ازدواجية دعوى الاستحقاق بين مسطرة التحفيظ ودعوى الاستحقاق العادية : سلسلة الابحاث الجامعية و الأكاديمية العدد 20
مقدمة
تؤدي الملكية العقارية دورا فعالا في تحريك عجلة التنمية، والدفع بقاطرة الاقتصاد الوطني، و تعتبر دعامة أساسية لتشجيع الاستثمار وانطلاق المشاريع التنموية، كما تساهم في التنمية الاقتصادية الشاملة و تحقيق السلم والاستقرار الاجتماعيين.
ولاشك أن اضطلاع الملكية العقارية بهذه المهمة، يتوقف على وجود إطار قانوني يوفر لهذه الملكية أرضية صلبة تمكن جميع الأفراد من التعامل فيها بكل ثقة واطمئنان [1].
لأجل ذلك، وبهدف مواجهة حب التملك باعتباره طبيعة فطرية في الإنسان[2]، عملت معظم الدول على وضع قوانين وسن إجراءات مسطرية تضمن انتقال العقار بشكل طبيعي بعيدا عن كل ما من شأنه أن يضر بحقوق الأفراد أو يؤثر على النظام العام.
ويعتبر المغرب من الدول التي أولت أهمية قصوى للملكية العقارية، ويظهر ذلك جليا حينما جعل المشرع المغربي من حق الملكية حقا دستوريا بصريح النص[3]، وسنه لمجموعة من القوانين الرامية بالأساس إلى حماية هذا الحق من كل محاولة للاعتداء أو المساس به، لعل أبرزها ظهير التحفيظ العقاري المعدل و المتمم بالقانون 14.07[4]، الذي نص فيه المشرع على مسطرة خاصة هي مسطرة التحفيظ، التي تعد وبحق من أهم المساطر القانونية وإحدى الركائز الأساسية لتثبيت الملكية العقارية.
وبغية توفير حماية أكبر للملكية العقارية، فقد أوجد الفقه الإسلامي والقانون الوضعي مجموعة من الآليات والسبل القانونية من أجل تحقيق ذلك، ومن بين هذه السبل نجد دعوى الاستحقاق العقارية العادية، التي تعتبر هي الأخرى من أهم الدعاوى العقارية على الإطلاق، لكونها تتعلق بتقرير ملكية عقار أو حق عيني بإسنادها إلى هذا الطرف أو ذاك[5].
وتعرف مسطرة التحفيظ بأنها عبارة عن مجموعة من الإجراءات الإدارية والقضائية إن اقتضى الحال، التي تروم تحقيق حق الملكية، وما يرد عليه من تحملات وحقوق عينية أخرى، وفق شكليات وآجال محددة تنتهي بإخضاعه لإطار قانوني جديد أو إبقائه في وضعه الأصلي[6].
أما دعوى الاستحقاق العقارية العادية، فقد تم تعريفها بأنها تلك الدعوى التي يرفعها مدعي ملكية عقار في مواجهة الحائز يرمي من خلالها إلى الحكم باستحقاقه العقار بإسناد ملكيته إليه[7].
في هذا الإطار، إذا كانت معظم دعاوى الاستحقاق العادية يكون موضوعها عقار غير محفظ، على اعتبار أن العقار المحفظ تجعله خاصيتي التطهير والنهائية التي تطبع الرسم العقاري في منآى عن أي دعوى أصلية ترمي إلى استحقاقه (باستثناء إذا تعلق الأمر بأراضي الأوقاق العامة أو الملك العام للدولة)[8]، إلا أنه قد يحدث أن يكون العقار في طور التحفيظ، وبالموازاة مع ذلك تثار دعوى استحقاق عادية جارية أمام القضاء العادي أو يصدر حكم نهائي فيها، وتهم نفس العقار المراد تحفيظه، و هذا ما يؤدي إلى ازدواجية دعوى الاستحقاق بين مسطرة التحفيظ ودعوى الاستحقاق العادية.
فقد يعمد أحد أطراف النزاع في دعوى استحقاق عادية تخص عقارا ما، إلى إيداع مطلب تحفيظ لدى المحافظ على الأملاك العقارية بغية فتح مسطرة للتحفيظ تهم نفس العقار المتنازع عليه، بالرغم من أن الدعوى المذكورة لازالت رائجة أمام القضاء العادي إما لعدم صدور حكم فيها أو صدوره وقيام المحكوم عليه بالطعن فيه، و في حالة صدور حكم قضائي نهائي عن القضاء العادي في دعوى الاستحقاق، وعلى اعتبار أن الحكم هنا يعتبر سندا للملك[9]، فإذا كان بإمكان طالب التحفيظ أن يدعم مطلبه بمثل هذا الحكم، فإنه في مقابل ذلك، يعطى نفس الحق للمتعرض بأن يؤيد تعرضه هو الآخر بالحكم القاضي باستحقاقه للعقار موضوع مسطرة التحفيظ.
جدير بالذكر، إلى أن ازدواجية دعوى الاستحقاق بين مسطرة التحفيظ ودعوى الاستحقاق العادية، عرفها المغرب منذ فترة الحماية إلى يومنا هذا[10]، وقد أثارت و لازالت تثير نقاشا حادا بين الفقه والقضاء خاصة على مستوى سلطة المحافـظ على الأمـلاك العقـــارية في مراقـبة الحكم النهائي القاضـــي باستــحقاق طالب التحفيظ أو المتعرض للعقار المراد تحفيظه والصادر خارج مسطرة التحفيظ، وكذا على مستوى الاختصاص القضائي بين المحكمة العادية ومحكمة التحفيظ.
ويرجع السبب في ذلك بالدرجة الأولى، لعدم وجود إطار قانوني ينظم هذه الازدواجية، حيث أن المشرع المغربي، على الرغم من أنه أدخل مجموعة من التعديلات على ظهير التحفيظ العقاري، إلا أنه لم ينتبه لهذا الموضوع.
من هذا المنطلق، يمكن القول أن موضوع دراستنا يكتسي أهمية بالغة، إن على المستوى النظري أو على المستوى العملي، فمن الناحية النظرية تكمن أهميته في قـلة الكتابات الفقهية التي تصل إلى حد النذرة، إضافة لغياب النصوص القانونية المنظمة له سواء في إطار ظهير التحفيظ العقاري أو في إطار القواعد العامة ونخص بالذكر هنا قانون المسطرة المدنية.
أما من الناحية العملية، فتتجلى أهمية موضوع ازدواجية دعوى الاستحقاق بين مسطرة التحفيظ ودعوى الاستحقاق العادية، في أنه يرتبط بأهم الحقوق وأقدسها على الإطلاق ويتعلق الأمر بحق الملكية العقارية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن موضوع دراستنا هذا، يتدخل فيه جهازين : جهاز إداري متمثل في جهاز المحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية، وجهاز قضائي سواء تعلق الأمر بقضاء التحفيظ أو القضاء العادي، وهذا من شأنه أن يخلق نوعا من الاختلاف بين الإدارة والقضاء.
انطلاقا من هذه الأهمية يثير البحث الإشكالية الجوهرية التالية:
إذا كانت هناك دعوى استحقاق عادية رائجة أمام القضاء العادي بشأن عقار معين، وفي نفس الوقت هناك مسطرة تحفيظ جارية أمام المحافظ على الأملاك العقارية تهم نفس العقار المتنازع عليه، وصدر أو سيصدر حكم نهائي في الدعوى المشار إليها، ففي مثل هذه الحالات : ما حجية الحكم القضائي النهائي القاضي بالاستحقاق الصادر خارج مسطرة التحفيظ لفائدة أحد الأطراف على مطلب التحفيظ وعلى التعرض، وما هي الآثار المترتبة عن ذلك؟
هذه الإشكالية تثير جملة من التساؤلات الفرعية، أهمها:
- ماهي أهم أوجه التشابه و الاختلاف بين مسطرة التحفيظ العقارية ودعوى الاستحقاق العادية؟
- ما موقف كل من الفقه و القضاء في هذا الموضوع؟
- ما هي الآثار المترتبة عن هذه الازدواجية خاصة على مستوى الاختصاص القضائي؟
- ثم ماهي آفاق ازدواجية دعوى الاستحقاق بين مسطرة التحفيظ العقارية ودعوى الاستحقاق العادية؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات و معالجة الإشكالية الجوهرية للموضوع، تقتضي منا بداية التعرض لحجية الحكم القضائي النهائي القاضي بالاستحقاق الصادر خارج مسطرة التحفيظ على مطلب التحفيظ والتعرض، ثم تسليط الضوء بعد ذلك على آثار وآفاق ازدواجية دعوى الاستحقاق بين مسطرة التحفيظ ودعوى الاستحقاق العادية، معتمدين في ذلك على المنهج التحليلي، وفي أحيان أخرى المنهج النقدي.
لذلك، ارتأينا تقسيم هذا البحث إلى فصلين جاءت تفاصيلهما كما يلي :
الفصل الأول: حجية الحكم النهائي لدعوى الاستحقاق العادية الصادر خارج مسطرة التحفيظ
الفصل الثاني: آثار وآفاق ازدواجية دعوى الاستحقاق بين مسطرة التحفيظ ودعوى الاستحقاق العادية.