أوجه قصور منظومة القانون الجنائي
الدكتور نوفل علي عبد الله الصفو
أستاذ القانون الجنائي المشارك
كلية الحقوق/ جامعة الموصل
ان طبيعة الحياة تقتضي ان تتطور القوانين بشكل مستمر لتطور الحياة وتغيرها حتى تكون قادرة على حل ما يستجد من اشكالات ومعاضل، فالقانون يوجد في كل نوع من أنواع النشاط الذي نمارسه في حياتنا، لان القانون مرآة للمجتمع وانعكاس مباشر لاحتياجاته وتطلعاته ومتطلباته، وهو ظاهرة اجتماعية، فهو قرين لنشوء المجتمع وشرط لبقائه، فلا يوجد قانون بدون مجتمع، كما لا يوجد مجتمع بدون قانون، وان القواعد والمبادئ التي يقوم عليها القانون الجنائي اليوم ليست وليدة عصر معين ولم تنشا طفرة واحدة، ولكنها ثمرة تطور تاريخي طويل منذ أقدم العصور إلى وقتنا الحالي، وسيظل هذا التشريع يواصل ويواكب التطور الدائب سعياً وراء الأفضل، وان عدم تطور القوانين سوف يجعلها تتصف بالقصور في التشريع، والذي يقصد به عدم ملائمة النص القانوني للحياة الاجتماعية والسياسية السائدة في المجتمع وقت تطبيقه، بمعنى اخر عدم تضمن النص القانوني لما تقوم الحاجة اليه من احكام تفصيلية او جزئية في ظل تغيرات جوهرية شهدها المجتمع، والقصور في التشريع ظاهرة حتمية حتى في ظل الظروف الطبيعية للمجتمع، لان وقائع الحياة بما تتضمنه من حركة وحيوية ونزوع دائم نحو التطور ليست امرأ جامداً او ثابتاً على حال حتى يمكن ان يحتويها نص قانوني.
ويعبر تحقق القصور في التشريع عن تطور المجتمع تطوراً جوهرياً، وعدم قدرة النصوص القانونية التي وضعت في زمن سابق على مواكبة هذا التطور، اذ يتميز القانون الجنائي بتأثره بالفكر السياسي السائد وقت تشريعه، وينفذ الأثر السياسي الى القانون الجنائي عبر الدستور من خلال ما يتبناه المشرع الدستوري من سياسة جنائية وما يفرضه من مبادئ دستورية عامة تحكم قواعد هذا القانون وتنظم عملية صياغة الأفكار القانونية او الفلسفة الجنائية التي يتضمنها، وهي في حقيقتها تعبير عن ايديولوجية سياسية سائدة سواء كانت رأسمالية او اشتراكية او دينية او علمانية، وإن القانون الجنائي يمر حالياً بأزمة التكيف مع متطلبات المجتمع ، فهو يواجه صدمة التغيرات السريعة التي تمس مصالح المجتمع وقيمه. وهذه المشكلة ليست حكرا على الدول النامية فقط ولكن تئن من وطئتها أيضا الأنظمة القضائية في الدول المتقدمة اقتصاديا مما دعاها إلى البحث عن حلول لها كل بما يتناسب مع النظام القانوني الذي يقوم عليه سواء كان لاتيني أو أنجلوسكسوني، خاصة مع نمو المعاملات التجارية المحلية والدولية وتطور تكنولوجيا المعلومات وتزايد الاعتماد عليها في المعاملات اليومية وما ترتب على ذلك من ظهور سلوكيات إجراميه جديدة، فضلا عن تطور الأنماط الإجرامية التقليدية التي استفادت مما أطلق عليه “الثورة المعلوماتية” لاسيما في مجال جرائم الإرهاب والجريمة المنظمة وجرائم الفساد بما استوجب توجيه المزيد من الجهد القضائي لمواجهة تلك الجرائم على حساب الجرائم التقليدية مما زاد من حدة المشكلة.
أن اهم الآثار السلبية لهذه الازمة انها ادت لفشل القوانين الجنائية في مواجهة الجريمة، والذي تعاني منه باقي أفرع القانون الأخرى، ولكن الظاهرة تبدو أكثر تأثيرا في المجال الجنائي، لما لهذا الأخير من خصوصية، ليس أقلها إن القانون الجنائي يمس الناس في حرياتهم، فالأصل هو حرية الإنسان والاستثناء في الحد من هذه الحرية وتقييدها، اذ ان كل عمل من اعمال السلطة يمارسه انسان ضد اخر يعد نوعا من التحكم إذا لم يكن ضروريا على وجه الاطلاق، فالحريات العامة إذا اجاز الدستور تقييدها فأنها لا تقيد الا بتشريع، وإذا كفل الدستور حقا من الحقوق فان القيود عليه لا يجوز ان تنال من محتواه الا بالقدر وفي الحدود التي ينص عليها الدستور. وعلينا الاعتراف بفشل او قصور المنظومة العقابية في الحد من الجريمة، وذلك يعود لأسباب عديدة أهمها: –
- التضخم التشريعي. فقد أضحى من المتعذر حصر النصوص الجنائية والعلم بأحكامها، لفرط كثرتها وتناثرها، مما أفضى إلى تضخم تشريعي جنائي، بكل ما يحمله ذلك من آثار سلبية على إدارة العدالة الجنائية برمتها.
- تضخم الظاهرة الاجرامية. وليس ادل على هذا القصور من الارتفاع الخطير والمستمر في مستوى الجريمة كما ونوعا، ويجب الاعتراف بان التشريعات الجنائية قد فشلت في هذه الغاية لأنها فشلت في تحقيقها، بل إنه ليس من المبالغة، الاعتقاد بأن تكون هذه السياسات الجنائية المتبعة هي عامل غير مباشر، يفسر إلى حد ما الارتفاع المستمر في معدلات الإجرام، بل يمكن وصف تلك السياسات الجنائية بأنها من عوامل تفاقم الإجرام، لأنها تقوم على وسائل ارتجالية لمكافحة الإجرام، لا تستند إلى أسس علمية، ومن هنا يتضح دور السياسة الجزائية الحالية، كعامل من العوامل التي تؤدي إلى زيادة عدد الجرائم، بدل أن تكون عاملاً من عوامل الحد من ظاهرة الإجرام. اذ اننا نجد انفسنا امام تضخم تشريعي فشل في الحد من التضخم في الظاهرة الاجرامية، اذ ان مستوى الجرائم قد ارتفع بشكل ملحوظ، وهو متجه نحو استمرار الارتفاع كما ونوعا وهذا ما تثبته الاحصائيات الجنائية، فاصبح تضخم الظاهرة الاجرامية والتضخم التشريعي امرا لا يمكن انكاره، وأصبحت المؤسسات العقابية كما يشار بالمفهوم الاقتصادي يدخلها مدخلات اقل اجراما ويخرج منها مخرجات أكثر خبرة وتنظيما في الاجرام، لتعلن بشكل صريح عن فشل التضخم التشريعي في الحد من التضخم الاجرامي، اذ يوجد تلازم بين ظاهرة أزمة العدالة الجزائية وظاهرة التضخم الجنائي وظاهرة التضخم الاجرامي.
- ارتفاع تكلفة الجريمة. اذ يجب ان نضع محل اعتبارنا التكلفة الاقتصادية الكبيرة جدا للجريمة، ومحاولة البحث عن وسائل لمكافحة الجريمة غير مكلفة لاقتصاد الدولة، ولا نقصد هنا البحث عن مصادر لتمويل الاقتصاد وان نجعل الجريمة مصدرا من مصادر الدخل، بقدر بحثنا عن خفض في التكلفة التي يتحملها اقتصاد الدولة في مكافحة الجريمة، اذ أصبحت تكاليف الجريمة أداة متزايدة الأهمية لصانعي القرار المعنيين بالجريمة وتأثيرها على المجتمع، فهي تساعد على إصدار قرارات واضحة حول مزايا السياسات والبرامج البديلة للعقوبة، والتي هي تؤثر بالفعل ضمنا في صنع القرار وحول كيفية تخصيص الموارد لمعالجة الجريمة .
- دور المؤسسات العقابية. اذ ان مخرجات المؤسسة العقابية أكثر اجراما من المدخلات. اذ أصبحت المؤسسات العقابية كما يشار بالمفهوم الاقتصادي يدخلها مدخلات اقل اجراما ويخرج منها مخرجات أكثر خبرة وتنظيما في الاجرام، لتعلن بشكل صريح عن الفشل في الحد من التضخم الاجرامي.
- شدة العقاب. اذ ان النسبة التصاعدية في مستوى الجريمة الكمي والنوعي قابله في الطرف الاخر ازدياد ملحوظ في اعداد التشريعات الجنائية وشدة العقوبة من اجل الحد من الجريمة ومكافحتها. اذ أن منع الجريمة لا يكون بشدة العقاب وانما يكون بالعقاب اليقيني.
- مواجهة الجريمة بارتكاب جريمة. اذ يجب الا يكون القانون الجنائي اداة للقهر أو للتحكم وانما اداة لحماية الحقوق والحريات بالإضافة الئ تحقيق المصلحة العامة، فلا يجوز مواجهة الجريمة بجريمة ترتكب بمخالفة المبادئ الدستورية والخروج عليها، فإن مواجهة الجريمة لا يمكن أن تتم بعيدا عن المشروعية التي تعلي سيادة القانون، فالتمسك بأصول الشرعية الجنائية في مجال التجريم والعقاب وفى مجال الحفاظ على الحريات هو أمر يتصل بأصول الدولة القانونية. وضابط التمييز بين دولة القانون ودولة الاستبداد إنما يكون بالنظر إلى تصرف الدولة تجاه مواطنيها، وذلك من خلال ما تصدره من قوانين عقابية استناداً إلى سلطتها. ولا يجوز للدولة أن تلجأ في مواجهة الخروج على القانون بخروج مماثل، لأن من شأن ذلك أن ينال من شرعيتها. ومن الأصول المقررة أن مخالفة المرء للقانون، لا تجعله بمنأى عن حماية هذا القانون. فلا يجوز أن تكون مواجهة الاعتداء على القانون إلا بالقانون ذاته، وإلا تحول المجتمع الانساني الى مجموعة من الضحايا، ضحايا الجرائم وضحايا مواجهة الجرائم.
وان الدعوة لمواجهة التضخم التشريعي يجب الا تدعونا لتقديم التنازلات برفع الصفة الاجرامية عن السلوك، فيما يعرف بظاهرة (الحد من التجريم)، او رفع صفة العقوبة عن الجريمة وابدالها بجزاء اداري، فيما يعرف بظاهرة (الحد من العقوبة)، فليس ذلك ما ندعو اليه، انما ندعو لدراسة ظاهرة التضخم التشريعي ومراجعة سياسة التجريم والعقاب بشكل عام لتقييم هذه السياسات وما هي أسباب قصورها وفشلها في مكافحة الجريمة. فقد أصبح من الضروري تنقية وترشيق المنظومة القانونية الجنائية المتضخمة من الجرائم التي لم يعد المجتمع يعتبرها متصفة بالخطورة على نظامه أو لم تعد تنتهك القيم العليا التي يؤمن بها ويحميها، وعلى السياسة الجنائية أن تعيد النظر في استراتيجيتها في مكافحة الإجرام، والبحث عن وسائل تحقق أقصى فاعلية ممكنة في مكافحة الإجرام، فيجب فهم مصطلح المصالح والقيّم العامة بطريقة غير تقليدية ومرنة، إذ ان هذه المصالح والقيّم تتغير بتغير الزمان والمكان اي من مجتمع لآخر في نفس الزمان وفي نفس المجتمع الواحد في ازمنة مُختلفة، وبالتالي فإن نوع الحماية واسلوب الحماية لذات القيم والمصالح في قانون العقوبات تتفاوت وتتطور متأثرة بالعديد من العوامل.
لذا يجب أن تهدف المعاينة والحصر إلى بيان ما بقي ضارا بالمجتمع وما صار سلوكا مباحا او لا يشكل خطرا على مصالح المجتمع، وما طرأ من أفعال جرمية جديدة، وما تغير من عدد الجرائم ونسبها، وما أصبح من الجرائم يتطلب مجرد تشديد أو تخفيف أو تدقيق أو تضييق أو توسيع، كما يتعين العمل على تجميع النصوص الجنائية الخاصة بميادين محددة في مدونات واحدة إلى جانب مدونة الشريعة العامة في القانون الجنائي.
فقد ان الأوان للخروج من نظام العقوبات التقليدية والانخراط في الأنظمة العقابية الحديثة وتطوير الطرق القضائية البديلة، كالوساطة والتحكيم والصلح، والأخذ بالعقوبات البديلة، وان لا ننظر لهذه الطرق باعتبارها حلول مؤقته او ثانوية لا تدخل في استراتيجية مكافحة الجريمة، وانما باعتبارها جزء من السياسة الجنائية الحديثة، وان نضع محل اعتبارنا في هذه السياسة التكلفة الاقتصادية الكبيرة جدا للجريمة ومحاولة البحث عن وسائل لمكافحة الجريمة غير مكلفة لاقتصاد الدولة، ولا نقصد هنا البحث عن مصادر لتمويل الاقتصاد بقدر بحثنا عن خفض في التكلفة التي يتحملها اقتصاد الدولة في مكافحة الجريمة، اذ أصبحت تكاليف الجريمة أداة متزايدة الأهمية لصانعي القرار المعنيين بالجريمة وتأثيرها على المجتمع، فهي تساعد على إصدار قرارات واضحة حول مزايا السياسات والبرامج البديلة للعقوبة. اذ يجب ان يتدخل المشرع بين فترة وأخرى بوسيلة التعديل او الإلغاء وتشريع القوانين الجديدة ليلائم بين القانون وحاجات الروابط الاجتماعية المتجددة والمتطورة في كافة الاتجاهات. وتناول التشريعات بنظرة شاملة ومتكاملة تبتعد عن منهج إجراء تعديلات تشريعية جزئية لمواجهة المشاكل العاجلة، والسعي لوضع البنية التشريعية بأكملها في وضع يتوافق مع التطورات الحديثة في الواقع والفكر ويفتح الطريق لتوقعات التغيير في المستقبل بحيث يشمل الإصلاح التشريعي جميع التشريعات باعتبارها لبنات في بناء واحد.
لذلك يجب الحرص على وحدة التشريع المطبق بأن يكون هناك تشريع واحد فقط متضمنا كل الأحكام التي تتعلق بأحد الموضوعات المحددة. وعدم وجود نصوص متعددة تسري على نفس الحالة. وعدم تعدد جهات الإختصاص المنوط بها تنفيذ الموضوع أو التشريع الواحد، فالقانون الجيد هو القانون القابل للتنفيذ ويضمن بأليات عملية التنفيذ الفعال لأحكامه، ولا يصح القول بان نصوص القانون جيدة ولكنها لا تنفذ، فكيف يمكن وصف قانون بانه جيد في حين انه لا ينفذ، فهذا قول يناقض نفسه. وإن النظام القانوني يجب أن تسوده مبدأ الوحدة، فلا تتعارض نصوصه أو تتنافر فيما بينها، ونصوص الدستور تساهم في تحقيق الانسجام والترابط في بنيان النظام القانوني. ولذلك ندعو لاتخاذ الاجراءات التالية لمواجهة هذه المشكلة والحد من تداعياتها:
أولا: –تقليل عدد القضايا التي تتولى المحاكم نظرها بإجراءات المحاكمة العادية، وذلك بالبحث عن بدائل لإقامة الدعوى الجنائية، مثل التوسع في نطاق الجرائم التي يمكن إصدار أمر جنائي من النيابة العامة فيها والتوسع في القضايا التي يجوز فيها الصلح والتصالح وبما يسمح بتوجيه المزيد من الجهود للقضايا التي تتطلب التحقيق أو الحرفية والتخصص مع الوضع في الاعتبار ملائمة هذا الاتجاه لقواعد النظام القانوني في مصر وتحاشى الوقوع في دائرة عدم الدستورية مع عدم الإخلال بحقوق الأطراف.
ثانيا: –توجيه المزيد من الاهتمام بالتدريب المستمر في الداخل والخارج لرفع كفاءة السلطة القضائية بما ينعكس أثره على إنجازهم لعملهم في وقت مناسب دون أن يؤثر ذلك سلبا على دقة العمل.
ثالثا: –الاستعانة بأدوات التكنولوجيا الحديثة في ميكنة العمل الإداري والقضائي بما يتناسب مع طبيعة هذا العمل، وما يتضمنه ذلك أيضا من الاستفادة من فكرة بنوك المعلومات القانونية الإلكترونية التي تقدم الدعم القانوني اللازم من نصوص التشريعات القانونية والسوابق القضائية والمراجع الفقهية.
رابعا: –الاستفادة من إمكانات التعاون الدولي في المجال القضائي والقانوني لمواكبة الاشكال المعاصرة للجريمة خاصة الجرائم المنظمة وجرائم الارهاب لم يعد من الممكن حصر التحقيق ومكافحة الجريمة داخل الحدود الوطنية والتشبث بالسيادة الوطنية، فهناك حاجة لتطوير نظام تسليم المجرمين وتبادل المعلومات والتعاون في انفاذ القانون على المستوى الدولي.
خامسا:- الاقرار بمنافع مشاركة الجمهور في تعزيز منع الجريمة وأداء العدالة الجنائية، وأن تنظر في توفير الأمن والعدل على نحو يركِّز على الناس باعتبارهم من العناصر الهامة لتحقيق التنمية المستدامة، وأن تولي الاعتبار الواجب لإصلاحات نظام العقوبات والسجون، مع التسليم بأنَّ سوء أوضاع السجون واكتظاظها كثيرا ما يُشيران إلى أوجه قصور منهجية في نظام الدولة لمنع الجريمة والعدالة الجنائية، من قبيل ضعف إمكانية الحصول على المساعدة القانونية، أو عدم وجود بدائل للسجن أو تدابير لإعادة الإدماج الاجتماعي، اذ أنَّ إرساء نظام العدالة الجنائية الفعَّال والمنصف والمراعي للاعتبارات الإنسانية إنما يقوم على الالتزام بإعلاء شأن حماية حقوق الإنسان في إقامة العدل وفي منع الجريمة ومكافحتها.