في الواجهةمقالات قانونية

سقوط الحق فيما يتعلق بالمصاريف القضائية في الميدان الجنائي

سقوط الحق فيما يتعلق بالمصاريف القضائية في الميدان الجنائي

عبد العزيز المساوي

إطار بوزارة العدل

 

لعل جل القوانين الوضعية تسن “التقادم” كنظام قانوني، ينبني أساسا على الانتهاء الزمني الذي بسببه تتحول الوضعية القانونية من سارية إلى مستقرة ونهائية. ليكون هذا الانقضاء الزمني في التقادم هو القاسم المشترك على سبيل المثال بين سقوط حق الدائن في المادة المدنية وسقوط حق النيابة العامة في تحريك المتابعة الجنائية.

  وحديثنا هنا سيقتصر على قراءة بعض النصوص القانونية  المؤطرة وتداخلاتها أساسا في محاولة لفهم التقادم المسقط للحق في مجال المصاريف القضائية في الميدان الجنائي. فالنص القانوني الجامد لا تحركه إلا القراءات التي قد تخطئ وقد تصيب متحرية قصد المشرع.

وبداية نشير أن فهم تقادم المصاريف القضائية في الميدان الجنائي إلا من خلال تكامل المادتين 43 و52 من القانون 23.86 المنظم لها (قانون المصاريف القضائية في الميدان الجنائي”ق م ق م ج”).

جاء في المادة 43: “لا يمكن أن تُؤَدَّى مبالغ بيانات المصاريف التي لم تقدم إلى القاضي لتقديرها في أجل سنة يبتدئ من التاريخ المنجزة فيه المصاريف أوالتي لم يطالب بأدائها خلال الستة أشهر التالية لتاريخ الأمر بتنفيذها إلا إذا ثبت أن التأخير غير ناشئ عن تقصير المستحق.

ولوزير العدل وحده قبول هذا الإثبات مع مراعاة الأحكام المتعلقة بسقوط الحق بمضي أربع سنوات”.

من خلال مقتضيات هذا النص يتبين أن بيانات المصاريف يجب أن تقدم للقاضي الطالب لتقديرها حسب مقتضيات الفقرة الأولى من المادة 37 (ق م ق م ج) وذلك بعد التأشير عليها من طرف قاضي النيابة العامة لدى المحكمة المختصة الذي يتأكد من صحتها في أجل سنة يبتدئ من التاريخ المنجزة فيه المصاريف كما سنبين ذلك – ونفرق هنا بين تاريخ إنجاز المصاريف وتاريخ إنجاز الخبرة التي يترتب عليها استحقاق المصاريف-.

نقف عند هذا الأجل الأول “أجل سنة” لمزيد من التوضيح، فقد يرى الخازن المأمور بتنفيذ الأداء يومًا أن التاريخ المنجزة فيه المصاريف هو تاريخ إنجاز الخبرة، فيرفض بناءا على ذلك صرف كل المصاريف المبنية على بياناتٍ تاريخُ الخبرةِ المنجزةِ فيه تجاوزَ السنة، بل يطالب المستفيد والمستحق بإرجاع المبالغ المتوصل بها كما يحدث مع بعض الخبراء. ليكون ما رآه الخازن في مثل هذه الحالة أحيانا مبني على اعتباره التاريخ المنجزة فيه المصاريف هو تاريخ إنجاز الخبرة، وقد يكون هذا التأويل صحيحا لولا وجود المادة 52 (ق م ق م ج) التي نصت على أنه: “تتقادم مصاريف القضاء الجنائي بمضي 15 سنة”.

ليتبين أن قصد المشرع من التاريخ المنجزة فيه المصاريف ليس هو تاريخ إنجاز الخبرة الذي بمضي 15 سنة عليه تتقادم مصاريف القضاء الجنائي (المادة 52)، بل هو تاريخ تأشير قاضي النيابة العامة على صحة نسخ بيان المصاريف بعد تأكده من صحتها وإنجاز الملتمس (حسب المادة 37 ق م ق م ج) إذ هو التاريخ الذي ببدايته يحتسب أجل السنة المشار إليه في المادة  43 (ق م ق م ج) والذي يجب أن تقدم داخله البيانات للقاضي الطالب لتقديرها حسب نفس المقتضيات التي تمنع أيضا من أداء مبالغ بيانات المصاريف والتي لم يطالب بأدائها خلال الستة أشهر التالية لتاريخ الأمر بتنفيذها.

أجل الستة أشهر هذا، يبتدئ من تاريخ توقيع الصيغة التنفيذية التي يذيل بها المصاريف رئيس المحكمة (بصفته آمرا بالصرف) أوالقاضي الذي فوض إليه ذلك حسب مقتضيات الفقرة الثانية من المادة 37 المشار إليها، هذا الأجل الذي يجب أن يطلب فيه المستحق الأداء تحت طائلة الرفض، ما لم يكن التأخير إداريا وغير ناشئ عن تقصيره، وحق إثبات هذا يبقى لوزير العدل وحده حسب مقتضيات الفقرة الثانية من المادة 43، ليسقط هذا الحق نهئيا بمضي أربع سنوات حسب الفقرة ذاتها بعد بداية التأخير، أي بانتهاء الستة أشهر على تاريخ الأمر بالتنفيذ، ليسقط بالتالي حق المستحق من نيل مستحقاته إذا مضت أربع سنوات وستة أشهر على تاريخ الأمر بالتنفيذ مالم ينفي داخل هذه المدة تحديدا وزير العدل كون التأخير ناتج عن تقصير المستحق.

ليبقى أمام المستحق حق الطعن في قيمة المبلغ الذي قدره القاضي الطالب أوالذي ذيله رئيس المحكمة كآمر بالصرف أو من فوض إليه ذلك بالصيغة التنفيذية، كما يمكنه الطعن في نص الحكم المتعلق بتصفية المصاريف، وهذا ما ينقلنا إلى مقتضيات المادة 44 (ق م ق م ج) التي تمنح هذا الحق للمستحق بتقديمه إلى غرفة الجنح  بمحكمة الاستئناف التي تسري متابعة القضية في دائرتها، و ذلك خلال أجل 10 أيام تبتدئ من يوم تبليغ التقدير على الطريق الإداري ودون مصاريف.

أما إذا تعلق الأمر بالنزاع في المبلغ المقدر لعمل من أعمال الخبرة في الميدان الجنائي وقدم الطعن المحكوم عليه بأداء المصاريف وكان الحكم المتضمن لأداء المصاريف قابلا للاستئناف فيجب رفعه إلى محكمة الاستئناف داخل الآجال العادية لقبوله ولو لم يكن متعلقا بجانب من من جوانب الموضوع، أما إن لم يكن قابلا للاستئناف فيرفع الطعن إلى غرفة الجنح بمحكمة الاسئناف كما أشرنا.

وتجدر الإشارة إلى كون مقتضيات الفقرة الأخيرة من المادة 44 (ق م ق م ج) تخول للمستحق حق الطعن بالنقض في جميع الحالات.

 هذا، ولمزيد من التوضيح فيما يتعلق بالتقادم أوسقوط الحق في الاستفادة من نيل مستحقات المصاريف القضائية في الميدان الجنائي ندرج المثال التالي متمنين إيفاءه بغرض التبسيط (تحديد التواريخ إجراء مساعد):

فالنيابة العامة مثلا إن هي طلبت خبرة في الميدان الجنائي أوأمرت بها المحكمة في تاريخ أول، لينجزها الخبير فيؤرخها في تاريخ ثان، ويعيدها إلى الجهة التي أمرت بها في الآجال الذي حددته في تاريخ ثالث، كما يمكن أن تتوصل النيابة العامة التي أمرت بها أوالتي لدى المحكمة الآمرة بثلات نسخ من بيانات المصاريف ومعها نسخة الخبرة المنجزة في تاريخ رابع، لتتأكد منها هذه الأخيرة وتؤشرعلى صحتها في تاريخ خامس، وتقدمها هي الأخرى إلى القاضي الطالب لإنجاز الخبرة، ليقدر بدوره المبلغ المستحق وفقا للتعريفة المعمول بها مع اعتبار وجهة نظره الشخصية إذا ظهر له أن القدر المطلوب مبالغ فيه، وأن من الواجب تخفيضه طبقا لمقتضيات الفقرة الأولى من المادة 37 المشار إليها، وذلك في تاريخ سادس، ومنه حسب الفقرة الثانية من ذات المادة يذيلها رئيس المحكمة أومن فوض له ذلك بالصيغة التنفيذية في تاريخ سابع. ففي مثل هذه الحالة، ماهي الآجال التي تحكم التقادم في هذه الحالة أوسقوط الحق لتسلم المصاريف المستحقة؟

إن المصاريف تتقادم حسب مقتضيات المادة 52 بمضي 15 سنة على التاريخ الثاني (تاريخ إنجاز الخبرة وليس تاريخ إنجاز المصاريف كما هو واضح قبله والذي يوافق تاريخ ملتمس النيابة العامة بمبلغ المصاريف)، ويجب أن تقدم إلى القاضي الطالب لتقديرها داخل آجال سنة ابتداءا من التاريخ الخامس، كما يجب أن يتسلم المستحق مستحقاته قبل نهاية ستة أشهر ابتداءا من التاريخ السابع.

وكل تأخير في هذا التسلم لا يمنع من تسليم المستحقات متى أثبت وزير العدل كون سبب التأخير غير ناشئ عن تقصير المستحق وله وحده (وزير العدل) أن يثبت ذلك داخل آجال أربع سنوات تالية للستة أشهر الموالية للأمر بالتنفيذ والتي بانتهائها يسقط الحق انتهاءا.

ليبقى للمستحق حق الطعن أمام غرفة الجنح بمحكمة الاستئناف أو بالنقض كما هو مبين قبله.

هذا عن المستحق ومال وما عليه، أما المحكوم عليه بأداء المصاريف مالم تكن هذه الأخيرة من الملقاة بطبيعتها على كاهل الدولة حسب ما تبينه المادتين  3 و49 (ق م ق م ج)  حق الطعن داخل الآجال العادية للاستئناف ولولم يتعلق طعنه بأي جانب من جوانب موضوع الحكم متى كان الحكم قابلا للاستئناف، فإن لم يكن كذلك فأمام غرفة الجنح بمحكمة الاستئناف.

وهكذا يمكن ملامسة التكامل الناتج عن تداخل المواد 43 و44 و52 وكذا 37 من القانون المنظم 23.86 والضابط لمسألة التقادم أوسقوط الحق حتى يُبْلَغَ قصد المشرع.

وكذلك فكل سوء فهم من طرف أي ممارس لكيفية التقادم ومراحل سقوط الحق هذه قد تضيع به حقوق المستحقين لمصاريف القضاء الجنائي مما يجعلهم مرة أخرى يتأخرن في الإنجاز لعدم تشجيعهم بنيل المستحقات، وبذلك يضيع حق المعنيين من وافدين على القضاء طالبين إنصافا وعدلا، مما يعيق تحقيق تلك الحماية القضائية المنشودة لكل صاحب حق من خلال ما تخوله الخبرات القضائية بكل أنواعها وأصنافها كمساعدة قضائية لبناء الحكم وإنصافه.

وبالله التوفيق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى