في الواجهةمقالات قانونية

الديّة في القانون المدني الأردني: دراسة تأصيلية – الدكتور : محمد علي أحمد العماوي

الديّة في القانون المدني الأردني: دراسة تأصيلية

Wergild in Jordanian civil law, A Doctrinal Study

الدكتور : محمد علي أحمد العماوي

الأستاذ المساعد في القانون المدني جامعة عمان الأهلية – المملكة الأردنية الهاشمية

هذا البحث منشور في مجلة القانون والأعمال الدولية الإصدار رقم 60 الخاص بشهر أكتوبر/ نونبر 2025
رابط تسجيل الاصدار في DOI


https://doi.org/10.63585/EJTM3163

للنشر و الاستعلام
mforki22@gmail.com
الواتساب 00212687407665

 

الديّة في القانون المدني الأردني: دراسة تأصيلية

Wergild in Jordanian civil law, A Doctrinal Study

الدكتور : محمد علي أحمد العماوي

الأستاذ المساعد في القانون المدني جامعة عمان الأهلية – المملكة الأردنية الهاشمية

ملخص

الديّة هي المقابل المالي للضرر البدني الواقع على الحق في الحياة والحق في السلامة البدنية، وقد عالجها المشرع الأردني كأحد عناصر التعويض عن الضرر البدني، إلى جانب التعويض، وقد اختلفت الآراء حول الطبيعة القانونية للديّة، فذهب رأي إلى أن الدية عقوبة جنائية خالصة، بينما ذهب رأي أخر إلى أنها تعويض مدني خالص، وذهب رأي ثالث إلى أنها جزاء يجمع بين صفات العقوبة والتعويض معاً.

وقد حاولنا في هذه الدراسة التوصل الى التكييف القانوني السليم للديّة في القانون المدني الأردني، من خلال الرجوع الى المصدر التاريخي للديّة باعتبارها أحد مفاهيم التشريع الجنائي الإسلامي، فاستعرضنا أساسها الفلسفي والقانوني، وتوصلنا إلى أن الدية المنصوص عليها في (273) من القانون المدني الأردني هي تعويض ثابت بالنص القانوني كبدل عن تلف النفس وما دون النفس، دون أن تشمل الأضرار المادية والأدبية الناتجة عن هذا الاتلاف، لذا جاء النص في(274) من القانون المدني الأردني على تعويض تكميلي للديّة يشمل تلك الاضرار، وبالنظر الى هذه العلاقة التكاملية ما بين الديّة كتعويض موضوعي، والتعويض الشخصي المقصود في المادة (274) فإن امكانية الجميع بينهما أمر ممكن.

كلمات دالة: ديّة، ضرر بدني، تعويض، عقوبة، طبيعة، أردني.

Abstract

Wergild is the financial equivalent of the physical harm caused to the right to life and the right to physical integrity, The Jordanian legislature treated it as an element of compensation for bodily harm, along with compensation. Opinions differed on the legal nature of wergild; one view held that Wergild is purely criminal; another held that it is purely civil compensation; A third view holds that it is a sanction that combines both punitive and compensatory qualities.

In this study, we tried to arrive at the proper legal adaptation of Wergild in Jordanian civil law by referring to the historical source of Wergild as one of the concepts of Islamic criminal legislation. We reviewed its philosophical and legal basis and concluded that the Wergild provided for in article (273) of the Jordanian Civil Code is a fixed compensation in the legal text as an alternative to loss of life and loss of organs or paralysis of their functions, without including material and moral damages resulting from such destruction.

Therefore, the text in article (274) of the Jordanian Civil Code states supplementary compensation to the Wergild, including such damages. In view of this complementary relationship between the wergild as an objective compensation and the personal compensation intended in article (274), a combination of Wergild and compensation is possible.

Keywords: Wergild; physical harm; compensation; punishment; legal nature; Jordanian.

مقدمة

كانت مجلة الأحكام العدلية العثمانية هي القانون المدني المطبّق في الأردن إلى أن صدر القانون المدني الأردني عام 1976 الذي استقى بعض أحكامه من القانون المدني الفرنسي، وأبقى من أحكام مجلة الأحكام العدلية العثمانية ما لا يتعارض مع أحكامه، وقد فرضت ازدواجية المصدر التاريخي للقانون المدني الأردني ضرورة البحث عن التكييف السليم للحقوق المستمدة من الشريعة الإسلامية ومنها الضمان والديّة والأرش وحكومة العدل[1]، بما يتلاءم والتسميات المستمدة من القانون المدني الفرنسي ومنها التعويض والغرامة الجنائية.

يؤكد منطوق المادة (274) من القانون المدني الأردني على أن الحصول على الديّة التي تستحق بمجرد وقوع الاعتداء على النفس وما دونها، لا يحول دون مطالبة المجني عليه وورثته ومن كان يعولهم ولو من غير ورثته بالتعويض عن الضرر الذي أصابهم بسبب هذا الاعتداء، فهل أراد المشرع الأردني بذلك جواز الجمع بين الدية والتعويض في الاعتداء الواقع على النفس وما دونها؟ تستوجب الإجابة النظر في الطبيعة القانونية للديّة، فإن كانت لها صفة العقوبة أمكن الجمع بينها وبين التعويض، وإن كانت تعويضاً، فالمبادئ العامة للمسؤولية المدنية تأبى التعويض عن ذات الفعل مرتين.

خطة البحث: نستعرض في مبحثٍ أول الديّة ما بين العقوبة والتعويض، ثم نتناول في مبحث ثانٍ إمكانية الجمع بين الديّة والتعويض.

المبحث الأول

الديّة ما بين العقوبة والتعويض

اختلف فقهاء القانون حول تكييف الدية، ويرجع اختلافهم في ذلك الى نظرتهم للدية على ضوء معايير النظام القانوني اللاتيني للتمييز بين العقوبة والتعويض (المطلب الأول)، وللديّة في القانون المدني الأردني تكييف مختلف عما قال به فقهاء القانون (المطلب الثاني).

المطلب الأول

التكييف الفقهي للدية

اختلفت الآراء حول تحديد طبيعة الدية الى ثلاثة أراء: فريق يرى أنها ذات طبيعة جنائية، وأخر يرى أنها ذات طبيعة مدنية، وثالث يرى أنها ذات طبيعة مزدوجة.

الفرع الأول

الطبيعة الجنائية للدية

ذهب اتجاه من الفقه إلى القول بأن الدية عقوبة جنائية خالصة، وهي إما عقوبة تبعية، حيث تجب الديّة كعقوبة بديلة حيث يسقط القصاص في القتل العمد[2]، أو عقوبة أصلية تجب في القتل الخطأ، وتحل محلها عقوبة تعزيرية عند العفو عنها[3].

ويدلل هذا الاتجاه على رأيه بالعناصر المشتركة بين الديّة والعقوبة، إلاّ أنه لم يتفق على تكييف محدد لهذه العقوبة، فذهب البعض منهم إلى أنها تشبه العقوبات الخاصة التي كانت تعرف في القانون الروماني[4]، وذهب البعض الى القول بأنها تشبه عقوبة الغرامة، لأن قيمتها مقدرة من قبل الشارع تقديراً ثابتاً لا يتغير من شخص لأخر، ولا يتوقف الحكم بها على طلب الأفراد، ولحلولها محل القصاص في القتل العمد، وحلول التعزير محلها عند العفو عنها[5].

الفرع الثاني

الطبيعة المدنية للدية

ذهب اتجاه من الفقه الى القول بأن الدية سواء كانت هي الجزاء الوحيد كما في القتل الخطأ، أو اشتركت مع القصاص كما في القتل العمد هي تعويض مدني خالص، إذ تهدف الدية إلى رفع الضرر الى تعويض المجني عليه الى حد ما عما أصابه من الجريمة، وهي تدخل في مال المجني عليه أو ورثته ولا تدخل خزينة الدولة، وللمجني عليه أو اولياءه التنازل عنها أو التصالح عليها مع الجاني بدون قيد أو شرط لأنها مال خالص له، كما أن الدية لا يتحملها الجاني، بل يتحملها في الغالب عاقلته[6].

الفرع الثالث

الطبيعة المزدوجة للدية

يذهب هذا الاتجاه إلى أن الدية ذات طبيعة مزدوجة، إذ هي جزاء يدور بين العقوبة والتعويض، إذ فرق البعض في تكييفهم للدية بين الدية الواجبة في حالة القتل العمد فتكون عقوبة لتحمل الجاني الدية في ماله الخاص، وتلك الواجبة في حالة القتل الخطأ فلا تكون إلاّ تعويضاً لتحميلها لأفراد العاقلة، كما فرّق البعض الأخر بين المال المحدد شرعاً الذي يدفع في الاعتداء على النفس كالدية والأرش، فيأخذ صفة العقوبة، وبين المال غير المحدد الواجب على ما دون النفس فيحدده القاضي ويسمى حكومة العدل، فيأخذ صفة التعويض[7].

وقد استند هذا الاتجاه في التدليل على صفة العقوبة في الدية على الأدلة التي أوردها الاتجاه القائل بالطبيعة الجنائية للدية، كما استند في التدليل على صفة التعويض فيها على الأدلة التي أوردها الاتجاه القائل بالطبيعة المدنية للدية.

المطلب الثاني

الديّة في القانون المدني الأردني

الفرع الأول

الأساس الفلسفي والقانوني للديّة في القانون المدني الأردني

ترتكز المسؤولية التقصيرية في القانون المدني الأردني على قاعدة عموم رفع الضرر[8]، فيتم التعويض عن الضرر سواء كان جسدياً أو مالياً، ويخضع تقدير التعويض عن الضرر المالي للقواعد العامة؛ فيتم تقديره بالقيمة ان كان المال قيمياً أو بالمثل ان كان مثلياً، فيما يخضع تقدير التعويض عن الضرر البدني الواقع على النفس الإنسانية وما دونها لقواعد قانونية خاصة تم النص عليها في المادتين (273) و(274) من القانون المدني الأردني.

إذ فرّق القانون المدني الأردني في إطار التعويض عن الضرر البدني بين المال الواجب في الاعتداء على النفس وما دونها[9]، وبين التعويض عن الضرر[10]، من خلال تحديد الطرف المستحق لكل منهما، إذ تجب الدية للمجني عليه أو ورثته في حال موته وتوزع عليهم كتركة بحسب الأنصبة الشرعية، فيما يجوز لكل متضرر سواء أكان المجني عليه أو ورثته الشرعيين أو من كان يعولهم ولو كانوا من غير الورثة، المطالبة بالتعويض على قدر ما أصابهم من الضرر[11].

وتجب الدية الى جانب عقوبة القصاص على الجاني وحده ولو كان غير مميز في القتل العمد، فيما تجب الديّة منفردة دون غيرها من العقوبات على العاقلة إلى جانب الجاني في القتل الخطأ، كما يجب الأرش في حالات الاعتداء على ما دون النفس بتلف أعضاء الانسان أو تعطّل في وظائفها، والأرش نوع من أنواع الدية بالاتفاق، فهو مال مقدر مسبقاً، وتجب حكومة العدل فيما ليس فيه أرش مقدر من الشارع، حيث يتم تقدير الدية في كثير من الأحيان من خلال حكومة العدل بالقياس على الأموال، ولا يجوز أن يبلغ المال المقدّر بحكومة العدل مقدار المال المحدد مسبقاً في الدية والأرش، ولا يحكم بالدية فيما دون النفس إلا بعد البرء أو استقرار الحالة، ويثبت البرء او استقرار الحالة بتقرير الطبيب المختص[12]، ويجب الأرش وحكومة العدل للمجني عليه لأنه هو الذي نزل به الضرر[13] .

والاساس في إفراد التعويض عن الضرر البدني بتنظيم خاص هو عدم مالية الانسان، فالمقابل المالي للضرر البدني في القانون المدني الأردني لا يعتبر تعويضا بالمعنى الدقيق للكلمة، لان التعويض مبناه المبادلة والمماثلة، والمال لا يعتبر مثلاً للإنسان أو قيمة له، لذا حدّد القانون هذا المقابل المالي سلفاً بمقدار ثابت، يتساوى الناس فيه تشريفاً وتكريماً للإنسان.

ويذهب فقهاء القانون إلى أن الهدف من التعويض عن الضرر البدني ليس هو إزالة الضرر، فالماديات لا تزيل المعنويات، بل هو توفير نوع من العزاء للمضرور وتخفيف الألم عنه على سبيل الترضية، ولذلك فانهم يسمونه ترضية[14]، وهذه التسمية في نفس معنى الدية الشرعية.

الفرع الثاني

الديّة تعويض قانوني

تجب الديّة منفردة دون غيرها من العقوبات في القتل الخطأ، فالخطأ ينفي عن الفعل صفة الجريمة، وحيث لا جريمة فلا عقوبة، على أن عذر الخطأ وإن كان يمنع العقوبة إلاّ أنه لا يمنع جبر الضرر الواقع على النفس، فأوجبت المادة (273) من القانون المدني الأردني الدية على الجاني ولو كان غير مميز صيانة للنفس عن الإهدار، وتحميل عديم التمييز عبء دفع الدية ينفي عن الدية صفة العقوبة، فمن العناصر الجوهرية للعقوبة عدم مسؤولية غير المميز وعديم التمييز كالصغير والمجنون[15].

والديّة ليست غرامة جنائية، بالنظر إلى أن الغرامة هي إلزام المحكوم عليه بأن يدفع الى خزينة الحكومة المبلغ المقدر في الحكم، وتجب في مال الجاني وحده، أمّا الديّة فلا تجب إلاّ للمجني عليه، وتجب على الجاني وحده في القتل العمد، بينما تتحملّها العاقلة مقسطة على ثلاث سنوات في القتل الخطأ، كما أن الغرامة قد تسقط بموت الجاني أما الدية فلا تسقط حيث تكون دينا يستوفى من التركة في جناية العمد ومن العاقلة في جناية الخطأ، بل أن الشرع الإسلامي اعتبر إلزام الجاني بالدية كاملة اجحافاً له فتكون عقوبة، ولذلك وجبت الدية على العاقلة تخفيفاً له وابعاداً لشبهة العقوبة فيها، والدية وان كانت واجبة على العاقلة دون الجاني إلاّ أنها لا تعتبر عقوبة لها، وإنما هو من باب النصرة والتعاون فيما بين الأقارب مع الجاني[16].

ويدق الأمر قليلاً في ديّة القتل العمد، حيث يتحمل الجاني وحده عبء الديّة، فيفهم من ذلك أن للديّة صفة العقوبة في القتل العمد، ليتضح عدم صحة هذا الفهم عند الرجوع الى التشريع الجنائي الإسلامي الذي استمد منه المشرع الأردني مفهوم الديّة، حيث تشترك الديّة مع غيرها من العقوبات في القتل العمد، إذ تجب الديّة بالنظر الى مقدار الضرر الواقع بالتعدي على سلامة بدن الانسان وحقه في الحياة، فيما تجب عقوبتي القصاص والتعزير بالنظر الى خطورة الفعل على المجتمع ، والديّة والقصاص حق للمجني عليه، والتعزير حق ثابت للمجتمع، ولا يجوز للمجني عليه الجمع بين القصاص والدية معاً، فإما أن يختار القصاص أو الدية، فإن سقط القصاص بالعفو أو الصلح مثلا، وجبت الدية، وحلول الديّة محل عقوبة القصاص، لا يعني أنها عقوبة بديلة له، فالقصاص عقوبة للفعل، والديّة جبر للضرر الناجم عن الفعل، وبسقوط القصاص تبرز عقوبة التعزير الثابتة أصلاً رعاية لحق المجتمع إلى جانب الدية رعاية لحق الفرد، بالنظر الى خطورة الفعل على المجتمع[17].

وتتعدد الدية بتعدد الضرر، فاذا ما ترتب عن الفعل الواحد عدة أضرار، وتحققت كل هذه الاضرار في الشخص الواحد مع بقاء النفس حية فأنه يستحق ديات متعددة بتعدد الأضرار، وإذا مات المصاب فلا تجب الا دية واحدة لان ديات المنافع كلها تدخل في دية النفس بالتبعية، وهذا على خلاف العقوبة، إذ هي جزاء على الفعل غير المشروع، فتتعدد بتعدده لا بتعدد الضرر الناتج عنه. [18]

بناء على الاعتبارات السابقة، نخلص الى القول أن الديّة ليست عقوبة، بل هي تعويض قانوني ثابت بالنص، وإن كان المال مقدّراً بحكومة العدل فيجب ألاّ يزيد عن الضرر وعن مقدار الأرش، ورغم التأكيد على صفة التعويض في الديّة، إلاّ أن الديّة ليست تعويضاً كاملاً وشاملاً لعموم الضرر الناتج عن الاعتداء على النفس وما دونها، فلا تؤدى باعتبارها تعويضاً لكل ما نتج عن الجريمة من الضرر الجسماني والمادي، وانما كمقابل فقط للنفس أو الأعضاء التي اتلفتها الجناية بغض النظر عما يؤدي اليه ذلك التلف من الخسارة المادية للمعتدى عليه[19]، لذا جاء النص على الديّة كتعويض قانوني جزئي في المادة (273) من القانون المدني الأردني، فيما تم النص في المادة (274) على تعويض مكمل للدية يغطي الأضرار المادية والأدبية الناجمة عن تلف ذات نفس الانسان وما دونها من تلف للأعضاء وتعطل لوظائفها، وعليه يمكن الجمع بين الدية والتعويض بالنظر الى اختلاف طبيعة ونطاق كل منهما.

المبحث الثاني

الجمع بين الدية والتعويض

نستعرض في مطلب اول الديّة كبدل قانوني لإتلاف النفس وما دونها، فيما نتناول التعويض الكامل عن الأضرار الناتجة عن اتلاف النفس وما دونها في مطلب ثان:

المطلب الأول

الديّة بدل قانوني لإتلاف النفس وما دونها

الديّة تعويض ذو طبيعة قانونية خاصة، إذ هي تعويض قانوني محدد بمقدار ثابت لا يختلف باختلاف الظروف الشخصية للطرفين أو مدى جسامة الفعل الموجب للدية شخص المضرور، حيث تهدف الدية إلى رفع الضرر الواقع على الحق في الحياة والسلامة البدنية، وهي حقوق يتساوى فيها كافة الناس، فكانت الديّة مقداراً ثابتاً محدداً لا تجوز الزيادة فيه، تجب عن الضرر الذي يلحق بذات نفس الإنسان، كقتل النفس حقيقة أو حكماً، حيث يعتبر فقد العضو الذي لا نظير له في الجسم في حكم القتل[20]، جاء في قرار لمحكمة التمييز الأردنية: “ان فقدان حاسة الشم يدخل في عداد الضرر المادي الموجب للتعويض”[21]، وكان الأرش مقداراً ثابتاً محدداً لا تجوز الزيادة فيه، يجب عن الضرر الذي يلحق بما دون نفس الإنسان كالكسور والجروح ، أما الكسور والجروح التي ليس لها مقدار معلوم من قبل الشارع فيتم تقديرها من أهل الخبرة فيما يسمى بحكومة العدل، ولا تحكم المحكمة بالدية فيما دون النفس إلا بعد البرء أو استقرار الحالة، ويثبت البرء او استقرار الحالة بتقرير الطبيب المختص[22].

والديّة تعويض موضوعي يجب لمجرد المساس بالحق في الحياة والحق بالسلامة البدنية، دونما حاجة لإثبات أي ضرر أخر، حيث جاء في قرار لمحكمة التمييز الأردنية:””ان التعويض.. يستحق بمجرد الوفاة طالما انه ثابت ان المدعى عليه السائق أدين بحكم جزائي انه المتسبب بوفاة مورثة المدعين.. “[23]

وتجب الدية الكاملة للمجني عليه حال حياته، كما في حالة القتل حكماً كفقد عضو لا نظير له في الجسم، كما يجب الأرش وحكومة العدل للمجني عليه، وتنتقل دية القتل كتركة للورثة الشرعيين للمجني عليه، وتوزع عليهم وفقا لأحكام قانون الاحوال الشخصية بناء على طلب أي منهم وتقسم عليهم كل حسب نصيبه من التركة[24]، والتعويض على ذلك حق مباشر للورثة يتلقونه عن مورثّهم.

وتستحق دية النفس في القتل الخطأ على ثلاثة أقساط متساوية في ثلاث سنوات، بينما تستحق حالّة في القتل العمد، وتستحق الديّة فيما دون النفس في غير العمد مقسطة على فترات مختلفة[25]، وتجب الديّة على الجاني وحده في القتل العمد بينما تتحملها عاقلته في القتل الخطأ.

المطلب الثاني

التعويض الكامل عن الأضرار الناتجة عن اتلاف النفس وما دونها

وهو التعويض المستحق بموجب المادة (273) من القانون المدني الأردني، ويشمل كافة الأضرار المادية والأدبية الأصلية الواقعة فعلاً على المضرور نفسه، كما يشمل الاضرار المادية والأدبية المرتدة على ورثته الشرعيين وعلى الغير ممن كان يعولهم ولو كانوا من غير ورثته:

أولاً- الأضرار المادية والأدبية الأصلية التي تصيب المضرور نفسه:

وتشمل بحسب المادة (256) من القانون المدني الأردني[26]، كل ضرر وقع فعلاً للمضرور كنتيجة لتلف عضو من أعضاءه أو تعطل في وظيفة هذا العضو، كنفقات العلاج، والخسارة المالية الناتجة عن العجز على الكسب من العمل خلال فترة العلاج[27]، وقد استقر الاجتهاد القضائي على انه لكي تحكم المحكمة للمضرور ببدل الضرر المادي، فلا بد للمضرور من اثبات هذا الضرر[28].

ولا يقتصر التعويض على الضرر المادي، بل يشمل كذلك الضرر الأدبي، والضرر الأدبي هو كل تعد على المضرور في حريته او في عرضه او في شرفه او في سمعته او في مركزه الاجتماعي او في اعتباره المالي[29]، فالعاهة الدائمة الناتجة عن تلف عضو من الأعضاء أو تعطّل في وظيفته كشلل في الطرفين تعتبر ضرراً أدبياً لما فيها من تأثير سلبي على المركز الاجتماعي للمضرور، باعتبار ان نظرة المجتمع للشخص المعاق تختلف عن نظرته للشخص السليم[30]، كما أن تفويت الجمال على المضرور ينطوي على اضرار ادبية يستحق معها التعويض، كما لو أصابه تشويه دائم في الوجه أو الاعضاء من جراء الجروح أو الحروق [31]، ولا تدخل المعاناة من الآلام النفسية والجسدية في مفهوم الضرر الادبي طالما ان المصاب قد شفي تماما من اصابته دون تخلف أي عاهة لديه من شانها التأثير على مركزه الاجتماعي[32].

ولا ينتقل الضمان عن الضرر الادبي الى ورثة المضرور الا إذا تحددت قيمته بمقتضى اتفاق او حكم قضائي نهائي[33].

ثانياً- الاضرار المادية والأدبية المرتدة التي تصيب الورثة الشرعيين للمضرور وغير الورثة ممن كان يعولهم المضرور:

وهي أضرار شخصية مرتدة تصيب الورثة وغير الورثة ممن كان يعولهم المضرور، فيكون لهم حقاً مباشراً في المطالبة بصفتهم الشخصية بالتعويض الكامل عما لحق بهم من ضرر مادي ومعنوي ناشئ عن الفعل الضار، فهو تعويض شخصي لا بد من اثباته بالبينة على خلاف الضرر الواقع على النفس وما دونها، فالأضرار هنا غير مفترضة، فلا يكفي مجرد وفاة المجني عليه أو اصابته لثبوت الضرر الشخصي بورثته او بغيرهم ممن كان يعولهم، بل لا بد من تقديم البينة لإثبات الضرر المادي الذي لحق كل منهم، ويتوقف الحكم به على طلب المضرور[34].

ويشمل الضرر المادي كل ضرر فعلي أصاب الورثة أو غيرهم من وفاة مورثّهم، كنفقات الدفن وإقامة بيت للعزاء والتعطّل عن العمل طيلة فترة العزاء (الكسب الفائت) [35]، وكانقطاع النفقة عمّن كان يعيلهم على سبيل الاحسان أو الصدقة [36]، ويجوز ان يقضي بالتعويض للأزواج وللأقربين من الأسرة عما يصيبهم من ضرر ادبي بسبب موت المصاب[37].

ويقدر التعويض بالنقد، كما يصح أن يكون مقسطاً وفقاً لنص المادة (269)[38]، ولا يوزع التعويض على الورثة حسب حصصهم الارثية، إذ لم يكن داخلا في ذمة المتوفى قبل وفاته، بل يتم تقدير التعويض الذي يستحقه كل منهم بشكل منفصل عن الآخرين التعويض وفقاً لنص المادة (266) من القانون المدني الأردني فهو تعويض شخصي يختلف من شخص لأخر.[39]

الخاتمة

توصلت الدراسة للنتائج الآتية:

  1. اختلف الفقه في التكييف القانوني للديّة، ويعود اختلافهم هذا الى محاولتهم تطويع الديّة بما يتلاءم والمفاهيم القانونية بعيداً عن الأصل الإسلامي الذي جاءت منه.
  2. دخلت الديّة في المادة (273) من القانون المدني الأردني كبدل مالي قانوني موضوعي عن تلف نفس الانسان وما دون النفس، الى جانب التعويض الشخصي المنصوص عليه في المادة (274) والذي يهدف الى جبر الأضرار المرتبطة بتلف النفس وما دونها، فكان الجمع بين الديّة كتعويض قانوني موضوعي وبين التعويض الشخصي أمراً ممكناً لاختلاف طبيعة ونطاق كل منهما.

وتوصي الدراسة بما يلي:

أسندت المادة (105/2) من الدستور الأردني والمادة (2/11) من قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم (31) لعام 1959 وتعديلاته للمحاكم الشرعية اختصاص الفصل في دعاوى الديّة، كما صدر مشروع قانون الديّات الأردني لسنة 2021، وفي مقابل ذلك تم تنظيم الديّة بنص وحيد في القانون المدني الأردني، وفي ظل هذه الازدواجية في التنظيم التشريعي للديّة، وبالنظر إلى أهمية الديّة وما يرتبط من مفاهيم كالأرش وحكومة العدل، فإن الحاجة ماسة لمعالجة وتنظيم الديّة في القانون المدني بشكل أكثر شمولًا وتفصيلًا.

المراجع

أولاً- التشريعات:

  1. القانون المدني الأردني رقم (43) لسنة 1976، والمنشور في الجريدة الرسمية رقم (2645)، وتم العمل به من تاريخ 1/1/1977.

المذكرات الايضاحية للقانون المدني الأردني، الجزء الأول، نسخة نقابة المحامين، عمان، الأردن، 2015.

مشروع قانون الديّات الأردني لسنة 2021.

ثانياً- كتب الفقه الاسلامي:

علاء الدين، أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الجزء العاشر، دار الكتب العلمية بيروت، ط1 ،1997.

موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، المغني والشرح الكبير، الجزء السابع، مطبعة المنار، ط1 مصر، 1929م.

أحمد فتحي بهنسي، الدية في الشريعة الإسلامية، دار الشروق، القاهرة، ط 3، 1984، ط 4، 1988.

  1. د. عوض أحمد ادريس، الدية بين العقوبة والتعويض في الفقه الإسلامي المقارن، دار مكتبة الهلال، بيروت-لبنان، ط1، 1986.

عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي، طبعة دار التراث، الجزء الأول، 1900.

ثالثاً- كتب القانون:

د. سليمان مرقس، المسؤولية المدنية في تقنينات البلاد العربية، جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، 1958.

د. عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الأول، نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام، دار احياء التراث العربي، بيروت، لبنان،1964.

د. عبد الرزاق السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، الجزء الأول، دار احياء التراث، مؤسسة التراث العربي، بيروت، لبنان، 1954.

رابعاً- رسائل جامعية:

د. سيد أمين، المسئولية التقصيرية عن فعل الغير في الفقه الإسلامي المقارن، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة ،1964.

د. علي صادق أبو هيف، الدية في الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها في قوانين وعادات مصر الحديثة، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، 1932.

خامساً- قرارات محكمة التمييز الأردنية:

قرار رقم 2325/1997 تاريخ 1/3/1998.

قرار رقم473/2002 تاريخ 14/4/2002.

قرار رقم802/2001(هيئة عامة) تاريخ 30/7/2001.

قرار رقم 2958/2001 تاريخ 7/1/2002.

قرار رقم1512/2000 تاريخ 26/10/2000.

قرار رقم2312/2000 تاريخ 24/1/2001.

قرار رقم610/2001تاريخ 8/7/2001.

قرار رقم664/2000 تاريخ 24/7/2000.

قرار رقم2886/2001 تاريخ 15/1/2002.

قرار رقم2113/2000 تاريخ 8/1/2001.

قرار رقم49 /2002 (هيئة عامة) تاريخ 25/4/2002.

قرار رقم2113/2000 تاريخ 8/1/2001.

قرار رقم2021/1999 تاريخ 14/9/1999.

  1. د. عوض أحمد ادريس، الدية بين العقوبة والتعويض في الفقه الإسلامي المقارن، دار مكتبة الهلال، بيروت-لبنان، ط1، 1986، ص548 – ص550.
  2. د. سيد أمين، المسئولية التقصيرية عن فعل الغير في الفقه الإسلامي المقارن، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة ،1964م

    ص37.

  3. عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي، طبعة دار التراث، الجزء الأول، 1900، ص668- ص669
  4. أحمد فتحي بهنسي، الدية في الشريعة الإسلامية، دار الشروق، القاهرة، ط 3، 1984، ط 4، 1988، ص15، د. علي صادق أبو هيف، الدية في الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها في قوانين وعادات مصر الحديثة، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، 1932، ص31.
  5. د. عبد الرزاق السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، الجزء الأول، دار احياء التراث، مؤسسة التراث العربي، بيروت، لبنان، 1954، ص51، د. سليمان مرقس، المسؤولية المدنية في تقنينات البلاد العربية، جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، 1958، ص101.
  6. تنص المادة (256) على أن” كل إضرار بالغير يلزم فاعله ولو غير مميز بضمان الضرر”.
  7. المادة (273) من القانون المدني الأردني.
  8. المادة (274) من القانون المدني الأردني.
  9. المذكرات الايضاحية للقانون المدني الأردني، الجزء الأول، نسخة نقابة المحامين، عمان، الأردن، 2015، ص315-316.
  10. المادة (15) من مشروع قانون الديّات الأردني لسنة 2021.
  11. د. عوض أحمد ادريس، الدية بين العقوبة والتعويض في الفقه الإسلامي المقارن، مرجع سابق، ص599
  12. د. عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الأول، نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام، دار احياء التراث العربي، بيروت، لبنان،1964، ص867.
  13. أحمد فتحي بهنسي، الدية في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص15
  14. علاء الدين، أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الجزء العاشر، دار الكتب العلمية بيروت، ط1 ،1997، ص4665-4667.
  15. د. عوض أحمد ادريس، الدية بين العقوبة والتعويض في الفقه الإسلامي المقارن، مرجع سابق، ص526
  16. موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، المغني والشرح الكبير، الجزء السابع، مطبعة المنار، ط1 مصر، 1929م، ص754
  17. د. علي صادق أبو هيف، الدية في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص32.
  18. أنظر المادة(7/أ/2) من مشروع قانون الديّات الأردني.
  19. محكمة تمييز حقوق رقم 2325/1997 تاريخ 1/3/1998.
  20. أنظر المواد (8) و(15) من مشروع قانون الديّات الأردني.
  21. محكمة تمييز حقوق رقم473/2002 تاريخ 14/4/2002.
  22. المادة (13/أ) من مشروع قانون الديّات الأردني.
  23. المادة (16) من مشروع قانون الديّات الأردني.
  24. والتي تنص على:” كل اضرار بالغير يلزم فاعله ولو غير مميز بضمان الضرر”
  25. محكمة تمييز حقوق رقم802/2001(هيئة عامة) تاريخ 30/7/2001.
  26. محكمة تمييز حقوق رقم 2958/2001 تاريخ 7/1/2002.
  27. المادة (267/1) من القانون المدني الأردني.
  28. محكمة تمييز حقوق رقم1512/2000 تاريخ 26/10/2000.
  29. محكمة تمييز حقوق رقم2312/2000 تاريخ 24/1/2001.
  30. محكمة تمييز حقوق رقم610/2001تاريخ 8/7/2001.
  31. المادة (267/3) من القانون المدني الأردني.
  32. محكمة تمييز حقوق رقم664/2000 تاريخ 24/7/2000.
  33. محكمة تمييز حقوق رقم2886/2001 تاريخ 15/1/2002.
  34. محكمة تمييز حقوق رقم2113/2000 تاريخ 8/1/2001.
  35. المادة (267/2) من القانون المدني الأردني، محكمة تمييز حقوق رقم49 /2002 (هيئة عامة) تاريخ 25/4/2002.
  36. محكمة تمييز حقوق رقم2113/2000 تاريخ 8/1/2001.
  37. تمييز حقوق رقم2021/1999 تاريخ 14/9/1999.
  38. علال فالي، صناعة النصوص القانونية إشكالات الاختصاص والصياغة، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، الطبعة الأولى، 2018.ص.159.
  39. – Conseil d’état, rapport public 2006- sécurité juridique et complexité du droit, la documentaire française, op, cite, p: 281.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى