القضاء الجنائي الدولي بعد الحرب العالمية الثانية
بقلم: الطالب الباحث
محماد الفرسيوي
لم تكن تلك الدموع التي ذرفتها أعين أعضاء الوفود المشاركة في مؤتمر روما الدبلوماسي عبثا، بل كانت دموع الفرح التي أعقبت الجهد الطويل المضني في صياغة النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والتي طالما تاقت العدالة الجنائية الدولية إليها[1]، ليكون بذلك نظام روما الأساسي أول نص قانوني توافقي لإنشاء قضاء جنائي دولي دائم متجاوزا بذلك فترة المحاكم الجنائية المؤقتة التي تم انتقادها بشدة كونه تقوم على إخفاء سياسة القوى العظمى، تقوم على تجسيد عدالة الغالب على المغلوب، وبأنها محاكمات انتقامية لم تحترم مبدأ الشرعية، انطلاقا من ذلك عملت الدول المشاركة في مؤتمر روما على أن تضمن بنود هذا النظام نصوصا تبلور عدالة جنائية دولية صارمة.
ومما لا اختلاف فيه أن مأسسة القضاء الجنائي الدولي سوف يأتي كمحصلة لمجموعة من التجارب التي تجسدت في محاكم ومحاكمات مؤقتة، وقد شهدت الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أهم وأبرز هذه التجارب، بحيث أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945 شهد العالم تطورات عدة فيما يتعلق بالقضاء الجنائي الدولي، إذ تم تشكيل عدة محاكم جنائية دولية تختلف من حيث طبيعتها وإنشائها، فبعضها قد تم تشكيلها من قبل الحلفاء المنتصرين، وهي محكمة نورمبرغ سنة 1945 ومحكمة طوكيو سنة 1946، وكذلك المحاكم ألمشكله من قبل مجلس الأمن والتي تشمل محكمة يوغسلافيا السابقة سنة 1993، ومحكمة رواندا سنة 1994. لكن رغم اختلاف الجهة المنشئة لهذه المحاكم إلا انه يلاحظ على هذه المحاكم السابقة أنها محاكم مؤقتة وليست دائمة، لكنها مهدت الطريق لقضاء جنائي دولي دائم. ترتيبا عما تقدم يمكننا بسط إشكالية محورية تتمثل في ما مدى مساهمة المحاكم المؤقتة التي تم إنشاؤها بعد الحرب العالمية الثانية في الوصول إلى قضاء جنائي دائم ؟
ومحاولة منا تفكيك الإشكالية السابقة ارتأينا تناول الموضوع وفق التصميم التالي:
الفقرة الأولى: مرحلة المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة
الفقرة الثانية: مرحلة المحكمة الدولية الجنائية الدائمة
الفقرة الأولى: مرحلة المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة
بعد أن بدأت فكرة العقاب تجلب اهتمام الجماعة الدولية، شهد تاريخ المجتمع الدولي خلال الفترة بين 1919 و 1994 إنشاء خمس لجان تحقيق دولية خاصة[2]، وتطبيقات واقعية لأربع محاكم مؤقتة حدثت كلها خلال القرن العشرين، وكانت تلك أولى الخطوات التي بدأت على طريق الإنشاء الفعلي للقضاء الجنائي الدولي.
أولا: المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بنورمبرغ
بعد الحرب العالمية الثانية توالت صيحات المطالبة بقضاء جنائي دولي وزادت حدة المطالبة به سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، لمعاقبة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية حيث بدت الحاجة الملحة إلى محكمة جنائية دولية من أجل تطبيق مبادئ القانون الدولية لحماية الحياة والكرامة الإنسانية.
وبالرغم من تشكيل لجنة الأمم المتحدة لجرائم الحرب، فإن الصيحات لم تهدأ إلا بعد صدور إتفاقية لندن، التي اجتمع فيها الحلفاء من أجل محاكمة الدول المنهزمة بالحرب العالمية الثانية، حيث قدم مندوب الولايات المتحدة الأمريكية مشروع اتفاق دولي لإقامة محكمة دولية، يحاكم أمامها مجرمو الحرب التابعون لدول المحور الأوروبي، ومشروع آخر يتضمن الأفعال التي تعد جرائم دولية معاقب عليها.
ثم تقدم مندوب الإتحاد السوفيتي بمشروع إتفاق دولي بهذا الخصوص، ألحق به مشروع المحكمة العسكرية الدولية. وحذا الوفدين البريطاني والفرنسي حذو الوفدين السابقين، فقدم كل منهما مشروعا بهذا الخصوص.
ودار النقاش في مؤتمر لندن حول المشاريع، وانتهى المطاف بهم في التوقيع على إتفاق خاص بمحاكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية التابعين للمحور الأوروبي، وعلى ميثاق خاص بنظام محكمة عسكرية دولية، وكان ذلك في 8 غشت 1945 وعلى أثر هذين الاتفاقين تم تشكيل محكمة جنائية عسكرية دولية في نورمبرغ لمحاكمة كبار مجرمي الحرب بالمحور الأوروبي[3].
وقد تضمنت مجموعة من المواد تحكم نظام العمل فيها إضافة إلى لائحة ملحقة بها، حيث حددت هذه الأخيرة إختصاص المحكمة في المادة 6 إلى المادة 13، المتمثل في كل من لإختصاص الشخصي الذي تحكمه كبار مجرمي الحرب من دول المحور، وكذلك عدم الإعتداد بالصفة الرسمية للمتهم على مسؤوليته الجنائية، كما أشارت المادة السادسة إلى الإختصاص الموضوعي للمحكمة كما أضافت هذه المادة أنه لا يوجد في هذه الإتفاقية أي نص من شأنه أن يسئ إلى سلطة أو إختصاص المحاكم الوطنية أو محاكم الإحتلال، وهذا يعتبر إعترافا صريحا بأصالة الإختصاص القضائي الوطني في الجرائم التي تدخل ضمن إختصاص المحكمة، كما يعتبر كدليل واضح لإعمال مبدأ التكامل[4]، كما نصت المواد ( 10 و 12) من نظام هذه المحكمة على الإختصاص الأولي للمحاكم الوطنية.
ثانيا: المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بطوكيو
أنشأت المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى والمعروفة بمحكمة طوكيو، بعد توقيع اليابان وثيقة إستسلامها في 02/ 09/ 1945 وتسلم دول الحلفاء السلطة، بناءا على تصريح أصدره الجنرال ماك آرثر ( الأمريكي) بتاريخ 19 ـ 01 ـ 1946 لمحاكمة مجرمي الحرب الكبار اليابانيين عن الفظائع والمجازر التي ارتكبت قبلهم ولم تكن المحكمة وليدة معاهدة دولية بل كانت اتفاق دولي بين الدول المنتصرة مقارنة بمحكمة نورمبرغ، ويرجع ذلك إلى العديد من الإعتبارات السياسية ذات الصلة بالموضوع أولها إن الإتحاد السوفياتي دخل الحرب ضد اليابان التي هزمت بعدها بأسابيع قليلة مما أثار قلق الولايات المتحدة الأمريكية من مطامع السوفيتي في الشرق الأقصى، فضلا عن رغبة الولايات المتحدة في منع أي تأثير للإتحاد السوفياتي على هذه الإجراءات وما يجب الإشارة إليه هنا هو أن محكمة طوكيو لا تختلف عن محكمة نورمبرغ سواء من حيث التكوين أو الإختصاص[5]، ولا من حيث الإجراءات، مع وجود بعض الإختلافات مثل اعتبار الصفة للمتهم ظرفا مخففا للمتهمين وذلك من خلال المادة السابعة من لائحة طوكيو، كما أن الإعتراف باختصاص القضاء الوطني اختصاص أولي يدل على تكريس مبدأ التكامل في محكمة طوكيو على غرار محكمة نورمبورغ[6].
مع انتهاء المهام الموكولة إلى محكمتي نورمبرغ وطوكيو، ومن جراء الأحداث البشعة التي إرتكبت في كلا من يوغسلافيا سابقا وروندا، ونظرا لغياب آلية قضائية دولية لمعاقبة مرتكبي هذه الأحداث، دفع بمجلس الأمن إلى إصدار قراراين أنشأ بموجبهما محكمتين جنائيتين دوليتين لمعاقبة مرتكبي هذه الجرائم.
ثالثا: المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا
بدأت الأزمة اليوغسلافية عندما استولى الصرب على شؤون الحكم في البلاد، و قاموا بعمليات إبادة و تطهيرعرقي بصورة كبيرة ضد المسلمين و الكروات وأمام هذه الانتهاكات والاعتداءات التي ارتكبت ضد المسلمين ونتيجة لضغط الرأي العام الدولي الذي أصابه الهلع والذعر مما بتته وتناقلته وسائل الإعلام العالمية من ممارسات لا إنسانية لا أخلاقية بحق المسلمين في البوسنة و الهرسك، وجدت هيئة الأمم المتحدة نفسها مجبرة على التدخل في هذا النزاع[7]، وهو ما تم بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة بقرار من مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وبطلب من فرنسا وهو القرار رقم 808 بتاريخ 22 ـ 02 ـ 1993، الذي ينص على إنشاء محكمة جنائية دولية في يوغسلافيا السابقة وحدد مقرها بلاهاي ـ هولاندا وكلف الأمين العام لأمم المتحدة بإعداد نظامها[8].
وتختص المحكمة المذكورة بمقاضاة كبار المسؤولين عن الإنتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني المرتكبة في إقليم يوغسلافيا السابقة، وذلك اعتبارا من 01 ـ 01 ـ 1991، ودون قيد زمني على انتهاء عملها”[9].
وبالرجوع إلى النظام الأساسي لهذه لمحكمة نجد أن ( المادة 8) تنص على أن المحكمة تختص في الجرائم التي حدثت منذ 1 يناير 1993 إلى غاية إصدار مجلس الأمن لقرار إنهاء عمل المحكمة، أما الإختصاص المكاني للمحكمة فيتحدد بإقليم يوغسلافيا سابقا التي وقعت عليها تلك الجرائم، وقد أقرت ( المادة 7) مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية بحيث تختص بمتابعة الأشخاص الطبيعيين المسؤولين عن الإنتهاكات الجسيمة لللقانون الدولي، أما عن إختصاص المحكمة الموضوعي، فقد نص النظام الأساسي للمحكمة، نجد أنها تنظر في الإنتهاكات الجسيمة، حيث نصت المواد ( 1- 2- 3 – 4 – 5 ) على جموعة الجرائم التي تختص المحكمة بالنظر فيها وهي: جرائم الحرب، جريمة الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، وبموجب ( المادة 9 ) من النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا قد منحت المحكمة الإختصاص الأصيل بالنظر في الجرائم سابقة الذكر لنفسها، بمعنى أنه تنعقد لها الأولوية بالنظر في الجرائم، فإذا كانت الدعوى تجري أمام المحاكم الوطنية يجوز في أي وقت أن تطلب من المحكمة الوطنية أن تتنازل عن النظر في تلك الدعوى وإحالتها وفق الإجراءات المنصوص عليها في القانون الأساسي للمحكمة، وقد منحت لها هذه الأولوية خشية تواطؤ المحاكم الوطنية مع المجرمين وتكرار ما حدث في محاكمات الحرب العالمية الأولى وبالخصوص محاكمة ليبزج[10].
رابعا: المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بروندا
بعد سنة من إنشاء مجلس الأمن للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، نشب في روندا نزاع غذته عدة أسباب مختلفة[11]، حيث تعود جدوره إلى عدم سماح قبيلة “الهوتو” التي كانت تتولى الحكم حينها لكل القبائل في المشاركة في نظام الحكم وبصفة خاصة قبائل “التوتسي”[12].
وقد تأثر الأمن في روندا بسبب هذا النزاع المسلح وأمتد تأثيره إلى الدول الإفريقية المجاورة، وبذلت جهود دولية لأجل وقف القتال في المنطقة إلا أن القتال استمر واشتعلت المعارك هناك وارتكبت أبشع المجازر والمذابح بأبناء قبيلة التوتسي، حيث كان القتلة يجمعونهم بالآلاف داخل الكنائس والمدارس والمستشفيات والمباني الحكومية، بحجة حمايتهم، ومن ثم يتم ذبحهم والقضاء عليهم بالجملة، دونما تمييز بين الأطفال والنساء والشيوخ، وقد راح ضحية هذه المجازر أكثر من مليون شخص.
مما تصاعدت معه المجتمع الدولي بضرورة التدخل لوقف نزيف الدماء المرتكبة من قبل
” الهوتو” بحق التوتسي فما كان من مجلس الأمن الدولي إلا أن يستجيب لهذا النداء؛ بحث أصدر عددا من القرارات التي كان من أهمها القرار رقم 780 ( المؤرخ في 27 ـ 05 ـ 1994) والمتضمن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية لروندا، والقرار رقم 955 ( المؤرخ بتاريخ 8 ـ 11 ـ 1994) والمتضمن نظامها الأساسي[13]. ولقد استنذ مجلس الأمن في إصدار القرار الأخير إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وبالرغم من أن هذه المحاكم قد أرست العديد من مبادئ القانون الدولي الجنائي، وعلى رأسها إقرار مبدأ مسؤولية الفرد عن الجرائم الدولية وعدم الاعتداد بالصفة الرسمية لرؤساء الدول وكبار المسؤولين فيها، إلا أنها جسدت محاكمة المنتصر للمهزوم، وما تنطوي عليه من ملامح الانتقام ورد الفعل، أكثر من كونها ساهمت في تحقيق السلم والعدالة، ومن ناحية أخرى فقد تميزت تلك المحاكم بالصفة المؤقتة وبالتالي فهي لم تشكل ضمانة حقيقية و فعالة لوقف ارتكاب جرائم أخرى مستقبلا.
وانطلاقا من هذه النقاط ظهرت ضرورة تدعو للخروج بالقضاء الدولي الجنائي من القضاء المؤقت الذي تم انتقاده بشدة كونه يخفي سياسة القوى العظمى، إلى القضاء الدائم، ومن عدالة الغالب على المغلوب، إلى عدالة حقيقية ممثلة في عدالة المظلوم، قائمة على مجموعة من القواعد والمبادئ التي تمكن من تحقيق عدالة جنائية دولية.
الفقرة الثانية: مرحلة المحكمة الدولية الجنائية الدائمة
لقد جاء تأسيس المحكمة الجنائية الدولية كضرورة علمية لتجاوز حالات القصور التي أبانت عنها التجارب الدولية السابقة[14]، وكذلك لتجاوز مرحلة المحاكم المؤقتة التي أبانت عن مجموعة من الإشكالات التي أثرت سلبا عن تحقيق العدالة الجنائية الدولية، خصوصا في ظرفية زمنية عرفت أكثر الحروب دمارا في تاريخ البشرية.
أولا: مؤتمر روما وولادة النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
وفي سنة 1994عرض مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي أعدته لجنة القانون الدولي، على الجمعية العامة في دورتها 49، حيث أصدرت هذه الأخيرة قرارها 53/49 المؤرخ في 09 دجنبر 1994 بإنشاء لجنة مخصصة لكي تستعرض القضايا الرئيسية الفنية والإدارية الناشئة عن مشروع النظام الأساسي للجنة القانون الدولي ولتنظر في ضوء ذلك في أمر الترتيبات اللازمة لعقد مؤتمر دولي للمفوضين، حيث اجتمعت هذه الأخيرة وقدمت للجمعية العامة التدابير الواجب اتخاذها حول المسائل المطروحة، ونظرت في الترتيبات اللازمة لعقد مؤتمر دولي للمفوضين، وبعد ذلك أنشأت الجمعية العامة في 01 دجنبر 1995 لجنة تحضيرية بموجب اللائحة 46/50 لدراسة مشروع لجنة القانون الدولي، والقيام بصياغة نصوص الاتفاقية، وقدمت اللجنة التحضيرية تقريرها للدورة 51 للجمعية العامة، وكان يوصي بتمديد عهدة اللجنة التحضيرية حتى تتمكن من مناقشة المقترحات من أجل إعداد نص موحد ومقبول لاتفاقية بشأن محكمة جنائية دولية.
وقررت الجمعية العامة في قرارها 207/51 ل 17 ديسمبر ،1996 بأن تجتمع اللجنة التحضيرية في عامي1997و1998 من أجل إتمام صياغة نص النظام الأساسي قبل أبريل 1998 لتقديمه لمؤتمر المفوضين، واجتمعت اللجنة التحضيرية ثلاثة مرات في سنة 1997 وكان من المقرر أن تعقد الدورة الأخيرة للجنة التحضيرية من 16 مارس إلى 03 أبريل 1998 واستطاعت في اجتماعها المنعقد بين 01 مارس إلى غاية 03 أبريل1998، استكمال تحرير مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي سيكون محل نقاش في مؤتمر روما الدبلوماسي، والمشروع هذا عبارة عن نص يتكون من 173 صفحة و 116 مادة وكان يشمل على 1300 كلمة موضوعة بين قوسين[15].
وفي مقر الأمم المتحدة للأغذية والزراعة إنعقد مؤتمر روما، خلال الفترة من 15 يونيو إلى 17 يوليوز 1998[16]، وذلك بناء على توصية من الجمعية العامة للأمم المتحدة[17]، وقد شاركت في المؤتمر وفود 160 دولة و16 منظمة دولية بين الحكومات و 238 منظمة غير حكومية [18]، وانبثق عن هذا المؤتمر تنظيميا، مكتب المؤتمر الذي ضم الرئيس ونوابه واللجنة الجامعة، ولجنة الصياغة، وممثل الأمين العام للأمم المتحدة في المؤتمر ووكيله السيد ” هانز كوريل”.
وعرض على المؤتمر نتائج أعمال اللجنة التحضيرية المتمثلة في مشروع النظام الأساسي للمحكمة، وعهد المؤتمر إلى اللجنة الجامعة النظر في مشروع النظام الأساسي، كما كلف لجنة الصياغة القيام من دون إعادة فتح باب المناقشة الموضوعية بشأن أية مسألة بتنسيق وصياغة جميع النصوص المحالة إليها دون تعديل جوهرها [19].
ونتيجة لتعقد المشروع المطروح على الوفود وأهمية مواضيع المؤتمر المستقبلية على الدول وكذا طبيعة المناقشات، التي يمكن أن تأجل اعتماد النظام الأساسي لتاريخ آخر، لاسيما الجزء الثاني من النظام الأساسي المتعلق بتعريف الجرائم واختصاص المحكمة ودور المدعي العام ومجلس الأمن، الأمر الذي كان يتطلب إرساء حلول توفيقية، فتدخل رئيس اللجنة الجامعة السيد ” فليب كيرش” على الساعة الثانية من صباح يوم 18 ـ 07 ـ 1998 حيث تقدم بنص مقترح، بشأن الجزء الثاني من النظام الأساسي بالإعتماد على صفقة تقرها الوفود إما بالقبول أو الرفض، وهذا قصد الإنتهاء من أعمال المؤتمر.
عقب ذلك، إجتمعت اللجنة الجامعة، وتبنت المقترح في مساء ذلك اليوم، وأدرجت نصوص الجزء الثاني مع باقي أحكام النظام الأساسي للتصويت على كامل المشروع في الجلسة الأخيرة. وعند عقد الجلسة الأخيرة للمؤتمر، طلبت الولايات المتحدة لأمريكية إجراء تصويت على المشروع فصوت 120 وفدا لصالح تبني النظام الأساسي للمحكمة. في حين رفضت 7 وفود[20] هذا المشروع، وامتنع 12 وفدا عن التصويت.
وبذلك تم اعتماد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة الذي تضمن ديباجة مشكلة من 12 فقرة تليها 128 مادة موزعة على 13 باب، كما اتخذ مؤتمر روما، عدة قرارات بعد إعتماد لنظام الأساسي، أدرجت في الوثيقة الختامية للمؤتمر، ونتطرق إلى القرارين الأكثر أهمية وهما:
القرار ” هاء”: و الذي أشار إلى أن الأفعال الإرهابية وجرائم المخدرات هي جرائم خطيرة تثير قلق المجتمع الدولي، ويعرب عن أسفه لعدم تمكنه من تعريف عام مقبول لهذه الجرائم، ويوصي بأن يقوم المؤتمر الإستعراضي عملا بالمادة 123 من النظام الأساسي[21] بالنظر في هذه الجرائم بقصد تعريفها ضمن الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة.
القرار ” واو”: من الوثيقة الختامية، والذي تضمن إنشاء لجنة تحضيرية تتكون من ممثلي الدول التي وقعت الوثيقة الختامية لمؤتمر روما، والدول الأخرى المدعوة للمؤتمر، حيث منح المؤتمر هذه اللجنة التحضيرية، ولاية إعداد مقترحات، بشأن الترتيبات العملية لإنشاء المحكمة ودخولها مرحلة العمل[22]، بما في ذلك إعداد مشاريع نصوص ما يلي:
أ ـ القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات.
ب ـ أركان الجرائم.
ج ـ إتفاق بشأن العلاقة بين المحكمة والأمم المتحدة.
د ـ المبادئ الأساسية المنظمة لتفاق المقر يبرم عن طريق التفاوض بين المحكمة والبلد المضيف.
ه ـ النظام المالي والقواعد المالية واتفاق بشأن امتيازات وحصانات المحكمة.
ز ـ ميزانية السنة الأولى.
ح ـ النظام الداخلي لجمعية الدول الأطراف.
أما بالنسبة لجريمة العدوان، فقد قبلت اللجنة التحضيرية، على أن يتضمن تقريرها ورقة مناقشة، تتعلق بمفهوم جريمة العدوان وتحديد أركانها والتي وردت فعلا في الوثيقة التي أعدها منسق فريق العمل المعني بجريمة العدوان في الدورة العاشرة وتمت إحالة هذه الورقة إلى جمعية الدول الأطراف، مع قائمة بكل المقترحات بشأن جريمة العدوان الصادرة عم اللجنة التحضيرية، وهذا رفقة الإستعراض التاريخي للتطورات المتعلقة بجريمة العدوان.
ثانيا: نفاذ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
لقد فتح باب التوقيع على النظام الأساسي أمام جميع الدول في روما، بمقر منظمة التغذية والزراعة الدولية في 17 يوليوز 1998، ووظل التوقيع مفتوحا بعد ذلك في وزارة الخارجية الإيطالية حتى 17 أكتوبر 1998، وبعد هذا التاريخ، بقي باب التوقيع مفتوحا في نيويورك، بمقر الأمم المتحدة حتى 31 شتنبر 2000، وتودع صكوك التصديق أو القبول أو الموافقة أو الإنضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة، كما يفتح باب الإنضمام إلى النظام الأساسي أمام جميع الدول.
ويبدأ نفاذ النظام الأساسي بموجب المادة 126 منه[23]، في اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين من تاريخ إيداع الصك الستين للتصديق أو القبول أو الموافقة أو الإنضمام لدى الأمين لعام للأمم المتحدة.
وبالنسبة للدول التي تصادق أو تقبل أو تنضم إلى النظام الأساسي بعد إيداع الصك الستين للتصديق، يبدأ نفاذ النظام الأساسي من اليوم الأول من الشهر الذي يلي اليوم الستين من تاريخ إيداع الدولة لصك التصديق أو القبول أو الإنضمام أو الموافقة، كما تجدر الإشارة أن المادة 120 من النظام الأساسي، تنص على عدم جواز إبداء أية تحفظات على هذا النظام.
وكانت السينغال أول دولة تصادق على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في 9 فبراير 1999، كانت عملية التصديق بطيئة جدا في البداية، إلى 11 أبريل سنة 2002، يوم استفاء التصديقات الستين والواقع أن التأخير في التصديقات راجع إلى تخوف بعض الدول من الإقدام على هذه الخطوة، أما الجانب الآخر فيكمن في كون العديد من الدول قامت بالتغيرات اللازمة في قوانينها قبل التصديق على المعاهدة رسميا من نظام روما الأساسي[24].
ولقد دخل نظام روما الأساسي حيز التنفيذ في الأول من يوليوز 2002، وبذلك استجمعت المحكمة الشرائط المطلوبة لمباشرة عملها على الصعيد الدولي، حيث يعتبر التاريخ المذكور آنفا منطلقا للمحكمة نحو مباشرة اختصاصتها وفق ما خصص لها من أهداف، ووفق ما يقضي به القانون العام من سريان المعاهدات بين الدول[25].
ولقد حدد المادة 126 المشار إليها، تاريخ بدء نفاد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة وهو اليوم الذي يعقب الستين يوما على انضمام الدولة الستين إلى النظام الأساسي، وبمقتضى المعلومات المنشورة في موقع المحكمة الجنائية الدولية الدائمة على الشبكة الدولية لللمعلومات في شهر يناير 2009، فقد بلغ عدد الدول الأطراف في النظام الأساسي 108 دولة.
ومن المعروف أن الإنضمام إلى الإتفاقيات الدولية هو عمل يدخل في نطاق سيادة الدول، تبعا لذلك لا يمكن توجيه اللوم لأية دولة في حالة امتناعها عن الإنضمام إلى أية اتفاقية دولية.إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية، عقب انسحابها من التوقيع على نظام روما بتاريخ 13 ـ 05 ـ 2002، تمكنت بموجب عضويتها الدائمة في مجلس الأمن وهيمنتها على قراراته، من استخدام المجلس كذريعة لعدم ملاحقة العسكريين الأمريكيين العاملين في قوات حفظ السلام الدولية بداعي أنها ليس طرفا في النظام الأساسي وهذا الأمر يمس استقلالية المحكمة[26].
مما سبق يتضح أن ميلاد قضاء جنائي دولي لم يكن بالأمر السهل، بل كان عسيرا بسبب المواقف السياسية المتباينة للدول المجتمعة، وكذلك النظم القانونية المختلفة لتلك الدول، ولقد كان لهذا التباين والإختلافات بصمات واضحة على نصوص وأحكام هذا النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة والتي سنقف عن أبرزها.
لكن رغم ذلك فقد نحج مؤتمر روما الدبلوماسي في إقرار نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية دائمة، واستطاع تجاوز مرحلة المحاكم المؤقتة ذات الأثر الرجعي، وبموجب هذا النظام تم تكريس؛ ولأول مرة في تاريخ البشرية نظام قضائي دائم للمسائلة الجنائية الدولية عن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان زمن النزاعات المسلحة، التي عاشها العالم خاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبذلك تم تحقيق ذلك الحلم الذي راود مخيلية البشرية.
الخاتمة:
مما لا شك فيه أن المحاكم الجنائية المؤقتة كان لها الفضل الكبير في بلورة أسس ومبادئ القضاء الجنائي الدولي الدائم، حيث أن المحاكم المؤقتة مهدت لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية كهيئة قضائية دولية دائمة التي يحكمها نظام روما الأساسي، إذ شكلت المرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية منعطفا حاسما في الوصول إلى محكمة جنائية دولية دائمة.
[1] ـ محمد الشبلي العتوم، إتفاقية الحصانة ـ دراسة للإشكاليات القانونية لإتفاقيات الحصانة التي أبرمتها الولايات المتحدة مع بعض الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، دار وائل للنشر، الطبعة الأولى 2013، ص 9.
[2] ـ خلال الفترة الواقعة بين 1919 و 1994 تم إنشاء خمس لجان تحقيق دولية خاصة وهي:
- لجنة عام 1919 لتحديد مسؤوليات مبتدئي الحرب وتنفيذ العقوبات؛
- لجنة الأمم المتحدة لجرائم الحرب 1943؛
- لجنة الشرق الأقصى؛
- لجنة الخبراء لتقصي جرائم الحرب في يوغسلافيا السابق؛
- لجنة الخبراء لروندا 1994.
[3] ـ رمضان ناصر طه، مبدأ استقلال القضاء في القانون الدولي الجنائي، دار الكتب القانونية ـ دار شتات للنشر والبرمجيات، مصر ـ الإمارات، سنة النشر 2015، ص 125ـ 126.
[4] ـ طيب شريف سعيدة، يحياوي ربيحة، مبدأ الإختصاص التكميلي للمحكمة الجنائية الدولية، مدكرة لنيل شهادة الماسترر في القانون العام، تخصص القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة عبد الرحمان ميرة، بجاية، الجزائر، 2013، ص 11.
[5] ـ رمضان ناصر طه، المرجع السابق، ص 134.
[6] ـ طيب شريف سعيدة، يحياوي ربيحة، المرجع السابق، ص 12.
[7] ـ علي يوسف الشكري، القضاء الجنائي الدولي في عالم متغير، دار الثقافة، الطبعة الأولى 2008،عمان الأردن، ص 82.
[8] ـ ” … وقد انطلقت مهامها فعليا في شهر شتنبر 1994، بعد تعيين المدعي العام من قبل مجلس الأمن القاضي غولوستون من جنوب إفريقيا، وأما قضاتها فانتخبوا في شهر ماي 1995 من قبل الجمعية العامة، وعين القاضي الإيطالي أنطونيو كاسياس رئيسا لها.
[9] ـ عجمي بشيت عبد الحسن الركابي، الإعتداد بالحصانة الدبلوماسية أمام القضاء الجنائي الدولي، ماجستر في القانون الدولي العام، دار العلوم العربية، بيروت ـ لبنان، ص 101.
[10]ـ يوسف بورجيوة، عبد السلام خرف الله، مبدأ التكامل بين مقتضيات السيادة الوطنية والعدالة الجنائية الدولية،مذكرة لنيل شهادة الماستر في الحقوق شعبة القانون العام، تخصص القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، السنة الجامعية 2013 ـ 2014، ص 54.
[11]ـ الخشن محمد عبد المطلب، الوضع القانوني لرئيس الدولة في القانون الدولي العام، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2005، ص328.
[12]ـ عجمي بشيت عبد الحسن الركابي، المرجع السابق، ص 104.
[13] ـ حسن عبد اللطيف سعيد، المحكمة الجنائية الدولية، دار النهضة العربية ـ القاهرة، مصر، 2004، ص 381.
[14]ـ أحمد الحميدي، الحاجة إلى المحكمة الجنائية الدولية في ظل الوضع الدولي الراهن، ” اللقاء التشاوري العربي الإقليمي حول المحكمة الجنائية الدولية، صنعاء: منتدى الشقائق العربي لحقوق الإنسان، الطبعة الأولى، 2005، ص 43.
[15] –Cherif Bassiouni, « Etude historique 1919 – 1998 » in CPI R atification Nationale D’ application, Nouvelles études pénales, Publié par l’ association international de droit pénal, Vol 13 quater, Edition ERES 1999, p 30.
[16] ـ بوهراوة رفيق، اختصاص المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، مذكرة مقدمة لنيل شهادة ماجستير في القانون العام ـ فرع القانون والقضاء الجنائي الدوليين، جامعة الإخوة منتوري، قسنطينة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، السنة الجامعية 2009 ـ 2010، ص 26.
[17] ـ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 51/ 207 الصادر في 16 دجنبر 1996.
[18] ـ رمضان ناصر طه المرجع السابق، ص 155.
[19] ـ فتوح عبد الله الشاذلي، القانون الدولي الجنائي، دار المطبوعات الجامعية، دون رقم الطبعة، مصر، 2001، ص 152 ـ 153.
[20] ـ الدول السبعة التي اعترضت على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هي: ( الولايات المتحدة الأمريكية – إسرائيل – الصين – الهند – العراق – ليبيا – قطر )
[21] ـ بالرجوع إلى نظام روما نجد على المادة 123 تنص على :
“1ـ بعد انقضاء سبع سنوات على بدء نفاذ هذا النظام يعقد الأمين العام للأمم المتحدة مؤتمرا استعراضيا للدول الأطراف للنظر في أية تعديلات على هذا النظام، ويجوز أن يششمل الإستعراض قائمة الجرائم الواردة في المادة 5 دون أن يقتصر عليها ويكون هذا المؤتمر مفتوحا للمشاركين في جمعية الدول الأطراف وبنفس الشروط.
2 ـ يكون على الأمين العام للأمم المتحدة، في أي وقت تال، أن يعقد مؤتمرا استعراضيا بموافقة أغلبية الدول الأطراف، وذلك بناء على طلب أي دولة و للأغراض المحددة في الفقرة 1.
3 ـ تسري أحكام الفقرات 3 إلى 7 من المادة 121 على اعتماد وبدء نفاذ أي تعديل للنظام الأساسي ينظر فيه خلال مؤتمر استعراضي.”
[22]ـ محمود شريف بسيوني، المحكمة الجنائية الدولية ” مدخل لدراسة أحكام وآليات الإنفاذ الوطني للنظام لأساسي”، دار الشروق، الطبعة الأولى، مصر، 2004، ص 127.
[23] ـ تنص المادة 126 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة على :
“1 ـ يبدأ نفاذ هذا النظام الساسي في اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين من تاريخ إيداع الصك للتصديق أو القبول أو الموافقة أو الإنضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة.
2 ـ بالنسبة لكل دولة تصادق على النظام أو تقبله أو توافق عليه أو تنضم إليه بعد إيداع الصك الستين للتصديق أو القبول أو الموافقة أو الإنضمام، يبدأ نفاذ النظام الأساسي في اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين من تاريخ إيداع تلك الدولة صك تصديقها أو قبولها أو موافقتها أو انضمامها”.
[24] ـ عبد السلام دحماني، التحديات الراهنة للمحكمة الجنائية الدولية في ظل هيمنة مجلس الأمن الدولي، أطروحة لنيل شهادة دكتوراه، جامعة مولود معمري ـ تيزي وزو، الجزائر، تاريخ المناقشة 08 / 05 / 2012، ص 45.
[25] ـ عجمي بشيت عبد الحسن الركابي، المرجع السابق، ص 125.
[26] ـ بوهراوة رفيق، المرجع السابق، ص 29.