التطليق للضرر في ضوء احكام مدونة الاسرة : سلسة الابحاث الجامعية و الأكاديمية العدد 28 يناير 2020
أحاط الشارع الإسلامي صرح الأسرة بعناية كبيرة، وكيف لا وهي اللبنة الأساسية للمجتمع، حيث تعنى بدور مركزي في إصلاح الأمة وازدهارها، ويتضح هذا الاهتمام من خلال الأحكام التي سنها لله تعالى في كتابه المكنون وأقر بها نبيه في سنته العطرة.
فلقد جنح الإسلام إلى إعطاء تعريف للأسرة بشكل عام، وهذا التعريف لا يكاد يبتعد كثيرا عن ذاك المقرر في العلوم الإنسانية، حيث عرفها بكونها الوحدة الأساسية والرئيسية التي يتأسس عليها بنيان المجتمع وكيانه، فهي حاضنة الأفراد حيث لها أدوار لعل أهمها تكريس قيم الأخلاق السامية والمثل العليا والمبادئ الدينية، فينشأ مجتمعا متكاملا متراحما كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداع له سائر الجسد بالسهر والحمى[1].
وبخصوص التعريف الذي ذهبت إليه بعض الحقول المعرفية لمؤسسة الأسرة[2]، فبالعودة إلى علم الاجتماع، نجده يعرفها على أنها تلك الوحدة التي تقوم على عنصرين، أحدهما علاقة نسبية باعتبارها تجمع بين طرفين على الأقل وهي على ضروب مختلفة، الأصل فيها العلاقة الزوجية وسواها متفرع منها كعلاقة الأبوة وعلاقة البنوة وعلاقة الأخوة، والعنصر الثاني هو الخلق…، فالأسرة هي منشأ العلاقات الأخلاقية بين الناس بحق، بحيث لا علاقة إنسانية بغير أخلاق ولا أخلاق بغير أسرة[3]. فنظرا للدور الذي تتبوؤه الأسرة فقد كرس علماء الاجتماع علما يعنى بها بكل جلاء، ونقصد في هذا الصدد علم الاجتماع الأسري[4].
فإذا كانت نظرة الشرع الإسلامي ومعه بعض العلوم الإنسانية للأسرة على النحو الذي أسلفنا ذكره، فهذه المؤسسة تجد لها صدا عميقا خصوصا في المنظور القانوني والحقوقي سواء الداخلي[5] ، أو الأممي[6]. وحتى في العلاقات الدولية الخاصة [7]، حيث خصصت كلها تنظيما محكما لهذا الصرح، كما بينت ما له من حقوق[8] وما عليها من واجبات.
فإذا كانت الأسرة عماد المجتمع وأساسه، فهذه الأخيرة لا تتأسس إلا بالزواج، حيث اعتنت مختلف الشرائع السماوية به[9]، ومنها الشريعة المحمدية، ففي التنزيل وردت آيات بينات كثيرة تعنى بالزواج لعل أهمها تلك التي أنزلها الله تعالى عندما خلق آدم عليه السلام، وكون له أسرة عندما خلق له حواء، وبزواج الاثنين تكون أول أسرة على وجه الأرض، وفي هذا المقام يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً﴾[10]، كما يقول رب العزة في الذكر الحكيم: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[11]، وكذلك يقول جلة قدرته: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ﴾[12]، وقوله جل وعلا: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[13]، وقوله وهو أحكم الحاكمين: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُون﴾[14].
فالزواج في المنظور الشرعي يعني الاقتران بين الرجل والمرأة مصداقا لقوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾[15]، فلقد اعتنى الإسلام به وندب إليه، ودعا إلى الاتزان والتريث والأناة قبل الإقدام عليه، كما جعل له مقدمات لعل أهمها الخطبة، وهو الأمر الذي نحت نحوه بعض التشريعات الوضعية سواء تلك القديمة – ومها تقنين حمورابي[16] – وتلك الحديثة، خصوصا التشريعات العربية التي تدين بالدين الإسلامي، حيث عملت هذه الأخيرة قبل تقنين الأحوال الشخصية[17] إلى العمل بمبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية[18]، وبعض الأعراف السائدة في كل بلد.
فقد عرفت مدونة الأسرة مؤسسة الزواج في مادتها الرابعة[19]على أنها ميثاق تراضي وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام لتحقيق مقاصد مثلى وغايات نبيلة، وكيف لا والمدونة ارتقت به إلى درجة الميثاق أخذا بما ورد في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾[20].
لكن، ورغم تنصيص المدونة في مادتها الرابعة على أن الزواج يراد به الدوام والاستمرار، إلا أن هذا الأمر لا يمكن أن يكون إلا قاعدة ترد عليها استثناءات[21]، لعل أهمها الطلاق والتطليق والفسخ، مما يعني أنه إذا كان الزواج يروم منه تحقيق أهداف سامية ومقاصد بليغة الأهمية، إلا أنه قد يحدث ما يعكر صفو الأجواء بين الزوجين، ويكدر مزاج الأسرة، وتنقلب من خلاله المودة والرحمة إلى خصام وشقاق، قد تصبح معه الحياة الزوجية مستحيلة الاستمرار، لذلك شرع لله الطلاق[22] لرفع الأذى والضرر عن الطرف المتضرر في العلاقة الزوجية.
ويجد فصم الرابطة الزوجية بالفراق سنده الشرعي في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ففي الذكر الحكيم ورد قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾[23]، وقوله تعالى في محكم التنزيل: ﴿ لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾[24]، وقوله عز من قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾[25]. أما مشروعية الطلاق في السنة العطرة فلقد ورد عن رسول لله صلى لله عليه وسلم: ﴿إنما الطلاق لمن أخـذ بالساق﴾[26]، وهو الأمر الذي أخذت به العديد من التشريعات وفي مقدمتها مدونة الأسرة، ويستفاد هذا الأمر من المادة 70 منها التي تنص على أنه: لا ينبغي اللجوء إلى حل ميثاق الزوجية بالطلاق أو بالتطليق إلا استثناء، وفي حدود الأخذ بقاعدة أخف الضررين، لما في ذلك من تفكيك الأسرة والإضرار بالأطفال.” رغم أن نفس المادة أقرت أنه لا يجب أن يسار إليه إلا عند الضرورة القصوى وفي حدود الأخذ بقاعدة أخف الضررين[27].
وقد عمل المشرع على تعداد وسائل جمة لانحلال العلاقة الزوجية، وتوسيعه لنطاق البعض الآخر منها، كما قام باستحداث أنواع أخرى من الأطلقة لعل أهمها التطليق للإخلال بشرط من شروط العقد وللشقاق والطلاق بالاتفاق[28].
كما قام بوضع الطلاق في يد الزوجين معا[29]، بعدما كان حكرا على الزوج في ضل مدونة الأحوال الشخصية الملغاة، وكذا جنح إلى توسيع حق المرأة في طلب الفراق من زوجها[30]، كما هو مبين في المادة 98 من المدونة[31]، حيث جعل المشرع عدم إنفاق الزوج على زوجته؛ أو وجود عيب فيه؛ أو غيبته لمدة محددة، كلها أسباب تبرر للقاضي تفريق الزوجة من زوجها.
وكأي موضوع بحث معين، فلا يجب الخوض في غماره وسبر أغواره إلا بعد تعريف مصطلحات مفاتيحه، فعنوان بحثنا “التطليق للضرر في ضوء أحكام مدونة الأسرة” تتخلله ثلاثة مفاهيم أساسية، يتجلى أمر الأول منها في “التطليق” فهذا الأخير يعرف عند فقهاء الشريعة الإسلامية بالتفريق القضائي، أي لجوء المرأة للقاضي لكي ينظر في أمرها ويفك عصمتها من زوجها بعدما أصبح لا يحسن معاشرتها، وهو النهج الذي اتجه إليه المشرع المغربي، ويظهر ذلك في القسم الرابع من الكتاب الثاني من مدونة الأسرة.
أما المفهوم الثاني الذي يتأسس عليه موضوع بحثنا وهو “الضرر” حيث وضع فقهاء الشريعة الإسلامية[32]، وكذا جل التقنينات الوضعية تعارف غزيرة للضرر، حيث لا نكاد نجد مؤلفا من المؤلفات الفقهية خصوصا تلك المنضوية تحت لواء “فقه المعاملات” خاليا من تعريف لعنصر الضرر، وكذلك حال القواعد العامة الموضوعية في التشريعات الوضعية كقانون الالتزامات والعقود المغربي[33]، حيث عرفه أحد الفقه[34] كونه إخلال بحق أو مصلحة[35]، كما عرفه البعض الآخر من خلال أنواعه، وذلك بالقول أنه إما أن يكون ماديا أو ضرر معنويا، والضرر المادي هو الذي يصيب المضرور في جسمه أو ماله وهو الغالب الحدوث، أما الضرر المعنوي فهو الذي يصيب المضرور في شعوره وعاطفته أو كرامته أو شرفه أو سمعته أو غيرها من الأمور[36].
أما بخصوص آخر مفهوم ينطوي عليه موضوع بحثنا هذا وهو “مدونة الأسرة” فهذه الأخيرة غنية عن التعريف كونها القانون الذي ينظم كل المسائل المتعلقة بالأسرة مند نشأتها حتى انحلالها والآثار المترتبة عن ذلك.
- أهمية الموضوع:
تتجلى أهمية الموضوع قيد الدراسة والتحليل في مناحي وتجليات عدة يمكن حصرها فيما يلي:
أولا: من الناحية الشرعية: إن موضوع فصم عرى الزوجية بواسطة التطليق للضرر من الأمور التي تجد لها صدا عميقا في الكتاب المنير والسنة العطرة، إذ إن ربنا الكريم حرم على نفسه الظلم وجعله بيننا محرما، فعندما ينقلب مسكن الزوجية إلى مجال لممارسة الظلم وإلحاق الضرار بالأخر تحت ذريعة الزواج، يصبح معه التدخل لفصل عرى الرابطة الزوجية ورفع الحيف عن المظلوم وتمتيعه بحقوقه أمرا متطلبا.
وعلى هذا النحو جنح فقهاء الشريعة الإسلامية في مؤلفاتهم إلى إعطاء الحق للزوج المظلوم بأن يفك العصمة بالطلاق، كما منحوا الزوجة الحق في اللجوء إلى القضاء لطلب الفرقة من زوجها تحت ما يسمى بالتفريق القضائي، رغم أن فقهاء الشريعة الإسلامية خصوصا في المذاهب الفقهية الأربعة قد اختلفوا في مسائل عدة، لعل أهمها حق الزوجة في اللجوء للقضاء لفك العصمة استنادا إلى الضرر اللاحق بها.
فلا شك أن كل هذه الأمور الشرعية والفقهية تعطي لبحثنا هذا أهمية بالغة خصوصا من ناحية التأصيل لموضوع التطليق للضرر وبيان الخلاف الحاصل بين فقهاء الإسلام في بعض مواضعه.
ثانيا: من الناحية الاجتماعية: في عصرنا هذا تلاشت القيم، وضعفت الهمم، وأصبحت كثير من أسرنا في مرتع السقم، ففي معظم الأحيان لا نكاد نجد أسرة زوجية يختفي فيها الشد والجدب، ويغيب فيها الخصام والشجار، وينحني فيها الشقاق بين الزوجين لقيم التسامح والوقار، ففي مجتمعاتنا أصبح الزواج من الأمور المادية، بحيث إن تخلف هذا العنصر يرفع الستار عن مؤسسة الزواج وتصبح بذلك عارية.
إن أهمية موضوعنا من منظوره الاجتماعي يرفع القناع عن الحالة التي أصبحت تعيشها بعض الأسر المغربية وحتى العربية، من عنف أسري وإيذاء زوجي وفساد أخلاقي لأوهى الأمور والإشكالات، خصوصا من الأزواج تجاه زوجاتهم، فإذا كان الدين الإسلامي قد متعهم بالقوامة ليحسنوا استغلالها لما فيه صلاح للأسرة والمجتمع، فقد لوحظ أن العكس هو الحاصل، فغالبا ما يستقوي الزوج على زوجته في بيت الزوجية ويمارس عليها أشكالا متنوعة من العنف ويتفنن في إلحاق الضرر بها، مما كان معه على هذه الزوجة اللجوء إلى القضاء ليوفر لها الحماية ويخلصها من طاغوت زوجها.
ثالثا: من الناحية القانونية: تتمحور أهمية موضوعنا هذا في شقه القانوني، في أن المقنن المغربي وجل التقنينات العربية المقارنة قد خصصت لموضوع التطليق للضرر حيزا وافرا من التنظيم المحكم في القوانين الأسرية، ولا تخلو هذه النظم من مقتضيات قانونية تعطي للزوجة الحق في الفرقة جراء إضرار زوجها بها كالقانون المغربي والتونسي والمصري، بل إن الأدهى من ذلك أن بعض النظم أعطت الحق لكلى الزوجين معا في سلوك مسطرة التفريق للضرر ومن أمثلتها مجلة الأحوال الشخصية التونسية.
كذلك من الأمور ذات الأهمية في موضوعنا هذا، هو البحث عن المقتضيات التي جاء بها المشرع المغربي في مدونة الأسرة لأجل تجاوز بعض الثغرات التي كانت تعتري قانون الأحوال الشخصية الملغى.
رابعا: من الناحية القضائية: يقول أستاذنا عادل حاميدي بأنه “مما لاشك فيه أن فعالية أي نص قانوني – ومنها النصوص المنظمة للتطليق للضرر في المدونة – لا تتحقق فقط من خلال جودة التشريع مهما تناهت دقته وجودة وضوحه، وإنما أساسا من خلال مهارة القائمين على تطبيق أحكامه في إنزال مقتضياته على مختلف الوقائع والنزاعات المرتبطة به، خاصة عندما يتعلق الأمر بنصوص قانونية كمدونة الأسرة الذي يلامس كيان المجتمع بجميع مكوناته”
فإذا كان القضاء يعود له الفضل في تطبيق نصوص أي قانون وإخراجها من حالة الجمود إلى الحياة العملية، وسد الثغرات التي تعتري النصوص في بعض الأحيان، إلا أنه في عديد الحالات نجد أن توجه العمل القضائي يختلف في تطبيقه لنص من نصوص المدونة، ولا يقف الحد عند هذا الأمر، بل كثيرا ما نجد هناك تضارب في العمل القضائي، ومن أهم المسائل التي وقع الخلاف بشأنها من طرف القضاء المغربي فيما يخص التطليق للضرر، هو نوعية الأضرار التي تبرر للزوجة طلب التطليق من زوجها، وكذا الوسائل التي يمكن إثبات الضرر الحاصل بها، بالإضافة إلى المعايير المعتمدة في تقدير التعويض عن الضرر الواقع.
- إشكالية الموضوع:
تتجلى الإشكالية الرئيسية التي عهدنا أنفسنا بأن نؤطر بها هذه الدراسة في ما يلي: إلى أي حد استطاع المشرع المغربي والمقارن تحقيق الحماية الكافية الموضوعية والإجرائية للزوجة المطلقة للضرر من خلال النصوص القانونية، وتوجه الفقه والقضاء في هذا المضمار؟
ويتفرع عن هذه الإشكالية تساؤلات عدة تنطوي في كليتها على توجهات ثلاثة تتمثل فيما يلي:
– التوجه الأول: إن دراسة موضوع التطليق للضرر في منظومة الفقه الإسلامي من ناحية التأصيل له، يترك تصورا لدى الباحث يدفعه إلى طرح بعض التساؤلات من قبيل: كيف تعامل فقهاء الشريعة الإسلامية مع التفريق للضرر؟ وما هي أبرز مكامن الاختلاف في تعامل كل منهم معه سواء من حيث الأضرار الموجبة للتطليق، وسلطة القاضي في التفريق بين الزوجين استنادا إلى السبب الذي بنت عليه الزوجة طلبها؟
– التوجه الثاني: ما دام فصل الرابطة الزوجية بالتطليق للضرر مؤطر بنصوص قانونية، فهذا الأمر يدفعنا للتساؤل عن أبرز ما جاء به المشرع المغربي وكذا المقارن في التقنينات الأسرية لتجاوز مكامن الخلل التي كانت تعتري النصوص القوانين الملغاة، سواء من حيت مفهوم الضرر المبرر للتطليق؟ وكذا وسائل وطرق إثباته؟ وأهم المؤسسات التي رصدت لإصلاح ذات البين؟ والإجراءات التي يمكن سلوكها لإيقاع التطليق للضرر، والآثار التي تترتب عن ذلك؟
التوجه الثالث: لعمومية الضرر الوارد في المادة 99 من المدونة بليغ الأثر في توجه القضاء، سواء العمل القضائي وقضاء النقض، مما نتساءل معه عن كيفية تعامل القضاء مع الضرر المبرر للتطليق وطرق إثباته؟ وكذا المعايير التي يجنح إليها لتحديد التعويض المستحق عن الضرر الحاصل للزوجة؟
- دوافع اختيار الموضوع:
لا ريب أن أي إقدام للبحث في موضوع من المواضع، وخاصة المواضع القانونية، تحكمه عدة دوافع واعتبارات تدفع الباحث إلى المضي قدما في البحث المختار مؤيدا في ذلك بالدوافع والأسباب التي دعته إلى اختيار ذلك الموضوع دون باقي المواضع الأخرى، فاختيارنا لموضوع “التطليق للضرر” لم يأت إلى بعد مخاض عسير من الشد والجدب والأخذ والرد في مجموعة من المواضيع التي كانت تشغل مخيلتنا طيلة فترة التكوين، حيث خلصنا في الأخير إلى أن هذا الموضوع سيشفي غليلنا لا محالة، وسنقدم فيه إضافة نوعية بتوفيق من رب العلى، ومن الأسباب الداعية إلى اختيار هذا الموضوع نورد مثالا لا حصرا:
– أولا: دوافع ذاتية: من المسلم به أن أي باحث يجد ضالته في موضوع معين بالذات، حيث ما تفتأ نفسيته ترتاح عند الخوض في تفاصيله، وهذا حالنا مع موضوع “التطليق للضرر في ضوء أحكام مدونة الأسرة” حيث كنا نولي له اهتماما بليغا لقرابة شهور من الزمان، وفي الأخير أيقنا أنه لن يكون إلا ملاذا آمنا لاختيارنا ولن يخيب ظنوننا.
– ثانيا: دوافع اجتماعية: إن الكتابة في موضوع له مساس بواقع الأسرة وحياة المجتمع له نكهة خاصة، فما دمنا اجتماعيين بطبعنا ففي هذا المقام نولي الاعتبار إلى مدى تأثير النصوص القانونية المعتمدة على واقع وتوجه الجماعة، فالعنف داخل الأسرة والإيذاء الزوجي لا يخلو منه أي مجتمع، ومن هنا نقارب مدى نجاعة النصوص القانونية التي رصدت للتطليق للضرر لحماية الحقوق والتخفيف من تبعات هذه المعضلة.
– ثالثا: دوافع علمية أكاديمية: إن من دواعي اختيارنا لهذا الموضوع فضل كبير يعود لأساتذتنا الذين كانوا خلال نقاشنا معهم في الموائد العلمية المرصودة لذلك، يحاولون قدر الإمكان إظهار أهم الإشكالات التي تتخبط فيها المدونة، ولعل النصيب الوافر منها ينطوي على الكتاب الثاني المعنون بانحلال ميثاق الزوجية وآثاره، حيث التطليق للضرر من مواضع هذا الكتاب والذي تعتريه جملة من الإشكالات تستحق فعلا وحقيقتا دراستا وتمحيصا.
- صعوبات البحث:
يعتبر البحث في موضوع قانوني بصفة عامة، وأسري بصفة خاصة من المواضيع الصعبة المنال، حيث الخوض في غماره ومحاولة الإلمام بتفاصيله الدقيقة وجزئياته والسيطرة على جوانبه أمر فيه من الصعوبة ما فيه.
فأن تقارب موضوعا أسريا مقاربة ثلاثية الأبعاد – ونقصد هنا فقهية وقانونية وقضائية – ليس بالأمر اليسير، ونحن نعلم أن هناك أبجديات علمية يجب التقيد بها[37]، واحترام هذه الركائز يجعل البحث والباحث أكثر صرامة في أمره، فالخوض في المؤلفات الفقهية لمحاولة إعطاء توجه كل مذهب في مسألة مختلف فيها يجعل البحث شيقا وشاقا في الآن ذاته، كما أن التعامل مع النصوص الأسرية سواء المغربية أو المقارنة يجعل الأمر أكثر تعقيدا للإلمام بتفاصيل الموضوع في كليته، زد على ذلك إذا نضاف إلى هذا الخليط كله موقف القضاء في جميع درجاته سواء المغربي أو المقارن، فلا شك أن الأمر يشكل صعوبة حقيقية تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار.
من الصعوبات كذلك التي وقفت حاجزا أمام صياغتنا لهذا البحث هو صعوبة الولوج إلى بعض المكتبات خصوصا الجامعية، كما أن الحصول على الأحكام والقرارات القضائية في دهاليز المحاكم يعتبر أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا، نظرا للحواجز التي يضعها القائمون على صروح المحاكم في مواجهتنا، فالحصول على حكم واحد من أرشيف محكمة معينة يحتاج إلى جهد كبير من المال والعمل.
- منهج البحث:
نؤسس موضوع بحثنا هذا انطلاقا من إعمال منهج وصفي وتحليلي واستدلالي وتاريخي ومقارن.
فقد يتساءل البعض عن السبب وراء إعمالنا لهذه المناهج المتنوعة، نجيب في هذا الصدد أن اعتمادنا للمنهج الوصفي قصدنا منه إدراج النصوص القانونية والآراء الفقهية في بعض مواضع هذا البحث كما هي، حيث نقوم بوصفها على شاكلتها دون أن نغير شيء من مضمونها ومحتواها.
أما إعمالنا للمنهج التحليلي، فكما هو معروف فالتحليل في أي دراسة أمر لا محيد عنه، حيث سنعمل على تحليل بعض أراء الفقهاء والنصوص القانونية والأحكام والقرارات القضائية.
وبخصوص إعمالنا كذلك للمنهجين الاستدلالي والتاريخي، فالاستدلالي قصدنا منه المجيء بالعديد من الأدلة لنؤيد بها بعض الأفكار التي أوردنها، أما المنهج التاريخي فقد أخذنا به للحديث على النصوص القانونية والأحكام والقرارات القضائية المتفاوتة في التاريخ التي صدرت فيه لنعلم الجديد الذي جاءت به النصوص المعتمدة.
أما اعتمادنا على المنهج المقارن فلم يكن إلى من أجل المقارنة بين توجهات الفقه المختلفة في المسألة الواحدة، وكذا بين النصوص القانونية الأسرية سواء المعمول بها حاليا أو المنسوخة لنعلم الجديد الذي جاءت به النصوص المعتمدة، وكذا المقارعة بين النص القانوني الوطني والأجنبي لنستشف من ذلك مكامن القوة والقصور في كل منهم، وكذا مقارنة توجه القضاء الوطني في مختلف درجاته وكذا الأجنبي في الموضوع قيد الدراسة.
- خطة البحث:
وفاء منا للمنهجية الأكاديمية القانونية التي تفرض علينا تناول موضوع بحثنا هذا انطلاقا من تصميم ثنائي، فلقد عملنا على دراسته وفق تقسيم ثنائي كما هو مشار إليه أسفله:
– الفصل الأول: موقف الفقه والقانون من التطليق للضرر، أسبابه وإثباته
– الفصل الثاني: الإجراءات المسطرية لإيقاع التطليق للضرر والآثار الناجمة عنه