البنوك الإسلامية بين النظرية والتطبيق رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص
مقدمة عامة:
تعد المصارف والمؤسسات البنكية منذ نشأتها، عصب الإقتصاديات العالمية، نظرا للدور الذي تلعبه في هذا المجال من خلال تمويل هذه الأخيرة، وتزويدها بالكميات اللازمة والكافية من الأموال والسيولة النقدية التي تحتاجها في مشروعاتها الإستثمارية.
إلا أن جل هذه المؤسسات كانت تتمحور معاملاتها في دور الوساطة بين المدخرين الذين يودعون أموالهم بها، والمستثمرين الذين يطلبون تمويلا من قبل هذه البنوك لمشاريعهم، غير أنها سرعان ما جنحت نحو تطوير أدائها بقوة، وتغيير أساليبها المصرفية، وذلك بانفتاحها على جميع المجالات الحيوية بمختلف تفرعاتها، حيث تخصصت في عدة ميادين، فتكونت بذلك ما يسمى بالبنوك المركزية، والبنوك التجارية العقارية وغيرها، بيد أن السمة الطاغية والتي حكمت استغلال مختلف هذه الأنواع المصرفية هي التعامل وفق نظام الفائدة إقراضا واقتراضا.
وقد تمكن هذا النظام المصرفي من الدخول إلى البلاد العربية والإسلامية، عن طريق القنوات المعروفة لذلك من المستثمرين أجانب وغيرهم، واستنسخت بذلك نماذج المختلفة وأنواعه المتعددة داخل هذه الدول، وتغلغل هذا النظام بشكل قوي في اقتصادياتها الناشئة والفتية، ومع مرور الوقت تبين بالملموس أن هذه المؤسسات البنكية التي تستند وتعتمد كثيرا على الفائدة، لا تتلاءم والنظام الإسلامي الذي يسود هذه الأقطار العربية والإسلامية ولا تمت له بأية صلة كانت، ذلك أن الشريعة تحرم الفائدة والتي ما هي إلا مسمى من مسميات الربا الحرام قطعا، علاوة على هذا فإن الكثير من المسلمين يجدون في التعامل مع البنوك الربوية حرجا كبيرا ويفضلون عدم اللجوء إليها من أجل الإقتراض أو حتى إيداع أموالهم وممتلكاتهم بها وحفظها لديها، حيث غالبا ما يحتفظون بها في بيوتهم داخل الصناديق الحديدية، ويلجأ آخرون منهم إلى خزنها داخل حفر في الأرض.
وعلى هذا الأساس، ونظرا لعدم التلاءم بين ما ينص عليه الدين الإسلامي، وما تجريه هذه البنوك من تصرفات ومعاملات مشكوك في مشروعيتها من وجهة نظر الإسلام، ومن أجل رفع الحرج عن المسلمين الذين يرغبون في التعامل مع البنوك ولكن في الإطار المسموح به شرعا، انبعثت عدة أصوات تنادي بقطع الصلة مع تلك البنوك الربوية، وعدم التعامل معها بأي شكل من الأشكال.
ومن أجل ذلك، انصب التفكير والإهتمام حول إيجاد صيغ بديلة لهذه المؤسسات الحيوية، والتي تكون متواءمة والشرع الإسلامي.
وبالفعل، ثم التنقيب عن هذه الصيغ في قواعد الشريعة الإسلامية وفقه المعاملات –والتي تشكل بحق اقتصاد إسلاميا متكامل البنيان- وثم إيجادها فعلا، وأخذت هذه الصيغ تشكل صورة بنوك مبنية على أساس إسلامي صرف، وأطلق عليها إسم “البنوك الإسلامية”. هذه الفكرة اختمرت في أذهان الإقتصاديين والفقهاء المسلمين وأصبحت ناضجة تماما، وتبلورت بشكل نهائي ومكتمل.
ويمكن القول أن هذه “البنوك الإسلامية” برهنت للجميع أن الإسلام ليس دين عبادة فقط، ولكنه دين عمل ومعاملة أيضا، يشمل من القواعد الإقتصادية ما يمكنها أن تبني اقتصادا إسلاميا قويا يقف جنبا إلى جنب مع الإقتصاد العالمي السائد.
هكذا، ظهرت بوادر تجربة “البنوك الإسلامية” أول ما ظهرت في مدينة بيت غمر المصرية، وذلك عام 1963، وإن كانت البداية الحقيقية للعمل المصرفي الإسلامي قد بدأت مع إنشاء بنك دبي الإسلامي، وذلك في سنة 1977، مع العلم أن بنوكا شبيهة قد أسست قبل هذا التاريخ ولكنها لم تكن قد أكدت فعاليتها ووجودها على الساحة المصرفية والإقتصادية.
وبهذا الشكل أصبح مصطلح “البنوك الإسلامية” أكثر تداولا بين أوساط الناس، خاصة في منطقتي الشرق الأوسط والخليج العربي، إلا أن تحديدها بقي نوعا ما مستعصيا، ومفهومها ظل مشكلا، وأضحت مسألة وضع تعريف دقيق لهذه البنوك المستحدثة أمرا بالغ الأهمية رغم صعوبتها، وفي غالب الأحيان لم تأت القوانين العربية والإسلامية المنظمة لقطاع الأبناك بشكل عام بتعريف محدد “للبنوك الإسلامية”، وإنما اكتفت بوضع المبادئ وتقرير العمليات التي تجعل من مؤسسة ما بنكا إسلاميا.
وقد وضعت اتفاقية إنشاء الإتحاد الدولي للبنوك الإسلامية والتي تمت بمقر البنك الإسلامي للتنمية بجدة سنة 1977، تعريفا لمثل هذه البنوك، وذلك من خلال الفقرة الأولى من المادة الخامسة عند الحديث عن شروط العضوية في هذا الإتحاد، وكان التعريف كالتالي:
“يقصد بالبنوك الإسلامية في هذا النظام تلك البنوك أي المؤسسات التي نص قانون إنشائها ونظامها الأساسي صراحة على الإلتزام بمبادئ الشريعة، وعلى عدم التعامل بالفائدة أخذا أو عطاء”.
ولكن نظرا لوجود فئة وثلة من المثقفين المسلمين من فقهاء واقتصاديين أخذ مفهوم البنك الإسلامي يتوضح شيئا فشيئا، وهكذا عرفه الدكتور أحمد النجار بأنه “مؤسسة مالية مصرفية لتجميع الأموال وتوظيفها في نطاق الشريعة الإسلامية بما يخدم بناء مجتمع التكافل الإسلامي وتحقيق عدالة التوزيع ووضع المال في المسار الإسلامي”، أما الدكتور محسن أحمد الخضيري فقد عرفه بكونه “مؤسسة نقدية مالية تعمل على جذب الموارد النقدية من أفراد المجتمع وتوظيفها توظيفا فعالا يكفل تعظيمها ونموها في إطار القواعد المستقرة للشريعة الإسلامية وبما يخدم شعوب الأمة ويعمل على تنمية اقتصادياتها”. وهناك تعاريف أخرى لهذا المفهوم وهي متعددة ولكنها لا تخرج جميعها عن المعاني السالفة الذكر.
بيد أن ما يستشف من جملة التعاريف هذه، هي مجموعة السمات والخصائص التي تتميز بها هذه البنوك الإسلامية عن غيرها وتحدد طبيعتها وترسم مسارها، ومن هذه السمات هناك الإلتزام بالقواعد المقررة في الشريعة الإسلامية فيما يخص المعاملات المالية، واتباع قاعدة الحلال والحرام والإبتعاد عن المجالات المشكوك فيها، وعدم التعامل بالربا وأكل أموال الناس بالباطل، وكذا الصراحة والوضوح في المعاملات مع الزبناء، والخضوع للرقابة الشرعية، وعدم حجب المال عن التداول واكتنازه، بل تنميته في الأمور التي تخدم الأمة الإسلامية، وغيرها من السمات البارزة التي تكاد تنعدم في البنوك العادية، وهو ما سنعمل على توضيحه من خلال هذا البحث عن طريق إعطاء مقارنات بين هذين الصنفين من البنوك كلما استدعى الأمر ذلك.
ومن الأكيد أن أهم وظائف البنوك التقليدية تتلخص في عرض النقود وخلقها وإقراضها وتقديم الخدمات للزبناء ولعب دور الوساطة بين المستثمرين والمدخرين كما رأينا وغير ذلك من الأعمال، وهي تعيش به على الفرق بين الفائدة الدائنة والمدينة، في حين لا تقرض البنوك الإسلامية بالفائدة ولا تعترض بها بل تبتعد عنها تماما وتعيش على الأرباح التي تتحصل عليها من استثماراتها التي توظف فيها أموالها بطرق مشروعة إسلاميا.
من هنا، وبناء عليه يحق لنا إثارة مجموعة من التساؤلات والإشكالات حول فكرة “البنوك الإسلامية” والتأثير الذي أحدثه ظهورها.
فهل هذه “البنوك الإسلامية” هي حقا صيغا وبدائل للبنوك التقليدية، أم أنها مجرد نوعية جديدة ومستحدثة من البنوك تقدم خدمات تختلف من حيث مضمونها وطبيعتها عن تلك المقدمة من هذه الأخيرة؟
وما مدى أداء البنك الإسلامي للرسالة المنوطة به، واقترابه من الأهداف التي رسمت له منذ ثلاثة عقود ونيف؟
بل هل تم تحديد هذه الأهداف بالإمعان الكافي، ومن ثم الإتفاق عليها على المستوى المطلوب، أم أن “البنوك الإسلامية” ما هي إلا تجربة تلقائية دون سابق بحث أو تنظير؟ ثم هل المناهج الإدارية والثروات البشرية التي أعدتها هذه البنوك لبلوغ أهدافها وتحقيق رسالتها على قدر كاف من التلاءم والصلاحية، أم أنها صورة طبق الأصل عن النماذج السائدة في البنوك التقليدية؟
هذه الأسئلة وأخرى هي التي سنعمل على الإجابة عنها ومحاولة مقاربتها من خلال محاور هذا البحث، وذلك حسب الخطة التي سننهجها في هذا الشأن.
وهكذا ارتأينا أن يتفرع هذا البحث إلى قسمين:
ففي القسم الأول سنتطرق للمرتكزات الأساسية لقيام البنك الإسلامي، سبل إدارته والرقابة عليه.
وبالمقابل سنضمن القسم الثاني منه دراسة موارد واستخدامات البنك الإسلامي، رهاناته ومعيقاته.
إننا حين دراستنا لظاهرة مثل “البنوك الإسلامية” تجتذبنا لأول وهلة فكرة أساسية، أو بالأحرى تساؤل هام مفاده: ما هي الأرضية العامة التي تقوم عليها هذه البنوك؟ إن على مستوى الإطار الديني الذي تندرج ضمنه، أو على مستوى التنظير الفكري الذي يؤطرها، هذا دون إغفال للقالب القانوني الذي تتبوثق داخله.
لكن، إذا كان تناولنا لهذه الفكرة هو ضرورة ملحة تقتضيها دراسة هذا الموضوع باعتبار أنها تشكل الفرش النظري لقيام ظاهرة “البنوك الإسلامية”، فإن دراستنا بعد ذلك للأجهزة الإدارية والهياكل التنظيمية التي تنظم سير وعمل هذه البنوك يكتسي هو الآخر أهمية قصوى وملحاحية كبيرة. مع الإشارة بطبيعة الحال بالتحليل للمشاكل والمثبطات التي تعوق هذه الإدارة وتجعلها عرضة لعدة انتقادات بناءة أو غير ذلك.
إلا أن أية إدارة في أي مجال كان، لابد لها من رقابة حتى تكون هذه الإدارة في مستوى التطلعات المنتظرة منها، لأن في غياب الرقابة تصبح هذه الإدارة غارقة في جملة من الخروقات والتجاوزات غير القانونية، وإدارة البنك الإسلامي لا تحيد عن هذه القاعدة ولا تشذ عليها، هذا ما دفعنا إلى الحديث عن الرقابة في البنوك الإسلامية حتى تكتمل الصورة ويتوضح المكنوه حول كل ما يخص الجانب النظري للبنوك الإسلامية.
وهكذا ارتأينا أن نتناول في (الفصل الأول) المرتكزات الأساسية لقيام البنك الإسلامي سواء الدينية منها أو القانونية دون أن ننسى الآراء الفكرية حول هذه الأسس.
على أن نخصص (الفصل الثاني) لكيفية تكوين إدارة البنك الإسلامي وسير العمل به والرقابة عليه بمختلف أنواعها.
الفصل الأول:
أسس قيام البنك الإسلامي.
إن “البنك الإسلامي” يتمأسس على عدة مرتكزات منها ما هو ديني ومنها ما هو قانوني إلى جانب التأصيل الفكري لهذه المرتكزات، وهو ما سنبينه على النحو التالي: حيث نتطرق إلى الإطار القانوني للبنك الإسلامي وواقع تأسيسه في (مبحث ثان)، على أن نخصص الأساس الديني والفكري الذي يقوم عليه في (مبحث أول).
المبحث الأول: الأساس الديني والفكري لقيام البنك الإسلامي.
إن الحديث عن “البنك الإسلامي” يدفعنا إلى البحث عن أسسه التي ينهض بها وعليها، فلاشك أن هذا النوع من المصارف المستحدثة يتمحور بالدرجة الأولى حول عدة مفاهيم ومبادئ رئيسية تبرر قيامه، وتمده بشيء من التجديد والتنوع، من هذه المفاهيم مفهوم “الربا” و”الربح”، إذ أن هذين المفهومين بالذات إضافة إلى مفهوم “الفائدة” قد أسيل حولهما مداد أقلام المفكرين والمحللين الإقتصاديين سواء المسلمين منهم أو الأجانب، لما يمثلانه من إشكالية عند دراسة البنوك ذات التوجه والبعد الإسلاميين، حيث يتم طرح تساؤل هام ألا وهو ماذا تعني هذه المفاهيم بالنسبة لقاموس هذه المصارف؟ أي كيف تتعامل معها؟
وهو ما سنحاول مقاربته من خلال محاور هذا المبحث، حيث سنبين في (المطلب الثاني) الآراء الفكرية المختلفة حول الربا والربح، أما (المطلب الأول) فسنوضح من خلاله منظور الشريعة الإسلامية لهذين المفهومين.
المطلب الأول: الربا والربح في المنظور الإسلامي.
تكاد تجمع كل الدراسات على أن الربا هو التوأم الحقيقي للفائدة وشبيهها الأول، هذه الأخيرة هي التي تعتمد عليها النظم الربوية أي البنوك العادية في معاملاتها المالية اليومية كأساس لها، بينما البنوك الإسلامية اللاربوية تتعامل وتستخدم مواردها المالية بأساليب استثمارية مباحة ومشروعة منصوص عليها في الفقه الإسلامي رامية من وراء ذلك تحقيق الربح.
وهذا ما يعني أن الربا يشكل ذلك الفيصل بين قيام البنوك الإسلامية والبنوك العادية، إذ أن الأولى تعتبره خارجا عن نطاق الشرع ومبادئ الإقتصاد الإسلامي وفقه المعاملات، أما الثانية فلا يهمها أتعاملت بالربا أم لا، إذ غاية ما تصبو إليه هو تحقيق الربح الأقصى بشتى الوسائل الممكنة، أي أنها تتخذ الربح هدفا قبليا مسطرا لها في قانونها الأساسي، في حين أن البنوك الإسلامية لا تسعى إلى تحقيقه إلا في حدود ما يخول لها إمكانية بقائها ويضمن لها استمراريتها.
هذا ما استوجب ملامسة كل من مفهوم الربا والربح في الإسلام باعتباره يحرم الأول ويشجع على الثاني متى كان موافقا للشرع.
الفرع الأول: موقف الإسلام من الربا.
قبل طرح وجهة نظر الإسلام حول الربا، لا بأس من الإحاطة بمعنى الربا لغة وشرعا.
1 ـ الربا معناه في اللغة (الزيادة والفضل)، وضدها نقصان، نقص. يقال ربا الولد: نشأ، وربا الشيء، نما وزاد. فهو مشتق من “ربا، يربو، ربوا ورُبوا فهو راب” ويقال أيضا الربوة وهي كل ما ارتفع من الأرض من تراب وصخور، وعبر تدبر القرآن الكريم نجد أن كلمة الربا جاءت بمعان متعددة وكلها تعني الزيادة والنماء والفضل، حيث نجدها بمعنى الإرتفاع في قوله تعالى: ]وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت[. ووردت بمعنى الكثرة في العدد وذلك مصداقا لقوله تعالى: ]أن تكون أمة هي أربى من أمة[، أي أمة أكثر وأكبر عددا من أمة أخرى، إلى غير ذلك من المعاني المتعددة في آيات قرآنية أخرى.
2 ـ أما شرعا، فقد اصطلح أئمة الفقهاء على أن الربا يعني كل زيادة أو فضل لا يستند إلى الشرع، غير أن فقهاء المذاهب الأربعة المعروفة اختلفوا حول تعريف الربا من الناحية الشرعية فقط:
-
فقد عرفه الحنفية على أنه: “فضل مال خال عن عوض بمعيار شرعي مشروط لأحد المتعاقدين في المعاوضة”.
-
أما الإمام مالك فعرفه على أساس أنه: “الزيادة في العد أو الوزن محققة أو متوهمة والتأخير”.
-
وعرفه الشافعية بأنه “عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير البدلين أو أحدهما”.
-
أما الإمام أحمد بن حنبل فقد عرفه بكونه “الزيادة في أشياء مخصوصة”.
هذا وإن اختلف فقهاء المسلمين في إعطاء تعريف شرعي واحد للربا فإنهم مع ذلك يوقنون تمام اليقين بكونه زيادة غير مشروعة.
3 ـ جاء الإسلام وفي جعبته العديد من الأحكام التي ترمي في مجملها إلى تحقيق العدالة والمساواة الإجتماعيين، محطما بذلك كل حيف أو ظلم، هادفا إلى تقويم الأخلاق وتهذيبها بعدما أصبحت في الحضيض، وإصلاح ما فسد من أفعال الناس ومعاملاتهم.
وقد سلك الإسلام في ذلك، منهج التدرج التصاعدي في تشريع الأحكام، تهيئة للنفوس المريضة والعقول الزائفة لتلقي هذه الأحكام بطيب نفس واقتناع عقلي ووجداني، حيث نجد أن الشارع الذي هو الله قد أنزل مجموعة من النصوص التحريمية لجملة من الأفعال والتصرفات الإنسانية وأبطلها لما فيها من مفاسد بينة، والربا لم يخرج بدوره من نطاق التحريم، حيث نجد الحق بدأ أولا ببيان عدم منفعة الربا في قوله تعالى: ]وما آتيتم من ربا لتربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون[. أي أن الأغنياء الذين يعطون أموالهم على وجه الربا ليزيد ويكثر ما لهم به، فإنه لا يزيد ولا يضاعف عند الله لأنه كسب خبيث لا يبارك الله فيه. ثم حرم الربا على اليهود بقوله سبحانه: ]فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه[. أي بسبب تعاطي اليهود للربا وهو محرم عليهم حرم الله عليهم طيبات كانت محللة لهم، ثم استرسل الشرع الإسلامي في تحريم الربا من خلال قول رب العزة سبحانه: ]يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة[، فهذا نهي من الله تعالى لعباده المؤمنين عن تعاطي الربا وتوبيخا لهم لما كانوا عليه في الجاهلية من تضعيفه.
بعد ذلك ولما استقر الإيمان في القلوب وتهيأت الأنفس والعقول، أتى تحريم الربا صريحا وقاطعا، والنهي عنه واضحا وجليا وذلك من خلال آيات سورة البقرة من أول قوله تعالى: ]الذين ياكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، وأحل الله البيع وحرم الربا، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، يمحق الله الربا ويربي الصدقات، والله لا يحب كل كفار أثيم[، حيث شبه الله تعالى الذين يتعاملون بالربا ويمتصون دماء الناس بأولئك المصروعين والمجانين الذين يقومون متعثرين ومتخبطين في أنفسهم بسبب استحلالهم ما حرم الله، وقولهم: الربا كالبيع فلماذا يكون حراما؟ فرد الله عليهم قولهم فأحل البيع بما فيه من تبادل المنافع، وحرم الربا لما فيه من الضرر الفادح بالفرد والمجتمع، لأن فيه زيادة مقتطعة من جهد المدين ولحمه، وهكذا فقد محق الله كل خير وربح للربا لما فيه من زيادة وأربى ونمى الصدقات وإن كانت قليلة وناقصة.
ثم أمر الله سبحانه المتقين بأن يتركوا الربا إن كانوا قد آمنوا حقا، حيث قال الحق: ]يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون[ فهذه الآية حملت خطابا صريحا للناس بترك ما لهم من الزيادة على رؤوس الأموال التي أقرضوها لغيرهم، وحسب تفسير هذه الآية، ومن خلال السياق الذي وردت فيه، فإن سبب نزولها هو كون قبيلة بني عمرو من ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ودخلت فيه هاتين القبيلتين طلبت ثقيف أن تأخذه من بني مخزوم، لكن هذه الأخيرة أبت أن تؤدي الربا في ظل الإسلام فوصل الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي نزلت عليه الآية أعلاه، فتركت القبيلتان ما بقي من ربا بينهم وتابوا إلى الله جميعا، لأن الجزاء على عدم ترك الربا هو حرب الله ورسوله، فقد وردت رواية عن ربيعة بن كلثوم عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يقال يوم القيام لآكل الربا خذ سلاحك للحرب.
وتتجلى حرمة الربا وأكله واضحة جلية من خلال ما تقدم ذكره من آي القرآن الكريم، والتي تؤكد كلها على فداحته وفساده، وإلا لما حذر الله تعالى آكلي الربا بحرب منه جلت قدرته ومن رسوله المصطفى عليه السلام، أي أن أكل الربا هو سبب موجب للحرب بين الله ورسوله من جهة، وبين من لا يبتعدون عنه ولا يمتثلون لحكم الله وأمره من جهة ثانية.
فها هو سعيد بن جبير رضي الله عله التابعي الجليل يجعل علامة آكل الربا يوم القيامة هي النهوض والسقوط مرة أخرى لعدم القدرة على الوقوف بسبب الثقل الذي يشعر به في بطنه لأن الله تعالى أربى وكثر من الربا الذي أكله، وها هو سيد قطب رحمه الله شهيد الإسلام قد أسقط صورة التخبط والتعثر على النظام الربوي المعاصر، فقد جاء على لسانه: “إن العالم الذي نعيش فيه اليوم هو عالم القلق والإضطراب والخوف والأمراض العجيبة، وذلك بالرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية، وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي، ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة وحرب الأعصاب والإضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك”.
وإذا كان القرآن الكريم قد حرم الربا بنصوصه القاطعة والمحكمة والتي لا ينتابها أدنى شك أو مراء، اعتبارا لما فيه من إضرار وإجحاف بالشخص وماله، وكونه كسب خبيث يمقته الإسلام أشد مقت، فإن السنة النبوية الشريفة قد سارت على نهج الكتاب الكريم، وعززته بأحاديث متعددة محرمة للربا ومبينة لقباحته الشنيعة.
ومن هذه الأحاديث التي وصلت إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب تحريم أكل الربا، سواء أكان هذا الأخير ربا الصرف أو ربا البيوع ما يلي:
ـ فيما يخص ربا الصرف وهو ما تعلق بالمعاملات الصرفية والقرض والديون، فإنه روي أن البراء بن عازب وزيد بن أرقم سئلا عن الصرف فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال: “إن كان يدا بيد فلا بأس وإن كان نساء فلا يصلح”. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء”. وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم”. فيتبين لنا أن بيع مال بمال أو طعام بطعام صرفا أو مبادلة يجب أن يكون متساويا سواء بسواء، لا زيادة فيه ولا ربا، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك واضح من خلال قوله: “لا تبيعوا”، وللإشارة فقط فإن هذه الأحاديث كلها صحيحة وردت في صحيح البخاري، وعلاوة على ما سبق فإن الديون أو ربا النسيئة هي التأخير في أجل الدين مع أخذ زيادة عليه، وهو محرم طبعا.
ـ أما ما يتعلق بربا البيوع، فإن هذا الأخير ينقسم إلى نوعين وهما: ربا الفضل وربا النساء، فربا الفضل هو بيع الجنس بجنسه يدا بيد متفاضلا، وربا النساء هو بيع الجنس بجنسه أو بجنس آخر من الأموال الربوية، وهذه الأنواع من ربا البيوع هي حرام في الإسلام ومنهي عنها، فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كنا نبيع صاعين بصاع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا صاعين بصاع ولا درهمين بدرهم”، وعن حكيم بن حازم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا”، أو قال: حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما”. وهذا فيه إشارة للآية التي سبق معنا ذكرها: ]يمحق الله الربا ويربي الصدقات[.
إضافة إلى ما ذكر من أحاديث نبوية، فإنه عليه السلام حذرنا مغبة التعامل بالربا سواء أخذا أو عطاء، لأن الأمر سيان يستوي فيه الآخذ والمعطي لقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه في حديث شريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه”. وقال: “هم سواء”. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا. فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا”. وهذا الحديث فيه إشارة وتلميح إلى كون آكل الربا لا يهنأ بما أكل، وأنه دائما فاغرا فاه إلى المزيد منه.
والربا في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وسبعون بابا، وفي رواية أخرى ساقها إلينا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الربا سبعون جزءا أيسرها أن ينكح الرجل أمه”. وقال عليه السلام: “يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا”. قال: قيل له: الناس كلهم؟ قال: “من لم يأكله منهم ناله من غباره”. وفي هذا تأكيد واضح لحقيقة الربا، وأن الزمان الذي تحدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم هو زماننا هذا، الذي أصبحت فيه الفوائد الربوية في كل المجالات تنتشر كما تنتشر النار في الحطب اليابس حيث من لم يتعامل بالفائدة الربوية مباشرة ناله حظه منه بطرق أخرى.
لهذا نجد المصطفى عليه السلام يوصينا بأن ندع ما يريبنا إلى ما لا يريبنا، وأننا كلما وجدنا سبيلا لتجنب مثل هذه المعاملات المحرمة شرعا إلا والتجأنا إليه، لأن الربا كلما زاد ونما فإنه في الأخير لا يفيد الناس بأي شكل من الأشكال مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل”.
ويتبين لنا من خلال الأحاديث التي أوردناها أن الربا محرم في السنة كما هو محرم في الكتاب، فموقف الإسلام من الربا واضح وضوح الشمس، لا يحتاج لأي نوع من التشكيك والتضليل، أو المجادلة، إلا كما يجادل الأعمى مرشده، فالربا محرم بكل أشكاله وتمظهراته.
لهذا نجد أن ديننا الحنيف يحثنا على عدم أكل أموال الناس بالباطل، وأن نيسر على المعسر حتى يتمكن من قضاء ما عليه من ديون مصداقا لقوله تعالى: ]وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون[. ومصداقا لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كان تاجرا يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه”.
وهذا فيه معنى كبير للتضامن والسماحة بين الأفراد داخل المجتمع المسلم، لأن إمهال الموسر والتجاوز عن المعسر فيه تكريس للقيم الأخلاقية التي حضنا عليها الإسلام، وفيه كذلك سد لباب الربا وما يترتب عنه من مضار لا تعد ولا تحصى إن بالفرد أو بالمجتمع.
وإن كنا قد أبرزنا موقف الإسلام من الربا من خلال الكتاب والسنة النبوية، فإننا ارتأينا أن نرجع قليلا إلى الوراء، وأن نغوص في عمق التاريخ، علنا نجد فيه ما يؤكد فعلا أن للربا جذورا تمتد إلى ما قبل التاريخ وحتى بعده، وأنه داء استشرى في الأمم السابقة قبل أن تصلنا أعراضه في عصرنا الراهن.
إذ أن الدراسات والأبحاث في هذا المجال تكاد تؤكد بشكل أو بآخر أن التعامل بالأشكال الربوية قديم قدم الزمن لم تنج منه أمة من الأمم.
لذلك فتناول ومقاربة الربا في تأصيله التاريخي أوالكرونولوجي موضوع على قدر من الأهمية لما فيه من بيان لحقيقته التاريخية.
وهذا ما سنعمل على إيضاحه من خلال المحور الموالي، والذي نبين فيه الربا في الحضارات القديمة والديانات السماوية السابقة.
الفرع الثاني: الربا في المجتمعات القديمة والشرائع السماوية.
سنتعرض بداية للربا في تصور المجتمعات ما قبل التاريخية، قبل أن نسوق موقف الشرائع السماوية السابقة منه، وذلك بشكل مقتضب ومركز.
1 ـ الربا في المجتمعات القديمة:
إن الحضارات القديمة والتي عرفت في عصور ما قبل الميلاد، والتي يمكن القول عنها أنها كانت بحق مدنيات قوية على جميع الأصعدة، تنهل من كل ما من شأنه أن يعزز مكانتها ويقوي شوكتها، قد وقفت هي الأخرى وقفة استهجان واستنكار لكل المعاملات الربوية وإن كانت تنشط فيها بقوة، وتسري في أوصالها بسرعة، وذلك نابع من اقتناعها الصميم بكون الربا هو مفسدة كبرى لأخلاق الفرد الذي يتعامل به، أو لنظام المجتمع الذي يسري فيه، وأنه وبال على النظام الإجتماعي والإقتصادي لما يحمل في طياته من جوانب سيئة وآثار سلبية.
هذا ما جعلنا نتوقف عند الربا في ثلاث محطات تاريخية، أي في عهد الفراعنة والإغريق والقياصرة.
أ ـ عهد الفراعنة:
إن الأبحاث العلمية والأكاديمية التي تعنى باقتصاديات مصر القديمة ومعاملاتها الصرفية وأنشطتها المالية، أفادت أن المصريين القدامى لم يحرموا الربا ولم يحظروه بشكل تام وبصورة قاطعة، وإنما شرعوا قوانين ووضعوا نواميس، الغاية منها الحد من أضراره، إيمانا منهم بما يخلفه وراءه من ويلات اجتماعية.
والشاهد على ذلك، هو ما نقله إلينا المؤرخ الإغريقي “ديودور” الذي اهتم بالقانون الفرعوني وخاصة ذلك الذي سنه الملك “بوخوريس” وهو من ملوك الأسرة الفرعونية الرابعة والعشرين، والذي يقضي فيه بأن “الربا مهما تطاولت عليه الآجال لا يجوز أن يصل إلى مقدار رأس المال”.
ب ـ عهد الإغريق:
لقد قام المشرع الإغريقي “صولون” بإصلاحات هامة، همت قضية الربا والذي كان متغلغلا في المجتمع الأثيني بشكل ملفت للنظر.
حيث أن العرف السائد آنذاك وقبل إدخال هذه الإصلاحات، كان يقضي بأن الشخص المدين لشخص آخر إذا لم يوفه دينه في الموعد، أصبح هو نفسه ملكا للدائن.
هذا ما جعل قانون “صولون” يحرم هذا التصرف ويقتلعه من جذوره، حيث قرر أن تكون مسؤولية المدين في ماله وذمته، لا في شخصه ورقبته، وحدد نسبة 12% من رأس المال كنهاية قصوى وكسقف أعلى يمكن أن تبلغه فوائد الدين.
ج ـ عهد القياصرة:
لقد آمنت الدولة الرومانية بنفس الأعراف والعادات التي آمن بها الإغريق، ومنها العرف الذي كان سائدا في المجتمع اليوناني بخصوص الدين ومسؤولية المدين، وسيرا على نهج المشرع الإغريقي “صولون” فإن “مؤلفوا الألواح الإثنى عشر” في روما أدخلوا هم الآخرين إصلاحات ترمي التخفيف من آثار الربا وسلبياته، لذا وضعوا قاعدة بخصوص مسؤولية المدين مشابهة تماما للقاعدة التي مرت معنا لدى الإغريق، وهي أن تكون مسؤوليته في ذمته وماله لا في رقبته وشخصه وبنفس نسبة “صولون” أي 12% ، وبعد ذلك جاء القيصر الروماني “جوستنيان” وجعلها 12% للتجار، ومن شابههم و4% بالنسبة للنبلاء.
ويمكن القول بأن هذه التشريعات كلها قننت ووضعت عقب الإضطرابات والحروب الداخلية الطاحنة والتي دارت رحاها بين الأغنياء والفقراء في الشعوب المذكورة آنفا، والإصلاحات التي أدخلت وقتئذ إنما كانت مجرد علاج وقتي لهذه الاضطرابات الإجتماعية التي سببتها الأنظمة والقوانين الربوية.
ونجد مثالا آخر للمجتمعات القديمة، حرمت بصورة قاطعة الربا والتعامل به مثل الصين القديمة، إذ أن تاريخ الصين المكتوب لم يسجل أي شكل من أشكال المعاملات الربوية.
2 ـ الربا في الشرائع السماوية السابقة.
عالجت الديانات السماوية السابقة على الإسلام داء الربا كما عالجه هذا الأخير، واتجهت به نحو التحريم الكامل، ذلك لأن مصدر هذا التحريم هو التشريع الرباني والذي هو واحد بالنسبة لجميع هذه الشرائع الدينية.
أ ـ الديانة اليهودية:
لقد وقفت الديانة اليهودية من الربا موقفا صارما، وحظرته تماما، لما فيه من أضرار وقبائح كثيرة تسبب العديد من المشاكل بين الناس وتخلق الفتن والبلابل بينهم.
وأكبر دليل على ما في الربا من قصد الإيذاء بالمفترض والإضرار به هو أن كلمة “ربا” بالعربية مقابلها باللغة العبرية هي كلمة Nessher والمشتقة من فعل يعني العض والإلتهام.
وقد ورد تحريم الربا في بطون أمهات الكتب الدينية اليهودية بشكل واضح، هكذا جاء في كتاب العهد القديم في الآية 24 من الفصل 22 من سفر الخروج ما يلي: “إذا أقرضت مالا لأحد من أبناء شعبي، فلا تقف منه موقف الدائن، لا تطلب منه ربحا لمالك”.
وجاء في موضع آخر وبالتحديد في الآية 35 من الفصل 25 من سفر اللاويين أنه: “إذا افتقر أخوك فاحمله… لا تطلب منه ربحا ولا منفعة”.
ب ـ الديانة المسيحية:
جاء في الآيتان 34 و35 من الفصل 6 من إنجيل لوقا أن المسيح عليه السلام قال: “إذا أقرضتم لمن تنتظرون منهم المكافأة فأي فضل يعرف لكم؟ ولكن افعلوا الخيرات وأقرضوا غير منتظرين عائداتها وإذا يكون ثوابكم جزيلا”. ويعد هذا القول أو التعليم حسب جميع الآباء اليسوعيين بمثابة تحريم قاطع للتعامل بالربا بالرغم مما يتهم أو يرمى به هؤلاء من تسامح وتراخ في مطالب الحياة. فقد وردت عن بعضهم عبارات صارمة بشأن الربا منها قول الأب “إسكوبار”: “إن من يقول أن الربا ليس معصية يعد ملحدا وخارجا عن الدين”.
وبات تحريم الربا مذهبا معولا عليه في أوربا خلال القرون الوسطى بعدما تقرر بواسطة “مرسوم إيكس لا شابيل” في عام 789م، إلا أن هذا المذهب بدأ يفقد شيئا من قدسيته ومناعته إثر انطلاق مسيرة عصر النهضة والتحرر، فبدأت الإعتراضات والإنتقادات تتوالى على هذا المذهب من طرف المفكرين الأوربيين في الفترة المتراوحة ما بين القرن السادس عشر والثامن عشر ومن هؤلاء المفكرين نجد “كالفين” و”مونتسكيو”.
ومن مظاهر فقدان قدسية المذهب السابق نجد مظهران أساسيان:
-
فالمظهر الأول يتمثل في أن بعض الملوك ورجال الدين انتهكوا تحريم الربا علانية مثل ملك فرنسا “لويس الرابع عشر” الذي اقترض بالربا ليسدد ثمن دانكرك عام 1662م، ومثل البابا “بي التاسع” تعامل هو الآخر بالربا عام 1680م.
-
أما المظهر الثاني فيتجلى في وضع استثناء عن قاعدة تحريم الربا كلما تعلق الأمر بأموال القصر، التي يمكن استثمارها بالطرق الربوية وذلك بإذن من القاضي سنة 1593م.
إلا أن رياح الثورة الفرنسية سنة 1789م حملت في طياتها إجازة للتعامل بالربا في حدود خاصة يعينها القانون، فأصبح مبدأ رسميا في البلاد الفرنسية.
ج ـ الربا في المجتمع الجاهلي:
إن التوقف عند الربا في الشرائع السماوية والمجتمعات المدنية القديمة، اقتضى منا كذلك، استتباع خطواته واستكناه أدواته في المجتمع العربي الجاهلي بشبه الجزيرة العربية، بيد أن هذا المجتمع الوثني الجاهلي عرف تملصا من كل القيم الأخلاقية التي وصلت إليه من الملل السابقة وخاصة ملة إبراهيم عليه السلام، ومن آثار ومظاهر هذه القطيعة مع الميراث الديني أن أصبح المنطق الذي يحكم لا العبادات ولا المعاملات هو منطق الأهواء والنزعات، والتي لا تمت بأية آصرة مع العرف أو التشريع الديني.
ومن هذا المنطق المنفلت من الضوابط والمثل العليا، ينبثق التعامل بالربا جليا واضحا لدى عرب الجاهلية.
ومن الأسباب التي يعزى إليها بروز الربا في هذا المجتمع، هو أن هذا الأخير كان ميالا إلى المعاملات التجارية، خصوصا إذا علمنا أن عرب الجاهلية كانوا مستقرين في مكة والتي تعد زمنئذ من أهم المدن التجارية على الإطلاق في شبه الجزيرة العربية، وأنهم كانوا يسعون إلى الكسب بكل الطرق، علاوة على هذه الأسباب، فإن تواجد اليهود في المنطقة كان له أثر بارز في استفحال ظاهرة التعامل بالربا والذي كانوا يحرمونه فيما بينهم ويبيحونه مع غيرهم من الجيران العرب.
ويمكن القول بأن الربا الذي كان شائعا بينهم هو “ربا النسيئة” وهو الذي ينشأ عن إقراض المال لفترة معينة نظير زيادة تشترط على رأس المال، أو التمديد في أجل سداد الدين عند حلوله مقابل زيادة مضافة إلى أصل الدين الأول.
فكان أهل الجاهلية يقول دائنهم لمدينه إذا حل وقت أداء الدين “إما أن تقضي وإما أن تربي”، مما يضطر معه المدين إما إلى الأداء وإما إلى قبول إعطاء زيادة أخرى للدائن المرابي حتى يمنحه أجلا آخر للسداد.
غير أن سطوع ضياء الإسلام على هذه المنطقة العربية جعل الأمور تتغير، وتسير نحو إقرار العدل في كل شيء، وإخضاع التصرفات المالية للمنطق الرباني والتوجيه النبوي، اللذان بهما تقرر تحريم الربا أخذا وعطاء لما فيه من تعود الناس على الكسب المريح دون بذل أي جهد فيه.
وهكذا جاء البيان النبوي واضحا في هذا الشأن، حيث خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: “ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله”. أي كل ربا كان التعامل ساريا به في الجاهلية يجب تركه بتاتا ولكل واحد من عرب قريش الإحتفاظ برأس ماله الأصلي.
الفرع الثالث: الربح في الإسلام:
لابد من الإشارة بداية إلى معنى الربح لغة واصطلاحا، قبل الخوض في توضيح الرؤية حوله:
-
الربح لغة: من ربح، يربح، ربحا وأرباحا، وهو ما يربح ويكسب.
الربح في التجارة: الفرق بين ثمن البيع ونفقة الإنتاج أو الشراء، ضده خسارة.
-
الربح اصطلاحا: الربح في كلام الفقهاء هو “زائد ثمن بيع تجر على الثمن الأول ذهبا أو فضة. ويخلص من ذلك أنه ما يتحصل من زيادة مستفادة نتيجة الإتجار”، عرفه ابن عرفة من المالكية.
– مفهوم وإطار الربح في النظام الإسلامي:
إن مقاربة مفهوم الربح تتم من منظورات وزوايا مختلفة، ذلك أن الربح يمكن النظر إليه من زاوية المادة والروح.
والإسلام تناول الجانبين معا، حيث شجع على الربح الروحي الذي يعني العمل الصالح في الدنيا والذي جزاؤه في الآخرة عظيم وثوابه جزيل، وحث على الربح المادي ويعني الفرق الذي ينتج من عملية البيع والشراء، أي ما يكسبه البائع بعدما يبيع سلعته ويخصم منها تكاليف إنتاجها.
فالربح إذن هو ذلك الدافع والمحرك الحقيقي لكل المعاملات الشرعية المقررة في الإسلام شريطة أن لا يحيد عن القواعد المرسومة له.
من هنا يمكن القول بأن الربح الذي دعا إليه الإسلام وحث عليه هو ذلك الربح الخالي من أي شيء يشينه، وهو المحاط بغلاف القناعة، لا غلو فيه ولا مراباة ولا احتكار، إذ أن البيع الصحيح هو الذي ليس فيه خداع باطل ولا خيانة واللذان من شأنهما أن يؤديا إلى الكسب والربح السريع وغير المستحق البتة.
والنبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الربح المتأتى من هكذا بيوع بقوله: “الخديعة في النار، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد”. ونهانا عن بيع النجش وبيع الغرر لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يبتاع المرء على بيع أخيه ولا تناجشوا ولا بيع حاضر لباد”. وقوله أيضا: “لا يبيع بعضكم على بيع بعض ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق”.
وجاء في القرآن الكريم قول الله تعالى: ]ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين[ وقوله تعالى: ]ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين[.
كل هذه الأحاديث الشريفة والآيات الكريمة تدل على أن النظام الإقتصادي الإسلامي لا يبيح الأرباح الإحتكارية الناتجة عن الطرق الملتوية، ولا تدخل ضمن عناصر احتسابه التكاليف المخالفة للشريعة الإسلامية، عكس ما هو قائم لدى الأنظمة الربوية التي تحتسب مقدار الأرباح بالنظر لكل العناصر والتكاليف كيفما كان طريقها شريفا أم لا.
والشريعة الإسلامية أكدت على أن المال يجب أن يكون مصدر خير ونماء للجميع، وليس مصدر ضرر وعدم نفع، حيث يجب تنميته واستثماره وتشغيله بالطرق الشرعية، الخالية من مسائل مثل الغش والتدليس والإستغلال والإحتكار، وأن تكون الأرباح ذات مصدر حلال وطيب، لهذا فالرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا مغبة الوقوع في دائرة البيوع المحرمة، حيث قال: “إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام”. بل وحرم كذلك كل ما ينتج عن هذه المسائل والأشياء من مصنوعات جديدة، وأن تكون هذه الأرباح فيها من السماحة واليسر والسهولة، وليس فيها مغالاة أو مبالغة فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: “رحم الله رجل سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى”.
فالربح في الإسلام يأخذ إطاره من خلال التعارض مع المفاهيم والمبادئ الخاطئة وغير الشريفة التي سبق بيانها، وطرق الوصول إليه هي طرق معبدة ومشروعة.
وزيادة على ما سبق، فيمكن القول بأن الربح في النظام الإسلامي لا يأخذ بعين الإعتبار عند احتساب تكاليفه بالزكاة المفروضة شرعا، كما تفعل الأنظمة الربوية التي يتحدد نطاق الربح لديها، وبالتالي سعر بيع السلع بعدما تقوم بخصم الضرائب المستحقة، والذي يطلق عليه الربح بعد خصم الضرائب، وهذا يعني أن مفهوم الربح في النظام الربوي يقصد به ذلك المبلغ المتبقي بعد خصم كل التكاليف الإنتاجية والإلتزامات المالية الأخرى، من ضرائب وفوائد وغير ذلك.
محصلة القول، هو أن الربا حرام في الإسلام لأنه ضار في نفسه أو لغلبة الضرر فيه، والربح حلال لأنه نافع في نفسه أو لغلبة النفع فيه، وإذا كان كل من الربا والربح عبارة عن زيادة في رأس المال، إلا أنهما مختلفين تمام الإختلاف، لأن الزيادة الأولى هي أجرة على مجرد التأجيل في موعد الدين ليس فيها أي بذل للجهد ولا أي عمل، بينما الزيادة الثانية هي المقابل المتحصل عليه بعد البيع والشراء أي بعد القيام بعملية الإتجار والتي فيها بذل للمال والعمل معا.
المطلب الثاني: الآراء الفكرية حول الربا والفائدة والربح.
لا غرو في أن مواضيع مثل الربا والفائدة والربح تشكل مادة دسمة للمفكرين والمحللين على اختلاف أطيافهم الفكرية وألوانهم الإيديولوجية، وهذا ما جعل أقلام الكثيرين منهم يسيل مدادها طبعا في تفكيك رموز هذه المواضيع والتي تشكل بحق عماد الإقتصاديات المعاصرة، لا لشيء سوى لأن الربا والفائدة التي تعتبر سعرا للأول وكذا الربح تشغل كل ناشط اقتصادي سواء كان صاحب رأس مال مادي يسعى إلى تكثيره وتنميته أو كان صاحب رأس مال فكري يسعى هو الآخر إلى إغنائه وإثرائه.
وإن كنا قد عملنا في (المطلب الأول) على وضع صور الربا والربح في إطارهما الديني والتاريخي، فإنه لا يفوتنا كذلك طرح وإبراز الآراء الفكرية والتنظيرية لعدد من المفكرين مسلمين وأجانب لمقاربة موضوع الفائدة والربا والربح، وتكون الدراسة أكثر شمولية ومصداقية، وهذا ما سيتم تناوله في هذا المطلب، حيث اخترنا خندقة وتصنيف هذه الأفكار إلى أفكار غربية “كمحور أول”، وأخرى إسلامية “كمحور ثان”.
الفرع الأول: الفكر الغربي.
لقد تناسلت العديد من الأفكار الغربية من نظريات اقتصادية عالمية، والتي تعاقبت الواحدة تلو الأخرى محاولة إعطاء صورة واضحة المعالم على المفاهيم المؤثتة للمعاملات البنكية والمالية، وإذا اعتبرنا أن الفائدة والربا والربح من هذه المفاهيم بل هي مفاتيح هذه المعاملات الأخيرة فلابد أن نتناولها على لسان المفكرين الإقتصاديين له من الأهمية ما له.
وإن كان هؤلاء المفكرين لم يتحدثوا عن النظام البنكي وخصوصياته في الدول الغربية ولم يكن موضوع اهتمامهم الأول، فمع ذلك أغنوا بأفكارهم ونظرياتهم هذا الميدان وأثروه كثيرا.
وبما أن المفاهيم أعلاه مرتبطة فيما بينها بشكل تلازمي وانعكاسي، فإننا سنعمل على جرد آراء المفكرين بخصوصها موحدة غير منفصلة.
لقد مر معنا في المطلب السابق معنى الربا وتعريفه، كما بينا كذلك الربح ومفهومه، ولابد لنا إذن من معرفة العلاقة القائمة بين الربا والفائدة، والتي لا يمكن فهمها إلا بتوضيح معناها لغة وكذا في اصطلاح الإقتصاديين الغربيين، وإعطاء فكرة عن النظريات التي طرحت بشأنها.
1 : الفائـدة لغة: ما يستفيده الإنسان من علم ومال.
هي جزء بالمئة من المال يأخذه الدائن ربحا من المدين في زمن محدد.
هي كذلك جزء بالمئة من المال يأخذه من له حساب في المصرف، جمعها: فوائد.
2: هناك تعريفان اثنان للفائدة واحد يستعمل في محيط المصارف والبنوك، وهو أن الفائدة هي: “الثمن النقدي لاستعمال مبلغ نقدي” حيث يكون المودعون لودائعهم إما لأجل أو للإدخار في أحد المصارف بمثابة دائنين لهذا الأخير ويستحقون في نهاية الأجل نسبة الفائدة من البنك، ويكون هذا الأخير في موقف المدين لهؤلاء المودعين، وإما أن يكون البنك أو المصرف في موقف الدائن الذي يقرض الأموال المودعة لديه للمستثمرين والمقترضين يتقاضى منهم في نهاية الأجل المحدد والمتفق عليه نسبة الفائدة وهي الزيادة المقررة على القروض مقابل التأجيل والإنتظار والإمهال.
وهناك التعريف الثاني للفائدة والمتداول في المجال الإقتصادي وهو أنها “ما يدفع مقابل استخدام قرض من المال السائل لفترة زمنية متعارف عليها عادة بالسنة، ويعبر عن سعر الفائدة بنسب مئوية من رأس المال، ويحصل المنظم على القرض النقدي ويستخدمه في تشغيل عناصر الإنتاج الأخرى (الأرض والعمل) لكي ينتج سلعا استهلاكية أو سلعا رأسمالية أو تقديم خدمات”.
3: بعدما قمنا بإيضاح هذه التعريفات التي كان لابد منها، نصل إلى إعطاء بعض الآراء الفكرية والنظريات الغربية حولها والعلاقة التي توجد بينها وبين الربا والبيع.
لقد سبق أن أشرنا في موضع سابق أن أوربا المسيحية لم تتعامل بالربا واعتبرته محرما، إلا أن حدوث اختلافات في الموضوع، وتعالي أصوات المنادين بعدم تحريم الفائدة التي هي جزء لا يتجزأ من الربا وفي مقدمتهم “مونتسكيو”، وذلك إبان نجاح الثورة الفرنسية، جعلت فرنسا وأوربا فيما بعد تسن قانونا ينص على: “أنه يجوز لكل أحد أن يتعامل بالربا في حدود خاصة يعينها القانون”. إلا أن التغيرات التي عرفتها أوربا عقب الثورة الصناعية وما ترتب عنها من تحولات عميقة تجاريا ورأسماليا ومصرفيا حملت المجتمع الأوربي على أخذ الفائدة وقبولها، مع إضفاء اسم الربا على القدر الزائد عن ما هو مسموح به قانونا وعرفا، لكن أليست الفائدة هي ربا سواء قلت نسبتها أو كثرت؟
نعم هي كذلك، وهو الأمر الذي أكده “كينز” والذي يعد أحد رموز الإقتصاد العالمي في القرن الماضي، حيث توصل إلى حقيقة مفادها أن الفائدة هي ربا مهما كانت نسبتها، وتشكل ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، حين قال: “وحين تتوافر من رؤوس الأموال المتاحة للتوظيف في صورة مدخرات خاصة أو عامة فإن سعر الفائدة يهبط بطبيعته إلى الصفر ولا يبقى فيه مجال يعيش فيه المستثمر المتبطل على حساب المجتمع بما يقتضيه من فائض ربوي في صورة فائدة أو ربح فاحش”.
وهو بذلك يكون قد خلص إلى عدم جدوى البنوك الربوية إذا لم يتم استثمار الأموال التي تقرضها للمستثمرين والتي هي في الأصل ودائع عندها، حيث أن إتجاه المقترضين إلى ادخار ما يقترضونه من البنك يجعل هذا الأخير لا يستفيد من فوائد نسبها مرتفعة، إلى أن يصل سعر الفائدة إلى أدنى مستوياته وهو ما ليس في صالح البنك بأي شكل من الأشكال.
وإذا كانت البنوك الإسلامية تقوم على أساس محاربة الفائدة وعدم التعامل بها أخذا أو عطاء، فما هي النظريات التي صيغت حولها من طرف مفكري الغرب واقتصادييه؟
أ ـ النظريات الإقتصادية الأولى للفائدة:
الكل يعلم أن النظريات الإقتصادية العالمية والتي دوت في سماء الفكر الإقتصادي والسياسي خلال القرنين الماضيين لم تتحدث عن الفائدة بشكل خاص وانفرادي، وإنما جاء ذكرها وتحليلها ضمن تصورات المفكرين الغرب وتأملاتهم للأنظمة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في العالم ككل، محاولين إيجاد التركيبة السحرية للنظام الأمثل على كل الأصعدة والمستويات.
وهكذا نجد مثلا أن “آدم سميت” يرى أن حصة أصحاب رؤوس الأموال تتمثل في تلك الفوائد المقررة أصلا لهذه الأخيرة أي لرؤوس الأموال، أما “جون باتيست ساي” فيرى أن الفائدة هي نصيب صاحب رأس المال جزاء تقديم رأسماله إلى المنظم وهو نصب ثابت ومستحق بالنسبة إليه سواء نجح المشروع أو لم يحقق مكاسب.
في حين نجد برودون “يربط الفائـدة بالوقت، ويعتبر أن نسبها هي مقابلا وثمنا للوقت”.
وفي تفسير آخر يقدمه لنا “سينيور” للفائدة معتبرا إياها تلك المكافأة العادية لامتناع صاحب المال عن استهلاك جزء من ماله الذي أقرضه للمستثمر من أجل الإنتاج.
وقد استعمل “ألفريد مارشال” لفظة “الإنتظار” عوض كلمة “الإمتناع” التي استعملها “سينيور” واعتبرها “كارل ماركس” كلاما فارغا، ف”مارشال” هذا اعتبر أن انتظار صاحب المال أو المقرض هو ما يفسر ويبرر ضرورة دفع الفائدة له.
أما “تيركو” الذي أعطى أول شرح علمي للفائدة، فاعتبر أنها ريع للرأسمال مقابل استعمال إنتاجي أو استهلاكي للرأسمال، هذا ويعتبر”ريكاردو” أن الفائدة هي الحصة التي يأخذها مالك العقار جراء تقديمه هذا الأخير للمنظم من أجل استغلاله في الإنتاج، وعبر عن الفائدة بمصطلح الريع.
ب ـ النظريات الحدّية أو الحقيقية للفائدة.
تسعى هذه النظريات إلى معرفة الأسباب الكامنة وراء دفع الفائدة، والعوامل المحددة لمستوياتها في سوق القروض.
ومن أنصار هذه النظريات نجد “بوم باورك” و”راي” و”فيشر” الذين أسسوا لنظرية “انخفاض قيمة المستقبل” و”نظرية الفائدة” وهو “كتاب ل”فيشر”، هؤلاء يعتمدون في تفسير سبب دفع المدين للفائدة كونه يفضل ما هو حاضر من رأس مال على ما هو مستقبل منه وهو ما يبرر دفعه للفائدة.
أما “كاسل” فيفسر الفائدة بالندرة النسبية لرأس المال شأنه في ذلك شأن بقية الخيرات الإقتصادية، فهو يرى أنه كلما ازدادت حدة ندرة رؤوس الأموال ارتفع سعر الفائدة وانخفض الطلب عليها والعكس صحيح.
ج ـ النظريات الحديثة للفائدة.
تضفي هذه النظريات على الفائدة طابع النقدية، فهي تعتبرها ثمنا للنقد أكثر منها مكافأة الإمتناع عن الإستهلاك.
وهذه المدرسة أو النظرية الحديثة للفائدة تحاول إبراز دورها الإستراتيجي في السياسة الإقتصادية.
ومن رواد هذه المدرسة نجد “ويسكل” و”مارشال” ثم “كينز”، الذي يمكن القول عنه أنه حمل لواء معارضة الفائدة وطالب بإلغائها، معلنا أن من أوجب واجبات الدولة اتجاه الفرد هو “العمالة الكاملة” “plein emploi”، والتي لا يمكن تحققها إلا بتقهقر سعر الفائدة ليصل إلى مستوى الصفر أو ما يقاربه، وهو ما أكده الإقتصاديون الغربيون معتبرين أن الفوائد الربوية كانت وراء العديد من الأزمات والإنتكاسات التي عرفها الإقتصاد العالمي الذي لن يكون في أحسن أحواله إلا إذا أصبحت الفائدة صفرا.
وقال “سيلفيو جيسيل”: “إن نمو رأس المال يعوقه معدل فائدة النقود ولو أن هذه الفرملة أو المانعة أزيلت لتضاعف نمو رأس المال في العصر الحديث لدرجة خفض سعر الفائدة إلى صفر في فترة وجيزة”.
إذن، فهذه النظرية ومعها “كينز” يعتبران أن الفائدة تشكل فرملة لنمو رأس المال وعائقا يحول دون تطوره وازدياده.
في مقابل النظريات الإقتصادية الكبرى التي تناولت مفهوم الفائدة وعالجت مواضيعه من شتى الزوايا، نجد أن الفكر الغربي اهتم بهذا الموضوع ولكن هذه المرة من طرف الفكر الإستشراقي الذي يهتم بدراسة البنية المجتمعية الإسلامية، ويحاول سبر خبايا الدين الإسلامي وما ينطوي عليه من قضايا تهم كل مناحي الحياة.
هكذا نجد المستشرق الأمريكي “رجاء كارودي”، المفكر والعالم الذي درس الإسلام وتعمق فيه بشكل كبير، في خضم تأملاته لهذا الدين وللقرآن الكريم توصل إلى حقيقة مفادها أن الإقتصاد الإسلامي ينبني على مبدأين رئيسيين ينظمان مختلف مناحي الحياة، وهما: تحريم استعمال نظام الفوائد البنكية، لأن أية فائـدة ومنفعة يجب أن تكون نتاج عمل ما، والمبدأ الثاني يتمثل في وجوبية الزكاة التي تسمح بمحاربة الغنى الفاحش، وتضمن تماسك وتكافل المجتمع وذلك باقتسام الخيرات والثروات.
واسترسل “كارودي” في تأملاته حول الإقتصاد الإسلامي ليستنتج أن القرآن الكريم عندما حرم الربا فإنه حرمه بشكل مطلق، وبالتالي لا يمكن تأويله بطريقة مقيدة وحصره فقط في “الفائدة” أو “الفائدة المضاعفة”، لأن موضع الخلاف حسب رأيه ليس في درجة ارتفاع أو هبوط نسبة الفائدة، وإنما الخلاف حول مبدأ الفائدة نفسه، أي الخلاف حول الأموال التي تفرخ صغارا دون عمل كما جاء على لسانه.
وقد خلص إلى هذه النتيجة من خلال الآية القرآنية ]وأحل الله البيع وحرم الربا[، ويعتبر أن الفائدة الربوية محرمة لأن الإنسان يتلقى أكثر مما يستحق.
إن الإنسان داخل المجتمع الإسلامي المتجدد حسب “كارودي” هو إنسان لا يسعى بطبعه إلى الربح في ذاته، وينفي أن يتم البحث عن الربح من أجل الربح في إطار اقتصاد إسلامي حقيقي، وهكذا قال: “… فمفهوم الربح يمكن أن يوجد في اقتصاد إسلامي، ولكن لا كغاية في حد ذاته وكفائض قيمة، واستغلال لعمل الآخرين، بل كأداة قياس لإدارة جيدة وعمل ذي فعالية عملية في خدمة الله والإنسان”.
الفرع الثاني: الفكر الإسلامي.
إذا كنا قد تطرقنا في المحور السابق لأهم الأفكار الغربية الواردة بشأن الربا والفائدة والربح، وأبرزنا مفاهيمها لدى المفكرين العالميين، في إطار تحليلاتهم وأبحاثهم حول أنساق البنية الإقتصادية، فإننا سنعمل في هذا المحور على طرح الفكر الإسلامي بخصوص هذه المواضيع، وكيفية تناولها ومعالجتها من قبل المفكرين المسلمين الذين يبحثون عن السبل الناجعة لإنجاح اقتصاد البلدان العربية والإسلامية، ويهتمون بشكل خاص، بالنظام المصرفي الإسلامي والوجه الذي يجب أن تكون عليه البنوك الإسلامية.
وما تجدر الإشارة إليه، هو أن معظم هؤلاء المفكرين المسلمين يجمعون على أن الفائدة البنكية، أو سواها هي ربا محرم بالكتاب والسنة، الذي يعتبرونه وبالا على الإقتصاديات العالمية الراهنة وعاملا مسرعا لأزماتها.
ولكن ما هو مفهوم الفائدة في الفقه الإسلامي؟
1 ـ لقد عرف الفقه الإسلامي الفائدة بأنها: “ما يستفاد عن غير طريق مال آخر كالميراث والعطية والمنحة، أو ما يستفاد من عروض القنية، كالزيادة في أثمانها، مثل العقار والحيوان، المشترى للإقتناء إذا بيع بأكثر من ثمن عروض التجارة أو الغلة، التي هي ما نتج عن عروض التجارة قبل بيع رقابها كالصوف والوبر واللبن”.
2 ـ إن الشريعة الإسلامية، كما سبق الذكر سلفا، حرمت الفوائد الربوية ومنعت التعامل به بأي وجه من الأوجه، وحثت على الكسب والربح الطيب الناتج عن العمل والكد.
لهذا، فإن الفقهاء والعلماء المسلمين لم يأتوا بجديد في هذه المسألة سوى أنهم توسعوا فيها وبينوا ما للربا من مساوئ، وأنه داء لا نجاة للعالم منه إلا باستئصاله من جسمه وأنه خطر يتهدد اقتصاد وسياسة العالم، وأخلاقياته. وكما يحاولون إيصال هذه الفكرة للحضارة الغربية التي تعيش بلدانها على الأنظمة الربوية التي تنخرها حتى النخاع، طارحين في الآن نفسه بدائل عن هذه الأنظمة متمثلة في البنوك والمؤسسات المصرفية المبتعدة تماما عن أي تعامل ربوي، والتي تقيم حدا فاصلا تميز به بين الزيادة الحلال وهي الربح، وبين الزيادة الحرام والتي هي الربا.
وهكذا نجد من بين فقهاء ومفكري الإسلام “ابن تيمية” الذي عبر عن الربا بقوله: “الربا هو طلب الربح في مبادلة المال من غير صناعة ولا تجارة”. موضحا أن الزيادة التي تنضاف إلى رأس المال دون بذل أي عمل ودون تحمل مخاطر الإستثمار والخسارة تعد ربا محرما شرعا.
وفي الحقيقة، فإن أفكار أئمة وعلماء الدين الإسلامي وردا على الحملة التي شنها ويشنها دعاة التعامل الربوي من علمانيين ومغرضين للدين الإسلامي الذين يحاولون إبراز ما للفائدة والربا من أهمية كبرى في ازدهار الإقتصاد العالمي والإسلامي.
هكذا نجد العديد من الفتاوى التي تحرم الربا والفائدة، بالرغم من ادعاء المدعين أن نسبة الفائدة التي يدفعها المصرف مثلا إلى صاحب المال أو الوديعة هي أقل من نسبة الخسارة التي قد تلحق ماله من جراء التضخم النقدي.
ومن بين هذه الفتاوى، هناك فتوى جماعية صدرت عن علماء القرويين بفاس في سنة 1906م منددين فيها انتهاج النظام المصرفي بالمغرب ومما جاء في هذه الفتوى:
“المصرف الذي يقرض بفائدة هو أكبر ما يمكن الوقوع فيه من الآثام”. كما أن أئمة المذهب الشيعي الإثنى عشري ذكر عنهم أنهم أكدوا على أن: “الربا يمنع الناس من اصطناع الخير، وأنه لو كان حلالا لترك الناس تجارتهم وما يتاجرون إليه، فحرم الله الربا لتنفر الناس من الحرام إلى الحلال وإلى التجارة من بيع وشراء”.
والربا على رأي هذا المذهب هو مفسدة للمال، “إذ أن الإنسان يشتري من أخيه درهما بدرهمين فيكون ثمن الدرهم درهما وثمن الآخر باطلا”.
ويمكن القول أن الفتوى العلمية أعلاه لعلماء فاس تعتبر بقعة ضوء سلطت على طبيعة النظام المصرفي بالمغرب والذي يقوم على أساس الفوائد البنكية الربوية، ولعل من أسباب صدور هذه الفتوى في اعتقادنا هي البوادر التي أشرت على قرب نقل التجربة الأوربية المصرفية إلى المغرب الذي شهد أولها مع مطلع العقد الأول من القرن 20 وعلنا بهؤلاء العلماء يسعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في هذا المجال داخل المغرب.
كما أن الأستاذ “أبو الأعلى المودودي” الكاتب الباكستاني، والذي نشر عدة بحوث قيمة في مجلة “ترجمان القرآن”، التي تعنى في مجملها بالأسس الإقتصادية في الإسلام في مقابلتها بالنظم المعاصرة، وفي معرض حديثه عن الربا والفرق بينها وبين البيع فإنه قال: “البيع هو أن يقدم البائع سلعته إلى المشتري… إما أن يكون البائع هيأ هذه السلعة للمشتري بجهده وبإنفاقه عليها ماله أو اشتراها من غيره، فهو في كلتا الصورتين يضيف أجرة جهده إلى رأس ماله الذي أنفقه… فهذا هو ربحه.
وبإزاء ذلك إن “الربا” هو أن يعطي الرجل رأس ماله رجلا آخر على أن يرده إليه بزيادة كذا… ونظير التأجيل هو ذلك المبلغ الزائد على رأس المال… وهو “الربا” وما هو –كما ترى- بأجرة على مال أو شيء وإنما هو أجرة على التأجيل فقط”.
واسترسل “المودودي” في توضيح الفرق بين البيع والربا، ولكن هذه المرة بخصوص معيار الربح المتأتى من كل منهما، حيث أبرز أن البائع وإن أسرف في أخذ الربح من المشتري أثناء عملية البيع والشراء، فإنه لا يأخذه منه إلا مرة واحدة فقط، بينما الربح الذي يأخذه الدائن من مدينه في إطار معاملة ربوية هو رحب متواصل غير منقطع ويزداد حدة مع مر الزمان وكر الأيام.
ودائما بخصوص الربح الذي يعد وجها بارزا ودافعا حقيقيا في إطار تنمية الإقتصاد الإسلامي، فإن “ابن خلدون” تناوله كما يلي: “إن معنى التجارة تنمية المال بشراء البضائع ومحاولة بيعها بأغلى من ثمن الشراء، وهذا الربح بالنسبة إلى أصل المال يسير، إلا أن المال إذا كان كثيرا عظم الربح لأن القليل في الكثير كثير”. أما “ضياء مجيد” فقد اعتبر أنه لا فرق بين الربا وهو كل قرض جر منفعة، وبين سعر الفائدة الذي يحصل عليه المودعون (المقرضون) من البنك التجاري، أو الذي يحصل عليه هذا الأخير من المستثمرين (المقرضين)، لهذا السبب حرم الإسلام الربا باعتبار سعر الفائدة، وأحل الحصول على الربح الطيب بمختلف الطرق من بينها عقد المضاربة. وأن علة تحريم الربا هو الظلم الذي يطال المدين، فالربا حسب قوله: “عبارة عن ابتزاز ثروة شخص آخر دون مقابل، أي أخذ الثمن دون عوض والعوض يعني العمل، أي أن الربا أخذ ثمن دون عمل فهو حرام”.
وعليه، فلو استغل الدائن ماله في عمل ما مثلا بدلا من إقراضه فإنه ليس مؤكدا أن يحقق من وراء عمله هذا ربحا دائما، بل ومحتمل جدا أن يخسر في مشروعه، فيخسر معه ماله وجهده، وإذا كسب في هذا المشروع فيكون قد ربح ما بذله من عمل، ولكن الدائن حين قيامه بتقديم ماله للمدين على سبيل القرض فإن ربحه المتمثل في نسبة الفائدة باعتباره ربا هو ربح مضمون ومؤكد. وهذا صحيح، إذ أن أي مشروع كيفما كان نوعه إنما يقوم على أساس الكسب والربح، الذي يبقى مع ذلك ربحا توقعيا بالرغم من الدراسة المدققة للميزانية والإستقراء القبلي لأحوال السوق، وتظل نسبة الخسارة واردة جدا، ليس كما هو الحال بالنسبة للإقراض بفائدة حيث يبقى المقرض الدائن في منأى عن مشاكل المدين وحساباته، ولا يهمه في العملية سوى ماله الذي أقرضه إياه منضافة إليه نسبة الفائدة المتفق عليها.
وما ينبغي الإشارة إليه، ونحن بصدد استقراء آراء المفكرين العرب والمسلمين، هو أن هؤلاء تعاملوا مع الربا كل حسب نظرته إليه، فهناك من قال بأن الربا المحرم في الإسلام إنما يكون في القروض الإستهلاكية لا الإنتاجية، أي تلك التي يقصد بها المقترض حاجته الذاتية للإستهلاك، ولا يروم استغلالها في وسائل الإنتاج (المنفعة العامة) وفي هذا الخندق نجد الدكتور “عبد الرزاق السنهوري” وهناك من يقترح بأن تحسب الفوائد البنكية بمثابة ضرائب ورسوم يدفعها المواطنون لبنوك الدولة نظير انتفاعهم من أموالها وأموال الجماعة، ومن دعاة هذا الطرح هناك الشيخ: “زكريا البري”.
ونجد في موقف آخر لعلامة مغربي وهو الأستاذ “علال الفاسي”، الذي يقول بإباحة ربا السنة (ربا الفضل) والذي حرم فقط سد الذرائع حتى لا يتخذ وسيلة للوصول إلى ربا القروض، وربا السنة هو ما سماه “الفاسي” بالربا الخفي في مقابل الربا الجلي المحرم بالنص القرآني.
محصلة القول، هو أن هناك العديد من الآراء في هذا الشأن، لعلماء مسلمين وعرب، حاولوا بقدر الإمكان التكلم في موضوع الربا والفائدة وكذا المعاملات المصرفية الإسلامية، لكن بصورة أثارت الشبهات حولها، لأنهم اقتحموا باب الإفتاء وباب الحلال والحرام وهم غير متسلحين بالعتاد الكافي من علوم التفسير والحديث والمقاصد الشرعية، ولا يسعنا المقام هنا لإدراجها كلها تفاديا للإطناب.
وفي جانب مقابل، نجد صدور مجموعة من الفتاوى الشرعية حول المعاملات المصرفية الصادرة عن المجامع الفقهية وهيئات الرقابة الشرعية لبعض المصارف الإسلامية، حاولت أن تدلي بدلوها في الموضوع، وترد على بعض مزاعم المغرضين الذين يحلون ما حرم الله.
ومن جملة ما صدر، هناك قرار للمؤتمر الإسلامي الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة حيث أفتى أن الفائدة على مختلف أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين القروض الإستهلاكية والقروض الإنتاجية، وأن الإقراض بالربا أو الإقتراض به كله محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة.
كما نجد أن مجلس المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي أفتى بما يلي: “كل ما جاء عن طريق الفوائد الربوية هو مال حرام شرعا، لا يجوز أن ينتفع به المسلم مودع المال لنفسه أو لأحد ممن يعوله في أي شأن من شؤونه..”، كما جاء في تقرير للجنة الباكستانية أن نظام الفائدة يتعارض والشريعة الإسلامية، ولابد من إيجاد نظام اقتصادي واجتماعي خال من الربا والإستغلال والتسلط.
3 ـ علة تحريم الربا والفائدة:
إن الإسلام –وقبله الديانات السماوية والحضارات القديمة- حين حرم الربا فإنه لم يحرمه اعتباطا وبدون أية أسباب، إنما حرمه لغايات مبررة، ولعلها مبينة، وهو يروم من وراء ذلك قطع دابر الإسترزاق والتكسب على حساب الآخرين دون بذل الجهد والعمل، إذ أن الربا غالبا ما يطبع الإنسان بالأنانية وعبادة المال، ويجعل الأغنياء يرهقون كاهل الفقراء والمعسرين الذين تضطرهم ظروف معيشتهم إلى تأجيل ديونهم بالزيادة المتواصلة.
كما يمكن القول أن الربا وسعر الفائدة من الأسباب الرئيسية في تكدس الثروات وتضخم الأسعار، التي تقصم ظهر المواطنين المحتاجين كل يوم، وهو نذير بتعجيل الأزمات التي تصيب الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي للدول المقامة على أسس النظام الربوي، والربا هو الشيء الذي لأجله يصاب نظام التجارة والصناعة بداء “الدوران التجاري” الذي تنتابه فيه نوبات الكساد والبوار كما جاء على لسان “المودودي”. بيد أن رأس المال الربوي ذاته لا يرضى أن يتجه إلى أعمال نافعة تشتد إليها الحاجة للمصلحة العامة لأن مقدار الربح يكون فيها بسيطا وقليلا، بل على العكس من ذلك يتجه هذا الرأس المال إلى أعمال لا يحتاج إليها الناس ولكن هامش الربح فيها كبير وكبير جدا.
وللربا من المضار ما يجعل الفرد والمجتمع والإنسانية ككل، تعيش على المادة وتتكالب عليها تكالبها على باقي الرذائل، فأخلاقيا مثلا، فإن الإنسان يتحجر قلبه ويضيق صدره ولا يعود يأبه لمشاكل الآخرين ولا يمد لهم يد العون والمساعدة، أما اجتماعيا، فالربا يخلق الطبقية واللامساواة وتعارض مصالح الأغنياء مع تطلعات الطبقات المعدمة، ولا يبيت هناك مكان لشيء اسمه التكافل والتضامن الإجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، أما من الناحية الإقتصادية، فإن الربا والتعامل بالفائدة أضحى آفة عالمية لم ينج منها قطر من الأقطار، حيث أحدثت لكثرة تعامل الناس به مهنة تدعى: “مهنة المرابي”. وأوغل وواصل توغله حتى شمل معظم مناحي الحياة الإقتصادية، من تجارة وصناعة وفلاحة…
وزيادة على هذا وذاك، فإن الربا ترفضه الفطرة الإنسانية ويمقته المنطق السليم، إذ كيف يعقل أن يستغل الإنسان حاجة أخيه الإنسان تحت مسمى “الفائدة” وتحت غطاء حرية التجارة والرفاه والإزدهار الإقتصاديين! فإن كان هناك رفاه وازدهار فلما لا يشمل سوى الأغنياء الذين يزداد غناهم ويقصي الفقراء الذي تتعاظم فاقتهم وفقرهم؟!
لقد تطرقنا في هذا المبحث إلى مواضيع الربا والفائدة والربح، واستقرأنا مختلف النصوص الدينية والآراء الفكرية حولها، وتناولناها حسب سياقها التاريخي، لنصل إلى نقطة أساسية وهي مدى تشكيلها لدعامات وركائز يرتكز عليها البنك الإسلامي أثناء قيامه وتأسيسه، وهل بالفعل استطاع هذا الأخير جعلها أمورا تدعم موقفه وتبرر قيامه؟
وخير ما نختم به هذا المبحث هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يشكل لبسا وريبة للإنسان، ومن بينها المعاملات التي يرتاب فيها الفرد هل هي من قبل المعاملات الشرعية والمشروعة أم لا، ويجادل في حلها وحرامها وفي إباحتها ومنعها، حيث قال صلى الله عليه وسلم: “الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمر يوشك أن يواقعه”.
ولكن ماذا عن الظروف القانونية التي يعمل فيها البنك الإسلامي؟
وما هي التجارب الرائدة في مجال المصرفية الإسلامية؟
ذلك ما سنعرفه من خلال المبحث الثاني.
المبحث الثاني: الوضعية القانونية لإنشاء البنك الإسلامي وواقع تأسيسه.
سوف نتناول في هذا المبحث، نظام البنك الإسلامي من الزاوية القانونية لتأسيسه، من خلال تسميته، والمصطلحات المتنوعة المستعملة للدلالة عليه، ثم شكله القانوني، والإمتيازات التي يتمتع بها، الشيء الذي يثير العديد من التساؤلات حول هذه المواضيع، ويرجع سبب ذلك إلى الظروف القانونية التي يعمل بها البنك الإسلامي، والتي تتعارض مقتضياتها في غالب الأحيان مع مقوماته والتوجه السياسي والإقتصادي في الدول الذي يوجد بها.
وهكذا ارتأينا أن نقسم هذا المبحث إلى مطلبين، أولهما للإطار القانوني العام لتأسيس البنك الإسلامي، على أن نتعرض في الثاني لواقع هذا التأسيس من خلال أهم التجارب السائدة في الوقت الحالي.
المطلب الأول: الإطار القانوني العام لتأسيس البنك الإسلامي.
يتحدد هذا المحور في تسمية البنك الإسلامي، وشكله القانوني والإعفاءات الممنوحة له، وهو ما سنحاول تناوله في هذا المطلب، حيث سنخصص تسمية البنك الإسلامي وشكله القانوني في “الفرع الأول”، على أن نتطرق للمعاملة التفضيلية الممنوحة له في “الفرع الثاني”.
الفرع الأول: تسمية البنك الإسلامي وشكله القانوني.
1 ـ تسمية البنك الإسلامي:
إن كل من تطرق إلى هذه النقطة –تسمية البنوك الإسلامية- سواء كان كاتبا أو ناقدا أو باحثا، إلا ولاحظ نوعا من الإختلاف والتنوع في تسمية هذه الهيئات، حيث يمكن أن نقسمها إلى فئتين: الأولى يطلق عليها اسم بنك (بنك دبي الإسلامي)، بينما الثانية نجدها تحمل أسماء أخرى كبيت التمويل ودار المال والشركة.، والقاسم المشترك بين هذه التسميات هي صفة “إسلام” علما بأنها تستمد كلها صفتها “كبنوك إسلامية” من القوانين المنظمة لها، والتي تنص على أنها جميعا تمارس العمليات البنكية.
وقد يتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى، بأن هذا أمر عادي ولا لبس فيه، وأن الفئة الأولى تحتوي البنوك، والثانية المؤسسات المالية غير البنكية، وهذا المنطق مرفوض لأن كل من يتعامل مع الفئتين، بدءا بالمساهمين أو أصحاب الودائع، بل حتى القوانين المنظمة لها يدرجهما تحت تسمية “بنك”، وهذا الأمر غير منطقي، لأنه كما تقول الدكتورة عائشة الشرقاوي المالقي: “يخلط بين المفاهيم وتبعا لذلك النمط من التحكيم، لا يمكن أن ندرج تحت اسم “بنك” إلا المؤسسات المصرفية التي تتوفر على المعايير القانونية المطلوبة، وبالتالي نستثني الشركات المالية المتخصصة، وبيوت التمويل وشركات الإستثمار”.
ولكننا حتى نحدد موقع البنك الإسلامي من المؤسسات المالية بشكل أوضح وأتم، لابد من ذكر بعض وظائف هذه المؤسسات وإعطاء أمثلة عنها.
فشركات الإستثمار هي عموما شركات قابضة (Halding) توظف أموال المساهمين فيها في مشاريع استثمارية تكون عموما ذات حجم كبير وأجل طويل، ونذكر مثالا على ذلك شركات الإستثمار التابعة لمجموعة البركة (ويوجد فرع لهذه الشركة في المغرب) والشركات الإسلامية للإستثمار التابعة لدار المال الإسلامي.
أما شركات توظيف الأموال فهي مؤسسات تتلقى مدخرات المودعين لتوظيفها في شتى المجالات التجارية والعقارية والصناعية، وخاصيتها أنها تتعامل بالأقساط الصغيرة على آجال صغيرة، ويشمل ذلك أعداد هائلة من العملاء، من كل المستويات الإجتماعية، ومثل ذلك مؤسسة الهلال في إنجلترا.
أما مؤسسات التأمين تقوم بتغطية المخاطر المتعلقة بالأشخاص والحاجات بالنسبة للمتعاضدين في المؤسسة بواسطة عقد التبرع المشروط، وتقوم هذه المؤسسات التعاونية بدور التأمين وإعادة التأمين، ومثال هذه المؤسسات الشركة العربية الإسلامية للتأمين وشركة التكافل وإعادة التكافل بالليكسامبورغ.
وهكذا يتبين أن البنوك والمؤسسات الإسلامية، تمارسان نفس الأعمال وبنفس الطرق، بل نجد الفئة الثانية تتبنى سياسات تتعلق بدعم وقيام الفئة الأولى وإنشائها ولعب دور التنسيق فيها، مثل دار المال الإسلامي مع بنوك فيصل الإسلامية، ومجموعة البركة مع بيوت التمويل وبنوك البركة، ولذلك إذا قلنا بأن المؤسسات المالية التي تؤسس المصارف بنوكا، فقانونيا يفترض فيها القيام بما يجيزه لها القانون فقط، وأن تتوفر فيها نفس الضوابط، وهذا أمر يأتي مخالفا للضوابط الواردة في القانون البنكي الوضعي للإعتراف بمؤسسة ما بأنها بنكا، فالقانون المغربي إذا طبقته على البنوك والمؤسسات الإسلامية، وجدته يفصل بينها في ظل قانون المهنة البنكية والقرض لسنة 1967، الذي كان يخص البنوك وحدها بمهمة تلقي الأموال من العموم كودائع وحصر أعمالها في القروض والعمليات المالية والبورصة والصرف، ومنع عنها مزاولة الأعمال الصناعية والتجارية إلا بإذن خاص، بينما البنوك الإسلامية والمؤسسات المالية تتلقى كلها الأموال من العموم كودائع، وتقوم بكل الأعمال لاسيما التجارية منها، والتي تعد أساسية بالنسبة لها.
وقد استمر الأمر على هذا الفصل في القانون المغربي بين البنوك والمؤسسات المالية، إلى أن صدر قانون 1993، الذي لم يعد معه مجال للتمييز من حيث التسمية بين البنوك والمؤسسات المالية، لأنه أطلق عليها جميعها مصطلح “مؤسسات الإئـتمان” وسمح لها كلها بتلقي الأموال كودائع.
قبل الإنتقال إلى الشكل القانوني للبنوك الإسلامية، لابد لنا من تناول نقطة جوهرية، تفرض نفسها بإلحاح، ألا وهي ربط تسمية هذه البنوك بالإسلام، فما هي الردود التي خلفتها هذه الكلمة؟ وهل كل ما يحمل كلمة “إسلام” يصبح إسلاميا جوهرا وشكلا؟ أم أن الإسلام أكبر من هذا؟
إن ربط تسمية هذه البنوك بالإسلام، أثار ردود فعل مختلفة، مؤيدة ومعارضة لدى الباحثين والمختصين، فالإتجاه الأول يقول بأن هذا الوضع سليم ولا لبس فيه، حيث يرون أنها جاءت كنوع من التحدي للجدل الذي يحوم حول إمكانية أن يكون للمرجعية الإسلامية رؤية أو نظرية في مجال الإقتصاد بشكل عام، وفي مجال البنوك بشكل خاص، هذه الأخيرة التي استطاعت أن تغطي جميع المجالات التي تعمل فيها البنوك الربوية وفق النظام الإسلامي، ومن مؤيد هذا الإتجاه نجد أحمد لوتاه.
بينما نجد الإتجاه الثاني يتناول هذه البنوك بشيء من النقد اللاذع، بقصد الجرح والتثبيط، والقول بأن هذه البنوك استعملت الإسلام درعا تتستر وراءه ليس غير، ومن أبزر مساندي هذا الإتجاه نجد حسين علي راشد، الذي يقول بأن البنوك الإسلامية عبارة عن طلاء إسلامي لواقع غير إسلامي، وأنها لا تختلف عن البنوك التقليدية إلا في التسمية، والصحفيـــة الفرنســية Stéphanie Prrigi التي أصدرت كتابا سنــــة 1989 تحــــــت عنـــــوان: “Des banques islamiques”.
أما الإتجاه الثالث، ومن أبرزه الدكتورة عائشة الشرقاوي المالقي، ورئيس مجموعة دالة البركة، الذي ذهب إلى القول بأن كلمة إسلام لا تكفي لأي شيء لكي يصبح إسلاميا مضمونا وشكلا، لأن الإسلام أكبر من أن يزج به في هذه الأموال، أو أن يوضع في موضع يعرضه للضغط إذا فشلت التجارب أو أسيء استخدامها.
ونحن نؤيد هذا الإتجاه الأخير، لأن الإسلام يجب أن يبقى ذو مكانة عالية وبعيدا عن الشبهات التي يمكن أن يقع فيها على أيدي بعض اللذين لا يحسنون تسيير هذه البنوك، وبالتالي الإساءة إلى الإسلام بصفة عامة. لأن اللافتة الإسلامية ليست دليلا على صدق الإنتماء الإسلامي والقول بأن مؤسسة ما إسلامية، يجب ألا يفهم منه بأنها بالضرورة إلتزاما بالموقف والمسلك الإسلامي.
2 ـ الشكل القانوني للبنك الإسلامي:
إن البنوك الإسلامية تخضع من ناحية شكلها الحقوقي للقوانين الخاصة بالشركات، وقد اختارت في الأغلب الأعم صبغة شركة المساهمة التي تدخلها في صبغة البنوك التجارية، وإن كان يطلق على بعضها اسم “شركة المساهمة المحدودة” فإن ذلك راجع فقط لكون الدول التي توجد بها تعتمد على النمط الأنجلو ساكسوني الذي يضفي عليها هذه الصفة، حيث يسمح أن يدير الأموال غير مالكيها، مع أنها في الواقع هي نفس شركة المساهمة في التصنيف اللاتيني، الذي له تصور معين عن المشاركة في إدارة الأعمال، حيث أنه لا يدير إلا من يملك، ولا يخرج عن هذه القاعدة سوى البنك الإسلامي للتنمية باعتباره هيئة دولية.
إن إتخاذ المصارف الإسلامية شكل شركة المساهمة يعني أنها تتأسس بنفس شكل البنوك التقليدية، مما يدل على أنها لم تستطع التخلص من القوانين الوضعية الجاري العمل بها في الدول التي توجد بها، أو أن تخلق شكلا خاصا على نفس مستوى طرق العمل التي أتت بها، إلا أن الحقيقة هي أن هذا التصنيف لا يمنح المصرف الإسلامي من القيام بمهام لا تعرفها البنوك التجارية عادة، وبالأخص تنظيم علاقاتها مع المودعين من جهة والعملاء من جهة أخرى على أساس المشاركة، كما سنوضح ذلك فيما بعد، ولا يمنعها أيضا من تنظيم حسابات جديدة كالتي تخص صندوق القرض الحسن أو صندوق الزكاة.
الفرع الثاني: المعاملة التفضيلية الممنوحة للبنك الإسلامي.
مرت “البنوك الإسلامية” بمرحلة عاملتها فيها السلطات المختصة معاملة تفضيلية بالمقارنة مع البنوك الربوية، ونظرا لتعدد البنوك الإسلامية الآن وتنوعها اختلفت هذه المعاملة حسب كل دولة، وعدم تمتيعها كلها بالمعاملة التفضيلية، وحتى التي استفادت منها خلال فترة معينة، تقلصت استفادتها مع مرور الزمن، ولهذا وجب علينا أن نصنفها لأغراض هذا المحور إلى ثلاث مجموعات:
-
مجموعة البنوك التي استفادت من الإعفاءات بشكل مطلق أو نسبي من النظم القائمة، ويندرج تحت هذا النوع من البنوك، كل من الإمارات العربية المتحدة ومصر وتونس والبحرين والأردن على سبيل المثال لا الحصر.
-
مجموعة البنوك في الدول التي أسلمت نظامها البنكي بأكمله –كما في باكستان وإيران- أو بشكل جزئي على سبيل المثال تركيا.
-
مجموعة البنوك التي قامت دون تنظيم خاص يحكمها ودون إعفائها من النظم المصرفية التقليدية، كحالتي الدانمارك والمملكة المتحدة.
1 ـ البنوك الإسلامية التي استفادت من الإعفاءات بشكل مطلق أو نسبي:
نجد على رأس هذه البنوك في جمهورية مصر العربية، بنك ناصر الإجتماعي، الذي تمتع بعدة امتيازات وإعفاءات بموجب قانون رقم 66 لسنة 1971م، شملت الإعفاء من جميع أنواع الضرائب والرسوم على أموال الهيئة وإيراداتها وما تؤديه من معاشات وإعانات وقروض، بالإضافة إلى استثنائه من الخضوع لقانون البنوك والإئتمان رقم 163 لسنة 1957، فضلا عن تخويله حق الإمتياز على جميع أموال مدينيه بالنسبة للأموال المستحقة عليهم، وله استخدام الحجز الإداري لتحصيلها.
وفي مصر دائما باعتبارها من الدول الرائدة في تجربة البنوك الإسلامية، تمتع بنك فيصل الإسلامي المصري، بإعفاءات ضريبية حمت أمواله وأرباحه وتوزيعاته وكافة أوجه نشاطه وعملياته سواء في مركزه الإجتماعي أو فروعه، لمدة خمسة عشر عاما من كل ضريبة أو رسم، كما أعفيت المعدات التي يستوردها البنك والمنقولات التي يمتلكها من الضرائب والرسوم الجمركية.
وبالإضافة إلى الإعفاءات الضريبية، صدرت بحق البنك وفروعه استثناءات من التنظيمات الجاري بها العمل في الرقابة على النقد الأجنبي، والهيآت العامة، أو شركات القطاع العام، أو المؤسسات ذات النفع العام.
وقد استمر العمل على أساس هذه الإمتيازات والإعفاءات والإستثناءات، إلى حدود 1981م، حيث عرفت مصر صدور قانون تحت رقم 142، الخاص بتسوية الوضعية بين البنوك، تضمن تعديل المادتين 10 و11 من قانون 1971، حيث نصت المادة 10 بعد تعديلها على سريان القوانين المنظمة للرقابة على النقد الأجنبي على البنك وفروعه، في حين نصت المادة 11 على خفض مدة الإعفاءات الضريبية وجعلها خمس سنوات عوض خمسة عشر عاما.
وتتمتع البنوك الإسلامية في دولة الأردن بإعفاءات وإمتيازات متعددة ومنها البنك الإسلامي الأردني للتمويل والإستثمار، الذي استفاد من إعفاءات ضريبية في أمواله وأرباحه من كل ضريبة أو رسم، كما أعفى من رسوم الطوابع وغير ذلك من التكاليف المقررة على العقود التي ينظمها البنك مع الغير.
وبالإضافة إلى الإعفاءات الضريبية، صدرت بحق البنك استثناءات عن التنظيمات الجاري بها العمل في معاملات البنوك والإئتمان، حيث يقدم الأشخاص المتعاملون معه أو الموظفون معلومات سرية ومكتوبة، كما لا يجوز لأي موظف أو مراقب شرعي أو فاحص حسابات أن يفضوا بأية معلومات تمس سلامة العمل وعلاقة البنك مع المتعاملين.
وتوجد إلى جانب الإعفاءات والإستثناءات، إمتيازات منحت للبنك، تمثلت في حق الإمتياز على أموال الملتزمين تجاهه، سواء كانوا متعاملين معه أو كافلين، كما تتمتع دعاوى البنك ومعاملاته التنفيذية أو الإجرائية بالأولوية، ولا تسري عليه التنظيمات الخاصة بتقديم الكفالات والتأمينات النقدية الجاري العمل بها في المحاكم ودوائر الإجراء والجهات الجمركية وغيرها من المؤسسات العامة.
ومن البنوك التي منحت معاملة تفضيلية شبيهة بالبنك الإسلامي الأردني للتمويل والإستثمار هناك بنك البحرين الإسلامي وبنك فيصل الإسلامي، حيث استفادت جميع الشركات التي اختارت إنشاء هذه البنوك في دولة البحرين من الإعفاءات الضريبية التي تنص عليها الدولة، كما قامت الأردن بإنشاء قانون جديد للبنوك يتناول أحكاما تخص البنوك التي تعمل وفق الشريعة الإسلامية، وأن هذه الأحكام أعطيت الأولوية في التطبيق على غيرها من النصوص والقوانين، وقد تم تخصيص فصل كامل ومستقل للبنوك الإسلامية، استيعابا للمستجدات في العمل المصرفي.
ومن البنوك التي استفادت من معاملة تفضيلية نسبية، هناك بيت التمويل السعودي التونسي، الذي منح له نظام ضريبي خاص، جعل أرباحه تنقسم من حيث خضوعها للضرائب إلى ثلاثة أنواع: الأول: معفى بالكامل، ويشمل أرباح الودائع بالدينار التونسي، والثاني معفى بشكل نسبي، ويشمل أرباح ودائع التوفير حتى سقف 5000 دينار، علما بأن نسبة الضريبة على أرباح الودائع تساوي حسب القانون التونسي 20%.
2 ـ البنوك الإسلامية والمعاملة التفضيلية في الدول التي أسلمت نظامها البنكي:
نأخذ نموذج باكستان، حيث قامت هذه الأخيرة سنة 1947 على جمع المسلمين من كل أنحاء القارة الهندية لإقامة دولة إسلامية، وتطبيق نظام الإقتصاد الإسلامي فيها، إلا أن فكرة تطبيق هذا النظام، ترددت بين الظهور والإختفاء بسبب عدم وضوح معالمه وكيفية تطبيقه، وقد استمر الحال على هذا الشكل إلى سنة 1977م، حيث كلف الرئيس الباكستاني في 29 شتنبر من نفس السنة مجلس الفكر الإسلامي بإعداد دراسة عن النظام الإقتصادي والمصرفي الإسلامي، ومن مجموع هذه الجهود الجماعية اتخذت السلطات تدابير تشجيعية في حق التعامل بشهادات المضاربة، التي أعفيت مردوديتها من الضريبة على الدخل، بشرط أن يوزع 90% من الدخل على أصحاب شهادات المضاربة.
ومن الدول التي أسلمت نظامها البنكي بشكل جزئي نجد تركيا، حيث صدر في هذه الأخيرة قانون خاص ينظم نشاط التمويل اللاربوي ويسمى “بيوت التمويل الخاصة” وذلك بالمرسوم رقم 7506/1983م، المؤرخ 13/12/1983م والمرسوم رقم 7833/84 المؤرخ 15/3/1985 الصادرين عن مجلس الوزراء والبيانات، وقد أسس حتى الآن وفقا لهذا التنظيم بيت التمويل البركة التركي وبيت فيصل للتمويل ويمارسان عملهما وفقا لهذا النظام، وهكذا نجد هذه المؤسسات المصرفية تسير بطريقة مختلفة عن البنوك الربوية.
3 ـ البنوك الإسلامية الخاضعة للقوانين المصرفية التقليدية.
نجد في مقدمة هذه البنوك، المصرف الإسلامي الدولي الموجود في الدنمارك حيث تمخض عن المفاوضات والترتيبات التي جمعت بين الشركة القابضة (المصرف الإسلامي الدولي) والسلطات الدنماركية، اجتماعي 22/3/1982 و21/7/1982م في مقر رعاية البنوك تقرر عنهما خضوع المصرف الإسلامي الدولي للقوانين والتنظيمات الجاري العمل بها في الدولة-الدنمارك-، دون إعفاء أو استثناء والتأكيد من جانب الشركة القابضة على إمكان مباشرة العمل المصرفي الإسلامي ضمن إطار القوانين المصرفية للدنمارك.
ونفس الوضع نجده عند البركة الدولية المحدودة، حيث أكد البنك المركزي البريطاني من خلال سياسته الفعلية والمعلنة، أنه لا يمنحه أي امتياز بمعنى أن الشركة تباشر جميع أنشطتها وفقا للشريعة الإسلامية بما لا يتعارض مع القوانين أو اللوائح المحلية أو أي طلبات من أي سلطة مختصة بتنظيم أو رقابة عمل الشركة.
المطلب الثاني: الواقع الجغرافي للبنوك الإسلامية.
إذا كان اهتمامنا بمسيرة المصارف الإسلامية قد دلنا على متابعة التجربة، وهي لا تزال رغبة جامحة في النفوس إلى أن دخلت عالم الواقع، مبرزين في ذلك ملابسات ظهورها وقوة اندفاعها في المرحلة الراهنة، فإن هذه المتابعة بعد أن مكنتنا من الإطلاع على الصورة الخارجية لحركة المصارف الإسلامية، وعلى الإطار القانوني لها لا تزيدنا إلا شغفا وتطلعا إلى الكشف عن واقعها التأسيسي في مختلف دول العالم، لذا ندخل في مرحلة أخرى من المتابعة ألا وهي الواقع الجغرافي للبنوك الإسلامية.
وبناء عليه سنقسم هذا المطلب إلى ثلاث محاور، يضم الأول البنوك الإسلامية في الدول الإسلامية التي تعرف تعايش النمطين –الإسلامي والربوي- أما الثاني، فنخصصه لتأسيسها في الدول التي قامت بتحويل نظامها البنكي إلى النمط الإسلامي، أما الثالث فنتناول فيه تأسيس البنوك الإسلامية في الدول غير الإسلامية.
الفرع الأول: تأسيس البنوك الإسلامية في الدول الإسلامية التي تعرف تعايش النمطين.
سنتناول في هذه النقطة نموذج جمهورية مصر العربية، بنوع من التفصيل نظرا لدورها القيادي في مجال “العمل المصرفي الإسلامي”، في المرحلة الأولى، على أن نتعرض بعد ذلك لبقية الدول بنوع من الإيجاز يقتضيه حجم التجربة فيها.
1 ـ التجربة المصرية:
لقد مرت هذه التجربة بمرحلتين، مرحلة الستينات التي عرفت ظهور بنوك الإدخار المحلية ومرحلة السبعينات التي عرفت ظهور البنوك التجارية الإسلامية، وسنحاول بحول الله إلقاء الضوء على المرحلتين بالتوالي.
أ ـ مرحلة الستينات:
عرفت جمهورية مصر العربية أول “بنك إسلامي” في العصر الحديث، مع بداية العقد السادس من القرن 20 في شكل بنك الإدخار المحلي في يوليوز عام 1963م بمدينة ميت غمر، بموجب مرسوم جمهوري تحت رقم 17/1961، يعمل بأسس متفقة تماما مع الأسس الإسلامية، رغم أنها لا تحمل صراحة شعارا إسلاميا يحدد هويتها، وكانت الفكرة من إنشاء هذا البنك هي إقامة وحدات مصرفية محلية في كل قرية أوحي لتجميع مدخرات الأهالي، وتوظيفها مباشرة في خدمة احتياجاتهم في منطقتهم.
وتعود فكرة إنشاء مثل هذه البنوك إلى الدكتور أحمد النجار، الذي تأثر بالنجاح الذي حققته بنوك الإدخار المحلية الألمانية، والآثار الإيجابية التي كانت لها على الإقتصاد الألماني، عندما كان يدرس هناك، والتي يعود تاريخها إلى القرن 19.
واعتبرت هذه التجربة أولى المحاولات الجادة لإنشاء بنك إسلامي، حيث جاءت بعده فترة الإنتشار، ففي سنة 1965 تم افتتاح خمسة فروع هامة وتحت نفس التسمية، وفي سنة 1966 افتتحت ثلاثة فروع جديدة، وعلى مدة الأربع سنوات التي عاشتها التجربة عرفت 9 فروع، و100.000 متعامل تقريبا، موزعين بين مختلف الدوائر، و200 شخص هو عدد العاملين الماهرين على إدارة وتسيير الفروع.
وأهم ما يلفت الإنتباه في هذه الفترة من حياة بنوك الإدخار المحلية، هو التجاوب الكبير للجمهور معها، سواء منها المودعين أو المستثمرين.
وعلى كل حال، فإن تجربة بنوك الإدخار في مصر سرعان ما تعطلت، وتوقفت نهائيا في شهر ماي من سنة 1967، ويمكن القول بأن سبب انهيار هذه البنوك هو احتضان المشروع بكامله تحت وصاية بعض الجهات في ظل نظام مركزي، وبالتالي ضرب مبدأ المحلية في الصميم، الذي يعتبر المبدأ الأساسي في نجاح التجربة.
ب ـ مرحلة السبعينات:
أخذت تجربة البنوك التجارية الإسلامية في مصر مسارها الحقيقي في مرحلة السبعينات من القرن الماضي، حيث تم إنشاء أول بنك إسلامي حديث، وهو “بنك ناصر الإسلامي” سنة 1971 بمقتضى القانون رقم 66 لسنة 1971م، حيث يحرم قانونه الأساسي التعامل بالربا بالأخذ أو العطاء.
وبعد عدد من السنوات أنشئ بنك “فيصل الإسلامي المصري”، في سنة 1977 بمقتضى القانون رقم 48/1977 المعدل بالقانون رقم 42/1981، وأخذ شكل شركة مساهمة مصرية، وسجل كبنك تجاري خاص تحت رقم 88 بتاريخ 14/6/1979 وباشر أعماله في شهر يوليوز 1979، كما نجد الآن في مصر بنوك إسلامية أخرى إلى جانب بنك فيصل الإسلامي المصر، وهي “المصرف الإسلامي الدولي للإستثمار والتنمية” الذي تأسس عام 1980 وبنك “عربية” وهو فرع لمؤسسة “الراجحي” المصرفية، بالإضافة إلى هذه البنوك في مصر، نجد هيكل النشاط المصرفي القائم بها، يتضمن فروعا للمعاملات الإسلامية تابعة لبنوك تجارية أصلا. مثل فرع بنك مصر للمعاملات الإسلامية، الذي يعد أول فرع إسلامي فتح العالم العربي سنة 1979 وأسسه طلعت حرب، بعد ذلك زاد العدد ليصل على 30 فرعا موزعة على مختلف محافظات الجمهوية، وقد بلغ عدد الفروع لمختلف البنوك في جمهورية مصر العربية 30 فرعا، موزعة على عدد 30 بنكا تقليديا، بحيث لا تكاد مدينة مصرية تخلو من فرع أو فرعين للمعاملات الإسلامية.
2 ـ التجربة في بقية الدول الإسلامية:
سنقسم هذا المحور إلى ثلاث نقط: الأولى نخصصها للتجربة في دول الخليج العربي، والثانية للتجربة في الدول الأفريقية، على أن نتناول في الثالثة الدول الأسيوية.
أ ـ البنوك الإسلامية في دول الخليج العربي:
شهدت هذه الدول تأسيسا مترادفا للبنوك الإسلامية، وعلى رأسها دولة البحرين، التي تعمل فيها في ظل إطار قانوني يمتاز بالمرونة مكنها من التعايش مع البنوك والمؤسسات المالية التقليدية داخل هذا البلد، ويعد بنك البحرين الإسلامي أول بنك أنشئ في هذه الدولة طبقا للمرسوم رقم 2 لسنة 1979، وباشر أعماله في نونبر 1979، وهو شركة مساهمة بحرينية ألزمه المرسوم المؤسس له بكل القوانين الموجودة في الدولة والمتمثلة في قانون الشركات وقوانين النقد والقوانين البنكية فضلا عن عقده التأسيسي ونظامه الداخلي، ولكن لما لا يتعارض منها مع أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا ما أكده نظامه الأساسي، الذي نص على الإمتناع الكامل عن التعامل بالربا جليا كان أم خفيا.
وفي 14 يوليوز 1983، تأسس بنك فيصل الإسلامي البحريني، في شكل شركة مساهمة وبترخيص خاص منح له من طرف مؤسسة النقد في الدولة.
وتولى بعد ذلك إنشاء البنوك الإسلامية، ومنها بنك البركة الذي تأسس عام 1984م، والبنك العربي الإسلامي الذي تأسس عام 1990م، وهذه البنوك شاركت في تأسيسها البنوك الإسلامية التي كانت موجودة قبلها في الدولة مع بضع الخواص السعوديين بالأخص.
وعرفت دولة قطر أول بنك إسلامي سنة 1982، وهو مصرف قطر الإسلامي، ثم بعده بنك قطر الدولي الذي بدأ أعماله في أكتوبر 1990م، كما عرفت قطر فروعا للمعاملات الإسلامية مثل الفرع الذي فتحه مصرف قطر الإسلامي.
ب ـ البنوك الإسلامية في الدول الأفريقية:
سنأخذ التجربة التونسية كإحدى الدول الإسلامية الأفريقية، التي عرفت البنوك الإسلامية، نظرا لحجم العمل فيها، ويعد بيت التمويل السعودي التونسي، أول بنك أنشئ في تونس بمقتضى القانون رقم 108/1985 بتاريخ 6/12/1985، وهو بنك يمتثل لأحكام الشريعة الإسلامية على الرغم من اعتماده على التقنية الحديثة في كل أعماله، ويعود سبب هذه التسمية إلى الإشتراك الذي تم بين البنك المركزي التونسي بنسبة 20% ومساهمين سعوديين متمثلين في المجموعة المالية “البركة” بنسبة 80%.
والملاحظ بالنسبة لهذه الفئة من الدول الإسلامية، وجود دول أخرى فيها، تعرف هذه البنوك كالجزائر وموريتانيا.
أما المغرب، فيعد من الدول الإسلامية القليلة التي لم تنفتح بعد على الممارسات المالية الإسلامية، وذلك بعد مرور أكثر من ربع قرن عن انطلاقها، وهذا لا يعني أن المغرب بقي منعزلا عن هذه الحركة المتطورة، بل دعمها بشتى الوسائل الممكنة وعلى سبيل المثال، فإن فكرة إنشاء البنك الإسلامي الدولي للتنمية ولدت بالرباط خلال المؤتمر الأول للقمة الإسلامية في 25/09/1969 بمبادرة من جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، وقد ساهم المغرب بفعالية في مقررات المشروع القادم من طرف مصر وباكستان والأمين العام لمنظمة العالم الإسلامي، قصد المصادقة على اتفاقية البنك الإسلامي للتنمية، وهكذا فقد سجل المغرب حضوره العملي على الساحة منذ بداية السير، حيث عرف عدة محاولات من طرف المجموعات الإسلامية المالية الكبرى، كمجموعة: البركة ومجموعة دار المال الإسلامي لفتح بنك إسلامي به، كما عرف محاولات أخرى من طرف مجموعة من رجال الأعمال المغاربة، إلا أن هذه المحاولات لم تؤتي أكلها بعد بالإضافة إلى بعض الفعاليات المغربية ومن بينها الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في الإقتصاد الإسلامي، التي عبرت عبر جميع توصيات الندوات الدولية الثمانية التي نظمتها عن مطالبها الملحة بفتح المجال للنشاط المالي والمصرفي الإسلامي بالمغرب.
وهكذا نرى أن تجربة البنوك الإسلامية ما زالت قاصرة في المغرب، ونرجو عندما تأتي التجربة ينطبق عليها قول الشاعر:
وإني إن كنت الأخير زمانه *** لأت بما لم تستطعه الأوائل.
ج ـ البنوك الإسلامية في الدول الأسيوية:
سمحت بعض الدول الإسلامية الأسيوية، بتأسيس “بنوك إسلامية” فيها، وقد اخترنا نموذج كل من ماليزيا وتركيا.
فقد تأسست في ماليزيا، بنوك إسلامية على رأسها “البنك الإسلامي الماليزي بيرهاد”، الذي تأسس في بداية شهر يوليوز 1987، الذي يعد أول بنك من نوعه في هذه المنطقة من العالم، ويوجد مركزه الإجتماعي في كوالالمبور، وهو هيأة مالية حاصلة على دعم حكومي، وقد جاء هذا البنك إلى حيز الوجود بعد مجموعة من الإستعدادات، حيث قام رئيس وزراء ماليزيا بتشكيل لجنة وطنية للبنك الإسلامي في 30/7/1981م، وقد قامت بتقديم تقريريها في 1/7/1982م، متضمنا عدة توصيات. وفعلا صادق البرلمان ومجلس الشيوخ على قانون البنوك الإسلامية سنة 1982م، وقد تضمن هذا القانون لائحتين، الأولى متعلقة بإنشاء البنك الإسلامي، والثانية بالإستثمارات العمومية التي أجازت للبنك الإسلامي المشاركة فيها.
ومن الدول الإسلامية الأسيوية التي لها تجربة مع “البنوك الإسلامية” هناك تركيا حيث صدر بها قانون خاص ينظم نشاط التمويل اللاربوي ويسمي بيوت التمويل الخاصة وذلك بالمرسوم رقم 7506/1983م بتاريخ 16/12/1982م، ورقم 7833/84 بتاريخ 15/3/1984م، الصادرين عن مجلس الوزراء، الشيء الذي أدى إلى إنشاء أول “بنك إسلامي” في تركيا، هو بنك فيصل الإسلامي الذي تأسس سنة 1985م، ومقره في العاصمة أنقرة، ثم بيت البركة التركي للتمويل، الذي تأسس في نفس السنة، ومقره في أنقرة أيضا، وبعدهما بيت التمويل التركي الكويتي سنة 1989.
وتعرف البنوك الإسلامية في تركيا معارضة قوية من طرف العديد من الشخصيات في الدولة، التي تتخوف من التطور السريع لهذا القطاع، وأيضا لأنهم رأوا أن مؤسساته تخالف الدستور التركي لأنها تعمل طبقا لمبادئ دينية وليست علمانية، لكن تركيا تراجعت عن خطة لإغلاق البنوك الإسلامية في البلاد، مما اضطرها إلى حجب مبادرتها بذلك بعد أن كانت قد أضافت بندا يدعو البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية التي لا تعمل بنظام الفوائد إلى التحول إلى بنوك عادية وإلا تعرضت للإغلاق.
الفرع الثاني: تأسيس البنوك الإسلامية في الدول التي أسلمت نظامها البنكي:
وتضمن هذه البنوك كلا من إيران والباكستان والسودان، وإذا كانت الدولة الثانية قد تطرقنا لها سابقا، فإن تعرضنا سيقتصر على النموذجين الأساسيين في هذه الفئة هما التجربة الإيرانية والسودانية، وعليه سنحاول التعرف على الوضعية في كل دولة على حدة.
1 ـ التجربة الإيرانية:
قامت جمهورية إيران الإسلامية، بإعادة هيكلة كل النظام المالي للإقتصاد على النهج الإسلامي، وبالتالي تحويل الإقتصاد ككل والمؤسسات بما فيها المالية إلى مؤسسات إسلامية، حيث صدر قانون التأميم في سنة 1979م، قلص عدد البنوك من 36 إلى 9 بنوك، ثم صدر في أول شتنبر 1983م القانون المصرفي الإسلامي الذي نص على التنظيم الكامل للجهاز المصرفي، وبدأ تنفيذه منذ 21 مارس 1984م، بحيث لم تعد البنوك منذ ذلك التاريخ تقبل الودائع أو تعطي القروض على أساس الفائدة.
وهكذا تحول نظام الفوائد في إيران إلى نظام المشاركة في الأرباح، تحت رقابة البنك المركزي، الذي خول حق وضع الحدود العليا للأرباح.
2 ـ التجربة السودانية:
إذا كانت السودان تصنف لدى البعض مع المجموعة التي تعرف ازدواجية في النظام المصرفي، لاستمرار وجود العمل المصرفي التقليدي فيها، ولكننا نظرا للوضعية الخاصة التي تتمتع بها السودان في قضية إحلال الشريعة الإسلامية، محل القوانين المعمول بها في الدولة، فضلنا الحديث عنها ضمن المجموعة التي أسلمت نظامها البنكي.
ويمكن تقييم التجربة السودانية في مرحلتين:
خلال المرحلة الأولى كانت المصارف الإسلامية تعمل جنبا إلى جنب مع البنوك التقليدية وهو ما عرف بالنظام المصرفي الموازي، حيث تم تأسيس بنك فيصل الإسلامي السوداني، بموجب قانون خاص أجازه مجلس الشعب في جمهورية السودان الديمقراطية، يحمل اسم “قانون بنك فيصل الإسلامي” لعام 1977.
وفي سنة 1981، بدأ التحول من النظام التقليدي إلى الإسلامي، بصدور قرار جمهوري، منع البنوك المتخصصة من استخدام الفوائد في عملياتها، كما قامت السلطة السودانية في سنة 1984م، بتحريم كل صور التعامل الربوي سواء على مستوى الإقتصاد الكلي أو القطاع المصرفي أو المعاملات الفردية، وذلك بنص قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م، الذي صدر بأمر مؤقت رقم 6 لسنة 1984. كل هذه الإجراءات أدت إلى إنشاء “البنوك الإسلامية” في السودان، مثل بنك التنمية التعاوني الإسلامي السوداني سنة 1983، بقانون صدر سنة 1982م، ثم البنك الإسلامي لغرب السودان، الذي شرع في مزاولة أنشطته في شهر شتنبر 1984 وبنك التضامن الإسلامي، وغيرها من البنوك الإسلامية التي تعمل في هذا البلد.
وهكذا يتبين خلال هذه المرحلة تعايش المصارف الإسلامية مع البنوك التقليدية التي تتعامل مع الفائدة وتمثل تركيبة الجهاز المصرفي الربوي في ذلك الوقت كل من بنك الخرطوم الذي يمثل أحد البنوك الوطنية العريقة المملوكة للدولة، والبنك العالمي السوداني وغيرها من البنوك التقليدية، لكن هذا الأمر استمر على ما هو عليه إلى حدود 1989 لتدخل السودان في مرحلة ثانية مع البنوك الإسلامية.
أدى وصول الجبهة الإسلامية للحكم سنة 1989، إلى الإسراع بإعادة الشريعة الإسلامية كأساس للقوانين في الدولة، حيث تم تحويل النظام المصري بالكامل إلى النظام الإسلامي بصدور أول قانون إسلامي في نونبر 1991، وتخويل البنك المركزي تنظيم النشاط المصرفي على أساس الإقتصاد الإسلامي، كما تم إنشاء هيئة عليا للرقابة الشرعية على البنوك والمؤسسات المالية لتتولى تأهيل القطاع الإقتصادي والمصرفي فقهيا للقيام بأسلمة الإقتصاد السوداني والقطاع المصرفي.
الفرع الثالث: تأسيس البنوك الإسلامية في الدول غير الإسلامية:
شهدت الخمسة والعشرون سنة الأخيرة من القرن الماضي ظهور المصارف والمؤسسات المالية في مناطق عديدة، فبعد أن كان عددها في 1979 لا يتجاوز سبعة مصارف فقط نجد أن عددها الآن تجاوز مائة وخمسين مصرفا ومؤسسة مالية إسلامية، ولعل الإقبال الكبير في التعامل مع هذه البنوك، ومعدلات النمو التي تحققها آثار انتباه العديد من الدول غير الإسلامية، حيث قررت خوض غمار هذه الظاهرة من خلال التواجد في أسواقها.
وهكذا سنتناول تجربة كل من الدنمارك وبريطانيا، نظرا لقيمتهما العملية.
1 ـ التجربة الدنماركية:
عرفت الدنمارك سنة 1983، أول بنك إسلامي في أوربا، تحت اسم “المصرف الإسلامي الدولي بالدنمارك”, بهدف العمل كمراسل للبنوك الإسلامية بالدرجة الأولى، ولخدمة الجاليات الإسلامية في الغرب بالدرجة الثانية، وقد كانت الحكومة الدانماركية سباقة في الترخيص لبنك إسلامي بالعمل فوق إقليمها، بعد فشل البنوك الإسلامية في الحصول على ترخيص، يسمح بتأسيسها فوق إقليم الدول الغربية، نظرا لحداثة العهد بنظم هذه البنوك، ولعدم اقتناع السلطات المصرفية في هذه الدول –شأنها شأن السلطات المصرفية في البلاد الإسلامية حينئذ- بإمكان نجاح هذه البنوك.
وقد جاءت هذه الموافقة على إنشاء بنك إسلامي على مرحلتين، الأولى صدرت فيها رخصة أولية بتاريخ 20/02/1982 تضمنت شروطا معينة امتثلت لها الشركة، ثم جاءت الثانية والتي منحت فيها الشركة الرخصة الأخيرة بتاريخ 17/2/1983 وهي التي سبقت التأسيس الفعلي للبنك الذي تم في 18/4/1983. وساهم في هذا البنك كل من بيت التمويل الكويتي، ووزارة الأوقاف في أبو ظبي وشخصيات مسلمة أخرى، لتدعيم العلاقات الإقتصادية بين الدول الإسلامية وغير الإسلامية، ملبيا بذلك رغبة الحكومة الدنماركية.
2 ـ التجربة البريطانية:
أنشأت مجموعة البركة في بريطانيا “بنك البركة الدولي المحدود” عام 1984 وهو بنك إسلامي، مر تأسيسه بمراحل عدة بدأت في 11/5/1981 بتأسيس شركة مساهمة تحت اسم “هارجريف سيكيوريتبز ليمتد” برأس مال قدره مائة جنيه إسترليني.
وبعد حصول الشركة على ترخيص تلقي الودائع من البنك المركزي الإنجليزي، قامت شركة البركة للإستثمار والتنمية الموجودة بجدة بشراء أسهمها، وغيرت نظامها الأساسي بشكل يجعل الشركة تقوم بأعمال مطابقة للشريعة وغير مخالفة للقوانين السارية في بريطانيا.
وقد استمر الحال على ما هو عليه، إلى أن قام البنك المركزي البريطاني عام 1993م، بإغلاق بنك البركة الدولي المحدود.
كما عرفت عدة دول أوربية البنوك الإسلامية كألمانيا وهولندا وسويسرا بالإضافة إلى دول أمريكا وآسيا.
الفصل الثاني:
إدارة البنك الإسلامي والرقابة عليه:
إن تجربة المصارف الإسلامية يمكن القول عنها أنها ما زالت فتية، تتلمس بدايات الخطر، إذ لا يكاد يربو عمرها عن ثلاثة عقود، وذلك إذا ما قارنّاها مع تجربة البنوك العادية والتي رسخت أقدامها على الساحة المالية والإنتاج المصرفي، ومع ذلك لا أحد ينكر لها ما بذلته من جهد واجتهاد، متسلحة بقوة إيمانها بفلسفتها، وعازمة على ركوب التحديات في المجال، لتصل إلى ما تصبو إليه من إحلال نظام مصرفي ذي أبعاد ورؤى إسلامية، وتمتح من معينه قواعده ومبادءه ومناهجه في الحياة الإقتصادية للمسلم، عاقدة العزم على كسر القيود التي فرضتها الأنظمة المصرفية الربوية على الإنسان عامة والمسلم خاصة الذي يجد نفسه مطوقا من كل الجهات للتعامل مع هذه الأنظمة مكرها لا بطل.
والبنوك الإسلامية لم تؤمن بفكرة تطبيق فلسفتها هذه بالديار العربية والإسلامية فحسب، ولكنها راهنت أيضا على تطبيقها في عقر دار النظام الربوي، أي راهنت على أن يكون تواجدها حتى بالديار الغربية الممتلكة لكل أدوات المصرفية والقطاع البنكي الجد متطورة.
لهذا أدركت البنوك الإسلامية ضرورة امتلاكها لمثل هذه الأدوات، وعرفت أن نجاحها مرتبط ارتباطا وثيقا بقدرتها على خلق وإيجاد ترسانة فاعلة على المستوى البشري والتقني، والتي تتمثل في تنظيم إداري محكم إن داخل البنوك أو في إطار علاقاتها الخارجية، هذا مع إيمانها أن الإدارة كيفما كانت درجة تخلق مسيريها لن تسير على الخط المرسوم لها في قانونها التنظيمي، إلا إذا كانت هناك سلطة موازية ورادعة تتمثل في هيئة الرقابة بمختلف أنواعها، المصرفية منها أو الشرعية.
ولكن تثور عدة تساؤلات في هذا المقام مثل الطريقة التي تدار بها البنوك الإسلامية، هل هي نفس الطريقة المدارة بها البنوك العادية أم أن هناك اختلاف في الإدارة؟ ما هو الجهاز المسير لهذه البنوك؟ ما هي نوعية الرقابة الممارسة عليها؟ وهل هناك من رقابة أخرى تسري بحكم طابعها الخاص؟ سنقف على هذه الجوانب من خلال هذا الفصل الذي سنتعرض في “مبحثه الأول” لإدارة البنوك الإسلامية، بعد ذلك ننتقل للحديث عن الرقابة عليها في إطار “مبحث ثان”.
المبحث الأول: إدارة البنك الإسلامي.
إن البنك الإسلامي مثله مثل باقي المؤسسات الأخرى العاملة في الميدان، يمتلك هيكلة إدارية متكونة من عدة أجهزة ومصالح، تسهر على تنفيذ سياسته المصرفية، وخريطته التنظيمية تقريبا هي نفسها خريطة أي بنك عادي آخر، مع بعض المميزات التي يختص بها عن غيره، والتي سنأتي على بيانها لاحقا.
وهذه الهياكل والأجهزة الإدارية تعمل على بلورة أهداف البنك ورسالته وترجمتها على أرض الواقع.
إلا أنه توجد بعض العراقيل والمشاكل التي يتخبط فيها البنك الإسلامي وتحد نوعا ما من نشاطه وتقدمه، وتثبط مسيرته التنموية.
فما هو هذا الجهاز الإداري الذي يعمل من خلاله البنك الإسلامي؟ (مطلب أول)، وما هي المشاكل والمعيقات التي يتخبط فيها؟ (مطلب ثان).
المطلب الأول: الجهاز الإداري.
يقصد بالجهاز الإداري للبنك الإسلامي، ذلك الطاقم المتكون من عدة مصالح وهيئات، والمجندة جميعها للسير بهذا البنك إلى توفير كل الخدمات المصرفية وغيرها من الأعمال التي ينشدها كل من يتعامل معه.
وهذه المصالح والهيئات تقوم بعملية التخطيط لتوجهات البنك الإسلامي، بحكم أن التخطيط يمثل أهم عنصر من عناصر العملية الإدارية.
وباستقرائنا للتنظيم الداخلي للبنك الإسلامي، نجده ينقسم إلى جمعية عمومية، ومجلس إدارة، وكذا مصالح إدارية متكونة من وحدات خاصة بالعمليات الصرفية وأخرى بالخدمات البنكية… إلخ.
الفرع الأول: الجمعية العمومية:
إن البنك الإسلامي وكبقية البنوك التقليدية الأخرى، يتخذ شكل شركة المساهمة، لأن القانون يحظر على باقي أنواع الشركات التجارية الأخرى الإشتغال في القطاع البنكي، والقرض، والإستثمار والتأمين، والرسملة والإدخار، ويوجب هذا القانون أن تستغل مثل هذه الأنشطة في إطار شركة المساهمة.
ولهذا فوجود جمعية عمومية ذات طابع تقريري كان أمرا لابد منه بالنسبة لكل البنوك الإسلامية، لأنها السبيل الذي من خلاله يتأتى للمساهمين في رأسمال البنك المشاركة في تسيير إدارته ورسم سياسته العامة.
وككل شركات المساهمة، فإن البنك هو الآخر يشتمل على نوعين من الجمعيات العامة، فهناك الجمعية العامة العادية، وأخرى غير عادية، لكل واحدة منهما اختصاصاتها، والضوابط المتحكمة في سير العمل بها إن على مستوى انعقاد جلساتها أو على مستوى النصاب القانوني المطلوب لصحة اجتماعاتها.
هكذا يتضح من تصفح قوانين البنوك الإسلامية أن مسألة انعقاد الجمعية العمومية العادية تتم مرة واحدة كل سنة على الأقل، إلا أن التاريخ الذي تعتزم هذه الجمعية أن يكون زمن انعقادها فإنه يختلف باختلاف لوائح البنوك الإسلامية بعضها عن بعض، وهي على أي حال تواريخ متعددة لا يمكن الإشارة إليها جميعا هنا.
أما فيما يخص مكان الإنعقاد فهو الآخر يختلف من بنك إسلامي لآخر، فهناك من يشترط أن تنعقد الجمعية في البلد الذي يوجد فيه المقر الحقيقي للبنك، وهناك من لم يحدد المكان وترك حرية تحديده لمجلس إدارة البنك.
بالنسبة للجهة المخول لها حق دعوة الجمعية العامة للإجتماع فنجد أن هذه الجهة وكما هو الحال في البنوك التقليدية، هي مجلس الإدارة، أو بعض الجهات الأخرى كوزارة التجارة والصناعة مثلا، أو المساهمين المالكين لنصيب أوفر في رأس مال البنك.
كما يحق لأي عضو في المجلس التنفيذي للمديرين لدى البنك الإسلامي للتنمية دعوة الجمعية للإنعقاد بتوجيه طلب في الأمر للرئيس، الذي يبحث سبل ذلك، ويقوم بإخطار بقية الأعضاء بهذا الطلب.
أما ما يهم النصاب القانوني المطلوب لصحة انعقاد الجمعية العمومية لدى البنوك الإسلامية، فيتضح أن هناك تباينا فيما يخص نسبه، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن البنك الإسلامي الأردني للتمويل والإستثمار يشترط لصحة اجتماعاته توفر مساهميه الحاضرين الإجتماع على أكثر من نصف أسهم البنك.
وباعتبار أن الجمعية العمومية هي هيئة تقريرية داخل الجهاز الإداري لكل البنوك الإسلامية، فإن قراراتها يفصل ويبث فيها بأغلبية الأصوات، غير أن بنك فيصل الإسلامي السوداني حاد عن هذه القاعدة العامة وترك أمر التقرير للرئيس.
كما يمكن أن تتخذ القرارات دون تصويت كما هو شأن البنك الإسلامي للتنمية الذي ترك المسألة لرئيس مجلس المحافظين.
ويتم التصويت إما برفع الأيادي، أو بالإقتراع السري على جميع المقررات بحسب كل بنك بنك.
الفرع الثاني: مجلس الإدارة.
يعتبر المجلس الإداري لأي بنك تقليدي، أو شركة المساهمة، العقل المدبر والجهاز المسير لكل كبيرة وصغيرة، داخل البنك أو الشركة، وهذا ما نجده حتى بالنسبة للبنوك الإسلامية، فلكل بنك إسلامي مجلسه الإداري، أو مجلس المديرين التنفيذيين كما يسمى في البنك الإسلامي للتنمية.
بخصوص عدد الأعضاء وتكوين هذا المجلس، فلا يمكن الحسم في ذلك، لأن الوضع يتباين من بنك إسلامي لآخر، غير أنه فيما يتعلق بالاختصاصات فغالبا ما نجد أن المجلس الإداري غالبا ما تناط به مهام إدارة أعمال البنك المحددة في لوائحه ومقرراته الخاصة.
وهكذا، نجد على سبيل المثال، أن مجلس المديرين التنفيذيين في البنك الإسلامي للتنمية يمارس أعضاؤه اختصاصات تتمثل في إعداد ما يعرض على مجلس المحافظين –اتخاذ القرارات المتعلقة بنشاط البنك وعملياته بما يتفق والسياسة العامة للمجلس السابق وتوصياته- تقديم الحسابات عن كل سنة مالية للتصديق عليها في الإجتماع السنوي لمجلس المحافظين، والتصديق على الميزانية التقديرية والتوقعية للبنك.
بيد أنه يجتمع المجلس أعلاه كلما دعت ضرورة لذلك، إما في المقر الإجتماعي أو في مكان آخر يتم اختياره من قبل هذا المجلس إما اجتماعا عاديا أو خاصا، على أن تتوفر الأغلبية المطلقة في اتخاذ القرارات والتي تتمثل في أغلبية أصوات المديرين التنفيذيين الحاضرين الإجتماع.
هذا ونجد بقية البنوك الإسلامية الأخرى لها لوائحها الخاصة بتكوين المجلس الإداري، وعدده، واختصاصاته، إلى غير ذلك من الأمور، وارتأينا الإكتفاء بما ذكرناه عن البنك الإسلامي للتنمية وذلك للتمثيل فقط.
وغالبا ما تنضوي تحت لواء المجلس الإداري لأي بنك إسلامي عدة لجان مختلفة تشرف على عدة أعمال، ويمكن في هذا الباب ذكر: اللجنة التنفيذية العليا –لجنة الإستثمار والمشاركة –لجنة التكافل الإجتماعي –لجنة السياسة العامة.. إلى غير ذلك من اللجان والتي تقل أو تكثر من بنك لآخر.
الفرع الثالث: المصالح الإدارية.
إن المصالح الإدارية لكل بنك، تعد بمثابة قلبه النابض وشرايينه الممتدة، لتمده بكل مقومات النجاح في مشواره المصرفي، لهذا لا يختلف اثنان حول أهمية هذه المصالح وحيويتها.
ونجد أن هذه المصالح تتنوع من بنك إسلامي لآخر، غير أنها غالبا ما تتفرع بحسب مقاصد وأهداف وكذا طبيعة البنك إلى مصلحة الإدارة، المصلحة القانونية، مصلحة الخدمات البنكية، مصلحة التكافل الإجتماعي، مصلحة التخطيط، وأخيرا مصلحة الإستثمارات والمشاركة.
1 ـ مصلحة الإستثمارات والمشاركة.
تقوم هذه المصلحة على وضع سياسة وبرامج الإستثمار والإشراف على تنفيذها، وكذا تحليل ودراسة المشروعات التي تقدم للبنك من أجل تمويلها، كما تعمل على تنمية الأعمال ومختلف الإستثمارات الآجلة، والتوظيفات قصيرة الأجل، وكذا إدارة ومتابعة الديون، وهذه المصلحة تقابل مصلحة القروض لدى البنوك التقليدية.
2 ـ مصلحة الإدارة:
تعمل على الإشراف على مختلف مصالح البنك الإسلامي من موارد بشرية ومحاسبة ومختلف الأعمال والإجراءات الإدارية المتطلبة للتعامل مع هذا البنك، كما تشرف على الجانب الإجتماعي والثقافي لمختلف موظفي وأطر البنك.
3 ـ مصلحة الإدارة:
تتكفل هذه المصلحة بمختلف الإجراءات القانونية للبنك من تمثيله أمام المحاكم سواء كان مدعيا أو مدعى عليه، والإشراف على تمحيص والنظر في كل العقود والمستندات التي يبرمها البنك ويتعامل بها.
4 ـ مصلحة الخدمات البنكية:
تشرف على رقابة كل العمليات والخدمات البنكية من إيداع الأموال لدى البنك وتقديم مختلف أنواع القروض، كما تشرف على جميع الحسابات سواء حسابات الإستثمار أو حسابات الإدخار أو الحساب الجاري.
5 ـ مصلحة التخطيط:
تسعى هذه المصلحة إلى تهيئة الأبحاث المختلفة التي من شأنها رسم عمل وسياسة البنك، ووضع التقارير السنوية وإصدار النشرات التي تبين وتعرف بأنشطة البنك.
6 ـ مصلحة التكافل الإجتماعي:
تتلخص وظائف هذه المصلحة في إدارة الزكاة، من جمعها وتوزيعها على المستحقين لها، سواء تلك الواجبة على البنك أو المتلقاة من المحسنين، كما تشرف على صندوق القرض الحسن.
بيد أن الخريطة التنظيمية للبنك الإسلامي يمكن القول بأنها هي نفسها لدى البنوك التقليدية، لكن هناك بعض المميزات الهامة والتي تعكس مقاصد المؤسسة وأهدافها ورسالتها، وتجعل البنك الإسلامي متميزا في هذا الميدان، ونجد من هذه المميزات توفر البنك الإسلامي على:
-
هيئة الرقابة الشرعية.
-
الإرشاد المالي والإقتصادي للعملاء والزبناء.
-
إدارة الزكاة وصندوق القرض الحسن… إلخ.
وهكذا يمكن أن نمثل للجهاز الإداري وهيئاته ومصالحه بالجدادة التالية على أن نعرض لأهم المعيقات والصعوبات التي تعترضه وتحد من فعاليته في (المطلب الثاني).
المطلب الثاني: عراقيل إدارة البنك الإسلامي:
إذا كانت الأيام قد أثبتت النجاح والإنجازات الكبيرة للبنوك الإسلامية، رغم مسيرتها التي لم تكن في الحقيقة إلا محاولة للسير فوق الأشواك، فهي لم تسلم من عثرات وأخطاء وصعوبات أثيرت بـشأنها عدة انتقادات، وهكذا سنرى في (الفرع الأول) مشكل العاملين، ثم (الفرع الثاني) سنرى مشكل الإستثمار، لنختم في (الفرع الثالث) بمشكل النظم المحاسبية.
الفرع الأول: الموارد البشرية (العاملين).
من أبرز المشاكل والمعيقات التي تعترض الإدارة في البنوك الإسلامية نجد مسألة العاملين فيها، هذه الأخيرة بقدر ما تكون سببا للإرتقاء بمستوى الأداء، بقدر ما تكون سببا في فشل مسيرته ككل، لأن الإدارة في عصرنا أصبحت علما وفنا، فأحيانا يكون العمل جيدا، لكن سوء التسيير يضيع ثمرته، لذلك لابد من حسن الإدارة، عن طريق حسن اختيار العاملين لتسند إليهم قيادة العمل المصرفي الإسلامي، فلا مكان لغير المحترفين في مسيرة النجاح، حتى يشعر المتعامل أنه لم –ولن- يفقد أي تمييز في الأداء المهني عند تعامله مع المصرف الإسلامي.
وهذا ما لم يتم للبنوك الإسلامية، حيث واجهت ولا تزال الكثير من التحديات والصعوبات فيما يخص العاملين بها، والتي ترجع بالأساس إلى قلة الكوادر الإدارية ذات الكفاءة والخبرة والدراية بالعمل المصرفي الإسلامي. نظرا لعدم تنويع وسائل استقطاب الكفاءات الإسلامية، وعدم تحري مبدأ الجدارة والإستحقاق في اختيار العاملين، وأن إجراءات التعيين مناسبة وسهلة، بالإضافة إلى برامج التنمية والتدريب في البنوك الإسلامية التي تعاني من عدة نقاط ضعف تتمثل في عدم تنويع أساليب التدريب وضعف الحافز الذاتي، الشيء الذي حتم عليها الإعتماد على أطرهم في الأصل موظفون في البنوك الربوية، لا يستوعبون دائما المعاملات الشرعية، لأن تفكيرها بعيد عن هذا النوع من المعاملات، نظرا للتكوين الذي تلقته وفق المناهج التعليمية الغربية، البعيد كل البعد عن الفقه وأحكام الشريعة الإسلامية، خاصة إذا لم يقم البنك الإسلامي الذي يعملون به بتنظيم تداريب كافية تعرف بالعمل المصرفي، وما يزيد الطين بلة هو قيام بعض البنوك بتوظيف أطر أجنبية لا تمت للإسلام بصلة، كل هذا يؤدي إلى ضعف الولاء بين البنك وعامليه، لأن العامل المسؤول في البنك الإسلامي يجب أن يكون من المؤمنين بآلية العمل المصرفي ومن المحفزين ذاتيا للنجاح، ومن الراغبين في إعادة تعليم أنفسهم من منظور الشريعة الإسلامية، فضلا عن كفاءتهم العملية والعلمية.
وهكذا يجب أن يكون كل موظف فقيها، ويقوم بالعمل خير قيام، بالإضافة إلى توفره على تكوين اقتصادي وقانوني وفني جيد، لأن اختيار العنصر الضعيف الذي لا يعرف في البنوك شيئا إلا باسم الله والحمد لله، ثم نعين المدير المتدني الذي يبعد أصحاب الخبرات عن البنك، أمرا لا يجوز تغميض العيون له، فهذه مؤسسة، يجب أن تعطي حقها للواعين والأكفاء الذين يديرونها.
وهذا النقص الذي تعرفه البنوك الإسلامية في التكوين والكفاءة لا يقتصر عليها فقط، بل يهم حتى عدد العاملين، فإذا نظرنا إلى الطاقم البشري العامل لدى البنوك الإسلامية بحسب الإختصاص، وجدنا قلة المختصين في الإستثمارات وهذا شيء مخالف للصواب، ما دامت البنوك الإسلامية تعيش على استثمار أموالها وأموال الودائع لا على إقراضها.
إن هذه المساوئ التي انتقدت هذه البنوك من أجلها، والتي أتت في جزء كبير من سوء الإدارة ونقص الإخلاص والكفاءة، دفعها إلى الإهتمام بإعداد الأطر الإدارية ذات الكفاءة والولاء، وتنمية الأجهزة الإدارية فيها، مع توفير التكوين الشرعي المتعمق لها، وفي هذا النطاق قام البنك الإسلامي للتنمية ودار المال الإسلامي، بإنشاء كل منهما معهدا لتكوين العاملين في البنوك الإسلامية، كما أنشئ معهد في قبرص لنفس الغرض بمبادرة من الإتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، بينما تكوين بعض البنوك الإسلامية العاملين فيها في مراكزها التدريبية الخاصة، مثل البنك الإسلامي الماليزي وبنك فيصل الإسلامي المصري.
ولعل هذه المبادرات راجعة لعدم وجود كليات خاصة بالإقتصاد الإسلامي ضمن الهياكل الجامعية.
كما قامت بعض البنوك بوضع ضوابط لانتفاء العاملين والقيادات للعمل بالإدارة، وتصميم برامج وملتقيات ومختبرات لمواجهة النقص في معارف ومهارات الأفراد وجبره.
كل هذه الإجراءات التي قامت بها إدارة الخدمات المصرفية أدت إلى التغلب ولو نسبيا على مشكل العاملين.
الفرع الثاني: الإستثمار.
تضاف إلى مشكلة الأطر العاملة، مسألة أخرى أثارت انتقادات شديدة ضدها، ألا وهي ابتعاد البنوك الإسلامية عن الإستثمارات الطويلة الأمد، والتي تساهم في التنمية الإقتصادية للمجتمع بصفة عامة واقتصارها فقط على تخصيص نسبة عالية من توظيفاتها إلى الإستثمارات القصيرة الأجل (المرابحات)، هذا الإنكماش للبنوك الإسلامية وعدم التوسع في هذا النوع من التمويل (المشاركة) يخالف أهدافها المبدئية في تطوير المجتمع، إذ تتجه لتفادي هذه المخاطر إلى التعامل مع القادرين وكبار الصناعيين الذين يستطيعون تقديم ضمانات أكبر وإمساك دفاتر حسابات منتظمة.
ويمكن القول بأن سبب ابتعاد البنوك الإسلامية عن صنف المشاركة يرجع إلى كون عقود المشاركة والمضاربة مبنية على الأمانة، ولا شيء يضمن للبنك حقوقه إلا أمانة المستفيدين من التمويل وصدقهم، ولا يخفى على أحد أننا نعيش في محيط وفي زمن افتقدت فيها خصلة الأمانة، بالإضافة إلى افتقادها إلى خبرات عالمية قادرة على تتبع المشاريع الإنتاجية وإتقان إدارة المخاطرات والتمكن منها، وهذه الوظيفة بطبيعتها لا تتم من وراء الشبابيك ولا خلف المكاتب بل بواسطة المتابعة الميدانية.
الفرع الثالث: النظم المحاسبية:
من المسائل التي مثلت تحديا للإدارة هي كيفية تطوير بعض النظم المحاسبية، والتي تتناسب مع طبيعة العمل المصرفي الإسلامي، ذلك أن علوم المحاسبة التي درسها خبراؤنا المحاسبون وأساتذتهم وتلامذتهم ليس في طبيعتها أو نوعيتها ما يناسب العمل المحاسبي اللازم لتجربة المصارف الإسلامية، والذي يوجب تأهيلا علميا وعمليا خاصا يناسب التناقض الجوهري بين البنك الربوي العادي والبنك الإسلامي.
ولقد أظهرت الممارسة فعلا كثيرا من التعارض بين النظم المحاسبية المعمول بها في البنوك العادية، والنظم المحاسبية المطلوبة للبنوك الإسلامية، وهذا ما يوجب بطبيعة الحال ضرورة الإجتهاد في استنباط مناهج محاسبية جديدة لهذه البنوك، ويحتاج الأمر خصوصا إلى وضع أسس ثابتة لتوزيع أنصبة المساهمين والمودعين في الأرباح بحيث تصبح أسسا عامة مشتركة لجميع البنوك الإسلامية.
وعموما، رغم المشاكل التي اعترضت البنوك الإسلامية من حيث الإدارة والتسيير، والإنتقادات التي وجهت لها في الموضوع، فإنه لا ينفي النجاح الذي حققته رغم الواقع الغير مشجع الذي تعمل فيه والإمكانيات المتاحة لها، حيث أتاحت العديد من فرص العمل، لهذا إذا كانت هناك أخطاء في التسيير فمن الواجب تقويمها وليس إجهاضها.
المبحث الثاني: الرقابة على البنوك الإسلامية.
لا يمكن لأي بنك كيفما كانت طبيعته الإيديولوجية أن يستقيم فيه تدبير المعاملات المصرفية بدون وجود مراقبة على أساليب وطرق عمله، وحين الحديث عن سلطة صرف المال، وعن الرقابة التي يجب أن يخضع لها لابد وأن نستحضر كتابات مونتسكيو في هذا الموضوع الذي سبق له أن أكد منذ 1948 في كتابه “روح القوانين”، أن: “مالك السلطة مهما كانت درجة تشبعه بالمثل والقيم الديمقراطية، فإنه يميل ميلا طبيعيا إلى التعسف والجور في استعمال هذه السلطة ولا يتوقف إلا عند شعوره بوجود سلطة مضادة تقيده من تعسفه وتراقب أعماله”.
وينطبق هذا التصور تمام الإنطباق على البنوك الإسلامية، فلا يمكن تصور استقامة البنك الإسلامي رغم المبادئ التي يقوم عليها، بدون وجود جهة مستقلة وذات فعالية توكل إليها مهمة إجراء هذه الرقابة.
وعموما، تخضع المعاملات المصرفية التي تقوم بها البنوك الإسلامية إلى نوعين من الرقابة، رقابة مصرفية وأخرى شرعية. وهكذا سوف نتناول الأولى في (المطلب الأول)، على أن نخصص (المطلب الثاني) للرقابة الشرعية.
المطلب الأول: الرقابة المصرفية.
أصبحت الرقابة المصرفية لنشاط البنوك الإسلامية بيد البنوك المركزية، شأنها في ذلك شأن البنوك الربوية، رغم محاولة إعفائها من هذه القواعد والسلطات الرقابية، لكن قبل الحديث عن رقابة البنك المركزي للبنوك الإسلامية (الفرع الثالث)، لابد لنا من تحديد مفهوم رقابة البنك المركزي بصفة عامة (الفرع الأول)، ووسائل هذه الرقابة (الفرع الثاني).
الفرع الأول: تحديد مفهوم رقابة البنك المركزي.
إن الدولة تمارس نشاطها بصفة مباشرة أو غير مباشرة في مختلف الميادين لبلوغ أهداف معينة وبواسطة سياسات محددة، وتختلف هذه الأخيرة من قطاع لآخر بحسب الهدف الذي تسعى الدولة إلى تحقيقه.
ومن هنا كان من الضروري، لتحقيق التوازن في الإقتصاد الوطني في حاضره ومستقبله التحكم في الإصدار النقدي، عن طريق مراقبة الموجودات النقدية وما يقابلها، حيث أسندت مهمة تنفيذ هذه السياسة النقدية لجهات رسمية -وزارة المالية- هي السلطة النقدية الوصية والمراقبة للبنوك، وتتمثل في وزير المالية، وله صلاحيات عديدة لتنظيم المهنة المصرفية والبنك المركزي، هذا الأخير الذي يعد من أهم مكونات النظام النقدي والمالي لما له من دور مباشر في توجيه المؤسسات المصرفية، والتأثير على المعروض النقدي، كما يقوم بدور رقابي في إطار كل من التشريعات الخاصة به، والقوانين التي تنظم العمل البنكي، حيث يشرف على البنوك ويراقبها، وذلك في إطار السياسة المالية للدولة عن طريق إصدار النقود ومراقبة تداولها وضبط الإئتمانات المصرفية، والعمل على استقرار التوازن بين الدخول والأسعار، وتوجيه الإستثمارات حسب حاجيات الدولة والحفاظ على قيمة العملة داخليا وخارجيا، كما تلجأ البنوك إليه عند حاجتها للسيولة التي يتدخل في تنظيمها أيضا فضلا عن الإستثمارات التي يقدمها وسهره على حسن سير نظام الأداءات.
ويستعمل البنك المركزي للوصول إلى كل تلك الصلاحيات، الأدوات التي تعطيها له القوانين، وهذا ما سنتعرض له في النقطة الموالية.
الفرع الثاني: أدوات البنك المركزي في الوقاية.
تنقسم أدوات رقابة البنوك المركزية تقليديا إلى وسائل للرقابة على التسيير، تهدف إلى حماية المودعين وضمان حسن سير العمل البنكي، وأخرى للرقابة على التمويل وتهدف إلى ضبط التحويلات التي تقدمها البنوك، بالإضافة إلى الوسائل الأدبية كالتفتيش والرقابة الميدانية والإستشارات.
1 ـ أدوات الرقابة على التسيير:
تهدف هذه الأدوات إلى ضمان حسن سير العمل البنكي وتقييم مناهج وطرق تدبير شؤونه من جهة، وهكذا نجد البنك المركزي، يحث البنوك على تقديم الوثائق والبيانات الضرورية وإرساله له إما دوريا أو سنويا، حسب ما تحدده السلطات المختصة، وذلك لكي يتحقق له متابعة نشاط البنك أولا بأول، حيث يحاط علما بأدنى انحراف وفي وقت مبكر، وبذلك يمتلك الفرصة للمسارعة إلى المطالبة بتصحيحه، ويكون على علم بكل صغيرة وكبيرة في حياة البنك، ومن جهة أخرى حماية المودعين بواسطة عدد من المعاملات كمعامل السيولة والملاءة.
ففيما يتعلق بمعامل السيولة، فهو يعني إلزام البنك بالإحتفاظ بنسبة معينة بين موجوداته القابلة للتسييل الفوري، هذه النسبة من السيولة ضرورية لتجنب البنك أي عجز مفاجئ عن أداء السحوبات في حالة تقلص مستوى الودائع، وبالتالي كسب ثقة المتعاملين وجعلهم مطمئنين على سلامة موقفها المالي.
أما فيما يخص معامل الملاءة أو تحديد نسبة رأس المال إلى الودائع، تتطلب القوانين في البنوك التوفر على رأس مال كاف، يعد دليلا على جدية المساهمين وعدم اعتمادهم على الأموال المتلقاة من الجمهور، ونظرا لضخامة هذه الأخيرة كان من الضروري تدخل السلطات النقدية لمراقبة البنوك تأمينا لمصالح أصحابها، بوضع نسبة للربط بين أموال البنك الحرة، وبين حجم الودائع لديه.
2 ـ أدوات الرقابة على التمويل:
تهدف الرقابة على التمويل إلى ضبط التمويلات التي تقدمها البنوك، للحفاظ على التوازنات الأساسية، حتى لا يتعثر الإنتاج الوطني والنمو الإقتصادي، وقد جاءت هذه الرقابة بطريقتين، الأولى: التدخل المباشر عن طريق تأطير القروض، والثانية: التدخل غير المباشر على توزيع القروض، وسنتعرض للوسيلتين على التوالي:
أ ـ الرقابة المباشرة على التمويل:
وهي ما يطلق عليه تأطير القروض، وهي سياسة تتخذ عند ملاحظة وجود فوارق كبيرة بين مستوى الإنتاج الوطني وحجم الكتلة النقدية المتداولة، أو عند ملاحظة تراجع كبير في مستوى احتياطات البلاد من العملة الصعبة، ويهدف تأطير القروض التي تقدمها البنوك، إما إلى تجميد نوعية معينة أو تحديد سقف معين لنموها خلال فترة من الزمن، وهو ما يسمى بالسقوف الإئتمانية.
ونظرا لما للإئتمان من أهمية باعتباره أحد ركائز السياسة النقدية في الدولة نظرا للدور الرئيسي الذي يلعبه في الحياة الإقتصادية، إذ هو الذي يمدها بما تحتاج إليه من موراد، كان من اللازم تدخل الحكومات لضبطه وتوجيهه، عن طريق نظام السقوف الإئتمانية التي يحددها البنك المركزي والذي يعطي للبنوك التقليدية الحدود القصوى التي يمكن منع الإئتمان فيها، كما يحدد لها القطاعات ذات الأولوية التي يجب عليها أن تخصص لها نسبة معينة من إئتمانها بالأفضلية.
ب ـ الرقابة غير المباشرة على التمويل:
وهي الرقابة على توزيع القروض، وتهدف أيضا إلى التحكم في السيولة المتاحة، وتستعمل السلطات المختصة -البنك المركزي- في هذا الإطار وسائل للرقابة، كتحديد سقوف إعادة الخصم، والإكتتاب في السندات العمومية، والإحتياطي النقدي، وتنظيم أسعار الفائدة.
ـ إعادة الخصم لدى البنك المركزي:
تعد إعادة الخصم بمثابة إعادة تمويل يتيحه البنك المركزي للبنوك التجارية، ولكل بنك سقف يمكنه في إطاره الحصول على موارد جديدة من البنك المركزي، بالنظر إلى ما منحه هذا البنك من قروض لزبنائه وفي انتظار سدادهم لها، وهكذا يمكن للبنك المركزي أن يتدخل في تقليص السيولة أو ضخها. إما بمراجعة سقف إعادة الخصم زيادة أو نقصانا عند الحاجة وحسب ما تقتضيه الظروف، أو بمراجعة فئات الفائدة المطبقة على هذا النوع من اللجوء إلى تسهيلات البنك المركزي.
ـ الإحتياطي النقدي:
ويتعلق الأمر بإيداعات إجبارية، مجمدة لدى البنك المركزي، وبدون فوائد، وعن طريق تغيير حجم هذه الودائع، تستطيع السلطات النقدية التأثير على سيولة البنوك، وقدرتها على منح القروض.
ـ الإكتتاب في حد أدنى من السندات العمومية:
يجب على البنوك وباستمرار أن تتوفر على محفظة من السندات العمومية، وذلك حسب إلتزاماتها تجاه الغير، ويعتبر هذا الإلزام أداة إضافية، تمارس بها السلطات النقدية تحكمها في السيولة النقدية لدى البنوك، فإذا كانت نسبة المحفظة الإجبارية في السندات عالية، فذلك يعني رغبة هذه السلطات في الحد من إمكانية البنوك في توزيع قروض جديدة، كما تعتبر مساهمة من الجهاز المصرفي، في التمويل العمومي، لأن إصدار السندات العمومية غالبا ما يكون لمواجهة نقص في موارد الدولة.
ـ تنظيم أسعار الفائدة:
تسعى سياسة تحديد فئات الفائدة الدائنة والمدينة إلى تشجيع الإدخار، وتوجيهه نحو الإستعمالات الأكثر نفعا للإقتصاد الوطني، ووفقا لما تحدده السلطات النقدية من أولويات وأيضا إلى التحكم في نمو القروض وتطورها، فكلما ارتأت هذه السلطات ضرورة التأثير في حجم القروض الموزعة عمدت إلى تغيير مستوى الفوائد، والعمولات المرافقة، وتدخل ضمنها بطبيعة الحال فوائد المودعين والقروض وإعادة الخصم لدى البنك المركزي.
بالإضافة إلى هذه الأدوات التي يتمتع بها البنك المركزي في الرقابة سواء على مستوى التسيير أو على مستوى التمويل، فإنه يتوفر على وسائل أخرى تسمى بالوسائل الأدبية، حيث يحق له تفتيش البنوك والقيام بمراقبة ميدانية، وتقديم التوجيهات والإستثمارات التي يراها مناسبة.
لكن ما يثير التساؤل، هو هل يمكن إمداد هذه الرقابة التي يقوم بها البنك المركزي على البنوك الربوية إلى البنوك الإسلامية، رغم الإختلاف البين بين أسس ومبادئ البنكين، هذا ما سنتعرض له في النقطة الموالية محاولين التعرف على إمكانية أو عدم إمكانية تطبيق ذلك.
الفرع الثالث: رقابة البنك المركزي للبنوك الإسلامية.
لتحديد طبيعة ونوعية علاقة البنوك الإسلامية بالبنوك المركزية، يجب أن ينظر إليها بحسب موقع كل منها في الدولة، لتميز القواعد التي تحكمها بحسب الدول.
وسنتعرض في حديثنا عن رقابة البنك المركزي للبنوك الإسلامية، لنماذج مختارة من مصر والإمارات العربية المتحدة والأردن، وإيران وماليزيا.
فبالنسبة لجمهورية مصر العربية، سنأخذ بنك فيصل الإسلامي المصري، كمثال نتعرف منه على طبيعة تدخل البنك المركزي في هذا النوع من البنوك، حيث يخضع لرقابة البنك المركزي وللقوانين المنظمة للرقابة على البنوك والإئتمان في مصر، ويمتثل للتعليمات الصادرة من هيئات الرقابة، فيبعث كل شهر بالمعلومات المطلوبة إما للبنك المركزي، أو للهيئات التي لها حق الإشراف على أعمال القطاع البنكي، وبناء على ذلك استطاع ومنذ تأسيسه، التوفر على الحد الأدنى للإحتياطي النقدي، واحترام معامل السيولة والسقوف الإئتمانية، شأنه في ذلك شأن أي بنك ربوي، وهكذا نجد بنك فيصل الإسلامي منظم إلى اتحاد البنوك بمصر، ونتيجة لذلك يخضع لتعريفة الخدمات المعرفية المعلنة من البنك المركزي المصري، ويشترك في غرفة المقاصة التي تدار بهدف تسوية الدفوعات بين البنوك العاملة داخل البلاد.
وفي الإمارات العربية المتحدة، يعد البنك المركزي أول البنوك المركزية التي اهتمت بالعمل المصرفي الإسلامي وكرس هذا الإهتمام بإصدار قانون رقم 6 لسنة 1985 المؤرخ في 15/12/1985م، خاص ب”البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية” وبموجبه تخضع هذه الأخيرة -البنوك الإسلاميةـ، لرقابة البنك المركزي وتفتيشه، حسب القواعد الجاري العمل بها، سواء بالنسبة لاختصاصاته أو لتدخله في التنظيم المالي والنقدي والمهنة البنكية.
وتشترك البنوك الإسلامية والتقليدية في الأردن في الخضوع لرقابة البنك المركزي فمثلا البنك الإسلامي الأردني للتمويل والإستثمار يخضع لنفس القيود المتعلقة بالسياسة النقدية والواردة في حق البنوك التقليدية، مثل الإحتياطي النقدي ومعامل السيولة والسقوف الإئتمانية مع بعض الإختلافات، فمثلا تتميز نسبة التمويل إلى الودائع بارتفاع نسبتها لدى البنوك الإسلامية إذ تصل إلى 75% بينما تبقى في حدود 70% عند البنوك التقليدية.
وتسري على البنوك في إيران، رقابة البنك المركزي الذي يستعمل في ذلك وسائل تخولها له المادة 20 من قانون 1 شتنبر 1983، وهي وضع الحد الأدنى والأعلى لنصيب البنوك في الأرباح المتحققة من المشاركات والمضاربات، وليس هناك ما يمنع من اختلاف هذا الحد، تبعا لكل مجال على حدة، ثم تحديد المجالات التي توظف فيها البنوك أموالها مع وضع الحد الأدنى لنصيبها في الأرباح، حسب نوعية المشروع والذي يختلف بحسب المجال، وأيضا الحد الأدنى والأقصى، لنصيب البنوك في أرباح عمليات البيع بالتقسيط، والتأجير المنتهي بالتمليك، والحد الأدنى والأقصى للعمولات التي تأخذها مقابل ما تقدمه من خدمات بنكية، أو مقابل توكيلها في استعمال الأموال التي تتلقاها من أجل استثمارها، والحد الأدنى والأقصى للإمتيازات الواردة في الفصل 6 من نفس القانون.
وهناك دول أخرى، أعطت بعض التنظيمات لعلاقة البنوك المركزية بالبنوك الإسلامية منها على سبيل المثال ماليزيا، حيث نص قانون البنك الإسلامي الماليزي لسنة 1982 على حق البنك المركزي في تحديد نسب السيولة التي يحتفظ بها كل بنك إسلامي من حين لآخر، وفرض غرامة واحد في الألف يوميا عن كل مبلغ مخالف لهذه التعليمات، كما يشكل عدم دفع الغرامة جريمة وفقا للقانون، كما يحدد السقف الإئتماني في مبلغ قدره “10.000 رنجت”، بالإضافة إلى ضرورة تبليغ البنك المركزي عن أية ضمانة يصدرها بنك إسلامي تتجاوز 20% من رأس ماله المدفوع، وتعين محقق حسابي خارجي بشروط نص عليها القانون.
ونصل في ختام بحثنا لعلاقات البنوك الإسلامية بالبنوك المركزية ورقابة هذه الأخيرة عليها، إلا أنه ليس هناك ما يحول مبدئيا –من الناحية الفنية الصرفة- تطبيق بعض أو كل هذه التدابير، والإجراءات على البنوك الإسلامية، بل من الضروري خضوعها لهذه الرقابة، حماية للمودعين وللإقتصاد الوطني، من الإختلالات الناتجة عن التوسع المفرط، في توزيع التمويلات، وتوجيهها إلى قطاعات وعمليات لا تكتسي طابعا إنتاجيا حقيقيا، مع مراعاة طبيعة العمل المصرفي الإسلامي بطبيعة الحال وخاصة قضية التعامل بالفوائد، وهكذا رغم قصور التنظيمات الحالية عن تأطير هذه العلاقة، فإن “البنوك الإسلامية” استطاعت أن تعمل وتحقق نتائج لا بأس بها بينت عن إمكانية خلق تعاون بين الطرفين.
إلا أنه وقبل إقفال هذا الباب، لابد من الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى الحماية التي يوفرها البنك المركزي للمودعين، نجد هؤلاء يقومون بمراقبة ومتابعة أعمال البنوك الإسلامية، وهذه الفكرة جديدة تماما على التفكير المصرفي، لأن المودع في البنك تقليديا هو بمثابة الدائن الذي لا يحق له التدخل في إدارة البنك، إذ أن وديعته مضمونة بفائدتها منذ البداية، أما في البنوك الإسلامية فإن هذا العائد يتغير تغيرا كبيرا حسب كفاءة الإدارة ونوعية الإستثمارات وحجم الإستقطاعات ومبرراتها، فكل ذلك يؤثر على عوائد المودعين بالسلب، وهذا ما يعضد فكرة إعطائهم بعض الحق في متابعة أعمال ونشاط البنك وسبل إدارته، ولهذا بدأ فقهاء وخبراء البنوك الإسلامية في تناول فكرة حق أصحاب الودائع في المتابعة وفي الرقابة حيث يمارسون حقا في حماية أموالهم.
المطلب الثاني: الرقابة الشرعية.
إن من الأمور التي يمتاز بها البنك الإسلامي عن نظيره التقليدي، هو توفره على نوع جديد ومتميز من أنواع الرقابة.
فبالإضافة للعلاقة التي تربطه مع البنك المركزي، وما يمارسه هذا الأخير عليه من آليات وأدوات المراقبة والتوجيه، وهو ما يجري داخل البنك العادي أيضا، فإنه يتوفر علاوة على هذا، على هيأة مستحدثة للرقابة والتي نشأت بنشوء البنوك الإسلامية، وبروزها على الساحة المصرفية، وتتمثل في أجهزة للرقابة الشرعية والإفتاء في جميع المعاملات التي تقوم بها البنوك الإسلامية.
-
فما هو مفهوم هذه الهيئة وما هي تشكيلتها؟ (الفرع الأول).
-
وما هي المهام المناطة بها وأدواتها (الفرع الثاني).
-
وما مدى نجاعة وفعالية هذه الهيئة؟ (الفرع الثالث).
الفرع الأول: مفهوم هيأة الرقابة الشرعية.
إن إسناد كلمة “الشرعية” لمفهوم الرقابة، له ما يبرره، ذلك لأن طبيعة البنك الإسلامي وسماته، تقتضي منه إدخال مثل هذا النوع من الرقابة ضمن حساباته، وهذا ما يجعلنا نلاحظ لجوء جميع المؤسسات المالية الإسلامية إلى أن يكون لديها هيأة للفتوى والرقابة الشرعية. ويمكن اعتبار الفتوى بمثابة المعين الذي تمتح منه هذه المؤسسات والبنوك شرعية أعمالها، وأن وجود مثل هذه الهيأة داخلها يعكس رغبتها في أن تكون أعمالها تلك منضبطة بالضوابط الشرعية وتسير وفق قواعد الفقه الإسلامي.
فمفهوم هيأة الرقابة الشرعية يعتبر ببساطة وجود آلية رصد وتفتيش لمختلف أنواع الأنشطة التي يقوم بها البنك الإسلامي في إطار معاملاته اليومية، حرصا منه على أن لا يحيد عن المنهج الشرعي.
فمم تتشكل هذه الهيئة؟
ما يلاحظ هو أن تشكيل هذه الهيئة ليس نفسه، في جميع البنوك الإسلامية، بل هناك اختلاف فيما بينها، فهناك من البلدان الإسلامية التي لازالت البنوك لديها تعتمد على الفتوى الفردية التي يقوم بها مفت واحد، وهناك من البنوك الإسلامية من تلجأ إلى ما يسمى بالفتوى الجماعية الصادرة عن لجنة للإفتاء، كما هو شأن البنوك وبيوت التمويل الكويتية.
غير أن جميع هيئات الفتوى والرقابة الشرعية على مجموع نطاق البنوك الإسلامية، من المفروض فيها أن تتكون من علماء الأمة وفقهائها ذوي الإطلاع الواسع والدراية المستفيضة بكل أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها، وتحديدا فقه المعاملات، ويطلق عليهم غالبا اسم المستشارين الشرعيين، وهو ما حذا بالإتحاد الدولي للبنوك الإسلامية لتكوين مثل هذه الهيئات داخل منظومة هذه الأخيرة، على شرط أن يكون هؤلاء المستشارين من ثقات العلماء وأهل للإفتاء في كل ما يعرض عليهم من أعمال وأنشطة البنوك الإسلامية، لأن فتاواهم تلك حساسة وعلى جانب كبير من الأهمية والإلزام.
ولكن من أين تنبثق هذه الهيئة؟ ومما تستقي سندها القانوني؟
يتم انبثاق هيئة الفتوى والرقابة الشرعية عن عدة هياكل وأجهزة داخل البنوك الإسلامية، وذلك حسب ما تمليه عليها قوانينها الأساسية ولوائحها الداخلية، حيث نجد أن تسمية وتعيين هذه الهيئة يتم إما من طرف الجمعية العمومية أو من قبل المجلس الإداري للبنك.
وهكذا نرى مثلا أن هذه الهيئة تستمد سندها القانوني وتعيين أعضائها عادة من الجمعية العمومية كما هو الحال في بنك فيصل الإسلامي المصري، والذي تتكون لديه هذه الهيئة من 5 أعضاء كأكثر تقدير وذلك لمدة 3 سنوات، وأن يكونوا من علماء الشرع وفقهاء القانون والإقتصاد، وكذا بنك فيصل الإسلامي السوداني، والذي يتراوح عدد أعضاء هذه الهيئة بين ثلاثة أعضاء كحد أدنى و7 أعضاء كحد أقصى، وأن الجمعية العمومية هي من تحدد أتعابهم في قرار التعيين، ويمكن لها إعادة تعيينهم متى انتهت مدة عضوية أحدهم، كما يجوز لمجلس إدارة البنك أن يقوم بتعيين شخص محل آخر متى شغر المنصب الذي كان يشغله هذا الأخير وذلك إلى حين انتهاء مدة التعيين الأصلية.
وفي مقابل تعيين هيئة الرقابة الشرعية من طرف الجمعية العمومية، هناك من البنوك الإسلامية من يقوم مجلسها الإداري بهذه المهمة (مهمة التعيين)، وهو ما يجري العمل به في البنك الإسلامي الأردني للإستثمار والتمويل، والبنك الإسلامي الدولي الدانماركي واللذين يعتمدان على مستشار واحد ومنفرد، ويتم اختياره من بين أصحاب التخصص بالأحكام الشرعية العملية.
الفرع الثاني: مهام الهيئة وأدواتها.
إن هيئة الرقابة الشرعية، وكما رأينا ذلك، تضم في صفوفها خيرة من العلماء والفقهاء المتخصصين في الشريعة الإسلامية وأحكامها وبخاصة فقه المعاملات، وكذا تستفيد من خبرات ثلة من الأساتذة والباحثين في مجالات المال والإقتصاد والقانون، ممن يهتمون بالمصرفية الإسلامية، وممن يؤمنون بنظرية البنوك الإسلامية وجدواها الإقتصادية في حياة الفرد المسلم، وتجنبا لأي نوع من الممارسات الخارجية عن نطاق الشرع.
المهم في الأمر، هو أن هؤلاء العلماء إنما يعملون كمستشارين لدى هذه البنوك، تأدية لواجب النصح والوعظ والإرشاد لكل أمور الدين والدنيا، مساهمين بذلك في وضع لبنة من لبنات الإقتصاد الإسلامي القائم على شرع الله سبحانه وتعالى، وكذا الأسس العلمية التي من شأنها دفعه إلى المزيد من النجاح والتألف والإزدهار.
ولاشك أن تموقع مثل هذه الهيئة داخل الهيكل التنظيمي لأي بنك إسلامي، ومشاركتها الفعلية في أعماله ومعاملاته من شأنه أن يسهم في صنع القرار وفي إبداء الرأي الشرعي فيه، وكذا متابعة تنفيذه.
ولهيئة الرقابة الشرعية أن تتابع سير البنك من خلال العمليات اليومية التي يقوم بها للتأكد من أنها مطابقة لتعاليم الشريعة، ولها الصلاحية الكاملة في قبول أو رفض كل عملية، بشرط أن تقدم المبررات القانونية لقرارها، ولها الصلاحيات أيضا للفصل في النزاعات القانونية ذات الطابع الشرعي، وتتمثل اختصاصاتها تحديدا في:
-
المصادقة على صيغ العقود المعمول بها وعلى النصوص القانونية.
-
المراقبة القبلية لجميع العمليات الخاصة بالمرابحة والمضاربة والمشاركة.
-
المرابحة لكل العمليات بعد إنجازها، وذلك حسب ترتيب زمني يوافق عليه المجلس الإداري.
فهذه الهيئة تقوم بما يسمى بالإفتاء الشرعي داخل البنك الإسلامي، في كل ما يتعلق بمعاملاته اليومية، وتبدي ملاحظاتها وآرائها سواء السابقة أو اللاحقة، القبلية أو البعدية فيها، وتقوم بتمحيص العقود المبرمة من طرفه والنظر فيما إذا كانت مطابقة للشرع أو مجانبة له. وهذا ما جعل قوانين بعض البنوك مثل قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والإستثمار يوجب على مجلسه الإداري منح سلطات واسعة لمراقبه الشرعي، وطلب رأيه واستشارته في شرعية كل ما له علاقة بالغير والتحقق من وجود السند الفقهي لاستثمارات البنك.
ولكن السؤال الذي يمكن أن يثار في هذا الصدد، هو الكيفية التي تمارس بها هذه الهيئة مهامها واختصاصاتها؟
ما هو مؤكد وشائع، هو أن جميع البنوك الإسلامية المتوفرة على هيئات ولجان للرقابة الشرعية إنما تمارس هذه الأخيرة عن طريق آلية الإفتاء أو الفتوى، والتي تعتبر القالب والبوثقة التي تصهر فيها هيئات الرقابة الشرعية آراءها وأفكارها وتوجيهاتها في سبيل إفادة البنوك الإسلامية وإسداء الخدمة لها.
فوجود قاعدة كبيرة من الفتاوى الشرعية المباشرة في موضوعات تهم المتعاملين مع المصرف الإسلامي تعتبر من نقاط القوة الذاتية لهذا الأخير.
وإذا نظرنا إلى الفتوى أو القيام بالإفتاء، وألقينا لمحة عن تاريخها تجد أنها تمتد إلى العصر النبوي الشريف حيث كان يقوم بها النبي صلى الله عليه وسلم بمفرده، وحين وفاته أخذ مشعلها خلفاؤه الراشدون، ومن بعدهم أئمة الإسلام المجتهدين الذين كانوا يفتون بما وصل إليه اجتهادهم من نصوص القرآن والسنة في مختلف أمور الدين والدنيا، وقد تفرقت مسألة الفتوى والإجتهاد إلى مذاهب وشيع لا حد ولا حصر لها.
وفي العصر الحديث، المليء والحافل بمجموعة من المسائل والأمور المستجدة والمستحدثة، بسبب تقدم الحضارات والإختراعات، وتشابك العالم واختلاط شعوبه فيما بينها، باتت مسألة الإجتهاد والإفتاء من ملحات هذا العصر وضرورياته، وذلك لمواكبة هذه المستجدات وإعطاء الأحكام الخاصة بها، ولذلك حرص كل بنك إسلامي على أن يمتلك هذا الميكانيزم باعتباره هو الآخر من مستحدثات العصر، وباعتبار أيضا المجال الذي يعمل فيه، والذي إن أراد هذا البنك أن لا يحيد عن خطر الشريعة الإسلامية عليه الإمتثال له، -أي لميكانيزم الإفتاء-.
وقد أثيرت بشأن اختصاصات هيئات الفتوى والرقابة الشرعية عدة نقاشات، تنصب جلها حول حدود تدخل هذه الهيئات في أعمال البنك، فهل يجب أن يخضع سير عمليات هذا الأخير بكل تجلياتها لرقابة هذه الهيئة، أم يقتصر دور هذه الأخيرة فقط على فكرة الإفتاء النظري والذي لا يرقى إلى مستوى مراقبة عمليات المصرف.
بيد أن ما هو واضح، هو أن هذه الهيئات المسؤولة أمام الله سبحانه وتعالى وأمام الناس، تسعى بكل ثقلها وببساطة إلى الوقوف على حقيقة ما يجري من معاملات وتصرفات، ورؤيتها رأي العين، وليس فقط الإستماع إلى الإستفسارات المطروحة من قبل البنك الإسلامي، لأن المشاهدة بالعين ليست هي السماع بالأذن، وهذا كله من أجل إتيان الحكم مطابقا لمحله، وللشرع الإسلامي، كما تروم الإطمئنان إلى سلامة التطبيق والتنفيذ لهذا الحكم ومعالجة ما يستجد من مشاكل تسيء تطبيقه وتنفيذه.
ولكن هناك من البنوك الإسلامية من ليس لها هيئة أو لجنة للرقابة الشرعية، مختصة في الرقابة والفتوى وتفتيش مستنداتها والإطلاع على كل أمورها وأشغالها، مما يجعل الأمر موكولا لمراقب شرعي واحد يدلي بفتاواه المنفردة التي قد تصيب وقد تخطئ، وهذا ما نجده لدى البنوك الإسلامية التونسية، حيث تترك أمر الرقابة والإفتاء الشرعيين لمفتي الجمهورية، ونجد أن المصرف الإسلامي الدولي الدانماركي كما رأينا ذلك سابقا، هو الآخر يعين مستشارا شرعيا بمثابة مدقق داخلي له صلاحيات القيام بفحص أصول البنك والتزاماته ودخله ووجوه إنفاقه. والأمر إذن موكول لمراقب شرعي واحد، وهو ما يطرح مسألة كفاءته وقدرته على الجمع بين الدراية الفقهية والدراية العلمية والمصرفية.
هذا ما تم تجاوزه بالنسبة لبنوك أخرى حيث ارتأت أن تعتمد ليس فقط على مراقب منفرد، ولكن الإعتماد على لجنة متكونة من عدة مراقبين، تضم بينها تشكيلة غنية من الفقهاء العلماء والمتخصصين في مجال المال والأعمال وأمور البنوك، وهو الشيء الذي قامت به بنوك مثل بنك فيصل الإسلامي المصري والسوداني، وكذا البنك الإسلامي الدولي للتنمية، وبيت التمويل الكويتي الذي -وللإشارة فقط- قام بإصدار تصنيف جديد يجمع كل الفتاوى الصادرة عن هيئة الفتوى والرقابة الشرعية خلال سنوات عملها بالبيت، والتي تهم بالخصوص قضية الفائدة، وتتناول أيضا جوانب مختلفة من التعاملات اليومية الإقتصادية.
ولاشك في أن هذه الفتوى –وذلك أمر طبيعي- تشهد اختلافا في الرأي والإجتهاد بين أهل الفقه، وهو “اختلاف رحمة” كما جاء على لسان سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، لأننا إذا دققنا النظر نجد بالفعل أن الإجتهاد والإفتاء أمرين لابد لهما من اختلاف أصحابهما، وفي ذلك –بطبيعة الحال- إثراء للمخزون الفقهي والإجتهادي، والذي تعود ثمرته على الأمة الإسلامية بالخير والفلاح، لأن تعدد الآراء والإجتهادات في مسألة واحدة مثلا خير من رأي واحد مهما كان صائبا صاحبه، لأن بهذا التعدد أيضا يتم التوصل إلى استنباط أحكام مختلفة لمسألة معينة (ما يتعلق بأنشطة البنوك الإسلامية مثلا) وذلك انطلاقا من النصوص الشرعية، كما يتوصل إلى استخراج عدة مسائل من حكم واحد وارد في الكتاب أو السنة، غير أن الإجتهاد في مختلف الأمور الجديدة التي جاءت وليدة هذا العصر، مهما تعدد واختلف فلابد وأن يتم في ضوء الأدلة الشرعية من النصوص العامة من الكتاب والسنة، ومن النصوص الفرعية كالقياس أو الإستصلاح أو الإستحسان أو العرف أو غير ذلك مما هو مقرر في أصول الفقه وقواعده.
ويمكن القول أن هيئات الفتوى والرقابة الشرعية، يقوم أعضاؤها في إطار ممارسة مهامهم واختصاصهم، بالدراسة الشرعية لمختلف القرارات الصادرة عن مجلس إدارة البنك الإسلامي ومتابعة تنفيذها بإبداء آراء فيها سواء كانت سابقة أو آنية أو لاحقة، وهم في ذلك يعتمدون على القواعد الكلية المشتقة من الشريعة الإسلامية، كقاعدة “الغنم بالغرم” وقاعدة “الخراج بالضمان” وقاعدة “التيسير ورفع الحرج”، إلى غير ذلك من القواعد الفقهية، والتي يعملون على تطبيقها وإفراغها على محتوى نشاطات وعمليات المصرفية الإسلامية، سدا للذرائع ومنعا لكل المعاملات الربوية التي أصبحت أعرافا محكمة، تغلغلت في جسم الأمة الإسلامية ونخرت عظامها وامتصت دماءها.
بقيت الإشارة فقط إلى أن هيئة الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية تخضع في أعمالها ومهامها لرقابة عليا تتمثل في الهيئة العليا للرقابة الشرعية، والمكونة من هيئات الرقابة الشرعية لكل بنك، والتي يبقى لمجلس إدارة هذا الإتحاد الرقابي الحق في إضافة أي شخص يراه ملائما للعمل بها، وتتحدد صلاحيات هذه الهيئة العليا في النظر في جميع الفتاوى والآراء التي تصدر عن مختلف هيئات الرقابة الشرعية التابعة لكل بنك من البنوك الإسلامية الأعضاء في الإتحاد الدولي للبنوك الإسلامي للتأكد من مدى مطابقتها للمبادئ الشرعية.
الفرع الثالث: حدود هيئة الرقابة الشرعية:
إن الحديث عن حدود هيئة الرقابة الشرعية ولجان الإفتاء، يجرنا إلى تناول مسألة فعالية ونجاعة هذه الهيئة وهذه اللجان للقيام بالمهام المنوطة بها، ومدى قدرتها على تلبية رغبات البنوك الإسلامية، ومن خلالها رغبات واستفسارات جمهور المسلمين وغيرهم، مما يدفع إلى التساؤل عن كيفية اندماجها داخل أجهزة هذه البنوك والإستفسار حول المناخ الذي تعمل فيه.
فما يتبين هو أن هذه الهيئة تواجهها جملة من المصاعب والتي يمكن لها التغلب عليها بمرور الوقت، وبقليل من الحكمة. حيث أن ما يثار هنا هو مسألة تعددية هذه الهيئات المتخصصة في أمور الإفتاء، والتي يقع بينها تغاير في اجتهاداتها والذي قد يكون أحيانا كبيرا، وقد يؤدي إلى خلق الإرباك بين المؤسسات والبنوك الإسلامية بخصوص معاملاتها، بحيث أن ما أجازته هيئة قد لا تجيزه هيئة أخرى من خلال حكم نفس المسألة، هذا من جهة،ن أما من جهة أخرى، فقد يؤدي هذا التغاير والتباين في الإجتهاد إلى تخلخل الثقة في هذه الهيئات واللجان من قبل الجميع، ووضعها موضع ارتياب وشك في فعاليتها، كما تطرح عدة سلبيات لهذه الهيئات منها على سبيل الذكر مثلا، ما يقال حول التصارع الذي ينشب بين العلماء ومنافسة بضعهم بعضا حول المراتب والمناصب داخل البنوك الإسلامية مما يضعف المكانة والقيمة العلمية لهؤلاء، ويعزى هذا السبب بالضبط إلى قلة وهزالة الرواتب والمعاشات التي يتقاضونها، كما توجد نقطة أخرى مهمة جدا هي مسألة اندماج مثل هذه الهيئات كمصلحة من مصالح البنوك الإسلامية مما يجعلها عرضة للأوامر التي تتلقاها من الجهات العليا.
لهذا وذاك تمت المناداة إلى أن يتم توحيد الإجتهادات حفاظا على دقة الحكم الشرعي من ناحية، وعلى ثقة المواطنين، ورعاية مصالحهم من ناحية ثانية، وصونا لسمعة الهيئات واللجان المذكورة، وتنسيق فتاواها فيما بينها، وأن تكون لها جمعية عمومية يلتزم أعضاؤها بما تقرره، وتكون هي المرجع الوحيد والأول لهذه الفتاوى.
كما يجب أن لا تقتصر مهمة هيئة الفتوى والرقابة من زاوية أخرى، على تصنيف المعاملات إلى معاملات مباحة شرعا وأخرى غير مباحة فقط، بل يجب أن تتعدى ذلك إلى اقتراح البدائل الممكنة التي يتم بها تلافي منافاة الشرع في المعاملات المطلوبة من البنك الإسلامي، وحتى يتم اجتناب الوقوع في دائرة التحليل والتحريم، لأن علماء وفقهاء هذه الهيئة ليسوا برجال الدين بالمفهوم الكهنوتي والكنيسي، بل هم بشر يجتهدون اجتهادهم الذي قد يخطأ وقد يصيب، ولكنهم مثابون على اجتهادهم هذا في كل الأحوال كما بين ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كما يتم اقتراح أن يتسع مفهوم الرقابة الشرعية بصفة عامة، ليشمل الجهود التحضيرية، لإنشاء البنك، وصياغة نظمه الأساسية ولوائحه المصرفية الداخلية، وكذا اختيار العاملين في المصرف وتوعيتهم بشكل مستمر ومتواصل بالمنهج الذي يجب أن يتم سلكه.
وهذا كله سيتم إيجاد رقابة شرعية فعالة وضامنة لحدود الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ومقدمة الحلول الشرعية للمشاكل والمسائل المثارة في حياة الناس اليومية، وصولا إلى تحقيق مسيرة اقتصادية للبنوك الإسلامية والمؤسسات المالية اللاربوية، متجاوزة حدود الإقليمية إلى الحدود العالمية.
وإن كنا قد تحدثنا عن الرقابة بالمفهوم الواسع الذي يضم الرقابة المصرفية الممارسة من طرف البنوك المركزية على البنوك الإسلامية وأدواتها في ذلك، وتلك الرقابة التي يقوم بها المودعون لأموالهم داخل هذه البنوك، توصلنا إلى رقابة أخرى لها أدواتها وميكانيزماتها تتمظهر في شكل رقابة شرعية يمارسها مراقبون ومستشارون شرعيون، نخرج بالإستنتاج التالي الذي مفاده أنه مهما تعددت أشكال الرقابة وأنواعها على البنوك الإسلامية، فإن المهم في الأمر –وهذه المسألة تحسب لفائدة هذه البنوك- هو تلك الرقابة التي يمارسها الفرد أو الموظف على ذاته، وهي بحق الرقابة التي يمكن أن تقوم وتتأسس عليها باقي الرقابات الأخرى وتنبني على نتائجها وآثارها.
بعدما تطرقنا في القسم الأول من هذا البحث للشق النظري من البنوك الإسلامية، والمتمثل في أهم ما ترتكز عليه هذه الأخيرة عند قيامها وتأسيسها، من أسس دينية وفكرية، وظروف قانونية وواقعية، وكذا الطرق التي تدار بها هذه المصارف بغية معرفة ما إذا كانت هي نفسها التي تسلكها البنوك التقليدية، أم هي طرق تختلف نوعا ما نظرا للطابع الذي يطبع هاته البنوك، كما عملنا كذلك على إبراز أنواع الرقابات الممارسة عليها، بما فيها تلك الرقابة التي تنفرد بها عن غيرها من بقية البنوك والتي تتخذ شكل “رقابة شرعية”.
أثرنا في القسم الثاني مقاربة تطبيقات البنوك الإسلامية، قصد تتبع المصادر التي تعتمد عليها هذه الأخيرة في تشكيل ميزانياتها، ورصد مختلف أنشطتها الإستخداماتية وتمظهراتها، وكذا التوظيفات التي تقوم بها للأصول المالية المتوفرة لديها، علاوة على ذلك سنعرض في الختام للرهانات التي تتوقف وتروم تحقيقها هذه البنوك قصد الوصول إلى تنمية وإقلاع اقتصادي واجتماعي في الآن ذاته، كما سنبين أهم المعيقات التي تعترض هذه المسيرة الإنمائية وتجلياتها الكبرى.
هذا، وسنقسم هذا القسم إلى فصلين: نتناول في “فصله الأول” موارد البنك الإسلامي واستخداماته، على أن نعرض للرهانات الكبرى لهذا الأخير ومعيقاته في “الفصل الثاني”.
الفصل الأول:
موارد البنك الإسلامي واستخداماته.
إن سمة البنوك الإسلامية والبارزة، هي أنها مؤسسات وشركات تعمل على تجميع الودائع وجذب المدخرات كمصادر رئيسية للأموال التي تدخل في تركيب ميزانياتها، إذ أن هذه السمة تطغى على جميع أنواع البنوك بلا استثناء، سواء أكانت إسلامية أم تقليدية، غير أن الفرق الجوهري والخلاف الوحيد الموجود بين نوعي البنوك هاته، هو كيفية استغلال وتوظيف هذه الودائع والمدخرات وسبل استثمارها من قبلهما.
هذا ما أوجب علينا كشف موارد البنوك الإسلامية “مبحث أول”، ثم إبراز مظاهر استخدامات هذه الموارد وأنشطة توظيف الأموال المتوفرة “مبحث ثان”.
المبحث الأول: موارد البنك الإسلامي.
يمكن القول أن موارد البنك الإسلامي أو أي بنك آخر عادي، هي تلك المصادر الأساسية للأموال، والتي تدخل في تشكيل ميزانيته ومركزه المالي، والتي تتمثل غالبا في موارد ذاتية تعود للبنك نفسه، وموارد خارجية تأتيه من جهات أخرى.
فمما تتكون موارد البنك الإسلامي الذاتية (مطلب أول)؟ وما الذي يدخل في تشكيل موارده الخارجية (مطلب ثاني)؟
المطلب الأول: الموارد الذاتية للبنك.
تتمظهر أهم موارد البنك الإسلامي الذاتية أو العائدة للمساهمين فيه، في:
-
رأس المال (الفرع الأول).
-
الإحتياطات والمخصصات (الفرع الثاني).
الفرع الأول: رأس مال البنك الإسلامي.
يعتبر الرأسمال الأساس الذي ينبني عليه أي مشروع أو شركة، وعلى اعتبار أن البنوك بصفة عامة تأخذ شكل شركة المساهمة، فإن توفرها على رأسمال أمر لازم وضروري، حيث يشكل هذا الأخير المصدر الذي تتدفق منه بقية الموارد الأخرى، إذ يقتضي أمر تأسيس شركة أو بنك، التوفر على الأقل على الحد الأدنى من هذا الرأسمال ليكون هذا التأسيس بدوره صحيحا وخاضعا للقوانين التي تحكم قيام الشركة المساهمة، وذلك بطبيعة الحال حسب قانون كل بلد يوجد به بنك إسلامي اتخذ كما سبق شكل الشركة المساهمة.
وإذا نظرنا إلى التشريع المغربي، -وإن كان المغرب لم يدخل غمار تجربة البنوك الإسلامية بعد- فإننا نجده ينص في الفقرة الأولى من المادة الأولى من قانون 17.95 المتعلق بشركات المساهمة على ما يلي: “شركة المساهمة شركة تجارية بحسب شكلها وكيفما كان غرضها، يقسم رأسمالها إلى أسهم قابلة للتداول ممثلة كحصص نقدية أو عينية دون أية حصة صناعية”. كما يوجب المشرع أيضا على أن يكون رأسمال الشركة المساهمة ذات الرأسمال المنفتح والتي تدعو الجمهور إلى الإكتتاب العام فيه لا يقل عن ثلاثة ملايين درهم، أو 300 ألف درهم، إذا كانت هذه الشركة ذات الرأسمال المغلق والتي لا تطرح رأسمالها هذا إلى الإكتتاب.
وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على ما للرأسمال من أهمية قصوى بالنسبة لشركات المساهمة، وبالتالي للبنوك الإسلامية أم غير إسلامية.
إذن، فيما يتعلق برأسمال البنوك الإسلامية، فالأمر لا يحيد عن كونه أساس إيجاد الكيان الإعتباري لها، ونقطة بدء ممارستها لكافة نشاطاتها، وتوفير المستلزمات والمعدات الأولية والضرورية لهذا البدء.
هذا ولا يقتصر دور رأس المال على مجرد تأسيس البنك الإسلامي فقط، بل يتخطاه إلى القيام بدور تمويلي في الفترة الأولى من عمر هذا الأخير عندما لا تكون الموارد الأخرى كالإيداعات أو الودائع قد تدفقت عليه بعد، إذ أن هذا الدور التمويلي الأولي هو بمثابة إثبات الوجود الحقيقي للبنك داخل السوق المصرفي.
غير أنه إذا كان من الممكن في البنوك التقليدية دفع حصص من هذا الرأسمال عند تأسيسها وإبقاء الحصص الأخرى المتبقية إلى وقت لاحق، فإن الأمر يختلف بالنسبة للبنك الإسلامي الذي يستوجب دفع هذا الرأسمال بالكامل، إذ لا يصوغ إبقاء أي مبلغ مستحق في ذمة المساهمين، أي أن مبلغ الرأسمال يجب أن يكون حاضرا وقت إنشاء البنك لبدء أولى عملياته المصرفية.
وإذا كان رأس المال في البنوك التقليدية يمكن إصداره في شكل أسهم عادية، أو ممتازة، فالملاحظ هو أن البنك الإسلامي لا يجوز له إلا إصدار الأسهم العادية دون الممتازة، لما يختلط بهذه الأخيرة من منافع قد تخرجها عن طبيعتها الأصلية وتقربها لصكوك ذات فائدة ثابتة، وهو ما لا يتوافق بطبيعة الحال مع فلسفة وروح المصرفية الإسلامية.
ويلعب رأس المال بالنسبة للبنك العادي وظيفتين أساسيتين: فهو درع واق للمودعين ضد مخاطر انخفاض قيمة الأصول، كما أنه مصدر لتمويل استثمارات البنك.
أما بالنسبة للبنك الإسلامي والذي يمثل كتلة حملة الأسهم أو المساهمين في رأسماله، فإن لهذا الرأسمال دورا حمائيا يتعلق بتحمل الخسائر التي قد تطال هؤلاء، ولأنه يقوم أيضا بتغطية كل التحملات والنفقات.
لكن وفي إطار ما يناط بالبنك الإسلامي من أهداف تتعلق بالتنمية والإستثمار، خلال المدة اللاحقة على تأسيسه يطرح تصور جديد بخصوص الرأسمال فيما يتعلق بجانب الزيادة فيه أو الإقلال منه.
فهناك رأي يعتبر صاحبه أن رأس مال البنك الإسلامي يجب أن لا يمثل سوى نسبة بسيطة تضمن مباشرته لأعماله ونشاطه ومهامه، ولا يهم أن يكون هذا الرأسمال ضخما وكبيرا.
بينما يرى السيد محمد باقر الصدر أنه: “من الضروري للبنك اللاربوي الإسلامي أن يتمتع برأسمال أضخم نسبيا من رؤوس الأموال التي تكون البنوك الربوية عادة، وذلك لأن رأسمال البنك هو الذي يقوم بصورة رئيسية بتحمل أعباء الخسائر التي يمنى بها ويسنده في مواجهتها وتلافيها تدريجيا دون أن ينعكس ذلك على المودعين والعملاء، وبهذا يبقى البنك محتفظا بثقة الجميع ويواصل عمله وفتح بابه لكل مودع وعميل. حيث يضيف أنه بحكم تحمل البنك الإسلامي تبعات الخسائر وضمانه قيمة الودائع كاملة للمودعين، فإنه يجب عليه أن يدخل في حسبانه هذه الإحتمالات ويحصن موقفه عن طريق زيادة رأس المال، ولكن على أن لا تتعدى هذه الزيادة الحد المفروض والمعقول والذي يتوافق وغرض الربح الذي يتوخاه البنك في أعماله، لأن الزيادة في هذا الرأس مال بشكل مفرط سيجعل من مصلحة البنك الإسلامي الربحية استبدال عمله المصرفي بعمل آخر استثماري.
ولكن هناك رأي وسط في هذا الشأن يقترح أن الزيادة في الرأسمال المطلوب من قبل البنك يجب أن لا تؤدي إلى عدم تمكن هذا الأخير من استثماره بكامله، لأن الإسلام لا يحبذ حجز المال دون تنميته، هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإن هذا الرأسمال يجب أن لا يقل عن المقدار اللازم لتنفيذ البنك لأهدافه المسطرة سلفا، ولكي لا تتضاءل أيضا قيمة ضمان حقوق المودعين.
وبالفعل، فإن الدين الإسلامي يحث على عدم تكديس الأموال واكتنازها، وبالتالي تعطيلها وعدم تشغيلها، لأن ذلك سيفقدها أحد أهم خصائصها ألا وهو التداول، كما أن المال جعله الله تعالى أداة ووسيلة للتعامل اليومي بين الناس ولتحقيق أغراضهم وحاجياتهم وانتفاعهم به، وليس الإقفال عليه داخل خزائن حديدية.
وهكذا فرأسمال البنك الإسلامي يجب أن يتلاءم وأهداف وأغراض هذا الأخير، بحيث لا يكون ضئيلا ضآلة تحد من فاعلية هذا البنك، ولا ضخما ضخامة تجعل من البنك لا يستطيع توظيف كل أمواله، وبالتالي دخولها خطر العطالة.
الفرع الثاني: الإحتياطات والمخصصات.
قد يحتاج البنك أو شركات المساهمة وهو يمارس أنشطته الإعتيادية، إلى أموال سريعة تكون تحت يده، لكي ينفق منها سواء على التوسعات التي ينهجها، أو لمواجهة حركة السوق المالية والمصرفية، لهذا غالبا ما يروم هذا البنك، تكوين احتياطات مختلفة بهدف التصدي لمتطلبات الإستمرار والتقدم، كما يحتفظ بمبالغ يخصصها لأمور معينة قد تبرز مستقبلا وهي ما تسمى بالمخصصات.
I ـ الإحتياطيات:
الإحتياطيات هي مبالغ مقتطعة من صافي أرباح البنك الإسلامي لتدعيم مركزه المالي، وهي بذلك تدخل ضمن ملكيته مثلها مثل رأس المال.
وتنظم جل التشريعات المصرفية هذا المصدر الداخلي للبنك وتضع له نسبا وحدودا، وكيفية استقطاعه والتصرف فيه، ويتميز عن رأس المال بكونه موردا تمويليا مرنا، أي يمكن سنويا للبنك أن يضيف إليه مبالغ أو يخصمها منه.
وتنقسم هذه الإحتياطات غالبا إلى ثلاثة أنواع:
أ ـ الإحتياطي القانوني:
تنص معظم الدول على أنه يجب على شركات المساهمة أن يكون لها احتياطيات مشكلة طبقا للقانون، وهي تكون بنسبة من الأرباح التي تحققها الشركة، والمنصوص عليها في عقد الشركة، بحسب ما تقرره الجمعية العمومية داخلها، وذلك بهدف تقوية مركز الشركة المالي ومواجهة الخسائر والنفقات.
هذا بالنسبة لشركة المساهمة بشكل عام، أما ما يخص البنك الإسلامي، فإن هذا الإحتياطي القانوني هو جزء محتفظ به من الأرباح، تلتزم إدارة هذا البنك بتكوينه قانونيا لدعم مركزه المالي وبناء سمعة طيبة له، ذلك لأن تراكم الأرباح دليل لنجاح البنك في عمله.
ويظهر دور البنك المركزي في هذه النقطة جليا، حيث أن هذا الأخير يرسم استراتيجية بشأن الإحتياطي الإلزامي أو القانوني، إذ يعمد إلى استراتيجية احتجاز الأرباح حتى تدعم مركز المودعين بالبنك بشكل عام، وتحمي حقوقهم المالية، وقد يصل الأمر في بعض التشريعات إلى إلزام البنك بعدم إجراء أية توزيعات لهذه الأرباح حتى يتكون لديه احتياطيات تعادل على الأقل قيمة رأسماله.
كما قد يلجأ البنك المركزي إلى تبني سياسة تخفيض الإحتياطي القانوني للسيطرة على القوة الإستثمارية للبنوك التجارية التقليدية، والتحكم في حجم الأموال المتاحة لاستثمارات هذه البنوك.
وهذا الأمر سائد حتى بالنسبة للبنك الإسلامي في إطار علاقته بالبنك المركزي.
ب ـ الإحتياطي الإختياري أو الخاص:
ويسمى كذلك بالإحتياطي التخصيصي أو التحصيلي، وهو المبلغ الذي يجري استقطاعه من الأرباح لمقابلة النقص في قيمة الأصول، ولمقابلة استهلاك الأصول الثابتة المملوكة للشركة أو البنك مثل الآلات والأثاث والتجهيزات الضرورية… إلخ، ويبقى تقديره من قبل إدارة البنك بحسب الحاجة إليه مستقبلا، لتغطية النفقات المتوقعة في مستقبل الأيام، فمع مرور الزمن، قد تندثر موجودات البنك وأصوله الثابتة التي يعتمد عليها في نشاطه، فتفاديا لهذا الأمر، يلجأ هذا الأخير إختياريا إلى تخصيص احتياطيات تتحمل نفقات هذا الإندثار والتلاشي.
ج ـ إحتياطي الطوارئ:
وكما تدل عليه التسمية، فإنه جملة من المبالغ يحتفظ بها البنك الإسلامي، الهدف من ذلك مواجهة الطوارئ أو المستجدات غير المتوقعة بالنسبة للبنك والتي قد تتمثل في بعض الأحيان في عدم كفاية الأرباح المحققة من طرفه والتي توزع بينه وبين المودعين، فيلعب هذا النوع من الإحتياطيات دور ضابط لمعادلة توزيع الأرباح بالتساوي بين من سبق ذكرهم، أي البنك والمساهمين وكذا المودعين.
ويعتبر صافي الربح الخاص بالمساهمين في البنك الإسلامي، هو الوعاء الذي تقتطع منه الإحتياطيات بصفة عامة، لأن الإحتياطي هو حق لهؤلاء المساهمين، وبالتالي يجب اقتطاعه وخصمه مما يؤول إليهم من صافي الأرباح، وأن لا يتم المساس مطلقا بصافي الأرباح العائدة للمودعين بعد القيام بعملية توزيع هذه الأرباح.
ويمكن القول، بأن الإحتياطيات هي مصدر تمويلي حقيقي يدخل في مجال التوظيفات والإستثمارات التي يقوم بها البنك، كما أن دوره هو دور وقائي أولا وأخيرا، يهدف إلى حماية ووقاية البنك من الخسارة التي قد يتعرض إليها.
2 ـ المخصصات:
يقصد بالمخصصات تلك المبالغ التي تقتطع من مجمل الأرباح لمواجهة أخطار محتملة الحدوث خلال الفترة المالية المقبلة للبنك، وتكون هذه المبالغ غير محددة المقدار بدقة.
ولذلك يمكن اعتبار المخصصات بمثابة تحملات تقع على الأرباح شأنها شأن المصروفات والخسائر التي يتحملها البنك، والمخصصات بطبيعتها لا تعتبر حقا من حقوق الملكية كما هو حال رأس المال والإحتياطيات، وذلك لأنها تعتبر تكلفة أو إنفاق لم يصرف بعد، وفي حالة ما إذا سمحت الفرصة لتوظيفها لحين الحاجة إليها، فإن الأرباح التي قد تتولد عنها لا تضاف إلى نصيب المساهمين وحدهم، ولكنها تضاف إلى وعاء التوزيع الكلي الذي يوزع بين المساهمين والمودعين.
هذه إذن هي المصادر الرئيسية التي تتكون منها ميزانية البنك الداخلية، وتدخل في عداد موارده الذاتية.
بقيت الإشارة إلى نوع آخر يمكن اعتباره من ضمن الموارد الذاتية للبنك الإسلامي، وهو ما يصطلح عليه بالأرباح المحتجزة، ويقصد بها تلك الأرباح الفائضة، بعد القيام بعملية توزيع الأرباح العامة، فهي إذن أرباح غير موزعة.
بعد استعراض هذه الموارد الذاتية للبنك الإسلامي يطرح التساؤل حول المصادر الخارجية التي يعتمد عليها لممارسة نشاطاته؟
المطلب الثاني: الموارد الخارجية للبنك.
إذا كانت الودائع تعتبر أهم موارد الأموال الخارجية في البنك التقليدي، والذي يتعامل في إطار الفائدة، فلا جدال في أنها كذلك تعد من أهم موارد الأموال الخارجية في البنك الإسلامي، ويمكن القول بأن هذه الموارد المالية الخارجية هي التي تتدفق عليه من خارج محيطه المشكل من حملة الأسهم أو المساهمين، ويتحصل عليها البنك من طرف المودعين عن طريق عملية الإيداع وهي على عدة أنواع.
وسنتطرق في مطلبنا هذا تباعا لصور وأشكال الودائع (فرع ثان)، ثم للأحكام المتعلقة بها (فرع ثالث)، لكن قبل هذا وذاك سنعطي تعريفا لهذه الودائع ولعملية الإيداع (فرع أول).
الفرع الأول: تعريف الودائع وعملية الإيداع.
يمكن تعريف الودائع على أنها ما يتلقاه المصرف من الناس (الجمهور)، بكمية وافرة على قدر ما تتسع دائرة عمله ويذيع صيته، وعلى أساسه يزيد نفوذه وتتوافر قوته.
بمعنى أن الودائع أو الوديعة هي ذلك المبلغ الذي يودعه صاحبه لدى البنك قصد الحفاظ عليه عنده إلى غاية طلبه منه.
وقد تناول المشرع المغربي مسألة تعريف الوديعة في قانون الإلتزامات والعقود من خلال الفصل 781 الذي ينص على ما يلي: “الوديعة عقد بمقتضاه يسلم شخص شيئا منقولا إلى شخص آخر يلتزم بحفظه ويرده بعينه”.
إذن، فهذه الوديعة حسب ما يستفاد من النص القانوني أعلاه، مقومة على أساس أنها شيء منقول يودعه صاحبه عند المودع عنده –الذي قد يكون بطبيعة الحال بنكا- قصد أن يحفظه، ويرده إليه عندما يطلبه، أو حسب الإتفاق المبرم بينهما، بذاته أو قيمته الأصلية، أو بمثله، ويسهر المودع عنده على العناية بالوديعة عنايته بأمواله الخاصة، ولا يجوز له أن يبذرها أو يبددها كأن يقوم بإحلال شخص آخر محله في حفظها، على أنه قد يستحق المودع عنده أجرا على خدمته هذه للمودع، ما لم يتم الإتفاق على عدم نيل أي أجر.
والبنك هنا هو المودع كما قلنا، لذلك فهو المسؤول عن حفظ الودائع والسهر على العناية بها وردها إلى مودعيها، وذلك بعد تلقيها عن طريق عملية الإيداع.
والإيداع هو السبيل أو العملية التي بها يتم فتح الحسابات لأرباب الأموال داخل البنوك بصفة عامة.
وقد يحصل هذا الإيداع في الحساب بعدة أوجه، وهي:
-
الإيداع النقدي: كأن يقوم العميل أو المودع أو من ينوب عنه بدفع وإيداع مبلغ معين في خزينة البنك مع تسلم وصل بالمبلغ الذي يقيد في الجانب الدائن للحساب.
-
إيداع الشيكات التي تكون الأمر العميل أو محولة إليه، حيث يتقدم هذا الأخير للبنك من أجل اسيتفاء مبلغها المحرر فيها، وبعد ذلك يطلب منه تقييده في حسابه الجاري.
-
إيداع الكمبيالات التي يتوصل بها البنك، حيث يقوم هذا الأخير بإجراء خصم الكمبيالة نقدا من المدين لفائدة عمليه الذي يكون دائنا لهذا المدين، ويضيفها إلى رصيده، أو العكس، حيث قد يكون العميل هنا هو المدين بمبلغ الكمبيالة، وبالتالي يخصم البنك هذا المبلغ من حساب المدين العميل لفائدة الدائن.
وكما يمكن للعميل المودع أن يمارس الإيداع المباشر بنفسه، فإنه يصح للبنك أن ينوب عن هذا العميل في عملية الإيداع، وذلك من خلال ما نفذ عليه من حوالات لفائدة المودع، حيث يأذن هذا الأخير للبنك بنقل قيمة هذه الحوالات من حساب المحيل إلى حساب المستفيد منها.
هكذا تناولنا معنى الوديعة والإيداع بصفة عامة، لكن ماذا عن تعريفها الفقهي؟
تطلق الوديعة شرعا على العين المودعة وعلى الإيداع، بمعنى العقد المقتضى للحفظ حقيقة شرعية فيهما، فعلى المعنى الأول هي المال أو المختص المحترم الذي يوضع عند الغير لحفظه للمالك، وعلى المعنى الثاني –أي الإيداع بمعنى العقد المقتضى للحفظ- هي توكيل من المالك أو نائبه لآخر بحفظ مال أو اختصاص، ويرجح أغلب الفقهاء أخذ الأجرة على حفظ الوديعة وفق هذا المفهوم.
إذن أخيرا يظهر أن البنك الإسلامي –ومعظم البنوك- يلجأ إلى استقطاب الودائع من أجل تنمية رصيده المالي، وتقوية أنشطته المصرفية، لما لها من أثر كبير أيضا على توجهاته العامة وخطط اشتغاله.
ونظرا لاختلاف طبيعة الودائع وأسلوب السحب منها ومدى أحقيتها في نسب الأرباح المحققة، فإن هذه الودائع تأخذ أشكالا وصورا متعددة في البنوك الإسلامية، فما هي إذن هذه الأشكال؟
الفرع الثاني: صور وأشكال الودائع.
بعدما أحطنا علما بمعنى الودائع، وما تعنيه للبنوك الإسلامية وغيرها من مكانة هامة، نتساءل الآن عن الصور التي تأتي عليها هذه الودائع، وكيفية وفودها على هذه البنوك؟
وغالبا ما تنقسم هذه الودائع أو الحسابات إلى ثلاثة أنواع:
1 : ودائع تحت الطلب:
وهي الودائع التي لا يهدف المودع من ورائها الحصول على أي عائد أو ربح، فهي عبارة عن أموال يقدمها المتعاملون للبنك دون قصد الإستثمار، ولكن قد يكون دافعهم لإيداعها هو انتفاعهم بالخدمات التي يقدمها البنك إليهم ومن بينها خدمة الشيكات، كما قد يكون هذا الدافع هو حاجتهم إلى الإحتفاظ بالسيولة التي لديهم في مكان آمن خشية السرقة والضياع. فهذه الودائع أو الحسابات الجارية هي حسابات مفتوحة لدى البنك الإسلامي لا يدفع عنها هذا الأخير أي مقابل، ويلتزم بإرجاع الأموال المودعة فيها حيث ما تم طلبها من قبل المودعين، وهي توجد كذلك في البنوك التقليدية، غير أن الحساب الجاري في هذه الأخيرة يسمح بالسحب المكشوف مقابل فائدة، في حين أن الحساب الجاري الإسلامي لا يجوز أن يكون مدينا بصفة عادية، إلا أن يكون قرضا حسنا يتفق عليه مع الشروط المتعلقة به. هذا وتعد الوديعة الجارية أو تحت الطلب بمثابة أمانة يلتزم البنك بردها عند طلبها، دون أن يدفع لصاحبها أي عائد خلال فترة بقائها في حوزته.
ويبدأ الحساب الجاري ببداية الحقوق الناشئة بالتعامل بين المودع أو العميل والبنك، فقد تبدأ بإقراض المودع للبنك، وذلك بإيداعه وديعة تحت الطلب لديه، وقد تبدأ بإقراض البنك للعميل شيئا من المال على الكشوف بلا رصيد سابق، فيوجد في هذه الحالة دينان، دين للعميل لدى البنك، ودين لهذا الأخير على الأول وبذلك يتم إجراء مقاصة بين الدينين معا.
ويبدو أن الخاصية الأساسية لهذا النوع من الودائع هي حركتها الدائمة وغير المتوقفة، ولذلك غالبا ما تنعت هذه الودائع بالودائع المتحركة، فهي في حركة مستمرة، وعلى درجة عالية من السيولة، ولذلك فمن حق صاحب الحساب أن يودع ويسحب من حسابه في أي وقت، وبأي مبلغ يشاء طالما أن رصيده الحسابي يسمح له بذلك، وهذا ما يفسر عدم حصادها لأي عائد من البنك، بالإضافة إلى كون هذه الودائع تتمتع بحرية السحب في أي وقت، فإن هذا المعطى بالذات يعزى لسبب مهم يتجلى في خشية المودعين تحملهم التكاليف التي تنجم عن زكاة أموالهم، إذا ما بقيت تحت حيازة البنك الإسلامي، ومر عليها الحول، وبالتالي تآكل أرصدتهم المالية المودعة بتوالي السنوات وتعاقب الحول، فهذا ما يجعلهم يسارعون إلى القيام بعمليات السحب المتوالية والمستمرة.
وتجدر الإشارة إلى أن نسبة الودائع المتحركة أو تحت الطلب، هي قليلة مقارنة مع باقي أنواع الودائع الأخرى التي توجد مودعة في البنوك بوفرة، وهذا الأمر يوجد بخاصة في البنوك الإسلامية، التي تضعف فيها نسب هذه الودائع الجارية، على خلاف ما هو عليه الأمر في البنوك التقليدية التي ترتفع فيها نسب الودائع تحت الطلب، نظرا لقيامها بتشجيع المودعين على القيام بمثل هذا النوع من الإيداع، من خلال منحهم فوائد أحيانا، متى كان حجم إيداعهم لحسابات جارية مرتفعا وكبيرا.
2 : الودائع الإستثمارية.
تتزايد الأهمية النسبية لهذا النوع من الودائع مقارنة مع النوع الذي مر معنا، وخاصة بالنسبة للبنوك الإسلامية، والتي تستثمرها عبر المشاركة أو المضاربة واللتين تعتبران أهم وسيلتين تعتمدها البنوك الإسلامية في أنشطتها المصرفية، واستخداماتها التوظيفية، وهذه الودائع وكما يدل عليها اسمها هي حسابات موجهة للإستثمار بالدرجة الأولى، فصاحبها أو المودع يكون على بينة من أنها سوف تستثمر في مشروعات من قبل البنك، والتي تنطوي على عنصر المخاطرة والمجازفة، مما يعني معه أن هذه المخاطرة قد تؤدي إلى خسائر يتكبدها البنك وبالتالي تضرر أرباب الأموال المودعة، لذلك يتم التغلب على هذه المسألة عن طريق الإنتقاء الحريص من قبل البنك للمشروعات التي تعرض عليه، والإشراف عليها ومراقبتها في حالة ما إذا تمت الموافقة على المشروع.
وعلى عكس هذا، فإن الودائع لأجل -وتسمى أيضا الودائع الثابتة- يسعى أصحابها من خلال إيداعها في البنك التقليدي الربوي إلى حصاد الفوائد التي تترتب عنها بسبب بقائها لدى هذا الأخير، ما داموا ليسوا بحاجة ماسة إليها في الوقت القريب، ولا يجوز لهم سحبها منه إلا بعد انقضاء المدة المتفق عليها في عقد الإيداع بين البنك وبينهم ومن هنا تنشـأ إذن علاقة تربط بين الدائن (المودع) والمدين (البنك) بخصوص تلك الفوائد.
لكن ما يلاحظ هو عدم وجود هذه العلاقة داخل البنك الإسلامي، فالعلاقة التي تربط هذا الأخير بمودعين هي علاقة مشاركة وليست علاقة دائنية ومديونية.
إذن إذا كانت لهذه الوضعية ما يبررها بالنسبة للبنوك التقليدية، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للبنوك الإسلامية القائمة على أسس الإقتصاد الإسلامي.
وتترتب عن العلاقة السابقة بين البنك والمودع عدة آثار ونتائج لعل أهمها هي:
-
البنك الإسلامي -على عكس البنك التقليدي- غير ملتزم برد الوديعة الإستثمارية أو بضمان عائد معين للمودع.
-
تحمل المودعين الخسائر الناجمة عن استثمار أموالهم وحدهم، دون مشاركة من البنك إلا في الحالات التي تنجم فيها الخسائر عن سوء الإدارة.
-
عدم معرفة المودع لدى البنك الإسلامي مقدما حجم الدخل الذي سيحصل عليه من استثمار وديعته من قبل هذا البنك، فقد تسفر عمليات هذا الأخير عن أرباح كما تنتهي إلى خسائر، وهذا خلاف ما هو قائم في البنوك التقليدية، حيث يعلم المودع سلفا مقدار الدخل المتولد عن وديعته (أي نسبة الفائدة التي سينالها).
وهذا يعني أنه لا يوجد على البنك الإسلامي التزام قبل أصحاب حسابات الإستثمار بردها إليهم كاملة عند حلول تاريخ استحقاقها، بدعوى أن هؤلاء المودعين قد ارتضوا ابتداء المشاركة في المخاطر وتحمل الربح والخسارة، وبالتالي فهذا البنك لا يضمن لهم عائدا محددا سلفا.
ويوجد نوعان من الودائع لأجل أو حسابات الإستثمار:
-
أ ـ حسابات الإستثمار العام: وهي التي يتم فيها توجيه الإيداعات بهذه الحسابات إلى مجالات استثمارية عامة وغير محددة، أي دون ربطها بمشروع أو برنامج استثماري معين.
-
ب ـ حسابات الإستثمار المحدد أو الخاص: وتتم في ضوء المضاربة المقيدة، حيث يتم توجيه الإيداعات بهذه الحسابات إلى مجالات استثمارية بعينها، مثل الإستثمار في مجال الإسكان أو صناعة الدواء… إلخ، على أن يتم توزيع العائد من أي من هذه المجالات على إجمالي الودائع الإستثمارية الموجهة لكل مجال استثماري على حدة، ليس كما عليه الأمر في حسابات الإستثمار العام حيث:
-
إمكانية السحب من ودائع التوفير متى أراد الموفر ذلك، على عكس الودائع الإستثمارية التي يجب أن تظل في حوزة البنك الإسلامي لمدة لا تقل عن ستة أشهر كما رأينا ذلك سابقا.
-
وعلى عكس الودائع الثابتة التي توجه إلى الإستثمارات بأكملها، فإن ودائع التوفير يتم الإقتطاع منها بنسبة معينة يحددها البنك الإسلامي ويعتبرها قرضا، حيث يحتفظ بها بمثابة سيولة نقدية ولا يضمها إلى استثماراته.
-
وتشترك هذه الودائع مع الودائع الجارية (تحت الطلب) في كونها ترد كاملة لأصحابها عند طلبها، بمعنى أنها لا تتحمل الخسارة التي يتعرض لها البنك الإسلامي في إطار استثماراته، وبالتالي عليه يقع ضمان رد قيمتها.
وفيما يخص مسألة توزيع غلة هذه الودائع، فإن الأمر يختلف باختلاف سياسات البنوك الإسلامية، فمنها من يدفع جزءا من الأرباح الناتجة عن استثمار الأموال على أساس المشاركة في الربح والخسارة (مثال بيت التمويل الكويتي)، ومنها من يعتبر حسابات التوفير من قبيل الحسابات الجارية، إلا أنه يقدم بعض الخدمات المجانية لأصحابها من سلفات وبيع ومرابحة… (ومثال ذلك بنك فيصل الإسلامي السوداني).
ولذلك تعمل البنوك الإسلامية على تقديم عدة مزايا للمدخرين والموفرين تشجيعا لهم على القيام بالإدخار والإيداع، ليقينها التام بأن ذلك سوف يؤدي لا محالة إلى إحداث زيادة ملموسة في حجم استثمارات هذه البنوك.
ولعل من أبرز هذه المزايا المقدمة هي أن هؤلاء الموفرين إذا ما أرادوا تحويل ودائعهم التوفيرية إلى ودائع إستثمارية فإنهم سيستفيدون من القروض الحسنة المقدمة من طرف البنوك الإسلامية، كما أن أصحاب الودائع الإستثمارية والذين يدخلون مع البنك في علاقة مشاركة أو مضاربة لا يصبحون بمثابة مساهمين فيه، وبالتالي يمنحون الأولوية في الإكتتاب في أسهم الشركات التي ينشؤها هذا الأخير، أو في أسهم الزيادة في رأسماله، علاوة على بعض المزايا الأخرى التي تنضاف إلى سابقاتها كمنح البنك الإسلامي لهؤلاء المودعين يوزع العائد من هذا الإستثمار على إجمالي الودائع الإستثمارية الموجهة للمجالات غير المحددة.
ولكي تحمل الوديعة الإستثمارية أو الوديعة الثابتة هذه الصفة لابد من توافر شرطين أو عاملين أساسيين، وهما:
-
التزام المودع بإبقاء وديعته مدة لا تقل عن ستة أشهر تحت تصرف البنك.
-
أن يكون حجم الوديعة الثابتة عبارة عن مبلغ معين، ولو كان هذا الحجم ضئيلا.
فإذا توفر الشرطين أعلاه جاز شرعا أن تدخل هذه الوديعة في إنشاء المضاربة التي يقوم بها البنك الإسلامي.
وهكذا، فيمكن القول أن الودائع الثابتة إذا استهدف أصحابها جني ثمارها بواسطة الفوائد، فإنهم يكونوا قد دخلوا دائرة القروض الربوية المحرمة شرعا، ولذلك لكي يتفادوا ذلك ما عليهم إلا أن يودعوها لدى بنوك إسلامية تستثمرها عن طريق المضاربة.
3 : ودائع التوفير:
ويقصد بها كل حساب في دفتر واجب التقديم عند كل سحب أو إيداع بمعنى أن الأموال المودعة في هذا الحساب تكون على سبيل الإدخار والتوفير احتياطا لنفقات لاحقة قد تستجد على المودع، وبذلك ما عليه إلا أن يقدم دفتر التوفير من أجل السحب من الحساب، أو الإيداع فيه، فالموفر يمكن أن يحصل على فرصة السحب متى أراد.
ولهذه العينة من الودائع خصائص النوعين السابقين، فهي تلتقي مع الوديعة تحت الطلب في إمكان السحب منها في أو وقت شاء المودع، وتلتقي مع الوديعة الإستثمارية أو الثابتة في إمكانية دخولها مجال المضاربة.
ويمكن لهذه الوديعة التوفيرية أن تتحول إلى وديعة استثمارية، وبالتالي استفادتها من نشاط المضاربة أو المشاركة، ومن تم الحصول على عائدات وأرباح منهما.
غير أن ودائع التوفير تختلف عن ودائع الإستثمار داخل البنوك الإسلامية في أمرين: جوائز وحوافز تتمثل في الإستفادة من قرعة أداء فريضة الحج على حسابها، وهو ما درج عليه بنك فيصل الإسلامي منذ مدة.
وإذا كانت الأنواع الثلاثة السابقة تعد بحق أهم أنواع الودائع داخل البنوك الإسلامية، والبنوك غير الإسلامية، وهي المعروفة بكثرة، فإن هناك نوعا رابعا يطلق عليه اسم الودائع الحقيقية أو العينية، فما هي؟
4 : الودائع الحقيقية.
هي عبارة عن أشياء معينة يود أصحابها أن يحتفظوا بها، ويتجنبوا مخاطر السرقة والضياع والحريق ونحو ذلك، فيودعونها لدى البنك على أن يستردوها بعد ذلك بنفس مظهرها المادي، وقد يقوم البنك لهذا الغرض بإعداد خزائن حديدية خاصة، ويؤجرها لعملائه على أساس تقاضي مقابل لذلك يتمثل في أجرة الحفظ.
وهذه الودائع هي ودائع بالمعنى الفقهي، لذلك فإن البنك سيستحق أخذ هذه الأجرة نظير تقديمه هذه الخزينة الحديدية والحرص على تحصين والحفاظ على الوديعة التي بداخلها، والتي غالبا ما تكون عبارة عن أوراق مالية.
تلكم إذن أهم الصور التي تتشكل فيها الودائع التي تعتبر موردا خارجيا هاما بامتياز، إلا أنها تطرح جدلا بخصوص الأحكام التي تضبطها، فما هي أهم هذه الأحكام والآراء المختلفة حولها؟
الفرع الثالث: الأحكام المتعلقة بالودائع.
لقد أثيرت بشأن الودائع المصرفية وعمليات الإيداع التي تتم داخل البنوك الإسلامية، العديد من الجدالات والنقاشات الفقهية، القانونية أو الشرعية، وذلك من حيث تكييف هذه الودائع، ومشروعية الإيداع البنكي وفتح الحسابات المصرفية، إذ أن هذه المسائل شكلت منطلقا لأقلام الباحثين والمهتمين بالإقتصاد الإسلامي ومجال المصرفية كي يوضحوا ما التبس وأشكل من أمور.
ومن هذه الأمور نجد ما يرتبط بطبيعة عقد الوديعة، هل هو عقد تجاري أم مدني، وفي هذا الصدد تعتبر الدكتورة عائشة الشرقاوي المالقي أن العقد المبرم بين البنك والمودع من حيث طبيعته القانونية، هو عقد تجاري بالنسبة للبنك الإسلامي، ومدني بالنسبة للمودع، اللهم إذا كان هذا الأخير نفسه تاجرا، وكانت عمليات الإيداع التي يقوم بها مرتبطة بأعماله التجارية، مما يعني معه أن المتعامل مع البنك يمكنه أن يثبت إيداعه بشتى وسائل الإثبات.
ولكن يطرح إشكال آخر يتعلق بمدى اعتبار الوديعة البنكية عقد وديعة عادية أم لا؟
ويترتب عن اعتبار الوديعة البنكية عقد وديعة عادية، عدم انتقال ملكية الشيء المودع إلى المودع عنده (البنك)، والذي لا يحق له الإنتفاع به ولا ضمانه، إلا إذا نتج هلاكه عن تفريط وتقصير منه في الحفاظ عليه، وقد ينقلب هذا العقد إلى عقد قرض مثلا، وهذا ما يوجد فعلا في الواقع المعاش، حيث أن البنك الذي يتلقى الأموال من المودعين فإنه يستعملها ويستغلها ولكن على أساس إرجاع مثلها.
فالوديعة العادية لا تخرج عن كونها توكيل أو إنابة في حفظ المال، ولكن إذا أذن صاحبها للمودع عنده باستعمالها والتصرف فيها والإنتفاع بها فإنها تتحول إلى قرض، وبالتالي خضوعها لأحكام عقد القرض.
وهذا هو الرأي الغالب فقها وقانونا.
وبقول هذا تترتب عدة نتائج عن القرض أو عارية الإستهلاك:
-
انتقال ملكية الوديعة من المودع إلى المودع لديه، الذي تصبح دينا في ذمته.
-
التزام المودع لديه (المقترض) بالوفاء به، وضمان رده، حسب الإتفاق، لأن يده تصبح يد ضامن لا يد أمين، وذلك ابتداء من وقت تمام العقد.
-
حرمان صاحب الوديعة من أي نفع يجره القرض، كيفما كمان نوع هذا النفع إلا أن يكون إحسانا.
-
تحمل المودع لديه (البنك) تبعة الخسارة في حالة حدوثها، وحصوله على الربح كاملا إذا تحقق له ذلك عملا بالقاعدة الفقهية “الخراج بالضمان”.
هذا ما يتعلق ببعض أحكام الوديعة، فماذا عن مسألة الإيداع؟
بطبيعة الحال فإن مسألة الإيداع بالبنوك التقليدية مع أخذ الفوائد الناشئة عنه يعتبر من الربا المحرم شرعا، وقد حسم هذا الأمر علماء وفقهاء الإسلام جميعهم.
لكن هل الإيداع بالبنوك الإسلامية حلال شرعا؟
في هذا يؤكد الدكتور “أحمد شلبي” أن: “الإيداع بالبنوك وشهادات الإستثمار حلال”. ويعزز الشيخ “موسى صالح” هذا القول بقوله: “إن إيداع المال في البنوك الإسلامية أمر لابد منه عند الحاجة، تفاديا من التعامل مع البنوك الربوية، وقد أصبح التعامل مع البنوك الإسلامية ضرورة حتمية لدعمها وتقويتها، حتى تواجه البنوك الربوية، التي تستنزف أموال المسلمين وتهدد الإقتصاد الإسلامي، وتوقع الناس في الربا والتعامل في الحرام”.
يتضح من هذا أن التعامل مع البنك الإسلامي عن طريق عمليات الإيداع هو شيء حلال، وبالتالي سبيل لتقويض كل المعاملات الدائرة في نطاق محرم شرعا، والخارجة عن أسس التصرفات المشروعة.
وبعدما تعرفنا نوعا ما عن ما يقصد بالودائع وأهميتها، كموارد خارجية تحتاج إليها كثيرا كل البنوك أيا كان نظامها إسلامي أم غير إسلامي، يمكن القول بأن المقياس الحقيقي الذي يقدر به نجاح المصرف –بصفة عامة- هو أن يكون رأسماله الذاتي –أي رأسمال المساهمين فيه- على أقل مقدار ممكن، وأن تكون الودائع –أي رأسمال المودعين لديه- على أوسع مقدار ممكن.
فالودائع هي حجر الزاوية وقطب الرحى بالنسبة لأنشطة البنك المصرفية، إذن وبدونها لا يمكن الحديث عن نشاط وأعمال البنك أصلا.
وصفوة القول، هو أن البنك الإسلامي يحق له تلقي الودائع، ويعتبر ذلك بديلا عن الإقتراض بفائدة من الغير، على أن يحصل أصحابها على حصة من أرباح البنك لقاء ذلك.
وتوجد موارد أخرى خارجية متعددة إلى جانب الموارد التي ذكرناها تدخل ضمن أنشطة البنك الإسلامي المصرفية، ومنها نجد مثلا الزكوات، سواء كانت زكوات أصحاب رأسمال البنك، أو زكوات بعض عملائه، أو تلك المتأتية عن طريق التبرعات والهبات من فاعلي الخير، والتي يقوم البنك بتجميعها ووضعها في حساب صندوق الزكاة، ليقوم بصرفها بعد ذلك في مصارفها الشرعية، وتوجد كذلك بعض الموارد الأخرى مثل الإقتراض من البنك المركزي أو عن طريق السندات، إلا أن البنك الإسلامي يستبعد اللجوء إليها لأنها تكون غالبا مبنية على سعر الفائدة المخالف لمبادئ الشريعة الإسلامية وأصول فقه المعاملات الإسلامي.
وإذا كنا قد تطرقنا في هذا المبحث لأهم الموارد الذاتية والخارجية التي تدخل في صميم المعاملات المصرفية التي يقوم بها البنك الإسلامي، فما هي المعاملات غير المصرفية التي يلجأ إليها؟ وما هي كبرى الإستخدامات والأنشطة التوظيفية للأموال التي يعتمد عليها هذا البنك في إطار مساهمته في بناء لبنات الإقتصاد الإسلامي؟
المبحث الثاني: أنشطة توظيف أموال البنك الإسلامي واستخداماته.
لقد كان من الطبيعي أن تختفي في البنوك الإسلامية أوجه الإستثمار أو الإستخدامات التي تتعامل فيها البنوك التقليدية، لأنها مبنية على نظام الفائدة، وأن تبحث عن أساليب لاستخدام مواردها وفق قواعد الشريعة الإسلامية، التي تستبعد التعامل بالربا، عن طريق تطبيق المعاملات الفقهية القديمة وتطويرها باستمرار حسب الحاجات المصرفية المعاصرة، وهكذا نجد البنوك الإسلامية، تعتمد على عدة سبل لاستثمار مواردها، من أبرزها، المضاربة والمشاركة والمرابحة والقروض الحسنة، والإيجار بشرط البيع.
هذا وسوف نعرض لهذه الأنشطة كل في قسم مستقل، باستثناء المرابحة والإيجار بشرط البيع، فيأتي التقسيم على النحو التالي: (المطلب الأول) نخصصه للمضاربة، و(المطلب الثاني) للمشاركة، و(المطلب الثالث) للمرابحة والإيجار بشرط البيع، و(المطلب الرابع) والأخير للقروض الحسنة.
المطلب الأول: نشاط المضاربة.
لفهم تقنيات نشاط المضاربة، يستلزم توضيح مفهومه وشروطه بشكل يجعله واضح البنيان (فرع أول)، كما يستلزم إبراز التقسيمات التي ترد على المضاربة (فرع ثان).
الفرع الأول: مفهوم المضاربة وشروطها.
1 : مفهوم المضاربة.
وتعرف المضاربة كذلك بلفظ القراض، وهي عقد بين طرفين يدفع أحدهما للآخر نقودا ليتجر بها مقابل جزء معلوم مشاع في ربحها. ويطلق على الطرف الأول رب المال (وفي هذه الحالة رب المال هو البنك) الذي عليه أن يتحمل عبء الخسارة إذا ما وقعت، أما الطرف الثاني فيطلق عليه المضارب (المضارب في هذه الحالة هو العميل)، الذي له نصيب في الربح يتفق عليه، أما الخسارة فلا يتحمل منها المضارب شيئا طالما لم يثبت تقصيره أو خالف ما اشترطه عليه رب المال، وإذا ثبت العكس فإنه يضمن الخسارة حينئذ أي يكون ملزما بردها، ومن الأمثلة على المضاربة، تقديم البنك الإسلامي مالا لشخص أصلا ليس عنده مال ولكن عنده الخبرة، طبيب يستطيع أن يقيم مستشفى، مهندس، مزارع لديه مزرعة..
إذن، فالمضاربة هي اتجار الإنسان بمال غيره، على أن يكون الربح بينهما على ما شرط العاقدان، والخسارة إن كانت فهي على رأس المال فقط، إذ أن المضارب بعمله يكفيه خسارة جهده، لذلك فلن يكلف بخسارة أخرى.
2 : شروط المضاربة.
لا تختلف المضاربة عن غيرها من العقود في الشروط العامة لانعقاد العقد (الأهلية، المحل، الصيغة)، ولهذا سوف نتناول الشروط الخاصة بصحتها، والتي تخص رأس المال والربح والعمل.
أ ـ شروط رأس المال المضاربة:
-
أن يكون رأس المال نقدا، فلا تصح المضاربة ولا تجوز إذا كان رأس المال من العروض أو العقار عند جمهور الفقهاء.
-
أن يكون رأس المال معلوم المقدار، لأن جهالته تؤدي إلى جهالة الربح، ومعلومية الربح شرط لصحة المضاربة، كما أن الجهالة تفضي إلى المنازعة التي تفسد العقد، والمعلومية تكون في القدر والجنس والصفة.
-
أن لا يكون رأس المال دينا في ذمة المضارب، لأن ما في الذمة لا يتحول ويعود أمانة.
-
أن يكون رأس المال مسلما للمضارب، لأنه أمانة، فلا يصح إلا بالتسليم كالوديعة، فلو اشترط بقاء يد المالك على المال فسدت المضاربة.
ب ـ شرط الربح:
-
أن يكون مقداره معلوما، لأن المعقود عليه هو الربح وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد، وتكون بالنصف والثلث والربع مثلا.
-
أن يكون حصة شائعة لكل من المضارب ورب المال لأن اشتراط مقدار معين مخالف لمقتضى العقد.
ج ـ شروط العمل:
-
أن لا يضيق صاحب المال على العامل بتعيين شيء يندر فلو فعل ذلك فإن المضاربة فاسدة.
-
يجوز لرب المال أن يشترط على المضارب، أن لا يسافر بالمال ولا يعامل إلا رجل بعينه.
وإذا كان لصاحب المال أن يشترط بعض القيود التي يرى من جانبه أنها ضمان وحفظ لماله، فلا يجب أن تغل هذه القيود يد المضارب عن تحريك المال، وتقليبه بالمرونة والحرية الكافية لتحقيق النماء المطلوب.
الفرع الثاني: التقسيمات التي ترد على المضاربة.
المضاربة قد تكون ثنائية أو مشتركة، وقد تكون كذلك مقيدة أو مطلقة.
أ ـ المضاربة الثنائية والمضاربة المشتركة.
فالمضاربة الثنائية هي التي تكون بين طرفين متمثلين في الشخصية الذاتية أو المعنوية، أما المضاربة المشتركة فهي التي يشترك فيها أكثر من شخصين –ذاتيين ومعنويين- سواء من طرف رب المال أو من طرف المضارب، وهذه الأخيرة هي في الأغلب، الصيغة التي يتعامل بها البنك الإسلامي، إذ أنه يتلقى الودائع من مختلف المودعين ثم يوظفها دون فرز في مختلف المشاريع مع مختلف العملاء (المضاربين).
ب ـ المضاربة المقيدة والمضاربة المطلقة.
المضاربة المقيدة هي التي يقيد فيها المضارب بعمله، بقيود كنوع العمل، والمكان والزمان، وصفة العمل، والفرد الذي يتعامل معه، وبالتالي معقولية هذه القيود من حيث ملاءمتها مع الظروف الإقتصادية المحلية وعدم إضرارها بعملية استثمار هذا المال.
وتعتبر هذه الصيغة –المضاربة المقيدة- أقرب وأيسر للبنك الإسلامي إذ أنها تخول له اختيار الظروف المناسبة لتحقيق العائد الأنسب للأحوال المشغلة.
أما المضاربة المطلقة فهي المضاربة التي لم تقيد بزمان ولا مكان ولا عمل، ولا ما يتجر فيه المضارب، ولا من يتعامل معه دون أي قيد من القيود، فتكون في هذه الحالة للمضارب الحرية المطلقة في توظيف مال المضاربة بالكيفية التي يراها كفيلة بالحفاظ على هذا المال وتحقيق العائد المناسب.
وأخيرا، نختم هذا المطلب بالإشارة إلى أن التمويل وفقا لقواعد المضاربة يجعل البنوك الإسلامية بوصفها رب المال شريكا لأصحاب المشروعات من العملاء (المضارب بعمله والمستثمر) في نشاطهم الإنتاجي بكافة صوره وبالتالي التعامل مع الأفراد ذوي الخبرة وأصحاب الكفاءات الذين يعوزهم المال لاستغلال خبراتهم وكفاءاتهم، وهذا عكس البنوك الربوية التي تعد مجرد دائن لعملائها ولا يهمها إلا أن تسترد قروضها مضاف إليها الفوائد الثابتة مهما كان مصير المقترضين.
المطلب الثاني: نشاط المشاركة.
تقوم البنوك الإسلامية باستخدام أموالها واستثمارها أيضا عن طريق صيغة المشاركة، وهكذا سنقسم هذا المطلب إلى فرعين، الأول يهم المفهوم والشروط الخاصة بالمشاركة، والثاني يخص أنواعها.
الفرع الأول: مفهوم المشاركة وشروطها.
1 : مفهوم المشاركة.
يعرف الفقه الإسلامي المشاركة بأنها الشركة التي يشترط اثنان في مال استحقوه بوراثة ونحوها أو جمعوه من بينهم أقساط ليعموا فيه بتنميته في تجارة أو صناعة أو زراعة.
ويعرفها الأحناف بقولهم: “الشركة عقد بين اثنين فأكثر على أن يكون رأس المال والربح مشترك بينهم”.
وتكون الصيغة العملية للمشاركة بأن يقوم البنك بخلط ماله بمال الغير بطريقة لا تميزها عن بعضها البعض، وذلك بغرض استخدامه في إنشاء مشروع أو شراء بضاعة وبيعها، على أن يقسم الربح والخسارة بين الشركاء على أساس حصة كل منهم في رأس المال وإذا ما تولى أحد الشركاء مسؤولية الإدارة، حينئذ يخصص له نسبة أو حصة من صافي الربح قبل اقتسامه، وذلك حسب ما اتفق عليه البنك مع شريكه طالب التمويل.
2 : شروط المشاركة.
يلزم لصحة عقد المشاركة بالإضافة إلى الشروط العامة المتعلقة بالعقد (الأهلية، المحل، الصيغة)، بعض الشروط الخاصة بأحوال العاقدين ورأس المال والربح والخسارة والتنفيذ.
أ ـ شروط العاقدين:
-
أن يكون كل شريك أهلا للتوكيل، أي أن يكون متمتعا بالأهلية التي تمكنه من أن يكون أصيلا على نفسه ووكيلا عن غيره من الشركاء.
-
كذلك لا يشترط في العاقدين أن يكونا مسلمين، فيجوز مشاركة المسلم لغير المسلم، بشرط ألا ينفرد وحده بالتصرف.
ب ـ شروط رأس المال:
-
أن يكون رأس مال المشاركة معلوم القدر، ومن الأموال التي تتعين بالتعيين وهي العملات المتداولة.
-
أن يكون رأس المال دينا في ذمة أحد الشركاء.
ج ـ شروط الربح:
-
أن يكون الربح معلوم المقدار، وجهالته تفسد الشركة، وذلك لأن الربح هو المعقود عليه في المشاركة.
-
أن يكون الربح للطرفين بنسبة شائعة من جملة الربح، فإن عينه أحدهم أو جعل من نصيبه شيئا بطلت الشركة.
-
أن يقسم صافي الربح بين الشركاء حسب الإتفاق المدرج بالعقد، سواء كان بالتساوي أو بالتفاضل، فقد أجيز التفاضل في الربح مع التساوي في المال.
هذا فيما يخص الربح، أما في حالة الخسارة، فإنها تكون بقدر حصة كل شريك في الأصل.
د ـ شروط التنفيذ:
-
إن عقد المشاركة عقد غير لازم في حق الطرفين، ولكل شريك الحق في أن يفسخ العقد متى شاء بشرط ألا يترتب على ذلك ضرر.
-
أن تكون يد كل شريك يد أمانة في كل ما يختص بأعمال وأموال الشركة، فلا يضمن ما أتلف إلا حيث قصر أو تجاوز حدود الأمانة.
-
ما لا يجوز للشريك عمله هو دفع مال المشاركة مضاربة لغيره أو توكيل غيره بالعمل في المال بدون إذن شريكه.
الفرع الثاني: أشكال المشاركة.
تأخذ المشاركة في البنك الإسلامي عدة طرق لتنفيذها حسب الصيغة التي تحكم العقد وتتمثل طرق المشاركة في أربعة أنواع، وهي:
1 : المشاركة المنتهية بالتمليك.
في هذا النوع من المشاركة، يساهم البنك الإسلامي في رأس مال مؤسسة تجارية أو زراعة مع شريك أو أكثر وعندئذ يستحق كل من الشركاء نصيبه من الأرباح بموجب الإتفاق الوارد بالعقد مع وعد من البنك الإسلامي أن يتنازل عن حقوقه عن طريق بيع أسهمه إلى شركائه، والشركاء يعدون بشراء أسهم البنك، والحلول محله في ملكية المشروع إما دفعة واحدة أو على دفعات حسبما تقتضيه الشروط المتفق عليها وطبيعة العملية، على أساس إجراء ترتيب منظم لتجنيب جزء من الدخل المتحصل كقسط لسداد قيمة الحصة.
2 : المشاركة الثابتة.
ويطلق عليها أيضا اسم المشاركة الدائمة، وتعني أن البنك الإسلامي يساهم في تمويل جزء من رأسمال مشروع معين، عن طريق التمويل المشترك فيستحق كل واحد من الشركاء نصيبه من أرباح ذلك المشروع، بالنسب التي يتم الإتفاق عليها والقواعد الحاكمة لشروط المشاركة. وفي هذا الشكل تبقى لكل طرف من الأطراف حصة ثابتة في المشروع إلى حين انتهاء مدة المشروع أو الشركة أو المدة التي تحددت في الإتفاق.
3 : المشاركة المباشرة.
هذا النوع من المشاركة يدخل فيه البنك الإسلامي شريكا في عمليات تجارية أو استثمارية مستقلة عن بعضها البعض، حتى بالنسبة للمشروع الواحد، وتختص بنوع معين أو عدد محدد من السلع، وفي هذه الحالة يتم توزيع الأرباح بين الطرفين، كل حسب مساهمته في رأس مال الصفقة، بعد القيام بتخصيص جزء من الأرباح نظير إدارته للعملية وتسويق وتوزيع السلعة.
وقد تؤول ملكية هذا النوع من المشاركة إلى الشريك إذا رغب في شراء نصيب البنك بموجب عقد جديد، وترجع أهمية هذا النوع بالنسبة للبنك الإسلامي إلى سرعة تصفية العمليات التجارية مما يتأتى معه زيادة معدل دورات رأس مال البنك، وبالتالي زيادة العائد الناتج من هذا النوع من المشاركة.
4 : المشاركة في رأس مال المشروع.
تسمى المشاركة التشغيلية في رأس مال المشروع أو المساهمة في تمويل رأس مال المشروع حيث يقوم البنك بتقييم أصول الشريك ليحدد التمويل الذي سيقدمه، ويشترط أن لا تقل مساهمة الشريك عن 15% من جملة رأس مال المشروع الذي سيتم تشغيله.
وبعد أن بينا أنواع المشاركة، يتضح أن نجاح هذه الصيغة يتوقف على مدى وضوح الإتفاق وتغطيته كافة الإحتمالات ومدى انتظام حسابات العميل، فضلا عن أمانته وحسن نواياه، وهي جميعا أمور لا يتيسر توفرها في كثير من الحالات.
ونظرا للمخاطرة الموجودة في صيغة المضاربة والمشاركة، من خلال تحمل البنك الإسلامي مخاطر العملية ربحا وخسارة، وإدخاله في متاهات المصروفات والتسويق وغير ذلك، مما لا تتحمله عادة أجهزة البنوك، وجره إلى المشاركة في الإدارة أو الإشراف عليها، كان لابد للبنك الإسلامي في أن يستحدث صيغة تنعدم فيها المخاطرة أو تكاد كالمرابحة مثلا.
المطلب الثالث: نشاط المرابحة ونشاط الإيجار بشرط البيع.
تعد صيغة المرابحة والإيجار بشرط البيع من أبرز الصيغ التي يعتمد عليها البنك الإسلامي لتوظيف أمواله بناء على هامش ربحي، وسنتناول المرابحة في (الفرع الأول)، على أن نخصص (الفرع الثاني) للإيجار بشرط البيع.
الفرع الأول: نشاط المرابحة.
سنقسم هذا المحور إلى قسمين، نتناول في الأول مفهوم المرابحة وشروطها، وفي الثاني أنواع المرابحة.
1 : مفهوم المرابحة وشروطها.
أ ـ مفهوم المرابحة.
البيع في الفقه الإسلامي نوعان مساومة وأمانة، في المساومة يتفق المتبايعان على ثمن البيع بغض النظر عن الثمن الأول الذي تكلفه البائع لشراء السلعة أو إنتاجها، والأمانة ثلاثة أنواع: تولية وهي البيع بمثل الثمن الأول بلا ربح ولا خسارة، ووضعية وهي البيع بمثل الثمن الأول مع وضع مبلغ معلوم، ومرابحة وهي البيع بمثل الثمن الأول مع ربح مبلغ معلوم.
وعقد المرابحة كما يعرفه ابن قدامة في (المغني) هو بيع برأس المال وربح معلوم، وكما يصفه ابن رشد في (بداية المجتهد) هو أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة، ويشترط عليه ربحا ما.
والمرابحة المصرفية كما قال الدكتور رفيق المصري هي أن يتقدم الراغب في شراء سلعة إلى المصرف، لأنه لا يملك المال الكافي لسداد ثمنها نقدا، ولأن البائع لا يبيعها له إلى أجل، فيشتريها المصرف بثمن نقدي ويبيعها إلى عميله بثمن مؤجل أعلى، وهكذا فالمرابحة ليست أكثر من مواعدة على البيع لأجل معلوم، بثمن محدد هو ثمن الشراء مضافا إليه ربح معلوم، تزيد نسبته أو مقداره عادة كلما طال الأجل، ولكنه ثمن معلوم من أول الأمر.
ب ـ شروط المرابحة.
ويشترط في بيع المرابحة، بالإضافة إلى الشروط العامة المتعلقة بالعقد، شروط خاصة والتي تتمثل فيما يلي:
-
أن يكون الثمن معلوما للمشتري الثاني (العميل)، لأن المرابحة بيع بالثمن الأول مع زيادة –ربع- والعلم بالثمن الأول شرط لصحة عقد البيع، فإذا لم يكن معلوما فهو فاسد.
-
أن يكون الربع معلوما لأنه بعض الثمن والعلم بالثمن شرط لصحة البيع.
-
يجب أن يقع البيع على السلع مقابل النقود، إذ لا تجوز المرابحة بالمقايضة.
-
يجب أن يكون محل البيع موجودا عند إبرام عقد المرابحة.
-
ألا يكون الثمن في العقد الأول مقابلا بجنسه من أموال الربا.
-
أن يكون رأس المال من المثليات وهو شرط جواز المرابحة على الإطلاق، وذلك كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة.
-
أن يكون العقد الأول صحيحا، فلو كان فاسدا لم تجز المرابحة.
2 : أشكال المرابحة.
تنقسم بيوع المرابحة إلى نوعين: بيع المرابحة، وبيع المرابحة للأمر بالشراء.
أ ـ بيع المرابحة.
هذا النوع من البيوع هو الذي يشترط فيه ألا يكون المبيع مملوكا للبائع، وتمارس البنوك الإسلامية هذا النوع من البيوع عن طريق شركاتها التابعة لها أو عن طريق الشركات التي يدخل فيها البنك مع عملائه، وهذا النوع من المرابحة شروط لا يقوم صحيحا إلا بعد توفرها وهي:
-
علم المشتري بالثمن الأول.
-
علم المشتري (العميل) والبائع (البنك) بالربح.
-
أن يكون رأس المال من المثليات كالمكيلات والموزونات.
-
ألا تكون المرابحة في بيع الأموال الربوية بجنسها.
ب ـ بيع المرابحة للأمر بالشراء.
هذا النوع الثاني من بيع المرابحة يختلف عن الأول لكونه لا يشترط على البائع –البنك- إمتلاك السلعة وقت التفاوض والإتفاق المبدئي، وبيع المرابحة للأمر بالشراء أكثر الصيغ استعمالا من طرف البنوك الإسلامية لاستثمار الأموال المتوفرة لديها، ومضمون هذه الممارسة أو التعامل، يمكن تصويره تصويرا مبسطا في صورة واقعة عملية، ليمكن التعرف على خصائص وخطوات عملية المرابحة.
ذهب عميل –زيد- إلى المصرف الإسلامي وقال له: أنا صاحب مستشفى لعلاج أمراض القلب وأريد شراء أجهزة متطورة لإجراء العمليات الجراحية القلبية، من الشركة الفلانية بألمانيا، وليس معي الآن ثمنها، فهل يستطيع المصرف الإسلامي أن يشتري لي ما أريد بربح معقول على أن أدفع له الثمن بعد مدة محددة.
قال مسؤول المصرف، نعم يستطيع المصرف يشتري لك هذه الأجهزة بالمواصفات التي تحددها، ومن الجهة التي تعينها، على أن تربحه فيها مقدارا معينا، وتدفع في الأجل المحدد، ولكن البيع لا ينعقد إلا بعد أن يشتري المصرف الأجهزة المذكورة ويحوزها بالفعل بنفسه أو عن طريق وكيله، حتى يكون البيع لما ملكه بالفعل، فكل ما بين المصرف وبينك الآن قواعد على البيع بعد تملك السلعة وحيازتها.
قال العميل: المصرف إذن هو المسؤول عن شراء الأجهزة المطلوبة ونقلها وشحنها وتحمل مخاطرها، فإذا هلكت على ضمانه وتحت مسؤوليته، وإذا ظهر فيها عيب بعد تسلمها يتحمل تبعة الرد بالعيب، كما هو مقرر شرعا وقانونا.
قال المسؤول: نعم بكل تأكيد، ولكن الذي يخشاه المصرف، أن تخلف وعدك معه بعد شرائه الأجهزة المطلوبة وإحضارها، وهنا قد لا يجد المصرف من يشتري هذه السلعة منه لندرة من يحتاج إليها، أو قد لا يبيعها إلا بعد مدة طويلة، وفي هذا إضرار بالمساهمين والمستثمرين الذين ائتمنوا إدارة المصرف على حسن تسييرها لأموالهم.
قال العميل صاحب المستشفى: أنا مستعد أن أكتب على نفسي تعهدا بشراء الأجهزة بعد حضورها بالثمن المتفق عليه، كما أني مستعد لتحمل نتيجة النكول عن وعدي، ولكن ما يضمن لي ألا يرجع المصرف في وعده إذا ظهر له عميل يعطيه أكثر، أو غلت السلعة المطلوبة في السوق غلاء بينا؟
قال المسؤول: المصرف أيضا ملتزم بوعده، ومستعد لكتابة تعهد بهذا، ويتحمل نتيجة أي نكول منه.
قال العميل: اتفقنا.
قال المسؤول: إذن نستطيع أن نوقع بيننا على هذا، في صورة طلب رغبة ووعد منك بشراء المطلوب، ووعد من المصرف بالبيع، فإذا تملك المصرف السلعة وحازها وقعنا عقدا آخر بالبيع على أساس الإتفاق السابق.
هذه هي الصورة التي اشتهرت تسميتها باسم بيع “المرابحة للأمر بالشراء” وهي عبارة عن عملية مركبة من وعدين، وعد بالشراء من العميل الذي يطلق عليه الأمر بالشراء ووعد من المصرف بالبيع بطريق المرابحة (أي بزيادة ربح معين المقدار أو النسبة على الثمن الأول أو الثمن والتكلفة).
ولبيع المرابحة للأمر بالشراء شروط لابد من توفرها لصحته وهي:
-
تحديد مواصفات السلعة وزنا أو عدا أو كيلا أو وصفا تحديدا نافيا للجهالة.
-
أن يكون الربح معلوما.
-
ألا يكون الثمن في العقد الأول مقابلا بجنسه من أموال الربا.
-
أن يعلم المشتري الثاني –العميل- بثمن السلعة الأولى وبالتكلفة.
-
أن يتفق الطرفان على باقي شروط المواعدة من حيث زمان ومكان وكيفية التسليم.
ويمكن القول بأن صيغة البيع بالمرابحة تمثل الصيغة الأكثر استعمالا في البنوك الإسلامية، ففي سنة 1996، نلاحظ أن عقود المرابحة شكلت حوالي 40% من المجموع، بينما عمليات المشاركة شكلت 13% تقريبا وعمليات الإجارة 11% وعمليات المضاربة حوالي 7%، وهذا راجع لما تتيحه هذه العملية من مرونة في السيولة وقلة في نسبة المخاطرة بحكم أن المبلغ الممول يصبح دينا في ذمة العميل بمجرد التعاقد على البيع.
وقبل أن نختم هذه الفقرة لابد من الإشارة إلى الإنتقادات التي وجهت إلى صيغة بيع المرابحة للأمر بالشراء، فهناك من قال بأن هذه المعاملة ليست بيعا ولا شراء وإنما هي حيلة لأخذ الربا، وهناك من اعتبرها من بيوع العينة وهي محرمة، وهناك من قال بأنها بيعتان في بيعة، وذلك منهي عنه، بل ذهب البعض إلى اعتبارها تدخل في بيع ما لا يملك وهو ممنوع، ولا يتسع المجال في هذا المقال إلى التعرض إليها وننصح بالرجوع إلى المراجع المتخصصة لأجل الإطلاع عليها بالتفصيل.
ب ـ الإيجار بشرط البيع.
تحتل هذه الصيغة المستعملة من طرف البنوك الإسلامية، مرتبة ضعيفة مقارنة مع أدوات التوظيف الأخرى، المرابحة والمشاركة، لذلك سنخصص لها تحليلا على مستوى حجمها هذا.
ويعد عقد الإيجار بشرط البيع من العقود المعروفة والمتداولة بواسطة شركات الإيجار المتخصصة، حيث يكون موضوعه –عقد الإيجار- الحصول على شيء في مقابل دفع أقساط محددة، وخلال مدة معينة، حيث يصبح المنتفع الذي واظب بدفع هذه الأقساط حتى نهاية المدة مالكا للشيء، وبالتالي تيسر الدفع على المشترين الذين لا يستطيعون الوفاء بالثمن جملة واحدة.
وهكذا يمكن للبنوك الإسلامية استعمال الإيجار بشرط البيع بديلا عن المرابحة في حالة الأصول المعمرة كالمعدات التي تسمح طبيعتها بالتأجير، حيث يؤجر البنك إحدى المعدات مثلا –باعتباره الممول للعملية الذي يشتري الأصل موضوع العملية- ويشترط على المستأجر شراؤها في نهاية مدة معينة، فيظل البنك مالك للأصل المؤجر طوال فترة الإيجار وحتى تنفيذ شرط البيع، والعميل حائزا ومستخدما له حتى تمام سداد أقساط الإجارة وقيمة الأصل، وبعد ذلك تنتقل إليه ملكية الأصل المؤجر، وعقد الإيجار بشرط البيع يصاغ عادة بإحدى طريقتين:
إما باحتساب أجرة تدفع دوريا ويدفع الثمن دفعة واحدة عند نهاية العقد وإما بتقسيط الثمن على دفعات، وبالتالي تتناقض الأجرة كلما دفع جزء من الثمن بنسبة هذا الجزء، إذ تنتقل ملكية الجزء المدفوع قيمته إلى العميل فيسقط مقابله من الأجرة.
الفرع الثاني: نشاط الإيجار بشرط البيع.
باعتباره نوع من عقود الإجارة، كان لابد علينا أن نتطرق إلى مفهوم الإجارة وشروطها (1)، وبعد ذلك الإنتقال إلى الإيجار بشرط البيع كأحد أدوات البنك الإسلامي لتوظيف أمواله.
1 : الإجارة وشروطها.
أ ـ مفهوم الإجارة.
تعنى الإجارة في اللغة الأجر، فقد جاء في القاموس: “الأجر، الجزاء على العمل، الإجارة”، ومن الناحية الشرعية هي عقد لازم على منفعة مقصودة قابلة للبذل والإباحة لمدة معلومة بعوض معلوم.
ب ـ شروط الإجارة.
للإجارة شروط لابد من توفرها لكي تكون صحيحة، وهي كالتالي:
-
العاقدان: أن يتوفر فيهم العقل، والبلوغ كسائر التصرفات.
-
الصيغة: كأن يقول: أجرتك مدة كذا أو أجرتك هذه السيارة، وكذا فيقول المستأجر قبلت.
-
الأجر: أن يكون الأجر قابلا للتحديد بحيث لا يؤدي في المستقبل إلى نزاع بين الطرفين، فكونه قابلا للتحديد يصبح كالمعلوم.
-
المنفعة: أن لا يكون العقد على محرم أو واجب، وأن تكون المنفعة معلومة علما يمنع المنازعة، بحيث تكون معلومة القدر.
ولذلك يكون جدول المدفوعات المتفق عليه في هذه الحالة للقدر المحتسب كسداد جزئي للثمن والقدر المحتسب أجرة تنازلية.
المطلب الرابع: القروض الحسنة.
لفهم صيغة القروض الحسنة، لابد من التطرق إلى مفهومها وشروطها بشكل يجعلها واضحة المعنى، في (الفرع الأول) كما يستلزم تناول أنواع القروض الحسنة في (الفرع الثاني).
الفرع الأول: مفهوم القروض الحسنة وشروطها.
1 : مفهوم القروض الحسنة.
القرض الحسن هو دفع مال أو تمليك شيء من البنك إلى شخص أو هيئة من باب التفضل على أن يرد مثله في الأجل المحدد.
وهكذا فالقرض يقدم القرض الحسن عن طيب خاطر منه إلى المقترض لتفريج كربة عنه وعونا له في الشدة، ومن تم فالمقرض لا يطالب ولا يتوقع سوى رد المثل وأجره عند الله تعالى.
ومن تم فإن القرض الحسن من الأعمال المنذوبة في الإسلام، حيث ورد قول الله تبارك وتعالى: ]من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة[، وقوله تعالى: ]من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له
[، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “أن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياءهم”.
وفي ضوء هذا الهدى الإسلامي كان حريا أن يكون الإقراض الحسن أحد الخدمات التي يجب أن تحرص البنوك الإسلامية على أدائها.
2 ـ شروط القرض الحسن:
لا يختلف القرض الحسن عن غيره من العقود في الشروط العامة لصحته، وهنا سنتناول الشروط الخاصة به، وهي:
-
أن يكون كل طرف في عقد القرض –المقرض والمقترض- متمتعا بأهلية التعاقد، كأن يكون المقترض عاقلا بالغا نزيها غير محجور عليه والمقرض متصرفا في المال الذي يقرضه.
-
لا يجوز اشتراط شيء يجر نفعا للمقرض أو المقترض، كأن يشترط المقرض على المقترض القيام بخدمة أو تقديم هدية بجانب رد الدين أو القرض ذاته، وإذا تضمن عقد القرض مثل هذه الشروط أصبح فاسدا.
-
يجوز للمقترض أن يعطي القرض أفضل أو أزيد عن ما اقترضه، بلا اشتراط مسبق وعن طيب خاطر.
-
إذا عجز المقترض عن رد القرض في ميعاده المحدد لعذر خارج عن إرادته، وجب إمهاله إلى ميسرة، أما إذا كان تهربا من الدفع دون إعسار وجب إلزامه بالدفع.
-
إذا كان الدين لأجل محدد، لزم رده بحلول الأجل، وإن لم يكن الأجل محددا يرد في الوقت الذي جرت به العادة (كصرف الرواتب أو ميعاد الجني والحصاد).
الفرع الثاني: أنواع القرض الحسن.
يمكن تقسيم القروض الحسنة إلى قروض اجتماعية وقروض إنتاجية.
1 : القروض الإجتماعية.
وهي القروض التي تستخدم لمواجهة حاجات اجتماعية ملحة، مثل حالات المرض والوفاة والزواج والتعليم والإسكان والإنفاق من هذه القروض من النوع الإستهلاكي، وهذا النوع من القروض تتماشى مع الأهداف الإجتماعية التي رسمها البنك الإسلامي وإرساء قواعد التكافل الإجتماعي داخل المجتمع الذي يعيش فيه، وذلك في حدود ما يأذن به المساهمون والمودعون وأصحاب البر والإحسان.
2 : القروض الإنتاجية.
هي القروض التي يكون الغرض من تقديمها معاونة المقترض لكي يتحول إلى طاقة إنتاجية أو ينتج بما يفي حاجاته وتحقق فائضا يسدد به القرض، وبالتالي لا يكون عالة على غيره سواء من الأفراد أو المؤسسات الإجتماعية.
وهكذا نجد أن شريحة عريضة من المجتمع يمكن لها أن تستفيد من هذا النوع الثاني من القروض الحسنة، أي الإنتاجية، كصغار الحرفيين والعمال المهرة الذين يعملون بأجر لدى الغير من أصحاب الورش والمحلات، ويدخل فيهم حتى خريجو الجامعات والمعاهد العليا والفنية، وهذه الشرائح تعتبر من الفئات المهملة تمويليا من جانب أجهزة التمويل التجارية.
ويرتبط قيام البنوك الإسلامية بدورها في الإقراض الحسن بحجم الموارد التي تناسب هذا النوع من الإقراض، بالإضافة إلى أن أغلب البنوك القائمة تعتبر من المؤسسات المملوكة ملكية خاصة، والتي ترى أن مسألة تقديمها للقروض الحسنة ليست أمرا وجوبيا من ناحية الشرع، وهو كذلك غير ملزم من ناحية القانون.
وكخلاصة لمختلف الأنشطة والإستخدامات التي يقوم بها البنك الإسلامي نستطيع القول بأن البنوك الربوية، لا تعتمد في تمويلها للأنشطة الإقتصادية إلا على صورة الإقراض، الذي يعد النشاط الإستثماري الرئيسي لها، ويخولها ضمانات كافية للحصول على مالها، في مواعيد معينة.
وعلى الجانب الآخر، نجد أن البنك الإسلامي تتميز استخداماته بمبدأ المشاركة في الربح والخسارة، بحيث يمنع عليه القيام ببعض التوظيفات مثل التعامل في الأوراق المالية ذات الفوائد الثابتة ومنع القروض والتسهيلات في صورة نقدية أو بسعر فائدة محدد أو متفق عليه.
ومن هذا المنطلق، فإن العلاقة بين البنك الإسلامي ومستخدمي الأموال ليست في كل الأحوال علاقة دائنية ومديونية، كما هو الشأن بالنسبة للبنك التقليدي، وإنما علاقة مضاربة بالنسبة للمودعين وعلاقة مشاركة أو مضاربة أو مرابحة بالنسبة للعملاء، حيث أن البنك معرض من حيث المبدأ لاحتمالات الخسارة، وإن كانت الخسارة لا تتحقق إلا نادرا بحكم أن المشاريع الإستثمارية يغطي بعضها على بعض.
ونظرا للتفاوت الكبير بين نتائج الأخذ بصيغة أو بأخرى، فمن الضروري وضع ضوابط لا تتعدى فيها إحدى الصيغ الحجم المعقول مما يعرض أموال المودعين والبنك لمخاطر غير طبيعية، أو مما ينحرف فيها البنك عن أداء وظائفه في المجتمع.
فمثلا صيغة بيع المرابحة للأمر بالشراء، تنعدم فيها المخاطرة أو تكاد، ويحاول البنك الإسلامي حصر دوره في عملية التمويل في قطاع التجارة.
وبالمقابل، فإن صيغة المضاربة أو المشاركة يتمثل في اقتران رأس المال بالعمل وتحمل مخاطر العملية ربحا وخسارة، وتطلح لتمويل قطاعات التنمية، كالصناعة مثلا، لذلك كان توزيع استثمارات البنك بين الصيغ المختلفة عنصرا رئيسيا في سياسة البنك الإستثمارية.
ولكن وقبل إقفال هذا الباب لابد من الإشارة إلى أن عملية تطوير الأدوات المصرفية والإستثمارية الإسلامية عملية مستمرة، وحتى لا نخرج عن الحجم المحدد لهذه الدارسة نكتفي بالإشارة إلى بعض العقود الفقهية القديمة التي يمكن تطويرها واستخدامها في عمليات التمويل والإستثمار وهي على سبيل المثال لا الحصر:
-
شركة الوجوه.
-
عقد المزارعة.
-
عقد السلم.
-
عقد الجعالة
والقائمة لا تنتهي.
فهل حققت البنوك الإسلامية أهدافها، ورهاناتها التي راهنت عليها من خلال هذه الصيغ والأنشطة المستعملة من طرفها؟ أم أن هناك معيقات وصعوبات تحول دون تحقيق هذه الأهداف؟ هذا ما سنتناوله في الفصل الثاني.
الفصل الثاني:
الرهانات الكبرى للبنك الإسلامي ومعيقاته.
لعل الحقيقة التي لا يماري فيها أحد، هو أن جل البنوك تقريبا تقوم إلى جانب أنشطتها المصرفية العادية والتي تتشابه فيها جميعها، بالإستثمارات الضخمة والمتوسطة والصغرى، هادفة من وراء ذلك إلى توظيف الأموال التي تتقاطر عليها من كل الجهات، والمصارف الإسلامية بدورها لم تشذ عن هذه القاعدة في شتى المجالات، وخاصة الإستثمار في القطاعين الإقتصادي والإجتماعي اللذين يعدان القوة الضاربة في كل مجتمع، غير أن البنوك الإسلامية لم تتمكن من مجانبة بعض المعوقات والعراقيل التي ما فتئت تواجهها في الماضي والحاضر.
ولهذا فسنعرض لبعض أهم المعيقات والصعوبات التي تواجه البنوك الإسلامية “مبحث ثان”، ولكن قبل ذلك سنبين الأهداف التي راهنت على تحقيقها هذه الأخيرة “مبحث أول”.
المبحث الأول: رهانات البنك الإسلامي.
لقد راهنت البنوك الإسلامية منذ الوهلة الأولى على عدة أهداف سطرتها لنفسها، وعملت على ترجمتها بكل ما أوتيت من آليات وميكانيزمات مالية وبشرية وتقنية…
هذا وقد وضعت هذه الأخيرة نصب عينيها النهوض بالتنمية الإقتصادية والإجتماعية داخل البلاد العربية والإسلامية، فإذا تساءلنا عن كيفية تحقيقها لهذه التنمية نقول بأنها سلكت عدة سبل في ذلك، وهذا ما سنراه من خلال هذا المبحث، حيث سنوضح في “مطلب أول” الرهانات الإقتصادية للبنك الإسلامي، وبعد ذلك سنعرج على مسألة الجدوى الإجتماعية لهذا الأخير في “مطلب ثان”.
المطلب الأول: الرهان الإقتصادي.
إننا حينما نتحدث عن الرهان الإقتصادي للبنك الإسلامي، فإننا نعني به جملة التوجهات التي ارتأى هذا الأخير تحقيقها على مستوى تنمية وبناء الإقتصاد الإسلامي، فمما لاشك فيه هو أن الأفكار والفلسفة التي تحكم البنك الإسلامي بصفة عامة، هي أفكار في صميمها تروم النهضة التنموية للبلدان الإسلامية.
ولا يخفى على أحد، أن البنوك كيفما كان نوعها تسعى جاهدة إلى امتلاك القوة الكافية والضرورية التي تمكنها من بسط وتوظيف أموالها بشكل يتأتى به تحقيق الأرباح الذاتية لها، وبالتبعية إسهامها في النهوض والإقلاع الإقتصاديين للبلاد التي تتواجد بها، فالبنوك بهذه الصفة تعد القوة التمويلية الأولى داخل الدول، فيما يخص إنعاش الإستثمارات بمختلف أحجامها.
فالبنك الإسلامي هو الآخر آمن كما أسلفنا بضرورة التأسيس لتنمية اقتصادية شاملة في إطار منهج إسلامي ملتحم تمام الإلتحام بالمبادئ والمثل العليا التي أقرتها الشريعة الإسلامية السمحة وفقه المعاملات.
ولكن قبل الحديث عن تمفصلات وتمظهرات هذه التنمية الإقتصادية، لا بأس من تحديد مفهوم التنمية أولا.
فالتنمية في عمقها وجوهرها هي محاولة استثمار الثروات كيفما كان مصدرها بالوسائل والآليات المتاحة بغية تحقيق إنتاج من شأنه تفعيل الإقتصاد بشتى أوجهه، أو هي كما عرفها الأستاذ عبد الحق الشكيري: “بأنها تنشيط الإقتصاد الوطني وتحويله من حالة الركود والثبات، إلى حالة الحركة والديناميكية، عن طريق زيادة مقدرة الإقتصاد الوطني لتحقيق زيادة سنوية ملموسة من إجمالي الناتج الوطني، مع تغيير في هياكل الإنتاج ووسائله، ومستوى العمالة، وتزايد الإعتماد على القطاع الصناعي والحرفي يقابله انخفاض في الأنشطة الإقتصادية”.
وإذا أخذ البنك الإسلامي على عاتقه كسب رهان التنمية الإقتصادية داخل البلدان الإسلامية، فإنه في إطار مسعاه هذا، تسلح منذ البداية بالخلفية الدينية التي تدعو إلى عدم تعظيم الثروة لفئة معينة من ذوي الملاءة المالية على حساب الفئة المستضعفة من الناس.
وقد رأينا كيف أن البنك الإسلامي انتهج في جميع أوجه استخداماته المصرفية وغير المصرفية بدائل للإقراض والإقتراض بفائدة كالمشاركات والمضاربات وغيرها.
فالبنك الإسلامي إضافة إلى تحريمه الفائدة، فإنه يلتزم في نواحي نشاطه ومعاملاته المختلفة بقواعد الشريعة الإسلامية، فهو يلتزم بعدم الإستثمار أو تمويل الأنشطة المخالفة للشريعة، وبتوجيه ما لديه من موارد مالية إلى أفضل استخدامات ممكنة بما يحقق مصلحة المجتمع الإسلامي.
ويتجلى التوجه أعلاه في اجتناب البنك الإسلامي العمل في المجالات التي حرمها الله عز وجل أو حرمها رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث تعد هذه المجالات الحيز الخصب الذي تنشط فيه البنوك التجارية والتي لا تعبأ إذا ذهب تمويلها إلى أنشطة مثل إنتاج الخمور أو لحوم الخنزير أو الأنشطة السياحية أو الفندقية التي تعتمد نشاط الميسر والمقامرة أو الدعارة المنظمة، وحيث أن القوانين الوضعية تبيح تمويل مثل هذه الأنشطة.
فالنطاق الإقتصادي والإستثماري الذي تنشط فيه البنوك الإسلامية مخالف في معظمه لنطاق اشتغال البنوك التقليدية المحكوم بالدوران في فلك الفائدة والربا.
وكما أشرنا في موضع سابق، فإن الأساليب التي تنهجها البنوك الإسلامية في استخداماتها تدور كلها حول المشاركة والمضاربة بين رأس المال النقدي والعمل، وهذا هو المنهج الإستثماري الذي يحث عليه الإسلام، والذي يذم إبقاء المال بدون تنمية واكتنازه وعدم تثميره، فالإسلام يوصي بأنه كلما اجتمع في يد أحد الناس مال نقدي يصلح أن يشكل رأس مال، وجب عليه أن يخرجه من منطقة الفراغ إلى منطقة الحركة والنشاط، وذلك بالعمل على استثماره في فرع من فروع الإقتصاد.
فالبنك الإسلامي هو الذي بإمكانه أن يقوم بهذه المهمة، ذلك لأنه يلعب دور الوسيط بين صاحب المال الذي لا يملك القدرة على استثماره بنفسه، وبين آخرين يملكون الجهد والقوة ولا يملكون المال، فعندما يتسلم ودائع أصحاب المال يقدمها إلى المستثمرين على أساس “المغنم والمغرم”، ويتمثل ربحه في الفرق بين النسبة التي يعطيها إلى أصحاب الودائع، وتلك التي يشترطها على المستثمرين، كما أنه قد يقوم بعملية الإستثمار المباشر، هذا الإستثمار المباشر يستلزم قيام البنك الإسلامي بمتابعة شؤونه وتقديم يد العون والمساعدة للقائم على الإشراف عليه، بل وتقديم المشورة الفنية إذا ما لزم الأمر، وذلك بوصفهما شركاء مضاربة، فمن شأن هذه العلاقة الفريدة من نوعها -القائمة بين البنك والمستثمر- أن تحقق هدفا أساسيا، يتمثل في تنمية روح التعاون والتكافل والإخاء بين العاملين في البنك وبين العملاء الذين يستخدمون الموارد المالية المتاحة، وهذا ما لا يمكن تصور حدوثه داخل البنك التقليدي الربوي في ظل علاقة تحكمها الدائنية والمديونية بين البنك وعملائه.
فالعلاقة المباشرة والمتواصلة بين البنك الإسلامي وعميله هي وحدها الكفيلة بضمان المتابعة المرضية للمشروع الممول، أما البنوك التقليدية لا تلمس ضرورة القرب من العميل ومتابعة مشاريعه، ما دام أن القانون يضمن لها أموالها (أصل الرأسمال المقرض والفائدة)، ولذلك فالبنك الإسلامي يعي بأن المتابعة الجادة للمشاريع لا تتوفر إلا عن طريق التواجد المستمر على صعيد المناطق التي تقام فيها المشاريع، ومن شأن هذا أن يوصل إلى إنجاح هذه المشاريع بكيفية أكثر إيجابية.
إن البنوك الإسلامية عندما اتخذت شعارا لها عدم التعامل بالفائدة الربوية أخذا أو عطاء، لم تجد من سبيل أمامها إلا الإستثمار المباشر بنفسها أو مع الغير، كما ذكرنا، ومن هذا المنطلق يصبح الإستثمار مسألة حتمية يتوقف عليها وجود البنك الإسلامي أو عدمه، وبالتالي يمكن القول أن الإستثمار يعد بمثابة رئتي هذا البنك. كما أن هذه البنوك تميز من الناحية الفنية والتقنية بين الإستثمارات والقروض بعدة اعتبارات، منها أن القرض يقوم غالبا على استعمال الأموال لفترة قصيرة نسبيا خلافا للإستثمارات التي تؤدي إلى استعمال الأموال لفترات وآماد أطول، وإن كان العكس قد يصدق أحيانا، ومنها اختلاف دور البنك ومركزه في الإستثمار والقرض.
إن مساهمة البنك الإسلامي في الإقتصاد الإسلامي من حيث بنائه وتأسيسه شيء لا مفر منه، لأن ذلك سيوضح جدواه ومنفعته ويجعله غير متقوقع على نفسه ومنعزل عن التيار التنموي الذي يؤسس له في البلاد الإسلامية والعربية، فالبنك الإسلامي يعد المعني الأول بهذه التنمية حتى يكسب المصداقية ويفند كل المزاعم التي تدعي عدم جدواه وفائدته في الإقتصاد العالمي. فعليه أن يقتحم مجال الإستثمار بكل أوجهه، وعليه أن يطرق باب الأنشطة التمويلية في مختلف إطاراتها، ويمكن القول بأن هذا هو ما دشنه البنك الإسلامي للتنمية وعرف قيمة النشاط التمويلي للبنوك الإسلامية في انتشال البلدان الفقيرة من التخبط في فقرها، حيث أوضح رئيس هذا البنك، الدكتور “أحمد محمد علي” بأن النشاط التمويلي للبنك الإسلامي للتنمية تتمثل في المجالات التالية:
-
تقديم القروض الحسنة، أي من دون فائدة وذلك للمشروعات ذات الطابع الإجتماعي والإقتصادي.
-
المساهمة في رؤوس أموال المشروعات الصناعية والزراعية ذات العائد العالي المباشر.
-
الإجارة: ويعني قيام البنك بشراء الأصول الرأسمالية وتأجيرها للمشروعات في الدول الأعضاء بهدف المساهمة في إنجاح تلك المشروعات.
-
البيع بالأجل للأصول الرأسمالية التي تحتاج إليها المشروعات.
-
الإستصناع: ويعني قيام البنك الإسلامي بالمساهمة في تمويل مشروعات تصنيع السلع والتجهيزات.
-
تقديم المساعدة الفنية للقيام بدراسات الجدوى والخدمات الإستشارية للمشروعات.
-
تمويل التجارة بين الدول الأعضاء.
وبخصوص هذه النقطة الأخيرة أكد “زينهم زهران” المدير التنفيذي للبنك الإسلامي للتنمية بالقاهرة على “ضرورة استفادة الدول العربية من الخدمات المقدمة لدعم التصدير وتأمين الإستثمار من قبل البرامج المخصصة التي يطرحها البنك المذكور، وأن هذه الخدمات تعد نشاطا ونافذة مكملة لأنشطة البنك في ميدان تمويل التجارة الخارجية، وقد بدأ عمل هذا البرنامج مع نهاية عام 1987م على شكل برنامج مستقل تحت إشراف وإدارة البنك مع استقلال تام لميزانيته وموارده”.
واستطرد قائلا أن: “هذا كله يعتبر تعزيزا وتنمية لصادرات الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي من السلع، عن طريق التمويل الطويل والقصير الأجل للصادرات الموجهة إلى الدول الأعضاء وغيرها على السواء، على أن تكون السلعة المنتجة أو المصنعة منشأها هو الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، ويتم التحويل على أساس المرابحة الإسلامية، ويمكن للبرنامج أن يمول نسبة 100% من قيمة الصفقة وبمنح المستورد خصما تحفيزيا بنسبة 30% من هامش الربح في حال الوفاء بالدفع الفوري كحافز للسداد.”
يتضح من هذا كله، أن البنوك الإسلامية كبديل حضاري واقتصادي، يمكنها أن تعمل الشيء الكثير في مجال الإستثمار والتمويل في كل الميادين الإقتصادية والتجارية والصناعية، كيفما كان حجم هذا المشروع صغيرا أو ضخما، فهي لا تأبه بهذه المسألة كثيرا ولا تعيرها أدنى اهتمام، ولكن فقط تنظر إلى ما إذا كان المشروع يقوم ويرتكز على سبل النجاح أم لا.
فالبنك الإسلامي لا يمتنع مثل البنك الربوي عن تمويل مشروع ناشئ أو مشروع صغير، إذا تبين من دراسته له أحقيته في التمويل، ولا يعتمد على معيار قاعدة الملاءة المالية في توزيع موارده النقدية على مشروعات تريد قروضا لتردها بالإضافة إلى فائدتها. فهو يتجه بصفة خاصة نحو المقاولات الصغرى التي تفتقر للتمويل والإرشاد والدعم الحقيقي، وهذا له ما يبرره كون الدول الإسلامية السائرة في طريق النمو والتي تقوم على أساس الإقتصاد الحر، يرتهن نموها بنجاح المقاولات الصغرى، فهذه الأخيرة تشغل أكثر من نصف اليد العاملة في القطاع الصناعي داخل هذه الدول، فلهذا عندما يركز البنك الإسلامي جهوده على المقاولة الصغرى -والتي تعد عصب الهيكل الإقتصادي للدولة السائرة في طريق النمو- يكون قد لعب الورقة الرابحة من حيث مردودية هذا القطاع، قطاع المقاولة الصغرى.
من هذا المنطلق يمكن التأكيد على أن البنوك الإسلامية لها أن تلعب دورا حيويا في تمويل المشروعات المبتدئة وبخاصة ما يتعلق بمشاريع المقاولين الشباب في الديار العربية والإسلامية، والذين يتطلعون بكل أمل وطموح إلى مثل هذه المبادرات التمويلية والإشرافية التي تعنى بها هذه البنوك.
ويمكن القول كذلك أن هذه الأخيرة، قد تمكنت بفضل فلسفتها وجهودها أن تثبت قدمها في الساحة الإقتصادية الإقليمية والدولية، وأن تكسب رهانها الإقتصادي.
المطلب الثاني: الجدوى الإجتماعية.
بالإضافة إلى ما تسعى إليه البنوك الإسلامية من إحداث طفرة تنموية شاملة في الميدان الإقتصادي، فإن روحها ومرجعيتها الدينية جعلتها تتخطى هذا الحيز إلى إقتحام المجال الإجتماعي لتثبت جدواها حتى بالنسبة إليه.
فالبنوك الإسلامية لا تشتغل في منأى عن المجتمع والناس، بل تلتحم مع هذا المجتمع، وتحاول قدر المستطاع أن تفيد هؤلاء الناس وتخدمهم في كل ما يحتاجون إليه من أسباب العيش الكريم والرفاه الإجتماعي والإقتصادي، فهي تعنى بالتنمية الإجتماعية كعنايتها بالتنمية الإقتصادية وزيادة.
ولكن ما معنى التنمية الإجتماعية؟
يختلف المفكرون الإجتماعيون في تحديد مفهومها كل وفق تخصصه، فيعرفها البعض بأنها عملية توافق اجتماعي، ويعرفها آخرون بأنها تنمية طاقات الفرد إلى أقصى حد مستطاع، أو بأنها إشباع الحاجات الإجتماعية للإنسان أو الوصول بالفرد لمستوى معين من المعيشة أو عملية تغيير موجه يتحقق عن طريقها إشباع الإحتياجات إلى غير ذلك من التعريفات.
فالتنمية الإجتماعية بهذه المعاني الكثيرة تتوجه وتصب كلها في خدمة الإنسان ليحيا حياة كريمة ملؤها الأمن والكفاف في وسائل العيش اليومي، ولعل هذا المنحى هو ما أدركته واستوعبته جيدا البنوك الإسلامية حتى تؤدي رسالتها العظمى في جعل الإقتصاد الإسلامي يطبق فعلا في الواقع.
ولهذا نجد أن هذه الأخيرة سعت إلى أن تبرز دورها الإجتماعي، وذلك من خلال إنشاء الحسابات الخيرية التي تفتحها للأفراد والهيئات مع جواز اشتراطهم تخصيص هباتهم لغرض معين في نطاق أغراض البنك، وهذه الحسابات هي البديل للوقف الخيري في الإسلام، ولا يجوز التصرف في أصلها، وإنما الإنفاق من العائد المتحقق عن استثمارها في الأغراض التي حددها المتبرعون في أوجه الخير والإحسان.
كما تقوم بتقديم القروض الحسنة لمستحقيها حرصا منها على تكريم الإنسان وإعانته على مواجهة أي ضائقة مالية تعترض حياته، دون جعله يتحمل الفوائد البنكية المتزايدة، علاوة على ذلك تقوم بخدمات اجتماعية تقتطع من فوائض أموالها، وذلك في مجال صرف المعاشات للمسنين والعجزة ممن لا يستفيدون من أي معاش تقاعدي، ورعاية الطلبة والشباب في كافة مراحل التعليم وتوفير الأجهزة التعويضية للمعاقين…
هذا إلى جانب مساهمة البنوك الإسلامية في حل مشكل البطالة، فهي تلتزم على مستوى أطرها وموظفيها بالحرص على انتقائهم بسبب الكفاءة المهنية والخلقية ومدى تشبعهم بالقيم الدينية، وليس بسبب المحسوبية والزبونية واستعمال الطرق الملتوية في التوظيف.
أما على مستوى تعاملها مع العملاء والمستثمرين فهي تحرص على أن يكونوا من ذوي الضمائر الحية، والمؤمنين بضرورة الإسهام في التنمية الإقتصاية والإجتماعية لبلدانهم.
ولكن يمكن القول أن الدور الذي تبرز فيه الجدوى الإجتماعية للبنك الإسلامي بشكل قوي ومكثف وكذا أنشطته، هو دعوته إلى إيتاء الزكاة وإنفاقها في مصارفها الشرعية بعد أن يقوم بجمعها، ودور الزكاة في التنمية الإجتماعية غني عن البيان.
فما هي الزكاة؟ وما دورها في تحقيق التنمية الإجتماعية بواسطة البنوك الإسلامية؟
إن الزكاة هي الركن الثالث في الإسلام، وتأتي بعد الشهادتين وإقام الصلاة، وقبل الصيام والحج، فهي فريضة إسلامية ملزمة لكل مسلم ومسلمة ولا خيار لهما في تركها أو عدم تركها، متى وجبت عليهما في مالهما، فهي قوت الفقراء ومالهم وحقهم من الملبس والمأكل والمشرب وسائر حاجاتهم الضرورية التي ليس لهم غنى عنها في حياتهم اليومية.
يقول الله تعالى: ]وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأقرضوا الله قرضا حسنا، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله
[، كما يعلن الله تعالى أمرا ويحذر منه، وهو الذي يظهر من خلال الآية الكريمة: ]والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون
[.
وأما بخصوص السنة النبوية، فقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث صحيحة تحث على الزكاة وإيتائها، نذكر على سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم: “آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع الإيمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله وعقد بيده هكذا وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت”. كما قال عليه السلام: “من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزميته ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك”. كما يحثنا عليه السلام بالصدقة والتصدق على الفقراء والمساكين حيث يقول: “تصدقوا فإنه يأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل لو جئت بها بالأمس لقبلتها فأما اليوم فلا حاجة لي بها”. كما قال: “ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير”.
ففريضة الزكاة من أهم وسائل الإقتصاد الإسلامي لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، فهي فريضة دينية وعبادة ذات طابع مالي خالص، ولها آثارها الإنمائية المباشرة، والتي تتمثل في محاربة الإكتناز، والحث على الإستثمار وزيادة الإنفاق، وتوفير حد الكفاية والتكافل الاجتماعي داخل المجتمع المسلم.
وتجب الزكاة على كل مسلم حر مالك للنصاب ملكا تاما، وحال عليه الحول، فهي واجبة في المال المدخر كلما مر عليه عام، وينبغي لصاحبه أن يحركه بالتجارة والإستثمار ليستفيد منه هو وغيره، وحتى لا تأكله الزكاة، وإذا لم يشغله وبقي مدخرا مهملا، فإنه يزكيه كل عام حتى ينقص ما عنده عن النصاب الشرعي للزكاة، وبهذا يأخذ الفقراء حقهم وصاحب المال خسر بعدم استثماره.
فالزكاة تكون بتوافر النصاب في الإنتاج الإقتصادي للمسلم وتحقق فائض من هذا الإنتاج أو الدخل، وهذا الفائض هو “مطرح الزكاة”، ويتجلى دورها في التنمية الإجتماعية أن الفهم الصحيح للزكاة ليس هو مجرد سد جوع الفقير أو إقالة عثرته بدريهمات، وإنما وظيفتها الصحيحة تمكين الفقير من إغناء نفسه بنفسه، بحيث يكون له مصدر دخل ثابت يغنيه عن طلب المساعدة من غيره، ولو كان هذا الغير هو الدولة، فمن كان من أهل الإحتراف أو الإتجار أعطى من صندوق الزكاة ما يمكنه من مزاولة مهنته أو تجارته، بحيث يعود عليه من وراء ذلك دخل يكفيه بل يتم كفايته وكفاية أسرته بانتظام.
وكما يقول الدكتور يوسف القرضاوي: “إن الزكاة ليست أقراصا مسكنة، ولا عبارة عن دريهمات معدودة، أو حفنات أو أقداح من الحبوب أو لقيمات يقيم بها الإنسان صلبه، ويظل الفقير فقيرا كما هو، لا، ليست هذه الزكاة التي شرعها الإسلام، الأصل في الزكاة أنها تغني الفقير”. وهذا ما جعله يحرص ويشدد على أن تقوم على الزكاة مؤسسة قد تكون تابعة تماما للدولة، وقد تنشؤها الدولة وتتركها حرة تقوم عليها الهيآت الشعبية.
وأن هذه المؤسسة لكي تنجح في أداء مهامها لابد لها من شروط خمسة، وهي: توسيع وعاء الزكاة، والحصول عليها من الأموال ظاهرة وباطنة، وأن تشرف عليها إدارة جيدة وكفؤة، والتي ترسم سياسة توزيعها، وأخيرا أن تكون الزكاة جزء من كل أي من نظام الإسلام المتكامل.
وهذا ويجب عدم الخلط بين الزكاة والضريبة، فلا تغني هذه الأخيرة عن الأولى، فلا تجزئ الضريبة عن الزكاة لأن الزكاة عبادة مفروضة على المسلم تقربا وشكرا لله والضريبة التزام مالي محض خال من كل معنى للعبادة، ولهذا كانت النية شرطا في الزكاة ولم تكن شرطا في الضريبة، ولأن الزكاة مقدرة شرعا بخلاف الضريبة فإنها تخضع لتقدير السلطة.
وارتباطا دائما بما تقوم به البنوك الإسلامية في هذا الباب، فإننا وكما رأينا سابقا، وأشرنا إلى كون هذه الأخيرة تتوفر على “صندوق الزكاة” الذي يتولى مهمة تجميع الزكوات من مختلف مصادرها وإنفاقها في مصارفها الشرعية، هذه المصارف حددها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز وهي ثمانية مصارف، حيث قال عز وجل: ]إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم
[، فهذه الآية الكريمة توضح المجالات والمسالك التي يجب أن تصرف وتنفق فيها الزكاة والصدقات، وقد جاء ترتيب هذه المصارف الثمانية متعمدا، لأن الحق سبحانه أراد أن تصرف الزكاة على الأهم فالمهم فالأقل أهمية، لأن المقصود من فرض الزكاة أصلا هو محاربة الفقر والحاجة في المجتمع الإسلامي وكفالة فقراء المسلمين ومحتاجيهم. حيث يقول جل شأنه: ]خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم
[، ثم بعد ذلك يأتي مقام أو مرتبة العاملين على الزكاة وهم الذين يجمعونها من الأغنياء، مثل الجباة والخزنة والمحاسبون وغيرهم، ويأتي بعدهم المؤلفة قلوبهم وهم الأشخاص الذين يرجى استمالتهم للثبات على الإسلام وعدم الخروج منه، وفي المقام الخامس ذكر وفي الرقاب، حيث أن الزكاة تخرج لفك هذه الرقاب وتحرير العبيد والإماء من نير الرق والعبودية، أما الغارمون فهم الذين أحاط بهم دين ولم يجدوا له وفاء عندهم، وهناك أيضا مصرف الزكاة المتمثل في سبيل الله والذي يقصد به الطريق الموصل إلى مرضاته سبحانه من العلم والعمل والجهاد، وأخيرا هناك ابن السبيل وهو المسافر الذي يجتاز البلاد والذي يجب إعطاؤه من وعاء الزكاة ما يستعين به في سفره وترحاله.
هذه إذن نبذة مختصرة عن المصارف الشرعية التي أوضحها الله تعالى وحثنا على إنفاق الزكاة فيها، وهو ما تفعله البنوك الإسلامية التي تجتمع لديها أموال زكاتها وزكاة المساهمين والمودعين والمستثمرين على حد السواء وتعمل على إفراغها في صندوق الزكاة لتقوم بعد ذلك بإعطائها للمستحقين لها من ضعفاء وفقراء الأمة الإسلامية.
ولعل أبرز دور تلعبه الزكاة في المجتمع الإسلامي هو دورها في المجال التوزيعي، حيث تسهم في تحقيق العدل في الإسلام، وهو العدل الشامل الذي يتناول كل مظاهر الحياة في المجتمع، وذلك من خلال تأثيرها في تخصيص الموارد وتأثيرها في إعادة توزيع الدخول والثروات، فالزكاة تقوم بدور فريد في كفالة أفراد المجتمع جميعا، إذا ما تعرضوا لكوارث اقتصادية أو غير اقتصادية، فهي عبارة عن نظام تأمين اجتماعي ذات بعد تكافلي وكفائي.
غير أنه وللأسف أصبح الناس غير مبالين بهذه الفريضة وغير آبهين بدورها الإجتماعي، وظنوا مع أنفسهم أنها مجرد صدقة تطوعية يمكن لهم أن يؤدوها متى شاؤوا وبالقدر الذي شاؤوا، متناسين بأن الله تعالى قد تكفل بتحديد الأنصبة الواجبة فيها وفصلها تفصيلا مستفيضا، لأنها وقبل كل شيء حق لفقراء المجتمع، وهي واجبة في أموال الأغنياء، فالمال مال الله سبحانه وتعالى والأغنياء خلفاؤه في هذا المال، والفقراء عيال الله، فوجب إذن أخذ نصيب من مال الأغنياء وإعطاؤها للفقراء.
فالبنك الإسلامي يضطلع بهذه المهمة ويقوم بها على الوجه الأتم، حتى يؤدي رسالته الدينية التي يقوم بها أحسن تأدية.
كما يشرف البنك الإسلامي على تدشين عدة مشاريع اجتماعية أخرى تضمن التكافل الإجتماعي للناس، وإذ نجد البنك الإسلامي للتنمية مثلا يخلق مجالات متعددة للتنمية الإجتماعية داخل الدول الأعضاء، وغيرها من الدول الفقيرة، وهذا ما تنص عليه المادة الأولى من اتفاقية تأسيسه، والتي تجعل من بين أهدافه دعم التنمية الإقتصادية والتطور الإجتماعي وفقا لمبادئ الشريعة الإسلامية داخل الدول الأعضاء، وكذا المجتمعات الإسلامية التي تعيش أوضاعا متردية، كما هو الحال بالنسبة للأقليات المسلمة في العالم والتي يعمل هذا البنك على وضع برامج مستمرة لها خصوصا في مجالات التعليم والصحة وإنشاء المدارس والمؤسسات والمساجد وتمويلها بكل ما تحتاج إليه. هذا بالإضافة إلى إنشائه برنامجا خاصا للمنح الدراسية في هذه المجتمعات ذات الأقلية المسلمة، وحسابات خاصة لتقديم المساعدات لحالات الكوارث وغيرها.
ويمكن القول أنه لنجاح البنك الإسلامي في أداء دوره في التنمية الإجتماعية لابد له من ركوب سبل هذا النجاح والتي يمكن أن تتخلص فيما يلي:
-
ضرورة التزام البنك الإسلامي التزاما كاملا بأحكام الشريعة الإسلامية التي قام عليها، قولا وعملا، شكلا ومضمونا، قلبا وقالبا، في كل ما يتعلق بتسييره الداخلي وأساليب توظيفه لأمواله.
-
اختيار قيادات رشيدة حاملة لفكر اقتصادي إسلامي، ومؤمنة بجدوى البنك الإسلامي.
-
الإهتمام بإجراء بحوث ميدانية لتأكيد الإثبات العلمي لدور البنوك الإسلامية في التنمية الإجتماعية، وللتعرف على أكثر الطرق والوسائل فعالية في إحداث هذه التنمية والإسراع بها.
هذا بعض ما يتعلق بالجدوى الإجتماعية للبنوك الإسلامية، وما يمكنها أن تسهم به في هذا المضمار.
وصفوة القول، هو أن التنمية الإقتصادية تؤدي إلى جانب وظيفتها الإقتصادية وظيفة أخرى اجتماعية، حيث أنها في المدى البعيد تستهدف رفاهية الإنسان ورفع مستوى معيشته، والتنمية الإجتماعية تؤدي إلى جانب وظيفتها الأساسية وظيفة أخرى اقتصادية، حيث أنها في المدى البعيد تهدف إلى تحقيق أقصى استثمار ممكن للطاقات والإمكانيات البشرية الموجودة في المجتمع.
فإن كانت هذه هي رهانات البنك الإسلامي الإقتصادية والإجتماعية، فما هي المعيقات التي تعوق مسيرته المتميزة؟
المبحث الثاني: المشاكل والصعوبات التي تعترض البنوك الإسلامية.
واجهت ولا تزال تواجه البنوك الإسلامية الكثير من التحديات والصعوبات التي تحول دون أداء هذه البنوك لمهامها على الوجه الأكمل، وبالتالي تحقيق الأهداف التي رسمتها وراهنت عليها، للإسهام في التنمية الشاملة والمستديمة للبلدان الإسلامية.
ويمكن تقسيم هذه الصعوبات والمشاكل التي تعترض سير عمل البنوك الإسلامية إلى ثلاث مجموعات: الأولى تهم إدارة البنك الإسلامي والعاملين بها، الثانية: لها علاقة بالجمهور والعملاء، والثالثة مرتبطة بسياسة الدولة التي نشأ البنك الإسلامي فوق ترابها.
وهكذا، وتفاديا للتكرار، لن نتناول المشاكل المرتبطة بالإدارة، حيث سبق لنا تناولها في الفصل الثاني من القسم الأول، ارتأينا أن نقسم هذا المبحث إلى مطلبين، الأول نتحدث فيه عن الصعوبات التي لها علاقة بالجمهور، بينما الثاني نتناول فيه المشاكل المرتبطة بسياسة الدولة.
المطلب الأول: المشاكل المرتبطة بالجمهور.
تعد المشاكل المرتبطة بالجمهور من بين العوائق التي تحول دون تطور ونمو البنوك الإسلامية، وتتجلى هذه المشاكل في فقدان الأمانة في المعاملات المالية لعملاء البنك الإسلامي، وافتقاد الجمهور العربي والإسلامي للثقافة المصرفية.
وهكذا سنتناول مشكل فقدان الأمانة في (فرع أول)، على أن نخصص (الفرع الثاني) لنقص الثقافة المصرفية للجمهور العربي والإسلامي.
الفرع الأول: فقدان الأمانة.
تعد الأمانة من الشروط الرئيسية لممارسة البنوك الإسلامية للصيغ الإستثمارية الإسلامية، خاصة منها التي تقوم على المضاربة والمشاركة.
ويؤكد ذلك حديث الرسول (ص) “أن الله يقول أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خانه خرجت من بينهم”.
وهكذا، ففقدان الأمانة لدى العملاء المستفيدين من هذه الصيغ التمويلية والتي أصبحت من العوارض المتفشية اليوم في المجتمعات الإسلامية، جعلت البنوك الإسلامية تعاني من هذا الداء –فقدان الأمانة- لأنه لا شيء يؤمن للبنك الإستفادة من حقوقه كاملة سوى أمانة العميل واستقامته. ولا يخفى على أحد أننا نعيش في محيط وفي زمن افتقدت فيها خصلة الأمانة، فكم من أموال ضاعت نتيجة اختلال أو تدليس أو إنكار للحقوق من قبل العملاء، ولقد كشفت الممارسة عن سوء نية بعض الشركاء، وعدم مراعاتهم للأمانة في تعاملهم مع البنوك الإسلامية، يقول الله تعالى: ]فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته
[.
وتقدر أحجام الخسارات والأموال المشكوك والميؤوس من تحصيلها بمئات ملايين الدولارات، وقد حدث للمصرف الإسلامي الدولي للإستثمار والتنمية أن خسر 600 مليون جنيه، كتمويلات بالمضاربة والمشاركة، نظرا لعدم تحصيل أصول المبالغ المقدمة والأرباح المتوقعة، وذلك من يوم إنشائه (1984) إلى سنة (1986)، وقد أدت به هذه الحالة إلى أزمة خانقة كادت تقضي عليه لولا تدخل الدولة لإنقاذه.
ويمكن القول بأن انعدام الأمانة لدى العملاء، وبالتالي مخاطرة البنك الإسلامي بأمواله وأموال المودعين، هو السبب الرئيسي في ابتعاده عن تمويل المشاريع الكبرى عن طريق المضاربة أو المشاركة، الشيء الذي جعله يمول فقط المشاريع التي تنعدم فيها المخاطرة، وبالتالي الإبتعاد عن المشاريع التي تحقق وتساهم في التنمية الشاملة، هذه الأخيرة التي تعد من أهم الأهداف التي راهن عليها البنك الإسلامي.
وفي الأخير، لابد من الإشارة إلى أنه لكي تخفف البنوك الإسلامية من حدة هذه المعضلة، -فقدان الأمانة- أن تقوم بالتكثيف من التوعية الوعظ والإرشاد (خارج المساجد) فيما يخص الإلتزام بالعهود وتقوى الله في المعاملات المالية، وإسناد هذا الدور لديار الإفتاء والمجامع الفقهية والمحاكم الشرعية، حتى لا تصبح هذه الدعوة من فن التسويق وترويجا لبضاعة البنوك الإسلامية، بالإضافة إلى قيامها –البنوك الإسلامية- بتوعية عملائها وبث روح الوفاء وروح المخاطرة والمشاركة فيهم واختيار رجل الأعمال الذي يعهد إليه بالمشروع عن طريق حسن السيرة والسلوك والإلتزام بالواجب والأمانة في النواحي المالية وذلك بجمع معلومات عن السيرة الذاتية له.
الفرع الثاني: نقص الثقافة المصرفية للجمهور العربي والإسلامي.
يفتقد الجمهور العربي والإسلامي إلى التثقيف المصرفي بشكل عام، والتثقيف المصرفي الإسلامي بشكل خاص، حيث يجهل العامة من الناس طبيعة البنك والخدمات التي يقدمها وطريقة التعامل معه، وفي هذا الإطار نجد غالبية المتعاملين مع البنوك الإسلامية تعاني من ضعف الثقافة المصرفية بهذه البنوك، على الرغم من أن بعضهم لديه خبرة في التعامل مع البنوك التجارية، حيث أن معظم المتعاملين اختاروا البنوك الإسلامية لأسباب شرعية، بل الكثير منهم لا يميز بين الربح والفائدة، والبعض يعتبر البنوك الإسلامية مؤسسة خيرية تقدم قروضا بدون فوائد.
وهكذا يجب على العاملين في البنوك الإسلامية، أن تعمل على نشر الأهداف التي يقوم بها البنك الإسلامي وتوضيح الصيغ الإسثتمارية التي يعتمد عليها في التمويل مع تبيان الفرق بينه وبين البنك الربوي، ليس في الأوساط الثقافية، بل بين عامة الناس الجاهل قبل العالم، وذلك عن طريق الإستفادة من الإعلام ووسائل الإتصال التي أصبحت جد متطورة في عصرنا الراهن.
لأنه كلما نضج الوعي العقدي والثقافي الإسلامي لدى غالبية الناس كلما ازداد التزامهم بأهداف الإقتصاد الإسلامي وأدى ذلك إلى نجاح مؤسساته.
وقبل إقفال هذا المطلب، لابد من الإشارة إلى مشكلة لها علاقة بالجمهور وتفرض علينا نفسها بإلحاح، ألا وهي عدم ثقة العملاء بمصداقية البنك فيما يخص سرية المعلومات التي يحصل عليها في ظل صيغة المرابحة، فالبنك باطلاعه على الأسرار التجارية لعملائه، التي عادة ما تقتضي تزويده بمعلومات تفضيلية عن السلعة ومصادر الحصول عليها وشروط الشراء وسعر البيع، يمتنع عليه أن يستفيد من تلك المعلومات، مثل هذا الشرط الأخلاقي يصعب استيفاؤه، طالما أن البنك يبرم صفقات مماثلة لحسابه، ثم يدخل بعد ذلك منافسا لعملائه الذين إئتمنوه على هذه المعلومات، وهذا الأمر يواجه بشبهة المنافسة غير المشروعة.
المطلب الثاني: المشاكل المتعلقة بسياسة الدولة.
إن القوانين الوضعية السائدة في بلدان العالم الإسلامي فيما عدا حالتين أو ثلاث لا تسمح فقط بالتعامل بالفوائد وإنما أيضا تحمي حقوق المتعاملين فيها، وتنظم معاملات المؤسسة المصرفية التي يقوم نشاطها على أخذ وإعطاء الفوائد، وتحميها وتعزيز موقفها المالي في حالة تعرضها لأزمة ثقة، وهكذا تقوم بعض الدول العربية بتطبيق القانون المصرفي على جميع البنوك بالتساوي لا فرق بين إسلامية وربوية.
والمؤسسة المصرفية المركزية التي تعتبر جزءا من جهاز الدولة الإقتصادي، تعتبر بمثابة منظم لأعمال جميع البنوك الربوية وللسياسة النقدية والإئتمانية، اعتمادا على آلية الفائدة الربوية، تقوم –المؤسسة المصرفية المركزية- بتطبيق نفس التعليمات والرقابة على البنوك الإسلامية وتعاملها كأنها بنوك تجارية، دون مراعاة للخصوصية التي تقوم عليها، الشيء الذي يشكل حدودا وقيودا شديدة على النشاط المصرفي الإسلامي.
وهكذا، نجد البنوك المركزية تفرض على البنوك الإسلامية احترام سقوف الإئتمان، وكذا احترام نسب احتياطي نقدي، وهي نفس النسب المطبقة على البنوك التقليدية، فإذا كان لهذا الوضع ما يبرره بالنسبة لهذه الأخيرة، فإن الأمر يختلف بالنسبة للبنوك الإسلامية، ذلك أن العلاقة التي تربطها بمودعيها علاقة مشاركة وليست علاقة دائنية ومديونية، وتبعا لذلك فهي تتأثر وتتضرر بإيداع نفس النسب المطبقة على البنوك التقليدية دون استثمار، الشيء الذي يؤدي إلى تعطيل جانب من أموال المودعين عن الإستثمار على غير رغبتهم، وبالتالي التقلص من دور البنوك الإسلامية في الإسهام في مسلسل التنمية، نظرا لتجميد جزء هام من أموالها لدى البنك المركزي.
كما يصعب على البنوك الإسلامية الحصول على تمويل من البنوك المركزية عند الحاجة إليه لتغطية عجز السيولة لديها، بسبب غياب التمويلات المباشرة لديها في شكل قروض وخضوع إعادة الخصم لدى البنك المركزي لنظام الفائدة.
وفي ضوء ما سبق، يتضح أن خضوع البنوك الإسلامية لنفس الضوابط والمعايير لنظام المراقبة المصرفية على البنوك التقليدية، قد يخرجها عن طبيعتها وأساسيات العمل بها اضطرارا أو تناسبا مع متطلبات الرقابة المصرفية، مما قد ينعكس سلبا على أدائها، مما يستوجب على السلطات المالية في البلدان العربية مراعاة خصائص البنوك الإسلامية، وذلك بأن تخصص التشريعات بابا مستقلا لها يشتمل على تعريف دقيق لها، شاملا خصائصها الذاتية ومبادئ العمل بها وأهم الضوابط والمعايير والأساليب الخاصة بها.
وهكذا يحتاج النظام المصرفي الإسلامي إلى الوقاية القانونية وذلك عن طريق مراجعة كافة القوانين المتصلة بالنشاط المصرفي، فلا يكفي تعديل قوانين البنوك والإئتمان فحسب، بل يستلزم النظر في تعديل قوانين الشركات والإستثمار والإجراءات القضائية.
فلا يعقل أن يظل قانون الشركات يتحدث عن شركات التضامن والتوصية ذات الأصل الفرنسي ويهمل المؤسسات التي يجيزها الفقه، مثل شركات المضاربة، والأشكال الأخرى من الشركات كالعنان ولا يقبل أن يظل قانون الشركات يتحدث كذلك عن سندات القرض والفائدة ولا يذكر صكوك المشاركة في الأرباح.
ونفس الملاحظة تنصب على نظام القضاء والإجراءات القضائية، حيث تتمتع البنوك التقليدية بمتطلبات استثنائية خارجة عن قواعد القانون العامة، بهدف تمكينها من استيفاء حقوقها عند الضرورة وبالتالي حماية أموال المودعين لديها، هذا إضافة إلى الحماية الجزائية التي يسنها القانون في حالة التأخير عن السداد، الشيء الذي لا يمكن تطبيقه على البنوك الإسلامية لكونها لا تتقاضى فوائد تأخير.
وأمام هذا الفراغ التشريعي نأمل أن تأخذ الدول الإسلامية بعين الإعتبار الطبيعة الخاصة للبنوك الإسلامية وتسن لها مسطرات استعجالية تمكن البنوك من استيفاء حقوقها المستحقة خلال سنوات التأخير، وبالتالي يشكل جزرا للمتعاملين غير الجادين المماطلين في الوفاء، لذا يبقى الأمل في الحكومات أن توفر للبنوك الإسلامية الحماية القانونية لكي تمارس نشاطها، في أحوال أحسن وأفضل، نأمل أن يؤهلها لأن تصير بنوك المستقبل، لأن البنوك الإسلامية لا يمكنها وحدها تحمل مسؤولية التنمية، فما هي إلا إحدى آليات النظام الإقتصادي وليس كل النظام، وبالتالي لا يمكنها تقديم ما يطلب منها، أمام غياب الإقتصاد الإسلامي في الحياة.
خاتــــــــــــــــمة:
بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على تأسيس أولى البنوك الإسلامية، في منطقتي الشرق الأوسط والخليج العربي، لم يعد بإمكاننا الحديث عن نجاح أو فشل التجربة المصرفية ذات النظام الإسلامي، إذ أن مرحلة تقييم هذه التجربة ووزنها قد تم تجاوزها منذ أمد ليس بقليل.
ويمكن الجزم بما لا يدع مجالا للنقاش، أن البنوك الإسلامية قد أصبحت حقيقة واقعة ليس في حياة الأمة الإسلامية فحسب، ولكن أيضا في جميع بقاع وأصقاع العالم، مقدمة بذلك فكرا اقتصاديا ذا طبيعة خاصة، وأثبتت هذه الفكرة للجميع جدواها، وقدرتها على التغلغل في أوصال الإقتصاديات الشرقية والغربية.
ولعل ما يحمل على مثل هذا القول، هو الإنتشار الواسع والملحوظ، الذي حققته في العالم أجمع، إن على مستوى إنشاء بنوك قائمة بذاتها، أو الإقتصار فقط على فتح شبابيك للمعاملات الإسلامية داخل بنوك هي أصلا بنوك ربوية.
إن هذه المصارف تجاوزت إطار التواجد إلى آفاق التفاعل والإبتكار، والإنغماس في مشكلات العصر التي يواجهها عالم اليوم والتعامل معها بإيجابية، واستطاعت بفضل عزيمة وتصميم الساهرين عليها ركوب التحديات والرهانات وتجاوز الصعوبات التي تواجهها من أجل وضع آخر لبنات الإقتصاد الإسلامي والنظام المصرفي الإسلامي على وجه الخصوص.
ومن خلال هذا البحث يمكن القول أننا خلصنا إلى عدة استنتاجات مفادها أن البنوك الإسلامية وإن كانت تقتسم مع البنوك التقليدية بعضا من النقاط المشتركة والمتمثلة في الأدوار التي تقوم بها كلتيهما في ميدان الوساطة بين المدخرين من جهة، والمستثمرين من جهة ثانية، إلا أن ما يفرقهما ويجعلهما متنافرتين أمور كثيرة، ولعلها تلك الأهداف التي ترتكز عليها هذه البنوك.
وهكذا، فإن كانت البنوك التقليدية تسعى بصفة أساسية إلى تعظيم ثروة الملاك، والجري وراء الأرباح أينما كانت وبشكل مبالغ فيه، مع توخيها الحذر في مجال الإستثمار حتى لا تتعرض للخسارة، وبالتالي لنقص السيولة النقدية، نجد على خلاف ذلك أن البنوك الإسلامية لا تنشغل بتكديس الثروات وبناء رساميل ضخمة، ولا تركض وراء الأرباح الطائلة والقصوى، بل فقط تسعى إلى ربح يضمن لها الإستمرار كمؤسسة ذات نشاط وخدمات ضرورية للإنسان.
كما أنها تقوم أساسا على الإستثمار المباشر وذلك من خلال عدة صيغ إستثمارية والتي تحمل في طياتها نوعا من المخاطرة بأموال المودعين والذين يقبلون هذه المخاطرة ما دام الهدف هو الإبتعاد عن الربا والفائدة والتعامل في إطار الشرع الإسلامي.
إن “البنوك الإسلامية” أخذت على عاتقها النهوض باقتصاد المجتمعات العربية والإسلامية وتحقيق التنمية الإجتماعية بداخلها في أفق ضمان مستوى حياة كريمة لشعوبها.
لكن ما يسترعي الإنتباه ونحن بصدد الإنتهاء من هذا البحث هو ذلك التساؤل الذي يطرح نفسه باستمرار بخصوص آفاق إنشاء بنك إسلامي بالمغرب، في هذا الإطار يمكن القول أن هذا الأخير تمت معارضته من قبل لوبيات داخلية مغربية، كما جاء على لسان الأستاذ “عمر الكتاني” وهو رئيس الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في الإقتصاد الإسلامي، وذلك خلال المحاضرة التي ألقاها في رحاب كلية الحقوق بمكناس بتاريخ 8 مارس 2005 تحت عنوان: “التبادل الحر بالمغرب أية آفاق؟”، حيث قال بالحرف:
“إن البنك الإسلامي بالمغرب وقعت معارضته من قبل وزير المالية والنقابة الوطنية للأبناك بدعوى عدم فاعليته”. ويضيف على أن عدم الفاعلية التي يتحدث عنها هؤلاء، قد أثبتت بطلانها وبهتانها تقاطر اعترافات دولية غربية كالولايات المتحدة الأمريكية والتي أكدت على نجاعة هذه البنوك الإسلامية في جل المجالات من الناحية الإقتصادية، وأن حتى المواطنين الأمريكيين أصبحوا بدورهم يفضلون التعامل مع هذه البنوك التي لا تتعامل بالفائدة وتلغيها من قواميسها ونواميسها.
فهل سيرفع الحظر الذي يحول دون تواجد بنك إسلامي داخل دولة عربية إسلامية كالمغرب أم سيبقى الحال على ما هو عليه؟
ولماذا لا تتكاثف الجهود والمساعي الرامية إلى تطبيق الإقتصاد الإسلامي داخل الدول الإسلامية عن طريق إنشاء بنك إسلامي عالمي؟
تم بحول الله وقوته.
فهرست المراجع:
-
القرآن الكريم برواية ورش.
-
الإمام أبو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري، “صحيح البخاري” مكتبة الصفاء. 1423هـ/2003م.
-
الإمام أبو الفداء اسماعيل بن كثير: “تفسير ابن كثير”. دار الفكر. 1407هـ/1986م.
-
الشيخ محمد علي الصابوني: “صفوة التفاسير”. المكتبة العصرية، صيدا, بيروت. الطبعة الأولى، 1421هـ/2001م.
الكتب والمؤلفات:
-
أبو الأعلى المودودي: “الربا”. ترجمة وتعريب محمد عاصم الحداد. دار الفكر.
-
أبو المجد حرك: “البنوك الإسلامية ما لها وما عليها”. سلسلة الدين المعاملة. الطبعة الأولى، دار الصفوة للنشر. القاهرة.
-
التقرير السنوي لبنك المغرب. 2003م.
-
د. جمال الدين عطية: “البنوك الإسلامية بين الحرية والتنظيم. التقييد والإجتهاد. النظرية والتطبيق”. كتاب الأمة. العدد 13. الطبعة الأولى. مطابع الدوحة الحديثة.
-
د. سامي حمود ود. يوسف القرضاوي: “محاضرات من ندوة التطبيقات الإقتصادية والإسلامية المعاصرة”. منشورات الفرقان. رجب. 1419هـ/ نونبر 1998م. الدار البيضاء.
-
ذة. سلوى بنكروم: “محاضرات في أصول الفقه الإسلامي”. الطبعة الأولى، 2005م.
-
ذة. سميرة كامل محمد علي ود. أحمد مصطفى خاطر: “التنمية الإجتماعية. الأطر النظرية ونموذج المشاركة”. دار الجامعيين. الإسكندرية، سنة 1993م.
-
ذ. ضياء مجيد: “البنوك الإسلامية”. مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية 1997.
-
دة. عائشة الشرقاوي المالقي: “البنوك الإسلامية، التجربة بين الفقه والقانون والتطبيق”. الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء 2000م.
-
د. عامر سعيد الزيباري: “أجوبة عن أسئلتك في الزكاة”. دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت. الطبعة الأولى سنة 1415هـ/ 1995م.
-
عبد الحق الشكيري: “التنمية الإقتصادية في المنهج الإسلامي”. كتاب الأمة. الطبعة الأولى، الدوحة. العدد 17. جمادى الأولــى، 1408هـ.
-
د. عبد الحميد محمود البعلي: “أساسيات العمل المصرفي الإسلامي الواقع والآفاق”. دار التوفيق النموذجية. القاهرة. 1410هـ/1999م.
-
د. عبد الرحمان الحلو: “من أجل بناء إسلامي أفضل”. الدار البيضاء، 1990هـ.
-
د. عبد الرحمان يسري أحمد: “قضايا إسلامية معاصرة في النقود والتمويل”. دار نشر الثقافة، الإسكندرية. 2001م.
-
ذ. عبد الرحيم شميعة: “دروس في القانون التجاري”. (نظام الأوراق التجارية لطلبة السنة الرابعة). طبعة 2005م.
-
ذ. عبد الرحيم شميعة: “محاضرات في القانون التجارية”. (لطلبة السنة الثالثة) مكتبة وراقة سجلماسة، مكناس. طبعة 2005م.
-
د. علال الخياري: “الإقتصاد الإسلامي”. شركة التوزيع والنشر. الدار البيضاء.
-
د. علال الهاشمي الخياري: “منهج الإستثمار في ضوء الفقه الإسلامي”. شركة النشر والتوزيع المدارس. الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1413هـ / 1993م.
-
ذ. علي سعيد عبد الوهاب مكي: “تمويل المشروعات في ظل الإسلام”. دار الفكر العربي. سنة 1979م.
-
د. الغريب ناصر: “أصل المصرفية الإسلامية وقضايا التشغيل”. مطابع المنار، القاهرة. الطبعة الأولى، 1417هـ/1996م.
-
د. محمد باقر الصدر: “البنك اللاربوي في الإسلام”. دار التعارف للمطبوعات، سنة 1410هـ/1990م.
-
د. المختار الزكراوي: “تاريخ الفكر الإقتصادي”. مكتبة دار السلام. الرباط. 2001م.
-
د. مصطفى كمال السيد طايل: “البنوك الإسلامية المنهج والتطبيق”. مطابع غباشي طنطا. 1408هـ/1988م.
-
ذ. مصطفى معمر: “مدخل لدراسة المالية العامة”. أستاذ بكلية الحقوق بمكناس. طبعة 2005م.
-
منجي الطلاب. مادة الربا. الناشر مكتبة الأمة.
-
د. منير إبراهيم هندي: “إدارة الأسواق والمنشآت المالية”. منشأة المعارف الإسكندرية. سنة 1999م.
-
د. نعمت عبد اللطيف مشهور: “الزكاة، الأسس الشرعية والدور الإنمائي والتوزيعي”. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. بيروت. الطبعة الأولى 1413هـ/1993م.
-
د. هشام خالد: “البنوك الإسلامية الدولية وعقودها. مع إشارة خاصة لنظام التأجير التمويلي.”. دار الفكر الجامعي، الإسكندرية. سنة 2001م.
-
د. يوسف القرضاوي: “بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية”. مكتبة وهبة. القاهرة. الطبعة الثالثة. سنة 1415هـ/1995م.
المجلات:
-
مجلة الإقتصاد الإسلامي التابعة لبنك دبي الإسلامي، عدد 26. شتنبر 1986م.
-
مجلة الفرقان، العدد 42. سنة 1420هـ/1999م.
-
مجلة الفرقان، العدد 43. سنة 1420هـ/2000م.
-
مجلة المنعطف، عدد 11. سنة 1416هـ/1995م.
-
مجلة الوعي الإسلامي. عدد 384. شعبان 1418هـ/شتنبر 1997م.
-
مجلة الوعي الإسلامي. عدد 396. شعبان 1419هـ/دجنبر 1998م
-
مجلة الوعي الإسلامي. عدد 411. ذو القعدة 1420هـ/فبراير/مارس 2000م.
-
مجلة الوعي الإسلامي. عدد 412. ذو الحجة 1420هـ/مارس/أبريل. 2000م.
-
مجلة الوعي الإسلامي. عدد 414. صفر 1421هـ/يونيو/يوليوز. 2000م.
-
مجلة الوعي الإسلامي. عدد 415. ربيع الأول 1421هـ/يونيو/يوليوز 2000م
-
مجلة الوعي الإسلامي. عدد 416. ربيع الآخر 1421هـ/يوليوز 2000م.
-
مجلة الوعي الإسلامي. عدد 417. جمادى الأولى 1421هـ/غشت 2000م.
-
مجلة الوعي الإسلامي. عدد 418. جمادى الآخرة 1421هـ/غشت/شتنبر 2000م.
مواقع الأنترنت:
-
د. محسن أحمد الخضيري: “مفهوم البنك الإسلامي”.
-
د. محمود الأنصاري: “دور البنوك الإسلامية في التنمية الإجتماعية.
-
د. يوسف القرضاوي: “الفوائد البنكية هي الربا الحرام”.
فهرس الموضوعات:
مقدمة عامة 1
القسم الأول:
المرتكزات الأساسية لقيام البنك الإسلامي. سبل إدارته والرقابة عليه 6
الفصل الأول: أسس قيام البنك الإسلامي 8
-
المبحث الأول: الأساس الديني والفكري لقيام البنك الإسلامي 8
-
المطلب الأول: الربا والربح في المنظور الإسلامي 8
-
المطلب الثاني: الآراء الفكرية حول الربا والفائدة والربح 25
-
-
المبحث الثاني: الوضعية القانونية لإنشاء البنك الإسلامي وواقع تأسيسه 39
-
المطلب الأول: الإطار القانوني العام لتأسيس البنك الإسلامي 40
-
المطلب الثاني: الواقع الجغرافي للبنوك الإسلامية 49
-
الفصل الثاني: إدارة البنك الإسلامي والرقابة عليه 61
-
المبحث الأول: إدارة البنك الإسلامي 62
-
المطلب الأول: الجهاز الإداري 62
-
المطلب الثاني: عراقيل إدارة البنك الإسلامي 68
-
-
المبحث الثاني: الرقابة على البنوك الإسلامية 73
-
المطلب الأول: الرقابة المصرفية 73
-
المطلب الثاني: الرقابة الشرعية 82
-
القسم الثاني:
موارد واستخدامات البنك الإسلامي. رهاناته ومعيقاته 93
الفصل الأول: موارد البنك الإسلامي واستخداماته 95
-
المبحث الأول: موارد البنك الإسلامي 95
-
المطلب الأول: الموارد الذاتية للبنك 95
-
المطلب الثاني: الموارد الخارجية 103
-
-
المبحث الثاني: أنشطة توظيف أموال البنك الإسلامي واستخداماته 116
-
المطلب الأول: نشاط المضاربة 117
-
المطلب الثاني: نشاط المشاركة 120
-
المطلب الثالث: نشاط المرابحة والإيجار بشرط البيع 124
-
المطلب الرابع: القروض الحسنة 131
-
الفصل الثاني: الرهانات الكبرى للبنك الإسلامي ومعيقاته 136
-
المبحث الأول: رهانات البنك الإسلامي 136
-
المطلب الأول: الرهان الإقتصادي 136
-
المطلب الثاني: الرهان الإجتماعي 143
-
-
المبحث الثاني: المشاكل والصعوبات 150
-
المطلب الأول: المشاكل المرتبطة الجمهور 151
-
المطلب الثاني: المشاكل المتعلقة بسياسة الدولة 154
-
خاتمة 157
فهرست المراجع والمصادر 160
فهرست الموضوعات 165