمأنينة بين أطراف العلاقات القانونية، غاياتها سن نصوص تتسم بالوضوح في قواعدها ويسهل فهمها.

    وفي هذا السياق فإن الإجابة عن الأسئلة المحورية التي تثار عند إعداد دراسة أثر التشريعات، والمتعلقة أساسا بجودة النص التشريعي موضوع الدراسة وصلاحيته للتطبيق، ومدى قابليته للتوقع ووضوح قواعده القانونية، وما إذا كان هذا الأخير سيحقق نتائج واضحة تكون أكثر قبولا من قبل كافة الأطراف المعنية به، تعتبر أحد أهم أسس ودعامات تقييم مخاطر الأمن القانوني، والحد منها قدر الإمكان، حتى لا تكون القوانين موضوع تعديلات متكررة وبالتالي تصبح مصدر قلق وخطر متزايد على المجتمع عامة والمخاطبين بأحكامها بشكل خاص، سواء كانوا أشخاصا طبيعيين أو اعتباريين

    خاتمة

    خلاصة القول، إن تحقيق الجودة في النصوص القانونية في وقتنا الحاضر، رهين بوجود العديد من الضمانات، والتي تتجلى بالخصوص في دمقرطة التشريع، وذلك من خلال توسيع المشاركة في سن القوانين، لأن النص القانوني الجيد هو الذي تكون صناعته وفق مقاربة تشاركية، مما يحقق مشروعيته ومقبوليته من طرف جميع مكونات المجتمع. وثاني هذه الضمانات تتجلى في تطوير دلائل الصياغة التشريعية وفق ضوابط علمية، مع الانفتاح على التجارب المقارنة. فدليل الصياغة التشريعية هو السبيل لتوحيدالضوابطالسليمةفيمجالإعدادوصياغةالتشريعات. كما يعد الاهتمام بتجويد الأعمال التحضيرية عملية مهمة وضمانة قوية للرفع من جودة التشريعات، لأن هذه الأعمال كآلية لترسيخ مبدا الشفافية في وضع وصناعة التشريعات، والتي تمكن المواطن من معرفة وفهم أعمق لمضمون التشريع وليس فقط لألفاظه. وأخيرا، لابد من تفعيل الذكاء القانوني واليقظة القانونية من خلال اعتماد دراسة الأثر كعملية استباقية لتحديد أثر التشريعات وجدواها، وبالتالي تفادي السقوط في إشكالية التضخم التشريعي.

    وهنا أود التذكير بأهمية تدريس مادةالصياغةالتشريعيةفي كليات القانون، أسوة ببعض الدولالتيتنبهتإلىأهميةهذاالموضوع،كضمانة إضافية ستساهم لامحالة في تطوير العمل التشريعي الوطني.

    هذه الضمانات المهمة ستساهم بشكل أكيد في تجويد صياغة التشريعات الوطنية، وبالتالي تحقيق الأمن القانوني، حيث أنه لا يمكن الحديث عن الأمن القانوني في غياب جودة النص القانوني، وفي الآن نفسه لا يمكن الحديث عن جودة النض القانوني دون أمن قانوني.

    لائحة المراجع

    الكتب والمؤلفات:

    • آن سيدمان، روبرت سيدمان، نالين أبيسكيري: “الصياغة التشريعية من أجل التغيير الاجتماعي الديموقراطي: دليل الصائغين”، مكتب صبرة للتأليف والترجمة، جمهورية مصر العربية، 2005.

    • عليوة مصطفى فتح الباب، أصول سن وصياغة وتفسير التشريعات، مكتبة كوميت، القاهرة، طبعة 2008، المجلد الأول.

    • مولاي عبد الرحمن القاسمي: “قواعد الصياغة التشريعية: قانون الأسرة نموذجا”، مطبعة دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، ط الأولى 2018.

    • علال فالي، صناعة النصوص القانونية: إشكالات الاختصاص والصياغة، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط. الطبعة الأولى 2018.

    • محمود محمد علي صبرة، الاتجاهات الحديثة في إعداد وصياغة مشروعات القوانين، مكتب صبره للتأليف والترجمة، طبعة 2009.

    • حيدر سعدون المؤمن، مبادئ الصياغة القانونية، دائرة الشؤون القانونية، قسم اقتراح التشريعات، الطبعة والسنة غير مذكورين.

    • سعيد أحمد بيومي، لغة القانون في ضوء علم لغة النص، دراسة في التماسك النصي، دار الأدب القاهرة، الطبعة الأولى 2010.

    • وليد محمد الشناوي: “الأمن القانوني ومبادئ سن القانون الجيد”، مجلة البحوث القانونية والاقتصادية، جامعة المنصورية، العدد 56، أكتوبر 2014.

    • محمد صلاح العطيوي: “دليل إعداد وصياغة التشريعات في إمارة دبي”، قسم البحوث والاصدارات، إدارة التدقيق التشريعي، اللجنة العليا للتشريعات في إمارة دبي، الامارات العربية المتحدة، 2019.

    • الدليل العملي لمراجعة التشريعات وتحليلها، معهد الحقوق جامعة بيرزيت، مؤسسة الناشر، رام الله، فليسطين 2017.

    • الأمانة العامة للحكومة، دليل صياغة النصوص القانونية، سلسلة الوثائق القانونية، مديرية المطبعة الرسمية، المملكة المغربية، الطبعة الأولى 2015.

    • مجلس النواب العراقي، دليل الصياغة التشريعية، منشورات مجلس النواب العراقي، بغداد، طبعة 2014.

      -مجلس النواب المغربي، دليل عملي في صياغة القوانين، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، الطبعة الأولى 2017.

    • اللجنة التحضيرية لإعداد التشريعات القضائية، إعداد التشريعات وصياغتها (دليل ارشادي)، المركز الوطني للتنافسية، الرياض، المملكة العربية السعودية، الإصدار الأول غشت 2022.

      أطروحات ورسائل جامعية:

    • فاطمة الزهراء أعرج: “جودة النصوص القانونية: التشخيص والتحديات”، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، جامعة محمد الأول وجدة، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، السنة الجامعية 2020-2021.

    • سيف الدين أحميطوش: “آليات تعزيز جودة التشريع”، رسالة لنيل دبلوم الماستر المتخصص: القانون والممارسة القضائية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي، الرباط، السنة الجامعية 2017-2018.

    مقالات علمية:

    • عبد المجيد برابح: “الديمقراطية التشاركية”، مقال ضمن أشغال الملتقى الوطني حول موضوع مؤشرات الحكم الراشد وتطبيقاتها، مجلة القانون والمجتمع والسلطة، كلية الحقوق جامعة السانيا وهران –الجزائر- عدد خاص 2012.

    • كريم سيد عبد الرزاق: “منهجيةقياسأثرالتشريعات: بينالممارساتوالخبراتالدوليةومتطلباتالتطبيقفيالدولالعربية”، المجلة العلمية لكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، جامعة الإسكندرية كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، مجلد 2018، العدد 6 (31 يوليوز 2018).

    • عبير سهام مهدي: “أسس والمنطلقات الفكرية للديموقراطية التشاورية عند يرغن هابرماس”، المجلة السياسية والدولية، كلية العلوم السياسية المستنصرة، العراق، العدد 48، أكتوبر 2021.

    • سليمة فراجي: “الصياغة التشريعية المرتبكة والتطلعات المستقبلية”، مقال منشور على موقع مجلة مغرب القانون، على الرابط: https://2u.pw/epftyLO .

      -حاتم أويزي،: “قياس الأثر التوقعي للتشريع بالمغرب”، المجلة الالكترونية مغرب القانون، على الرابط الالكتروني: https://2u.pw/yquVFBs.

    • خالد الدك: “صناعة التشريع: مفاتيح المواطن لفهم صياغة القوانين”، مقال منشور على الموقع الالكتروني لمجلة القانون والاعمال الدولية، على الرابط: https://2u.pw/h6jwbYe .

    • هيثم الفقي، الصياغة القانونية، على ارابط الالكتروني:https://2u.pw/GAArbY6 تم الاطلاع عليه بتاريخ 06 أبريل 2023.

    • تقرير الهيئة العليا للحوار الوطني حول اصلاح منظومة العدالة، 2013، على الرابط: https://n9.cl/rzb9n.

    نصوص قانونية:

    • القانون التنظيمي رقم 13-065 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، الصادر تنفيذه بالظهير الشريف رقم 1.15.03 بتاريخ 28 من جمادي الأولى 1436 (19 مارس 2015)، الجريدة الرسمية عدد 6348 بتاريخ 02 أبريل 2015، ص 3515.

    • المرسوم 585-17-2 بشأن دراسة الأثر الواجب إرفاقها ببعض مشاريع القوانين، الجريدة الرسمية عدد 6626 بتاريخ 30 نوفمبر 2017، ص 6815.

    • القانون التنظيمي 13-065 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6348 بتاريخ 2 أبريل 2015، ص 3515.

    • القانون التنظيمي رقم 14-64 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، الصادر بالظهير الشريف رقم 1.16,108 بتاريخ 23 شوال 1437 (28 يوليوز 2016). الجريدة الرسمية عدد 6492 بتاريخ 18 غشت 2016، ص 6017.

    • القانون التنظيمي رقم 130.13 المتعلق بقانون المالية، الجريدة الرسمية عدد 6370 بتاريخ 18 يونيو 2015، ص 5810.

       

    مراجع باللغة الفرنسية:

    • Alexander FLUCKIGER, Qu’est-ce que “mieuxlégiférer” ? : enjeux et instrumentalisation de la notion de qualitélégislative, Université de Genève, chapitre de livre :2008, page 14. Publié sur le site :https://2u.pw/21mhbMF .

    • Dieudonne MANDELKERN, Rapport du groupe de travail interministériel sur la qualité de la réglementation. Op. cit. Page 7. Publié sur le site :https://2u.pw/yC2qs5d.

    • Lan Fuller, The Morality of Law (revised edition, New Haven, Yale University Press, 1973).

    • Denis LE MAY, “pour un manuel de légistique”, les cahiers de droit, Faculté de droit de l’Université de Laval, vouspouvez consulter ce document enligne :https://2u.pw/Ll61Z9E .

    • Guide pratique commun du parlementeuropéen, du Conseil et de la Commission à l’intervention des personnes qui contribuent à la rédaction des texteslégislatifs de l’Unioneuropéenne. Produit par Union européenne, 2015.
    • Guide de légistique, la documentation française, 3èmeédition, Paris 2017.
    • Guide fédéral de jurilinguistiquelégislative française (RLF), vouspouvez le consulter enligne : https://2u.pw/wL45Ds6.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى