نظام الاختبار القضائي كبديل للعقوبة السالبة للحرية.
الأستاذ مسعودي كريم
باحث في قسم الدكتوراه
كلية الحقوق جامعة سعيدة
الجزائـــر
المقدمة:
حرص المجتمع على إيجاد وسائل يستطيع بها مكافحة الظاهرة الإجرامية،لاسيما أن العقوبات السالبة للحرية لها الكثير من المساوئ،فالمجرم في المؤسسة العقابية يحتك و يندمج مع المجرمين الآخرين و الخطرين،وهذا ما ينتج عنه التعرف عن قرب و التفاهم وكذا التخطيط للارتكاب الكثير من الجرائم و إعطاء المعلومات و الاحترافية،و بالتالي المجرم سوف ينحرف أكثر بالمقارنة مع إصلاحه و تأهيله داخل السجن .
و عكف المشرع على إيجاد حلول و إعطاء فرصة للمجرم لعلى يهدى سبيله رشادا و الاندماج مرة أخرى في المجتمع دون شعوره بالنقص إزاء الآخرين لسبب ارتكابه للجريمة.
فالاتجاه السائد حاليا في قانون العقوبات، خاصة في القضاء الجنائي هو منح فرصة للمجرم لمراجعة نفسه و تقييم أداءه، فالقاضي هنا لم يعد مجرد أداة لفهم و تفسير أحكام القانون و إنما امتد عمله للبحث عن خلفية الجريمة و ظروف المحاطة بها.فمن هنا ظهرت فكرة الاختبار القضائي الذي يولي اهتمام و عناية للجناة الأقل خطورة عن طريق إيقاف عقوبتهم و إعطائهم فرصة للإصلاح خلال مدة معينة مع الرقابة من القضاء بإخضاعه للترشيد و التوجيه ثم التقييم بعد نهاية المدة المقررة. (1)
نظام الاختبار القضائي ظهر لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية في 1869 و قد أخذت به التشريعات المقارنة أثناء هذا القرن.
وقبل أن يظهر الاختبار القضائي بصورته الحالية مر على عدة أصول أولية ووسائل تتمثل أساسا في الإرجاء القضائي،التعهد القضائي،الإفراج المشروط بكفالة(2).
فالاختبار القضائي لا يعني فقط إصلاح المجرم نفسه بنفسه،بل يتعدى ذلك فهو في نفس الوقت يستفيد من التوجيهات و الإرشادات التي يقدمها المتولي للرقابة أو المشرف على فترة الاختبار القضائي،لإعادته إلى المجتمع مواطنا صالحا(3).
ومن هنا يمكن إثارة الإشكالية حول قيمة الاختبار القضائي في السياسة العقابية الحديثة،وكيفية استفادة المجرم من هذا النظام؟
المطلب الأول:مفهوم الاختبار القضائي.
اختلف الفقهاء حول إيجاد تعريف جامع و مانع للاختبار القضائي،إلا أنه تم الاتفاق على عناصره الأساسية و ميزاته عن الأنظمة الأخرى،وذلك محاولة لفهم هذا النظام عبر عناصره.
الفرع الأول:تعريف الاختبار القضائي.
الاختبار القضائي لغة بمعنى أثبت و أدلل. أما التعريف الاصطلاحي يعني الاختبار القضائي فترة التجربة و الامتحان،أي أن الشخص الخاضع لهذا النظام يمكن أن يثبت جدارته في إصلاح نفسه،و بالتالي يتفادى العقوبة السالبة للحرية(4).و الاختبار القضائي تدبير علاجي من تدابير الدفاع الاجتماعي لعلاج المجرمين القابلين للإصلاح و التقويم(5).
و قد حاول بعض الفقهاء تقديم تعريفات مختلفة منها:
_ يعتبر الاختبار القضائي نظام عقابي قوامه معاملة تستهدف التأهيل أساسا و تفترض تقييد الحرية عن طريق فرض الالتزامات و الخضوع لإشراف شخص،فإن ثبت فشله استبدل به سلب الحرية.
_ كما يعتبر الاختبار أسلوب لمعاملة بعض المجرمين المنقين انتقاء خاصا،ويتمثل في الإيقاف الشرطي للعقوبة مع وضع المجرم تحت الرقابة الشخصية و التوجيه و العلاج.
_ و الملاحظ أن كل التعريفات المقدمة متشابهة و متقاربة في عناصرها،وكل ما في الأمر أنه يجب أن تجتمع عناصر محددة في تعريف الاختبار القضائي و تتمثل أساسا في:
_ الاختبار القضائي يقوم أساسا على الإشراف و التوجيه و المتابعة.
_ الاختبار القضائي يقوم على الانتقاء(أي يخضع له بعض المتهمين).
_ يعلق الاختبار القضائي العقاب تعليقا مشروطا.
_ إجراء الفحص الدقيق للمتهم عقليا و نفسيا من طرف أطباء مختصين.
_ الاختبار القضائي معاملة عقابية لفترة معينة،تحت رقابة القضاء(6).
الفرع الثاني:صور الاختبار القضائي.
تتعدد صور الاختبار القضائي بتعدد مراحل الدعوى الجنائية فهناك،الاختبار القضائي في مرحلة ما قبل المحاكمة،الاختبار القضائي في مرحلة المحاكمة.
أولا:
الاختبار القضائي في مرحلة ما قبل المحاكمة.
تجيز بعض التشريعات كالتشريع الانجليزي وضع المتهم تحت الاختبار القضائي قبل المحاكمة أو قبل رفع الدعوى القضائية،ويتقرر الاختبار القضائي سواء أثبتت الإدانة على المتهم أم لا.(7) هذه الصورة من الاختبار القضائي تهدف إلى تقوية إرادة التأهيل لدى المذنب لأنها تحفظ اعتباره إلى درجة كبيرة بعدم إعلام إدانته بالرغم من تثبت المحكمة منه،الأمر الذي يساعده على العودة إلى الاندماج سريعا كعضو صالح في المجتمع(8).
ثانيا:
الاختبار القضائي في مرحلة المحاكمة.
مقتضى هذه الصورة أن ينطق القاضي بحكم الإدانة أو بالعقوبة السالبة للحرية ثم يقرر وقف تنفيذ العقوبة ووضع المتهم تحت الاختبار القضائي في ذات الوقت،ثم إخضاعه للالتزامات المفروضة على الموضوع تحت الاختبار.
فإذا نجح في فترة الاختبار افترض تنفيذ العقوبة و اعتبر حكم الإدانة كأن لم يكن،أما إذا فشل في فترة الاختبار نفذت فيه العقوبة الموقوفة،أي أن الاختبار في هذه الصورة يكون بوصفه تدبير تكميلي للحكم بالعقوبة مع وقف التنفيذ.(9)
المطلب الثاني:
إعمال الاختبار القضائي.
إن النظرة العلمية الحديثة لسياسة العقابية الناجحة تقتضي علاج الجريمة و القضاء عليها من خلال برامج وقائية(10)
و منع
ارتكاب جرائم مرة أخرى،و لعلى نظام الاختبار القضائي جاء خصيصا لتحقيق هذا المسعى،فالاختبار القضائي إجراء علاجي و إدماج المجرم مرة أخرى في المجتمع لغرض إصلاحه .
وهذا ما يستدعى التطرق إلى السلطة المختصة في إعمال الاختبار القضائي وذلك ببيان شروط و صفات القائم بالاختبار القضائي،ثم تبيان مدة الاختبار القضائي،ثم التطرق إلى معيار تطبيق الاختبار القضائي.
الفرع الأول: الجهاز المعنى بالإشراف على الاختبار القضائي.
من غير المنطقي اسناد مهمة الاشراف على الاختبار القضائي لغير السلطة القضائية،بالنظر إلى افتراض الاستقلالية و النزاهة و الإلمام بالجوانب الحياة الاجتماعية و الخبرة المكتسبة في ميدان القضاء.
و لاعتبار القاضي الحامي الطبيعي للحقوق و الحريات الفردية و الجماعية للأفراد،فضلا عن اتصاله المباشر بالجناة و إلمامه بظروف حدوث الجريمة في نفس الوقت(11).
و كل ما في الأمر يجب أن تتوفر بعض الشروط في القاضي المشرف على الاختبار القضائي و يجب الإعتماد على المعايير الحديثة في تعيين القاضي الذي يتولى الإشراف على الاختبار القضائي، ومن بين هذه الشروط التي نذكرها على سبيل المثال لا الحصر هي (12):
_ ضرورة تخصص القاضي المشرف على الاختبار القضائي في العلوم الجنائية،وما اتصل به كعلم الإجرام و علم النفس الجنائي و علم العقاب.
_ ضرورة اكتسابه لمؤهلات في العلاقات الإنسانية.
_ التحلي بالخبرة الواسعة في ميدان القضاء لاسيما في القضايا الجزائية،و الرغبة الشخصية في تولي المنصب،و التشبع بقيم الإصلاح و روح الإنسانية.
الفرع الثاني: مدة الاختبار القضائي.
الاختبار القضائي يجب أن يقترن بمدة معينة من خلالها يمكن تقييم أداء الجاني،والقول انه عادة إلى سبيل الرشاد و الإصلاح .
غير أن المنطق يقتضي عدم ترك المدة مفتوحة الأمد بل يستوجب حصرها،لتوصل إلى نتيجة فيما بعد.فما هو الحد الأدنى لمدة الاختبار القضائي؟
تختلف البلدان التي تطبق الاختبار القضائي في تحديد مدته،حيث يترك للقاضي السلطة التقديرية لتحديد المدة المناسبة لشخص الموضوع تحت الاختبار القضائي،حيث يسمح للقاضي هنا بتعديل المدة سواء بالتمديد أو التقصير،وقد جعل المشرع الألماني هذه المدة من سنتين إلى خمسة سنوات،كما حصرها المشرع الهولندي من سنتين إلى ثلاثة سنوات،أما المشرع الفرنسي فقد جعل حدها الأدنى ثلاثة سنوات و الأقصى خمسة سنوات،و إذا انقضت مدة الاختبار دون حدوث ما يؤدي إلى إلغاءها يصبح الخاضع للاختبار حرا ما أي قيود كانت قد فرضت عليه،كما يصبح الحكم الصادر بالوضع تحت الاختبار كأن لم يكن(13).
الفرع الثالث:معيار تطبيق الاختبار القضائي.
الاختبار القضائي لا يمكن تطبيقه على الجناة الخطرين المرتكبين للجرائم أشد خطورة،كالجنايات و بعض الجنح التي يتم فيها تطبيق العقوبة المقررة بصفة كاملة و بظرف أشد و التي يقرر لها القانون عقوبات السجن و الحبس لفترة طويلة.
فالجرائم التي ينطبق عليها الاختبار القضائي عادة ما تكون في صنف المخالفات و يضاف إليها بعض الجنح غير الخطيرة(14)،فهذين نوعين من الجرائم يمكن تطبيق عليهما العقوبات البديلة بما فيها الاختبار القضائي.
فمن هنا يمكن التوصل إلى أن معيار تطبيق الاختبار القضائي لا يطبق فقط بالاستناد غلى نوع الجريمة،بل يجب الاستناد ايضا إلى تقدير العقوبة حسب ما يراه القاضي في تسليط تلك العقوبة كالأخذ بالظروف المخففة لذلك أو إعمال سبل إصلاح الجانب.(15)
الخاتمة:
إن نظام الاختبار القضائي صورة حديثة لبدائل العقوبات،جاء خصيصا لتخفيف من الآثار السلبية للعقوبات السالبة للحرية،خاصة عندما يكون الأمل إصلاح الجاني لتجنبه للسجن و الاحتكاك بالمساجين الآخرين.
فتطبيق الاختبار القضائي هو في نفس الوقت الإحاطة بظروف و شخصية الجاني،فالقاضي إذا رأى أن هذا الأخير يصر على فعله الإجرامي طبق عليه العقوبات السالبة للحرية.
وبالرغم من توجيه عدة انتقادات لنظام الاختبار القضائي،لاسيما إهدار مبدأ عدم الإفلات من العقاب و عدم تحقيق الردع العام،لأن أفضل تعويض للضحية هو ردع المجرم،نهيك بعدم توافق نظام الاختبار القضائي مع مبدأ شرعية العقوبات،غير أن الموازنة بين تحقيق الردع العام و إصلاح المجرم و تهذيبه يقتضي تطبيق هذا النظام بما فيه من مزايا و خدمة للمجتمع،وكذا صونه و حفظه من الانحراف،فالاختبار القضائي خطوة لمواجهة ظاهرة الاكتظاظ في السجون،خاصة فيما يتعلق بالمجرمين الأقل خطورة.(16)
وبهذا نرجو من المشرع الجزائري إدراج نظام الاختبار القضائي في المنظومة التشريعية المتعلقة بإصلاح السجون و إعادة تأهيل المساجين و إدماجهم و ذلك على اعتبار أن الاختبار القضائي أخذت به عدة تشريعات عقابية مقارنة و أثبتت نجاحها في الممارسة العملية،وهذا ما تنادى به السياسة العقابية المعاصرة و كذا الفقه الجنائي المعاصر.
قائمة المراجع:
1_ عبد الرحمان خلفي،العقوبات البديلة _ دراسة فقهية تحليلية تأصيلية مقارنة_،المؤسسة الحديثة للكتاب،لبنان،2015 الطبعة الأولى،ص 265.
2_ نظال ياسين الحاج حمو العبادي،الاختبار القضائي للسياسة العقابية المعاصرة،دار الكتاب القانونية،مصر،2012،ص 11إلى 27.
3_ عبد الرحمان خلفي،المرجع السابق،ص 266.
4_ نظال ياسين الحاج حمو العبادي،المرجع السابق،ص 59.
5_ محمد المنجى،الاختبار القضائي أحد تدابير الدفاع الاجتماعي،الطبعة الأولى،منشأة المعارف،الاسكندرية،1972 ،ص 06.
6_ نظال ياسين الحاج حمو العبادي،المرجع السابق ً66 و ما بعدها.
7- محمد سيف النصر عبد المنعم،بدائل العقوبات السالبة للحرية في التشريعات الجنائية الحديثة،رسالة مقدمة للحصول على درجة دكتوراه في الحقوق،كلية الحقوق،جامعة القاهرة،2006،ص 117.
8_ ليراتني فاطمة الزهرة،نظام الاختبار القضائي كبديل للعقوبات السالبة للحرية في القانون المقارن،مداخلة قدمت لإثراء أعمال الملتقى الوطني حول بدائل العقوبات الجزائية في التشريع الجزائري و المقارن،المنظم من طرف كلية الحقوق و العلوم السياسية جامعة عبد الرحمان ميرة بجاية،يومي 16/17 نوفمبر 2011،ص 8.
9_ محمد المنجى،المرجع السابق،ص 11.
10_ بوبكر عبد القادر،تقييم النظام العقابي الجزائري،مداخلة قدمت لإثراء أعمال الملتقى الوطني حول بدائل العقوبات الجزائية في التشريع الجزائري و المقارن،المنظم من طرف كلية الحقوق و العلوم السياسية جامعة عبد الرحمان ميرة بجاية،يومي 16/17 نوفمبر 2011،ص 12.
11_ياسر أنور علي وأمال عبد الرحيم عثمان،أصول علمي الإجرام و العقاب،دار النهضة العربية،مصر،1993،ص 362و ما بعدها.
12_ بوبكر عبد القادر،المرجع السابق،ص 14و 15.
13_ ليراتني فاطمة الزهرة،المرجع السابق،ص 11.
14_ أيمن رمضان الزيني،العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة و بدائلها _ دراسة مقارنة_،دون دار النشر،دون مكان النشر،2003،الطبعة الألى،ص 24.
15_ عبد الرحمان خلفي،المرجع السابق،ص 272.
16_ نفس المرجع،ص 273.