في الواجهةمقالات قانونية

التحديد القانوني لمسؤولية الناقل البحري طبقاً للقانون المغربي والموريتاني الدكتور : سيدي محمد عبد الله حد

 

التحديد القانوني لمسؤولية الناقل البحري طبقاً للقانون المغربي والموريتاني
(Legal determination of the liability of the maritime carrier according to Moroccan and Mauritanian law)
الدكتور : سيدي محمد عبد الله حد
حاصل على دكتوراه في القانون الخاص جامعة محمد الخامس ـ السويسي
المستشار القانوني لوزير التجارة والسياحة الموريتانية

ملـــــخص
عندما يعجز الناقل البحري عن دفع المسؤولية كليا عنه بكل الوسائل المتاحة قانونا، بحيث لم يعد أمامه سوى التعويض التام عن جميع الأضرار التي لحقت البضاعة، عندها يحق له أن يَجْنَحَ إلى إمكانية الدفع بنظام ” تحديد المسؤولية” الذي يشكل عارضا جزئيا لمسؤولية الناقل البحري ويحقق الدفع الجزئي لها إذا ما طلب منه التعويض.
وذلك كون تحديد مسؤولية الناقل البحري القانونية لا يحصل إلا إذا قامت مسؤولية الناقل، وهذه الأخيرة لا تقوم إلا إذا ارتكب الناقل فعلا يوصف بأنه خطأ أو إهمال من جانبه، ويعد مبدأ تحديد المسؤولية خروجا عن القواعد العامة التي تلزم المسؤول بأن يعوض المضرور عن كل الضرر الذي أصابه، حتى لو استغرق الذمة المالية كلها.
وهذا الخروج اقتضته فكرة التوازن بين مصالح الناقل والشاحن، ولا شك أن هذا التوازن لا يتحقق إلا إذا كان الناقل حسن النية في تنفيذ التزامه بنقل البضاعة والمحافظة عليها أثناء عملية الشحن والتفريغ وأثناء وجود البضاعة في عنابر السفينة. إذ يعتبر ميزة منحت للناقل البحري لتخفيف عبء المسؤولية الملقاة على عاتقه، إذ أنه في كثير من الحالات تكون قيمة التعويضات مرتفعة جدا مما يؤدي إلى إثقال كاهل الناقل البحري للبضائع الذي لا يستطيع مواجهتها، فكان من الضروري وضع تحديد قانوني لمسؤولية الناقل البحري للبضائع.
أما إذا ارتكب الناقل فعلا يخل بهذا التوازن الذي تقوم عليه هذه المسؤولية المحدودة فلا يقبل مبرر لتطبيق هذا النظام الذي يشكل بالنسبة للناقل البحري عوارض تحقق الدفع الجزئي لمسؤوليته المطلقة والمفترضة أصلا.
لذا كان من الطبيعي أن يُحْرَمَ الناقل من الدفع بالمسؤولية المحدودة واتخاذها كعارض لمسؤوليته، وذلك لانتفاء الأسس التي يقوم عليها هذا النظام القانوني ولأن قواعد العدالة تقتضي ألا يستفيد الناقل من فعله الإرادي، لذا وجب إلزام الناقل الذي يرتكب سلوكا إراديا ينتج عنه ضرر للشاحن أن يعوض الأخير عن الضرر الذي أصابه بسبب سلوكه دون تطبيق نظام <تحديد المسؤولية>.
وعليه فإن التحديد القانوني للمسؤولية يعني تقرير المشرع حدا أقصى لمبلغ التعويض، يلتزم الناقل البحري بدفعه إذا تحققت مسؤوليته.

 

 

 

Summary
When the maritime carrier is unable to fully pay the responsibility by all legal means, so that he has no choice but to fully compensate for all damages to the goods, then he has the right to resort to the possibility of paying the “limitation of liability” system, which constitutes a partial incident to the responsibility of the maritime carrier and achieves partial payment of it if compensation is requested from him. This is because determining the legal liability of the maritime carrier does not occur unless the carrier’s responsibility is established, and the latter does not occur unless the carrier commits an act described as an error or negligence on his part, and the principle of limitation of liability is a departure from the general rules that obligate the responsible party to compensate the injured party for all damages that have befallen him, even if it takes up the entire financial liability. This departure was required by the idea of balancing the interests of the carrier and the shipper, and there is no doubt that this balance is only achieved if the carrier is in good faith in fulfilling his obligation to transport the goods and preserve them during the loading and unloading process and while the goods are in the ship’s holds. It is considered an advantage granted to the maritime carrier to reduce the burden of responsibility placed on him, as in many cases the value of compensation is very high, which leads to burdening the maritime carrier of goods who cannot face it, so it was necessary to establish a legal definition of the responsibility of the maritime carrier of goods.
However, if the carrier commits an act that disrupts this balance on which this limited responsibility is based, there is no justification for applying this system, which constitutes for the maritime carrier obstacles that achieve partial payment of his absolute and originally assumed responsibility.
Therefore, it was natural for the carrier to be deprived of paying limited liability and taking it as an obstacle to his responsibility, due to the absence of the foundations on which this legal system is based and because the rules of justice require that the carrier not benefit from his voluntary act, so it is necessary to oblige the carrier who commits a voluntary behavior that results in harm to the shipper to compensate the latter for the harm he suffered due to his behavior without applying the <liability limitation> system.
Accordingly, the legal definition of liability means that the legislator sets a maximum amount of compensation, which the maritime carrier is obligated to pay if his responsibility is realized.

مقدمة
لا مراء أنه طبقا للقواعد العامة يلزم المدين بتنفيذ التزاماته المترتبة عن عقد أبرمه مع غيره، وعند إخلاله بتنفيذ ذاك الالتزام حُقّ للدائن المطالبة بتنفيذ الالتزام أو التعويض عن الأضرار التي لحقته جراء عدم الوفاء، ويكون التعويض عادة عن ما فاته من كسب و ما لحقه من خسارة، غير أن التشريعات البحرية خرجت عن هذه القواعد وخالفت قاعدة جبر الضرر بمفهوم القواعد العامة، وبمقتضى هذه القاعدة ذات الطبيعة الاستثنائية، فإن التعويض لا يشمل كل الأضرار، وإنما ينحصر في حدود معينة.
وتعني هذه القاعدة أن القانون قد حدد سقف التعويض عن الضرر الحاصل للبضاعة في مبلغ محدد لا يجوز تجاوزه إلا في حالة التصريح بقيمة البضاعة، وحالة إهمال أو الخطأ الجسيم من طرف الربان أو أحد تابعيه.
وتجد هذه القاعدة مبررها في محاولة خلق توازنات قارة بين الجدوائية الاقتصادية لمشاريع النقل البحري والعدالة التعاقدية التي تسمح للشاحن بالاستفادة من قواعد تضمن له نوعا من المساواة مع الناقل، وفي هذا الصدد حددت التشريعات مسؤولية الناقل البحري في مبلغ محدد أو في القيمة المصرح بها في تذكرة الشحن، وهو ما يعني إضافة متغير إيجابي في كفة الناقل تقتضيه وتبرره الظروف البحرية ذات الطبيعة الخاصة، فالناقل وإن كان الطرف الأقوى في العلاقة العقدية بين الناقل والشاحن، فإنه يحتاج في ظروف معينة إلى الحماية التي تتطلبها خصوصية النقل البحري وأهمية المنشأة أو الوسيلة التي بواسطتها يمارس النقل.
إن الأهمية الاقتصادية للسفينة والحرص على استمرارية مشاريع النقل البحري لما تقتضيه المبادلات التجارية الدولية من أهمية ومقتضيات العدالة التعاقدية والجدوائية الاجتماعية لقواعد القانون ـ تقتضي خلق توازنات قارة بين الشاحنين والناقلين ، ذلك أن عدم تحديد المسؤولية يترتب عليه إفلاس مؤسسات النقل البحري، فالتعويض الكامل قد يؤدي إلى اختلال التوازن، كما أن تحديد مسؤولية الناقل البحري يأتي كذلك استجابة لمسألة ذات طبيعة اقتصادية هامة وهي انخفاض أجرة النقل البحري مقارنة مع وسائط النقل الأخرى، ومدى فاعلية هذا النقل كذلك في مجالات قد لا تكون وسائط النقل الأخرى مجدية فيها .
غير أن قاعد التحديد هذه تعرف لكي لا يرجع الناقل إلى الإطلاقية التي كان يعمل في ظلها، وفي ذلك زيادة لبنة إلى الصرح القانوني الحمائي للشاحن، ومن هذه القيود حالة سوء سلوك الناقل الإرادية أو خطئه العمدي أو إهماله، كما ينبغي على الشاحن إثبات الخطأ أو الإهمال الصادر من الناقل أو أحد تابعيه، وذلك استثناء من القاعدة العامة التي تعفي الشاحن من إثبات الخطأ أو المسؤولية.
أما فيما يتعلق بالاستثناء المتعلق بالتصريح بقيمة البضاعة فيجد مبرره في أن الشاحن قد أدى أجرة النقل بحسب قيمة البضاعة وهو ما مكن الناقل من التأمين على قيمتها ، كما يسري هذا التحديد على تلف البضاعة أو هلاكها ، مما يعني أن تحديد المسؤولية المشمول بالحماية القانونية مناطه أن يكون التلف أو الهلاك قد وقع خلال السلطان الزمني لقواعد القانون البحري المنظمة لقواعد مسؤولية الناقل البحري و خصوصا الفصول من 206 إلى 269 من مدونة التجارة البحرية المغربية الصادرة بموجب الظهير الشريف الصادر بتاريخ 31 مارس 1919 ، وكذلك المواد من 528 إلى 532 من مدونة البحرية التجارية الموريتانية الصادرة بمقتضى القانون رقم 2013/ 029 بتاريخ 30 يوليو 2013 ، مما يعني أنه خارج هذه المرحلة يسترجع الأطراف حريتهم التعاقدية وما تسمح به من شروط لا يقيدها إلا الإخلال بالنظام العام، مما يجعلها على استطاعة تامة لإدراج الشروط التي يرونها مناسبة كل حسب مصلحته.
وعلى أية حال فإن تحديد مسؤولية الناقل البحري تأتي لمصلحة الأطراف في عقد النقل البحري، هي بمثابة صمام أمان للشاحن من تعسف الناقل وتحايله على أحكام قواعد المسؤولية، وذلك بتضمينه شروطا تحدد التعويض في مبلغ زهيد، وهي من جهة أخرى تحمي الناقل من عدم إنصاف القواعد العامة للمسؤولية التي يكتسي فيها التعويض طبيعة تامة.
المبحث الأول: موقف القانون المغربي من التحديد القانوني للمسؤولية
لقد عرف القانون المغربي عقد النقل البحري تعريفا يرتكز على إيجار السفينة، وذلك ما نص عليه الفصل 206 من مدونة التجارة البحرية المغربية في الباب الأول (في إنشاء عقد النقل وفي إثباته) من القسم الأول (في عقد النقل البحري على العموم) من الكتاب الثالث (في النقل البحري و الأخطار البحرية والتأمينات البحرية)، حيث عرف هذا الفصل النقل البحري بأنه ” إيجار السفينة هو العقد الذي بمقتضاه يلتزم مجهزها نحو المرسل بنقل بضائعه إلى ميناء ما ، أو خلال مدة ما ، ومقابل ثمن ما مخصصا لهذا النقل، إما السفينة كلها وإما جزءا منها “.
ومن الملاحظ أن بعض التشريعات وخصوصا التشريع الفرنسي ميز بين عقود مشارطة إيجار السفينة، وعقود النقل البحري، سواء تعلق ذلك بالبضائع والمسافرين، واعتبر كلا منهما مستقلا تماما عن الآخر، له قواعده وأحكامه الخاصة، وذلك لعدة أسباب، منها أن عقود مشارطة الإيجار إنما تتعلق بخصوص البضائع لنقلها من مكان إلى آخر بإيجار السفينة بأكملها أو لجزء منها.
والجدير بالذكر أن القانون المغربي قد اعتبر كل هذه الأنواع من عقود النقل البحري، سواء تعلق النقل بمشارطة إيجار أو تذكرة شحن، وإن كان قد وضعت لكل نوع من هذه العقود قواعد خاصة قد تختلف عن بعضها تماما في بعض النواحي.
وتعد مسؤولية الناقل البحري مسؤولية عقدية قوامها عقد النقل البحري، وبذلك يكون الناقل ملزما بتسليم البضاعة إلى المرسل إليه في ميناء الوصول طبقا للبيانات الواردة بشأنها في سند الشحن، وإلا التزم الناقل بتعويض المرسل إليه عما لحقه من خسارة وما فاته من كسب، استنادا على القواعد المادية في شأن المسؤولية العقدية، وإن كان يرد على هذه القاعدة استثناءا يتمثل في خلو سند الشحن من ذكر قيمة البضاعة، إذ في مثل هذه الحالة تحدد مسؤولية الناقل البحري في مبلغ أقل قيمة من الضرر الحاصل للبضاعة وهو ما يعرف بالتحديد القانوني لمسؤولية الناقل البحري.
وقد تناول المشرع المغربي هذه الحالة و وضع لها حلولا وذلك في الفصل 266 من مدونة التجارة البحرية الذي قضى بأنه ” إذا لم تتضمن تذكرة الشحن تعيين القيمة، فإن مسؤولية المجهز والربان تحدد في 100,000 فرنك عن كل طرد وذلك بالرغم من كل اتفاق مخالف. أما إذا عينت القيمة في تذكرة الشحن فإن المسؤولية تحدد بالقيمة المصرح بها “.
وللوقوف على موقف القانون المغربي تفصيلا بشأن التحديد القانوني لمسؤولية الناقل البحري، فإنني سأتناول هذا الموقف في جزئيتين الأولى منهما تتناول مبدأ التحديد القانوني للمسؤولية والثانية تتناول الاستثناءات الوارد على هذا التحديد القانوني.

المطلب الأول: مبدأ التحديد القانوني للمسؤولية في القانون المغربي
إن الموضوعية (لا بالمعنى القانوني) صفة لا بد أن تتحلى بها القوانين لتحقيق الأهداف التي شرعت من أجلها، وتقتضي الموضوعية مراعاة الظروف الخاصة بكل ميدان يناله التشريع، ولما كانت ظروف النقل البحري جد استثنائية مقارنة مع ضروب النقل الأخرى كان لابد من تعديل القانون العام على نحو يراعي تلك الخصوصية، ووعيا بذلك أقر المشرع المغربي في الفصل 266 من مدونة التجارة البحرية أن مسؤولية الناقل البحري تحدد ب 100.000 فرنك عن كل طرد، شريطة أن لا يحتوي سند الشحن على تحديد لقيمة البضاعة.
ويبرر بعض فقهاء القانون ربط هذا التحديد للمسؤولية بالظروف الخاصة بالملاحة البحرية إذ يقول الفقيه K .Keskin ( إن المسؤولية غير المحددة من شأنها إعاقة النقل البحري، إذ من المعلوم أن المخاطر التي تمثلها الملاحة البحرية جد جسيمة، كما أن قيمة المراكب التجارية والشحنات التي تصل إلى الملايين، وكلما زادت هذه القيمة كلما زادت المخاطر (……) فإذا ما أقرت المسؤولية غير المحدودة فإن مالك السفينة مهدد بأن يخسر كل ثروته و أن يجد نشاطه متوقفا نهائيا ……).
وبالرجوع إلى مقتضيات الفصل 266 من م ت ب يتبين أن المشرع المغربي استعمل عبارة {طرد} في مجال تحديد المسؤولية، وقد أثارت هذه العبارة جدلا فقهيا وقضائيا في تحديد معناها، إلا أنه يستنبط من هذه المادة عند قراءتها أن المبدأ هو التعويض القانوني للشاحن وإن كان هذا المبدأ يرد عليه بعض الاستثناء.

اولا: التعويض القانوني عن الضرر
تبرم أكثر عقود النقل البحري دون الروافع)طبيعة وقيمة البضاعة موضوع النقل لحظة الشحن وفي هذا الفرض تكفل المشرع بتحديد مبلغ التعويض، وذلك بالرجوع إلى مقتضيات الفصل 266 من م ت ب المغربية، حيث يتبين أن المشرع حدد مسؤولية المجهز والربان في مبلغ 100,000 فرنك للطرد الواحد عند عدم التصريح بقيمة البضاعة في سند الشحن وذلك في حالتي الهلاك أو العوار، بالرغم من كل اتفاق مخالف، وبالتالي فإن مقتضيات هذا النص تعد من النظام العام، ولا يجوز لأطراف عقد النقل البحري الاتفاق على تعويض يقل عن الحد الأدنى المنصوص عليه قانونا، وإلا اعتبر ذاك الاتفاق باطلا، إلا أن العوار الخصوصي والهلاك الجزئي لايقبل طلب التعويض عنهما إلا بعد استيفاء الإجراءات اللازمة من احتجاج في الأجل وتبليغه تبليغا قانونيا، حيث نص الفصل 262 من م ت ب المغربية على أنه ” لا تقبل أية دعوى تعويض بسبب عوار خصوصي أو هلاك جزئي ضد الربان أو المجهز أو أصحاب البضائع إذا لم يقع تنظيم احتجاج معلل وتبليغه ، وذلك بواسطة إجراء غير قضائي أو رسالة مضمونة داخل أجل لا يزيد على ثمانية أيام غير محسوبة ضمنها العطلة ابتداء من تاريخ اليوم الذي وضعت فيه البضائع فعليا تحت تصرف المرسل إليه ولم يتبع هذا الاحتجاج بدعوى قضائية داخل أجل تسعين يوما ” .ويسري هذا التحديد على تلف البضاعة أو هلاكها مما يعني أن تحديد المسؤولية المشمول بالحماية القانونية مناطه أن يكون التلف أو الهلاك قد وقع خلا السلطان الزمكاني للرحلة (المرحلة البحرية بالمعنى الضيق أي من الروافع إلى الروافع).
وإذا كان الناقل البحري يحق له التمسك بمبدأ تحديد المسؤولية في حالتي هلاك البضاعة أو عوارها بسبب عدم تضمين قيمتها في سند الشحن، فهل يحق له التمسك أيضا بالمبدأ المذكور في حالة التأخير عن ميعاد تسليم البضاعة إلى المرسل إليه؟
إن المشرع المغربي في الفصل 217 من م ت ب المغربية قد ذكر إمكانية تعويض المرسل إليه عن الأضرار التي لحقته جراء تأخر الناقل عن ميعاد تسليم البضاعة وذلك بقوله ” إن الطرف الذي يتسبب في توقف السفينة أو تأخرها عند الإقلاع أو خلال السفر أو في مكان التفريغ يكون ملزما بأداء تعويض للطرف الأخر ” هذا ولم يحدد المشرع مقدار هذا التعويض، لذلك يبقى التساؤل قائما حول إمكانية تمسك الناقل البحري بمبدأ تحديد المسؤولية في حالة التأخير في تسليم البضاعة وعدم تضمين قيمتها في سند الثمن.
ثانيا: آليات حساب التعويض
بناء على المادة 266 من ظهير 31 مارس 1919 إذا لم يبين الشاحن في سند أو وثيقة أو تذكرة الشحن قيمة البضاعة المشحونة، وجب عندئذ تطبيق المعايير والضوابط المقررة في النصوص التشريعية، لحساب مقدار التعويض المستحق للشاحن أو المرسل إليه أو غيرهما ممن له الحق على البضاعة، وذلك في حالة الهلاك أو الضياع أو العوار.
وانطلاقا من الفصل 266 آنف الذكر نلاحظ أن الضابط الرئيسي في تحديد وحساب التعويض في حالة عدم التصريح بالقيمة في سند الشحن يتمثل في الطرد (Colis) والذي هو: وحدة البضاعة المعبأة في أغلفة، والعبرة في العدد والترقيم المثبت في سند الشحن ، بمعنى أنه إذا جمعت الطرود المشحونة في صناديق أو غيرها كأربطة مثلا، وذكر في سند الشحن عدد الطرود التي تشملها هذه الرزم، اعتبر كل من هذه الرزم طردا مستقلا فيما يتعلق بتعيين تحديد المسؤولية.
وهذا تماما ما أعتبره القضاء المغربي وسار عليه في حكم صادر عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، حيث أقرت بأنه: يتعين الاستجابة لدفوعات الناقل البحري الرامية إلى تطبيق أحكام الفصل 266 ق ت ب باعتبار ان وثيقة الشحن تضمنت بيانات عن الرسالة البحرية، فأشارت إلى أن النقل يهم أربعة أحمال، فتعد بالتالي طرودا، باعتبار أن الطرد هو وحدة البضاعة المشحونة معبأة في أغلفة، والأساس هو أن تحمل كل واحدة رقمها وعلامتها المميزة.
وفي نطاق الفقه يقرر الأستاذ عبد الرحمان بلعكيد أن الطرد يعني الوعاء الذي توضع فيه البضاعة والغلاف الذي تغلف به، فالصناديق أوعية تعبأ فيها الخضروات أو الفواكه مثلا، فهي طرد و الأكياس التي يعبأ فيها الأسمنت أو الجبس طرودا ، والبراميل التي تعبأ فيها السوائل طرودا ، فالطرد إذا ـــ حسب بلعكيد ــ يعني البضاعة المغلقة التي تظهر في شكل وحدات مستقلة ، فالتغليف يطبع ظاهر الطرد ويكون ميزته الأساسية .
وتأسيسا على ذلك وتطبيقا له حكمت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في حكمها الصادر بتاريخ 22 نوفمبر 1993 بأنه : ” ثبت للمحكمة بعد دراستها لمحتويات وثائق ملف النازلة ، أن وثيقة الشحن خالية مما يفيد التصريح بقيمة البضاعة ، وأن عدد الطرود المنقولة محدد في 235 طرداً ، وأن الذي أفرغ منها هو 234 طرداً ، بذلك يكون العوار محدداً في طرد واحد ، وحيث أن مقتضيات الفصل 266 من ق ت ب هي الواجبة التطبيق في هذه الحالة ، والتي تحدد مسؤولية الربان في مبلغ 1000 درهم عن كل طرد ، بالرغم من كل اتفاق مخالف ، وأن ما أثارته المدعية من كون وثيقة الشحن تتضمن الإشارة إلى أن بيان الفاتورات غير صحيح ، وحيث أن المدعية تستحق كذلك صائر الخبرة وصائر البيان ( …..) وحيث يتعين والحالة هذه القول بأن الحكم المستأنف قد صادف الصواب فيما قضي به، في حدود ألف درهم (1000) المحدد بمقتضيات الفصل 266 من ق ت ب، و مبلغ 2994 درهم ، مما وجب معه تأييده فيما قضي به ” .
وصفوة القول أن مفهوم الطرد يدل على كل وحدة من وحدات البضاعة المنقولة أو المعدة للنقل تحمل رقما خاصا وعلامات مميزة لها عن بقية الوحدات الأخرى، وأن تتجه نية الناقل والشاحن إلى اعتبار هذه الوحدة طردا عند احتساب التعويض المستحق وأن تكون مغلفة بقصد حمايتها أثناء الشحن والتفريغ والنقل.

المطلب الثاني: الاستثناءات الواردة على التحديد القانوني
يستند التعويض في مسؤولية الناقل البحري أساسا على ما يحتويه سند الشحن من بيانات وتحفظات بشكل عام، وعلى ذلك الأساس يتنزل التحديد القانوني لمسؤولية الناقل البحري كقواعد تكميلية تندرج ضمن آليات التعويض، غير أنه توجد حالات لا يعمل فيها بالتحديد القانوني وهي :
أولا: حالة تضمين سند الشحن قيمة البضاعة:
حيث نصت المادة 266 من القانون البحري على أن “الناقل لا يلزم إلا بمبلغ 100.000 فرك للطرد الواحد ثم أشارت إلى أنه إذا عينت القيمة في تذكرة الشحن فإن المسؤولية تحدد بالقيمة المصرح بها ” مما يعني أن الشاحن إذا حدد قيمة البضاعة في سند الشحن فإن الناقل ملزم بتعويض الضرر كاملا طبقا لقيمة البضاعة المذكورة ، ويرجع السبب في ذلك إلى أن الشاحن بتضمينه قيمة البضاعة في سند الشحن يكون قد نبه الناقل إلى نوع البضاعة المراد نقلها حتى يتخذ الاحتياطات الكافية للعناية بها والحفاظ عليها أو أن يقوم بدوره بالتأمين عليها إذا كانت قيمتها عالية.

ثانيا: حالة التصريح الكاذب لنوع البضاعة وقيمتها:
حيث نص الفصل 269 من ق ت ب على أنه “يعاقب بالعقوبات المنصوص عليها في الفصل 450 من القانون الجنائي كل شخص خدع أو حاول خداع مجهز السفينة أو تابعيه حول نوع البضائع المشحونة أو قيمتها أو كميتها وذلك بواسطة تصريح صادر عن سوء نية ومدرج في تذكرة الشحن، لكن حيثما كان التصريح الخاطئ صادرا عن حسن نية فإن الجزاء الذي يترتب على ذلك يكون هو وجوب أداء أجرة النقل مضاعفة”.

ثالثا: حالة التدليس والخطأ الجسيم الصادر عن الناقل أو أحد تابعيه:
وقد أثارت هذه الحالة تساؤلا ، حول ما إذا كان الناقل يستفيد من مبدأ التحديد القانوني للمسؤولية إذا كانت الأضرار التي لحقت البضاعة ناتجة عن التدليس أو الخطأ الجسيم، أم تدخل مسؤوليته في نطاق القواعد العامة والتي تفضي بمساءلته عن الضرر بأكمله، وقد استقر فقهيا على أنه لا يجوز للناقل أن يتمسك بمبدأ التحديد القانوني للمسؤولية في حالة التدليس الصادر عنه أو عن تابعيه لمنافاة ذلك مع المقتضيات القانونية التي تلزم الناقل البحري بتنفيذ عقد النقل بصدق وأمانة، وهذا بالضبط ما يستشف من نص الفصل 269 من م ت ب الآنف الذكر.
أما الاتفاق على رفع التحديد القانوني للمسؤولية فإن نص الفصل 266 صريح في منعه وبطلانه (على خلاف المشرع الموريتاني في الفقرة الثانية من المادة 520من مدونة البحرية التجارية الموريتانية) وذلك حين نص بهذه الصياغة ” إذا لم تتضمن تذكرة الشحن تعيين القيمة، فإن مسؤولية المجهز والربان تحدد في 100,000 فرنك عن كل طرد وذلك بالرغم من كل اتفاق مخالف. أما إذا عينت القيمة في تذكرة الشحن فإن المسؤولية تحدد بالقيمة المصرح بها «. فعبارة (تحدد) واضحة وجلية المعنى، إذ أنه لا تزيد ولا تنقص عن 100.000 فرنك ، أما جملة ( بالرغم من كل اتفاق مخالف ) فقد جاء بها المشرع للتوكيد وبطلان أي مقتضى يزيد أو ينقص عن التحديد المذكور .

المبحث الثاني: موقف القانون الموريتاني من التحديد القانوني للمسؤولية
انطلاقا من أن القانون الموريتاني قد جعل التزام الناقل البحري التزاما بتحقيق نتيجة ـ خلافا لاتفاقية ابر وكسل ـ وذلك وفقا لما نصت عليه المادة 504 من مدونة البحرية التجارية الصادرة 30 يوليو 2013 ، والتي تقضي بأنه ( يلتزم الشاحن بموجب عقد النقل البحري بتسديد تعرفة شحن محددة للناقل ، كما يلتزم هذا الأخير بإرسال بضاعة محددة من نقطة الشحن حتى نقطة التسليم …) وبالرغم من أن المشرع الموريتاني قد خالف اتفاقية بروكسل في طبيعة التزام الناقل البحري ، حيث أقر بأنها تحقيق نتيجة ، لا مجرد بذل عناية ،فإنه قد أحال على هذه الاتفاقيات في خصوص تقدير التعويض عن الضرر ، ففي الوقت الذي قررت فيه اتفاقية ابر وكسل أن التعويض يكون بمائة جنيه عن كل طرد أو وحدة فإن المشرع الموريتاني قد أحال على هذه المقتضيات في المادة 529 من مدونة البحرية التجارية ، التي تقرر أنه (تحدد مسؤولية الناقل بالنسبة للخسائر و الأضرار ، بالمبالغ التي تضمنتها الاتفاقيات الدولية فيما يخص وثائق الشحن ….) .
والحالة الشائعة والعادية هي أن يتم النقل دون التصريح بقيمة البضاعة عند الشحن، وفي هذه الحالة فإن المشرع تكفل بتحديد مبلغ التعويض معتمدا في ذلك على أسس يراها مناسبة، غير أن القضاء رهن استفادة الناقل من هذا التحديد القانوني، بعدم إتيانه بخطأ .
وردا على السؤال المحتمل من وجهة نظر المشرع الموريتاني، هل يجوز الاتفاق على مبلغ أعلى أو أقل من المبلغ المحددة قانونا كتعويض عن الضرر الحاصل للبضاعة؟
يمكن القول أن المادة 530 من مدونة البحرية التجارية الموريتانية تقرر في فقرتها الأولى أنه (يعتبر باطلا وبدون مفعول أي بند يهدف بشكل مباشر أو غير مباشر إلي: إعفاء الناقل من المسؤولية أو تحديد مسؤوليته بمبلغ يقل عن ما هو محدد في المادة 529 …) ،
كما أن المادة 529 وخصوصا في الفقرة الثانية أجازت للناقل والشاحن الاتفاق على مبلغ أعلى وأكبر مما هو محدد قانونا، وفي الفقرة الخامسة 1 و2 أعطت إمكانية الخروج على قاعدة التحديد في فروض معينة.
وجدير بالذكر أن الأضرار التي تقصد هنا هي الاضرار الناتجة عن تلف أو عور للبضاعة عينها، أما الضرر الناتج عن التأخير فليس من مشمولات مبدأ تحديد المسؤولية، وبالتالي يحق للأطراف أن يدرجوا الشروط المناسبة التي تبررها الحرية التعاقدية من جهة والمصلحة من جهة أخرى.

المطلب الأول: مبدأ التحديد القانوني للمسؤولية في القانون الموريتاني
يتخذ قانون الملاحة التجارية الموريتاني من قيمة البضاعة في يوم ومكان تفريغها أو في اليوم أو المكان الذي كان يفترض تفريغها فيه ، وذلك ما نصت المادة 529 فقرة 3 بقولها (يحتسب المبلغ المستحق استنادا إلى قيمة البضائع في يوم ومكان تفريغها حسب العقد أو في اليوم أو المكان الذي كان يفترض تفريغها فيه)، رغم أننا نجد بعض التشريعات الأخرى كالقانون الفرنسي الصادر 2 0 ابريل 1936 في المادة الخامسة اتخذ من الطرد أو الوحدة أساسين لتحديد التعويض ، حيث تقرر هذه المادة أنه ” لا يمكن في أي حال أن يتجاوز مبلغ التعويض في حالة الضرر الحاصل للبضاعة 8000 فرنك للطرد أو الوحدة إلا في حالة التصريح بطبيعة البضاعة وقيمتها من طرف الشاحن قبل الشحن و إدراج التصريح في سند الشحن وهي قرينة ضد الناقل إلى أن يثبت عكسها ” ولم يتناول هذا القانون الكيلوغرام كوحدة لحساب التعويض ، كما ذهبت إلى ذلك بعض التشريعات ، ولم يتعرض للمستوعبات كمقترب عصري للنقل .
ولم تتطرق مدونة البحرية التجارية الموريتانية ولا القانون التجاري العام الموريتاني لتعريف الوحدة أو الطرد ، وإنما نجد جل تعريفاته في فقه القضاء و مؤلفات الباحثين ، حيث نجد محكمة Besançon قد عرفت بأنة ” كل شيء ذي حجم صغير يمكن نقله باليد أو عند الاقتضاء بمنقلة أو بثلاثية حاملة ” ، إلا أن هذا المعيار يوصف بعدم الدقة ، وعليه فإن التعريف الفقهي و التشريعي هو الذي يقضي بأن الطرد هو ” عنصر من الحمولة يعرف بالعلامات المميزة ويضمن في سند الشحن الذي حرره الناقل عند تسلمه البضاعة في عهدته بغض النظر عما إذا كان مغلفا أو مصندقا ” ، وقد قررت محكمة Rouen التجارية أن عبارة الطرد الواردة في اتفاقية بروكسل تعني في لغة المهتمين بمجال النقل البحري كل بضاعة منفصلة أو منفردة أعطيت للناقل كما هي مهما كان وزنها أو حجمها ,
أما الوحدة فتطرح إشكالا على مستوى التعريف أكثر مما تطرحه عبارة الطرد فقد حاولت محكمة النقض الفرنسية تحديدها وذلك بتقريرها أن الوحدة هي مجموعة الطرود المجموعة في شكل منفرد وليس المستوعبة ، وقد أطلق بعض الفقه هذا المصطلح على البضائع التي تنقل صبا دون ترتيب كالحبوب مثلا ، بينما يرى البعض الآخر أنها تخص وحدة الوزن أو الحجم المثبتة في سند الشحن ولو كانت أجرة النقل تستوفى على أساس آخر ، وهنالك من يذهب إلى تطبيق الوحدة على البضائع المشخصة في سند الشحن ، فقد يحصل أن يتضمن السند الوزن الإجمالي للبضائع المنقولة ، وبالتالي عدد الطرود التي تتكون منها هذه الحمولة ، ففي هذه الحالة يعمل بالطرد لحساب التعويض بدلا من الوزن الإجمالي الذي يهم تحديد أجرة النقل دون التعويض ، وقد أتجه القضاء إلى ثلاث نظريات في هذا المجال وهي :
ــــ الوحدة المادية المشار إليها في سند الشحن.
ـــــ وحدة الأجرة كما هي مشار إليها صراحة.
ـــــ الوحدة العادية لأجرة النقل المحددة بمقتضى العادة.
وقد تمسك القضاء الفرنسي بالنظرية الأولى إذ قضت محكمة النقض الفرنسية بحساب التعويض على أساس الكيلوغرام اعتمادا على ما ورد في سند الشحن الذي يتضمن الإشارة إلى عدد الكيلوغرامات المنقولة ، وإذا كان هذا المعيار من شأنه أن يجعل الأطراف على اطلاع وبصورة مسبقة على مبلغ التعويض استنادا إلى مقتضيات موضوعية ، غير أن الانتقاد الذي يوجه إلى هذا المعيار أنه يأخذ بوحدة الوزن الشيء الذي لا يتلاءم ودرجة الضرر ، كما أنه لا يمكن أن يطبق على البضائع الضخمة كالسيارات و الشاحنات و الآلات الثقيلة ، وعليه فقد قضت محكمة Le Havre أن الشاحنة التي تحطمت على الرصيف نتيجة سوء قيادة الرافعة عند الشحن والتي عوض عنها الناقل مبلغ 1000 فرنك ، فإن الشاحن أقام دعوى يطالب فيها الأخذ في الاعتبار الوزن الإجمالي للشاحنة ، ولكن المحكمة رفضت الطلب بالرغم من أن السند يتضمن وزن البضاعة فاعتبرتها بمثابة وحدة ، غير أنها عدلت عن ذلك و قررت أن السيارة المنقولة دون تغليف لا تعتبر طردا في مفهوم اتفاقية بروكسل ، وقضت بالأخذ بالمسؤولية القصوى المحددة بمقتضى الوحدة الواردة في السند ( الطن ).
أما المعيار المتعلق بوحدة الأجرة كما هي مشار إليها صراحة فسيؤدي إلى منح تعويض يختلف بحسب ما إذا كان سيؤخذ الوزن الإجمالي أو بعدد الكيلوغرامات، أما بخصوص معيار الوحدة العادية لأجرة النقل المحددة بمقتضى العادة فإنه وإن كان أكثر معقولية إلا أن التعويض هنا يخضع لمتغير العادة التي تختلف من ميناء إلى آخر خصوصا في الموانئ الحديثة التي لم تستقر بعد على عادات في هذا المجال نظرا لضعف العادات المينائية، وضآلة الممارسة البحرية في البلد.
وهكذا نجد أن قواعد المسؤولية قد وفرت للناقل والشاحن على حد السواء حماية تكفل للأول الاستمرار في مشروعه الاقتصادي وتحتفظ للثاني بمستوى من الحماية القانونية التي تتجسد بشكل أوضح في حالة الخطأ الجسيم أو سوء التصرف أو الإهمال الصادر عن الناقل وكذلك التصريح بقيمة البضاعة من طرف الشاحن وإدراج ذلك التصريح في سند الشحن.

المطلب الثاني: الاستثناءات الواردة على التحديد القانوني
لئن كانت المادة 529 من مدونة البحرية التجارية الموريتانية قد حددت مبلغ التعويض المتعلق بالتحديد القانوني فإنها تركت المجال لاتفاق الأطراف وذلك عند التصريح بقيمة البضاعة ، حيث قررت أن ” تحد مسؤولية الناقل بالنسبة للخسائر و الأضرار بالمبالغ التي تضمنتها الاتفاقيات الدولية فيما يخص وثائق الشحن ، مع ذلك يمكن للناقل أو القبطان أو وكيل الناقل و الشاحن أن يوافق على مبلغ أكبر ……” إلا في حالة التصريح بطبيعة البضاعة وقيمتها من قبل الشاحن وإدراج ذلك التصريح في سند الشحن مما يشكل قرينة في وجه الناقل يمكنه إثبات عكسها ( المادة 529 فقرة 5 ).
كما أن المادة 529 من مدونة البحرية التجارية الموريتانية تعرضت لحالة خطأ الناقل التدليسي أو إهماله حيث قررت أنه ” لا يمكن للناقل أن يتذرع بالاستفادة من حد المسؤولية المشار إليه في الفقرتين 1 و2 إذا ثبت أن الضرر ناتج عن إغفاله أو بفعل ارتكبه بنية إحداث هذا الضرر أو ارتكبه عمدا ووعيا بأن مثل هذا الضرر سيقع على الأرجح ”

أولا: حالة التصريح بقيمة البضاعة
لا يعمل بالتحديد القانوني للتعويض إذا تم التصريح بالقيمة التي تم تضمينها بسند الشحن، ما لم يقم الدليل العكسي على ذلك، وكذلك في حالة الاتفاق على مبلغ يفوق هذا الحد، حيث تقرر المادة 529 من مدونة البحرية التجارية الموريتانية في الفقرة الثانية أنه ” مع ذلك يمكن للناقل أو القبطان أو وكيل الناقل والشاحن أن يوافق على مبلغ أكبر ….. ” كما قررت في الفقرة الخامسة أنه ” لا يمكن للناقل أن يتذرع بالاستفادة من حد المسؤولية المشار إليه في الفقرتين 1 و2 إذا ثبت أ الضرر ناتج عن إغفاله أو بفعل ارتكبه بنية إحداث هذا الضرر أو ارتكبه عمدا ووعيا بأن مثل هذا الضرر سيقع على الأرجح، في حال تصريح الشاحن بقيمة مدمجة في سند الشحن ومقبولة من طرف الناقل، ويمكن التحجج بهذا التصريح ضد الناقل إلا إذا أثبت عكس ذلك “.
وإذا كان التصريح بقيمة البضاعة يمكن الأطراف من الخروج عن القاعدة العامة في مجال تحديد مسؤولية الناقل، بل إنه يخول لهما على حد السواء أن يتفقا على تعويض كامل وهو ما يخدم مصلحة ذوي الحق في تسلم البضاعة، غير أن ذلك مشروط بالتصريح في سند الشحن بقيمة البضاعة ونوعها،
ولكي يكون التصريح منتظما يجب أن تتوفر فيه شروط شكلية وأخرى موضوعية:

1 ـ الشروط الشكلية للتصريح
لقد حددت المادة 529 من مدونة البحرية التجارية الموريتانية الشروط الشكلية اللازمة في التصريح عن قيمة البضاعة ونوعها، وذلك لاستحقاق التعويض الكامل، وتتمثل هذه الشروط في تضمين التصريح في سند الشحن أو وثيقة النقل، وأن يكون هذا التضمين قبل عملية الشحن.
أ ـ إدراج التصريح في سند الشحن:
إن كون سند الشحن ممثلا للبضاعة يعني بداهة أنه ينبغي أن يتضمن كل المعلومات المتعلقة بالبضاعة لاسيما تلك التي قد تؤثر في قيمتها كالتصريح بقيمتها والذي على أساسه سيتم تحديد مبلغ التعويض في حال تلف البضاعة أو تعيبها أو عورها.
وعلى اعتبار أن التصريح بقيمة البضاعة يخول إمكانية الخروج على القاعدة المتعلقة بمبدأ تحديد المسؤولية، فإنه يعتبر استثناء من القاعدة، ولا ينبغي التوسع في تفسيره ، مما يعني أنه يلزم أن يكون مدرجا في سند الشحن ، ولا تكفي في التصريح بالقيمة الإشارة في بوليصة التأمين إلى قيمة البضاعة ، حيث قررت محكمة استئناف Rouen أنه في غياب التصريح بالقيمة عند الشحن في سند الشحن فإنه ينبغي تطبيق التحديد القانوني المنصوص عليه في المادة 4 /5 من اتفاقية بروكسل.
ب ـ التصريح قبل الشحن:
تعتبر عملية الشحن مرحلة حاسمة في وضعية البضاعة إذ أنها مرحلة تحرير سند الشحن وتحديد المسؤوليات في الوقت المناسب ، وعليه فإن وقت شحن البضاعة يعتبر الوقت المناسب لإبداء وإدراج كل ما يلزم في سند الشحن ، خصوصا وأن الشاحن عند التصريح بقيمة البضاعة سيدفع ثمن نقل إضافي للتأمين على البضاعة قبل شحنها ، ولذلك فإن التصريح لا يمكن أن يقع إلا قبل الشحن ، ولكن التصريح قد لا يتم إلا بعد شحن البضاعة ، وهنا يكون الناقل أمام خيارات مفتوحة ، فإن رفض التصريح لأن التأكد من صحته سيؤخر الرحلة البحرية ، وإن شاء وافق على التصريح ــــ وهو أمر غير متوقع ـــــ وعندها يرتب نفس الآثار التي يرتبها التصريح المنتظم .

 

2 ـــ الشروط الموضوعية للتصريح:
لكي يكون التصريح منتظما لا بد من توفر شرطين يتعلق أولهما بقبول الناقل لهذا التصريح، أما الثاني فيرتبط بمضمون التصريح:
أ ــــ قبول التصريح من قبل الناقل: قد يدرج الشاحن تصريحا بقيمة البضاعة ويكون هذا التصريح واقعيا أو موضوعيا مما لا يستدعي استغراب الناقل، وبالتالي يوافق عليه، غير أنه في بعض الحالات يصرح الشاحن بقيمة البضاعة بشكل يكون مدعاة للريبة والاستغراب، مما يجعل الناقل تحوم شكوكه حول مدى واقعية القيمة المصرح بها، وهو ما يؤدي به إلى إدراج تحفظات في سند الشحن.
إلا أن الناقل قد ينسى إدراج التصريح في سند الشحن أو يتعمد تركه لأسباب تهمه من أوضحها تملصه من التعويض الكامل، ففي الحالة الأولى فإنه يكون ملزما بالتعويض الكامل الناتج عن التصريح المنتظم، أما في الحالة الثانية فإنه يلزم بالتعويض وفق مقتضيات القواعد العامة.
ب ـــــ مضمون التصريح: يلزم أن يتضمن التصريح قيمة البضاعة ونوعها حسب مقتضيات الفقرة الخامسة من المادة 529 من مدونة البحرية التجارية الموريتانية، وإن كان هذا الشرط ينضم إلى المقتضيات الحمائية للشاحن، فإنه كذلك يخدم الناقل حيث يمكنه من اتخاذ الإجراءات اللازمة لنقل هذه البضاعة في الظروف المناسبة، كالتأمين عليها ورصها بطريقة تجعلها في مأمن من الضرر والمحافظة عليها.
وقد استقر الفقه والقضاء على أن عناصر محتوى التصريح ذات طبيعة تخييرية، حيث اكتفى بإدراج قيمة البضاعة دون نوعها في سند الشحن ليستحق الشاحن بذلك التعويض المتفق عليه.

ثانيا: آثار التصريح
تختلف الآثار التي يرتبها التصريح من حالة ما إذا كان تصريحا منتظما مطابقا لقيمة البضاعة وحالة ما إذا كان تصريحا تغريريا أو خاطئا.
1 ـ آثار التصريح المنتظم:
إن التصريح الذي استكمل الشروط الشكلية والموضوعية السالفة يمكن الشاحن من الحصول على التعويض المتفق عليه واستبعاد التحديد القانوني لمسؤولية الناقل البحري، غير أن هذا الحل لا يعمل به إلا إذا كان الهلاك كليا، أما إذا كان الهلاك جزئيا فإنه يعمل بقاعدة النسبية والتي مفادها أن التعويض المتفق عليه يشمل فقط النسبة الهالكة.
2 ـ آثار التصريح الخاطئ
إذا كانت الاتفاقيات الدولية قد رتبت على التصريح الخاطئ خطأ عمديا يفقد الشاحن حقه في كل تعويض، فإن التصريح الخاطئ الصادر عن حسن نية لا يجيز من وجهة نظرها للناقل التمسك في مواجهة الشاحن بالإعفاء من المسؤولية، فإن القانون يرتب على التصريح الخاطئ عن حسن نية إمكانية تمسك الشاحن بالتعويض المتفق عليه.
رغم أن القضاء الفرنسي قرر في بعض أحكامه عدم إمكانية الاحتجاج على الغير بالتصريح الخاطئ حيث جاء في حكم محكمة استئناف Montpellier أن الناقل البحري لا يمكنه الاحتجاج بالتصريحات الخاطئة للشاحن في مواجهة المرسل إليه أو حامل السند، وذلك ما تقرره المادة 531 من مدونة البحرية التجارية الموريتانية التي تقرر أنه ” عندما يتقدم الشاحن بتصريح غير صحيح حول طبيعة أو قيمة البضاعة فإن الناقل غير مسؤول عن الخسائر أو الأضرار التي تتعرض لها ” .
أما إذا كان التصريح الخاطئ عن قصد فإن ذلك يترتب عليه عدم مسؤولية الناقل البحري، وقد يعتد بهذا التصريح المخطئ في مواجهة الغير في رأي البعض ، غير أن هذا الغير يمكنه الرجوع بدعوى الضمان على الشاحن.

ثالثا: التدليس والخطأ الجسيم
قررت المادة 529 من مدونة البحرية التجارية الموريتانية أنه ” لا يمكن للناقل أن يتذرع بالاستفادة من حد المسؤولية المشار إليه في الفقرة 1 و2 إذا ثبت أن الضرر ناتج إغفاله أو بفعل ارتكبه بنية إحداث هذا الضرر أو ارتكبه عمدا و وعيا بأن مثل هذا الضرر سيقع على الأرجح ” كما قررت 1188 من القانون التجاري الموريتاني في فقرتها الأخيرة أنه ” إذا صدر عن الناقل تدليس أو خطأ جسيم طبقت لتقدير قيمة الضرر قواعد المسؤولية التقصيرية ” كما قررت المادة 1189 من القانون التجاري الموريتاني في فقرتها الأخيرة كذلك أنه ” إذا صدر عن الناقل أو أعوانه خطأ أو تدليس ، طبقت لتقدير قيمة الضرر قواعد المسؤولية التقصيرية ” وقد قررت نفس المقتضى المادة الثانية / ه من بروتوكول تعديل اتفاقية بروكسل لسنة 1968 وكذلك المادة 7/1 من اتفاقية هامبورغ التي تقرر أنه ” لا يجوز للناقل أو السفينة الاستفادة من تحديد المسؤولية المنصوص عليه في هذه الفقرة إذا ثبت أن الضرر قد نشأ عن فعل أو امتناع صدر من الناقل سواء بقصد إحداث الضرر أو بعدم اكتراث مع علمه باحتمال وقوع الضرر ” .
أما القضاء الفرنسي فقد أكد أن التدليس كالغش يخرج عن كل القواعد ويشكل استثناءات من التحديد القانوني ، وقد عرفت محكمة النقض الفرنسية في قرارها الصادر 4 فبراير 1969 التدليس بأنه (من المعلوم أن المدين يرتكب خطأ التدليس عندما يرفض عمدا تنفيذ التزاماته التعاقدية، حتى لو لم يكن هذا الرفض بدافع نية الإضرار بالمتعاقد معه).
أما الخطأ الجسيم فهو كما عرفه ﺍﻟﻔﻘﻴﻪ “بوتييه بأنه “ﻋﺩﻡ بذل العناية بشؤون الغير بصورة لا تصدر من أقل الناس حرصا وأشدهم غباء في شؤونهم الخاصة، وهذا الخطأ يتعارض مع مبدأ حسن النية ” أو هو السلوك الذي يكشف إما عن منتهى البلاهة أو التهاون، أو إما عن اللامبالاة اتجاه الأخطار التي تنشأ عن ذلك السلوك.
وقد حاول مرة القضاء الفرنسي قياس الخطأ الجسيم بالخطإ التدليسي ومنع الناقل من الاستفادة من التحديد القانوني للمسؤولية ، ولكن محكمة النقض الفرنسية في غرفتها المجمعة رفضت ذلك حيث جاء في قرار لها أنه ” إذا كان التدليس كالغش يخرج عن كل القواعد ويشكل استثناء على التحديد القانوني للمسؤولية ، فإن العبارات العامة و الملزمة للمادة 5 من قانون 02 ابريل 1936 تستبعد أي تشبيه للخطأ الجسيم بالتدليس “، ولقي هذا الحكم قبولا لدى الفقه حيث يرى العميد Rodiere أن موقف محكمة النقض موقف موفق وصائب ـ ذلك أن التشبيه التقليدي للخطأ الجسيم بالتدليس ليس مقبولا دائما في النقل البحري ، خاصة وأن قانون 02 ابريل 1936 أقام نظاما خصا للقواعد المتعلقة بالمسؤولية ، كذلك فإن تشبيه الخطأ الجسيم بالتدليس هو تعديل للموازنة القانونية القائمة بين الناقل والشاحن ، كما أن التقريب بين الخطأ الجسيم والتدليس على أساس أن الخطأ الجسيم يخرج عن الحدود الاتفاقية للمسؤولية مرفوض بحكم أن قانون 02 ابريل 1936 يشكل كلا متكاملا .
غير أن ما ذهب إليه العميد Rodiere وما توصلت إليه المحكمة من خلال قرارها السابق لا يتماشى مع الضمانة التي تقرها النصوص المتعلقة بالنظام العام لصالح الشاحن أو المرسل إليه ، وهو مالا ينسجم كذلك مع صياغة الفقرتين الأخيرتين من 1188 و 1189 من القانون التجاري الموريتاني اللتين تعتبران أن الخطأ الجسيم والتدليس سببين كافيين لحصول الشاحن على التعويض الكامل وفق مفهوم القواعد العامة ، وهو الاتجاه الذي سلكته محكمة استئناف Rouen في قرارها بتاريخ 24 فبراير 1964 حينما قررت أن نقل الحيوانات الحية في ظروف بحرية غير ملائمة لكثرة العواصف الاضطرابات البحرية التي كان الناقل على علم بها قبل تنفيذه لعقد النقل يعتبر خطأ جسيما يعادل التدليس الذي لا يغتفر .
هذا وتنضاف إلى حالة التصريح بالقيمة وحالة التدليس والخطأ الجسيم حالة الاتفاق على رفع مبلغ التعويض عن الحد القانوني إ يعتبر بمثابة تصريح بالقيمة، وحالة الرص غير المنظم، وحالة إصدار ورقة ضمان غير منتظمة بقصد الإضرار بمصالح الغير التي قبلها الناقل.

الخاتمة
صفوة القول فإن تحديد مسؤولية الناقل البحري كونه يشكل عوارض تحقق الدفع الجزئي للمسؤولية يتكون من طبيعة مزدوجة، فهو من النظام العام في حدوده الدنيا، بحيث لا يجوز للمتعاقدين الاتفاق على أقل منه، ويكون بذلك على المحكمة التي تنظر في النزاع أن تطبق من تلقاء نفسها تحديد المسؤولية دون توقف على تمسك الناقل بذلك. وهو ليس من النظام العام في حدوده القصوى، بحيث يجوز لطرفي العقد اشتراط أكثر من ذلك الحد، ويكون بذلك على صاحب البضاعة – إذا أراد أن يأخذ تعويضا أكبر من ذلك المحدد قانونا، واستبعاد التطبيق التلقائي لذلك الحد من طرف القاضي – أن يثبت مثل ذلك الاتفاق وأن يتمسك به .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى